اقسام الذكر , والذكر جماعة

بلحسين1

:: عضو مُشارك ::
إنضم
4 ماي 2010
المشاركات
237
نقاط التفاعل
2
النقاط
7
أقسام الذكر



أ ـ ذكر السر والجهر:

إن ذكر الله تعالى مشروع سراً وجهراً، وقد رغَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذكر بنوعيه: السري والجهري، إلاَّ أن علماء الشريعة الإسلامية قرروا أفضلية الجهر بالذكر إذا خلا من الرياء، أو إيذاء مُصَلٌّ أو قارىء أو نائم، مستدلين ببعض الأحاديث النبوية الشريفة، منها:

1ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خير منهم" [أخرجه البخاري في صحيحه والترمذي والنسائي وابن ماجه]. والذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر

2ـ عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: قال ابن الأدرع رضي الله عنه: (انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ؛ فمر برجل في المسجد يرفع صوته، قلت: يا رسول الله عسى أن يكون هذا مرائياً ؟ قال: "لا، ولكنه أوَّاه") [رواه البيهقي. كما في "الحاوي للفتاوي" للسيوطي ج1/ص391].

3ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته) [أخرجه البخاري في صحيحه، والمعنى كنت أعلم انصرافهم بسماع الذكر، كما قال صاحب "الفتح" الحافظ ابن حجر العسقلاني في ج2/ص259].

4ـ عن السائب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاءني جبريل قال: مُرْ أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير" [رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه السيوطي في كتابه "الحاوي للفتاوي" ج1/ص389].

5ـ عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: إنَّا لَعندَ النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: "ارفعوا أيديكم فقولوا: لا إله إلا الله، ففعلنا، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إنَّك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة، إنك لا تخلف الميعاد، ثم قال: أبشروا فإن الله قد غفر لكم" [أخرجه الحاكم. كما في المصدر السابق ج1/ص391].

وهناك أحاديث بلغت حدَّ الكثرة، جمع منها العلامة الكبير جلال الدين السيوطي خمسة وعشرين حديثاً في رسالة سماها "نتيجة الفكر في الجهر بالذكر" فقال: (الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، سألتَ أكرمك الله عما اعتاده السادة الصوفية من عقد حِلَق الذكر، والجهر به في المساجد، ورفع الصوت بالتهليل وهل ذلك مكروه، أو ؛ لا ؟ .

الجواب: إنه لا كراهة في شيء من ذلك، وقد وردت أحاديث تقتضي استحباب الجهر بالذكر، وأحاديث تقتضي استحباب الإسرار به، والجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وها أنا أُبين ذلك فصلاً فصلاً.

ثم ذكر الأحاديث الدالة على ذلك بكاملها ثم قال: إذا تأملتَ ما أوردنا من الأحاديث، عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر، بل فيه ما يدل على استحبابه ؛ إما صريحاً أو التزاماً ـ كما أشرنا إليه ـ، وأما معارضته بحديث "خيرُ الذكر الخفي" فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث: "المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة"، وقد جمع النووي بينهما: بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء، أو تأذَّى به مصلون أو نيام، والجهر أفضل في غير ذلك ؛ لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظُ القارىء، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط. وقال بعضهم: يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها، لأن المُسِرَّ قد يملُّ فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكلُّ فيستريح بالإسرار. وكذلك نقول في الذكر على هذا التفصيل، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث. فإنْ قلتَ: قال الله تعالى: {واذكُرْ ربَّكَ في نفسك تضرُّعاً وخيفةً ودون الجهرِ من القولِ} [الأعراف: 205]. قلت: الجواب على هذه الآية من ثلاثة أوجه:

الأول: إنها مكية كآية الإسراء: {ولا تجهر بصلاتِكَ ولا تخافِتْ بها} [الإسراء: 110]. وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن، فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومَنْ أنزله، فأُمِر بترك الجهر سداً للذريعة، كما نُهي عن سب الأصنام لذلك في قوله تعالى : {ولا تسُبُّوا الذين يدعونَ مِنْ دون الله فيسُبُّوا اللهَ عَدْواً بغيرِ علمٍ} [الأنعام: 108]. وقد زال هذا المعنى، وأشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره.

الثاني: إن جماعة من المفسرين ـ منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك، وابن جرير ـ حملوا الآية على الذاكر حال قراءة القرآن، وأنه أمرٌ له بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنه الأصوات، ويقويه اتصالها بقوله تعالى: {وإذا قُرِئ القرآنُ فاستمعوا له وأنصتُوا} [الأعراف: 204]. قلت وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة، فنبه على أنه وإن كان مأموراً بالسكوت باللسان إلا أن تكليف الذكر بالقلب باقٍ حتى لا يغفل عن ذكر الله، ولذا ختم الآية بقوله: {ولا تَكُنْ مِنَ الغافلين} [الأعراف: 205].

الثالث: ما ذكره الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم الكامل المكمل، وأما غيره ـ ممن هو محل الوساوس والخواطر الرديئة ـ فمأمور بالجهر، لأنه أشد تأثيراً في دفعها.

قلتُ: ويؤيده من الحديث ما أخرجه البزار عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلَّى منكم بالليل فليجهر بقراءته فإن الملائكة تصلي بصلاته، وتسمع لقراءته، وإنَّ مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء، وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته، ويستمعون قراءته، وإنه ينطرد بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فُسَّاق الجن ومردة الشياطين".

فإن قلتَ: فقد قال تعالى: {ادعُوا ربَّكم تضرعاً وخُفيةً إنَّه لا يحبُّ المعتدينَ} [الأعراف: 55]. وقد فسر الاعتداء بالجهر في الدعاء.

قلتُ: الجواب عنه من وجهين:

أحدهما: أن الراجح في تفسيره أنه تجاوزُ المأمور به، أو اختراعُ دعوة لا أصل لها في الشرع، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه، والحاكم في مستدركه وصححه عن أبي نعامة رضي الله عنه: (أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة. فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون بالدعاء") فهذا تفسير صحابي، وهو أعلم بالمراد.

الثاني: على تقدير التسليم فالآية في الدعاء لا في الذكر، والدعاء بخصوصه ؛ الأفضل فيه الإسرار، لأنه أقرب إلى الإجابة، ولذا قال تعالى: {إذْ نادى ربَّهُ نداءً خفياً} [مريم: 3]. ومن ثَمَّ استحب الإسرار بالاستعاذة في الصلاة اتفاقاً لأنها دعاء.

فإن قلتَ: فقد نُقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى قوماً يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: ما أراكم إلا مبتدعين حتى أخرجهم من المسجد. قلت: هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده، ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم، وعلى تقدير ثبوته فهو مُعارَض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة، وهي مقدمة عليه عند التعارض، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود، قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا المسعودي عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال: هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان يَنْهى عن الذكر، ما جالستُ عبدَ الله مجلساً إلا ذَكَرَ الله فيه. وأخرج أحمد في الزهد عن ثابت البناني قال: إن أهلَ ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله وإن عليهم من الآثام أمثال الجبال، وإنهم ليقومون من ذكر الله تعالى ما عليهم منها شيء) ["الحاوي للفتاوي" في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإعراب وسائر الفنون للعلامة الكبير جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ. ج1/ص394].

وقال العلامة الكبير الشيخ محمود الألوسي في تفسيره عند قوله تعالى: {وإنْ تجْهَرْ بالقول فإنَّه يعلم السِّرَ وأخفى} [طه: 7]. وقيل: نُهِيَ عن الجهر بالذكر والدعاء، لقوله تعالى: {واذكرْ ربَّك في نفسِكَ تضرعاً وخفيةً ودون الجهر من القولِ} [الأعراف: 205].

وأنت تعلم أن القول: بأن الجهر بالذكر والدعاء منهي، لا ينبغي أن يكون على إطلاقه. والذي نصَّ عليه الإمام النووي رضي الله عنه في فتاويه: أن الجهر بالذكر حيث لا محذور شرعاً ؛ مشروع مندوب إليه، بل هو أفضل من الإخفاء في مذهب الإمام الشافعي، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، وإحدى الروايتين عن الإمام مالك بنقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري. وهو قول القاضيخان في فتاويه في ترجمة مسائل كيفية القراءة، وقوله في باب غسل الميت: (ويكره رفع الصوت بالذكر) فالظاهر أنه لمن يمشي مع الجنازة كما هو مذهب الشافعية، لا مطلقاً، وقال الألوسي أيضاً: واختار بعض المحققين أن المراد دون الجهر البالغ أو الزائد على قدر الحاجة فيكون الجهر المعتدل، والجهر بقدر الحاجة داخلاً في المأمور به ؛ فقد صح ما يزيد على عشرين حديثاً في أنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يجهر بالذكر، وصح عن أبي الزبير رضي الله عنه أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم من صلاته يقول بصوته الأعلى: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل" إلى أن قال: وقد ألَّف الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في تحقيق هذه المسألة رسالتين جليلتين سمَّى أولاهما: "نثر الزهر في الذكر بالجهر". وثانيتهما: "اتحاف المنيب الأوّاه بفضل الجهر بذكر الله") ["روح المعاني" للعلامة الكبير الشيخ محمود الألوسي المتوفى سنة 1270هـ ج16/ص147 ـ 148].



أفضلية ذكر الجهر:

قال العلامة الطحطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح: (اختُلِفَ؛ هل الإسرار بالذكر أفضل ؟ فقيل: نعم، لأحاديث كثيرة تدل عليه منها:

"خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي". ولأن الإسرار أبلغ في الإخلاص، وأقرب إلى الإجابة. وقيل: الجهر أفضل لأحاديث كثيرة:

منها ما رواه ابن الزبير رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم من صلاته قال بصوته الأعلى: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله..." الحديث [رواه مسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواقع الصلاة، والترمذي في كتاب الصلاة].

وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر من يقرأ القرآن في المسجد أن يُسمِع قراءته. وكان ابن عمر يأمر من يقرأ عليه وعلى أصحابه وهم يستمعون، لأنه أكثر عملاً، وأبلغ في التدَبُّر، ونفعه متعدٍ لإيقاظ قلوب الغافلين.

وجُمع بين الأحاديث الواردة بأن ذلك يختلف بحسب الأشخاص والأحوال ؛ فمن خاف الرياء، أو تأذَّى به أحد كان الإسرار أفضل، ومتى فُقد ما ذكر كان الجهر أفضل. قال في "الفتاوي": لا يُمنع من الجهر بالذكر في المساجد، احترازاً عن الدخول تحت قوله تعالى: {ومَنْ أظلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ اللهِ أنْ يُذكَرَ فيها اسمُه} [البقرة: 114]. كذا في البزازية.

ونص الشعراني في ذكر الذاكر للمذكور والشاكر للمشكور ما لفظه: وأجمع العلماء سلفاً وخلفاً على استحباب ذكر الله تعالى جماعة في المساجد وغيرها من غير نكير، إلا أن يشوش جهرهم بالذكر على نائم أو مصلٌّ أو قارىء قرآن، كما هو مقرر في كتب الفقه ["حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح" ص208].

وقال ابن عابدين في حاشيته الشهيرة:

(وفي الفتاوي الخيرية من الكراهية والاستحسان جاء في الحديث ما اقتضى طلب الجهر به نحو: "وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم". رواه الشيخان.

وهناك أحاديث اقتضت طلب الإسرار. والجمع بينهما: أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، كما جُمع بذلك بين أحاديث الجهر والإخفاء بالقراءة، ولا يعارض ذلك حديث "خير الذكر الخفي" لأنه حيث خيف الرياء، أو تأذي المصلين أو النيام، فإن خلا مما ذكر فقال بعض أهل العلم: إن الجهر أفضل، لأنه أكثر عملاً، ولتعدي فائدته إلى السامعين ويوقظ قلب الذاكر، فيجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد النشاط. ا.هـ ملخصاً وتمام الكلام هناك فراجعه،. وفي حاشية الحموي عن الإمام الشعراني : (أجمع العلماء سلفاً وخلفاً على استحباب ذكر الجماعة في المساجد وغيرها إلا أن يشوش جهرهم على نائم أو مصلٌّ أو قارىء) ["حاشية ابن عابدين" ج5/ص263].



ب ـ ذكر اللسان وذكر القلب:

قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني: سمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول: (الذكر باللسان مشروع للأكابر والأصاغر، لأن حجاب العظمة لا يرتفع لأحد ولا للأنبياء، فلا بد من حجاب لكنه يدق فقط) ["الميزان" للشيخ عبد الوهاب الشعراني ج1/ص160].

وقال الإمام النووي رحمه الله: (أجمع العلماء على جواز الذكر بالقلب واللسان للمحْدِث والجنب والحائض والنفساء وذلك في التسبيح والتحميد والتكبير والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء ونحو ذلك) ["الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" ج1/ص106 ـ 109].

وقال الإمام النووي رحمه الله: (الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان، والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل. ثم لا ينبغي أن يُترك الذكر باللسان مع القلب خوفاً من أن يُظن به الرياء، بل يذكر بهما جميعاً، ويقصد به وجه الله تعالى).

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: (إن ترك العمل لأجل الناس رياء، ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس والاحتراز من تطرق ظنونهم الباطلة لانْسَدَّ عليه أكثر أبواب الخير، وضيَّع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمات الدين، وليس هذا طريق العارفين) ["الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" ج1/ص127].

وقلب الغافل عليه غشاوة، فلا يجد صاحبها لطعم الذكر حلاوة، ولا لغيره من العبادات ولذلك قيل: (لا خير في ذكر مع قلب غافلٍ ساهٍ) ولا نعني بذلك أن يترك الذكر مع الغفلة، إلا أن صاحب الهمة العالية يجاهد نفسه، ويراقب قلبه مرة بعد مرة، حتى ينتقل إلى ذكر مع الحضور، وذلك كالرامي ؛ ففي المرة الأولى لا يصيب الهدف، ثم يحاول في الثانية والثالثة إلى أن يتقن ذلك، فيصيب الهدف. وكذلك الإنسان مع قلبه ؛ يحاول المرة تلو المرة بين ذكر ومذاكرة حتى يعتاد القلب الحضور مع الله تعالى.

قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله: (واعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الذكر أفضل الأعمال، ولكن له أيضاً قشور ثلاثة بعضها أقرب للُّب من بعض وله لب وراء القشور الثلاثة، وإنما فضل القشور لكونها طريقاً إليه.

فالقشر الأعلى منه: ذكر اللسان فقط.

والثاني: ذكر القلب إذا كان القلب يحتاج إلى موافقته حتى يحضر مع الذكر، ولو تُرك وطبعه لاسترسل في أودية الأفكار.

والثالث: أن يستمكن الذكر من القلب، ويستولي عليه بحيث يحتاج إلى تكلف في صرفه عنه إلى غيره، كما احتيج في الثاني إلى تكلف في قراره معه ودوامه عليه.

والرابع: وهو اللباب، أن يستمكن المذكور من القلب، وينمحي الذكر ويخفى، وهو اللباب المطلوب، وذلك بأن لا يلتفت إلى الذكر ولا إلى القلب بل يستغرق المذكورُ جملتَه، ومهما ظهر له في أثناء ذلك التفات إلى الذكر فذلك حجاب شاغل. وهذه الحالة التي يعبر عنها العارفون بالفناء... ثم قال رحمه الله: فهذه ثمرة لباب الذكر وإنما مبدؤها ذكر اللسان، ثم ذكر القلب تكلفاً، ثم ذكر القلب طبعاً، ثم استيلاء المذكور وانمحاء الذكر) [كتاب "الأربعين في أصول الدين" للإمام الغزالي ص52 ـ 55].



ج ـ الذكر المنفرد والذكر مع الجماعة:

العبادات مع الجماعة ـ وفيها ذكر الله تعالى ـ تزيد في الفضل على العبادة في حالة الانفراد ؛ ففي الجماعة تلتقي القلوب، ويكون التعاون والتجاوب، ويستقي الضعيف من القوي، والمُظْلِم من المُنَوَّر، والكثيف من اللطيف، والجاهل من العالم وهكذا...

عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة ؟ قال: حِلَقُ الذكر" [أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات].

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تبارك وتعالى ملائكةً سيارةً وفضلاء يلتمسون مجالس الذكر في الأرض فإذا أتَوا على مجلس ذكرٍ حفَّ بعضهم بعضاً بأجنحتهم إلى السماء، فيقول الله من أين جئتُم ؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك يسبحونك، ويحمدونك ويهللونك، ويسألونك، ويستجيرونك. فيقول: ما يسألون ؟ ـ وهو أعلم بهم ـ فيقولون: يسألونك الجنة. فيقول: وهل رأوْها ؟ فيقولون: لا يا رب. فيقول: فكيف لو رأوْها ؟ ثم يقول: ومِمَّ يستجيرون ؟ ـ وهو أعلم بهم ـ فيقولون: من النار. فيقول: وهل رأوْها ؟ فيقولون: لا. فيقول: كيف لو رأوْها ؟ ثم يقول: اشهدوا أني قد غفرتُ لهم، وأعطيتُهم ما سألوني، وأجرتُهم مما استجاروني. فيقولون: ربَّنا إن فيهم عبداً خطَّاءً جلس إليهم وليس منهم ؛ فيقول: وهو أيضاً قد غفرتُ له، هم القوم لا يشقى بهم جليسُهم" [أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الذكر ، والترمذي في كتاب الدعوات، والحاكم].

وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يذكرون الله إلا حفَّتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده" [أخرجه مسلم في كتاب الذكر، والترمذي في كتاب الدعوات].

عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حَلْقةٍ من أصحابه فقال: "ما يُجْلِسُكُمْ ؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده فقال: إنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يُباهي بكم الملائكة" [أخرجه مسلم في كتاب الذكر، والترمذي في كتاب الدعوات].

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تعالى سيارة من الملائكة يطلبون حِلَقَ الذكر، فإذا أتَوا عليهم حفُّوا بهم" [رواه البزار وقال الهيثمي: إسناده حسن]. وعن أنس أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله ؟ قال: حِلَقُ الذكر" [رواه الترمذي في كتاب الدعوات].

قال العلامة ابن علان شارح الأذكار في معنى هذا الحديث: (والمعنى: إذا مررتم بجماعة يذكرون الله فاذكروا موافقة لهم، أو اسمعوا أذكارهم، فإنهم في رياض من الجنة حالاً أو مآلاً. قال تعالى: {ولمَنْ خافَ مقامَ ربِّهِ جنَّتانِ} [الرحمن: 46]) ["الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" ج 1/94].

وقال العلامة ابن عابدين في حاشيته في معرِضِ ذكر الله تعالى مع الجماعة: (وقد شبه الإمام الغزالي ذكر الإنسان وحده وذكر الجماعة بأذان المنفرد وأذان الجماعة، قال: فكما أن أصوات المؤذنين جماعة تقطع جِرم الهواء أكثر من صوت المؤذن الواحد، كذلك ذكر الجماعة على قلب واحد أكثر تأثيراً في رفع الحجب الكثيفة من ذكر شخص واحد) ["حاشية ابن عابدين" ج5/ص263].

وقال الطحطاوي في حاشيته:

(ونص الشعراني: أجمع العلماء سلفاً وخلفاً على استحباب ذكر الله تعالى جماعة في المساجد وغيرها من غير نكير، إلا أن يشوشَ جهرُهم بالذكر على نائم أو مصلٌّ أو قارىء قرآن، كما هو مقرر في كتب الفقه) ["حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح" ص208].

وأما الذكر منفرداً: فله أثر فعال في صفاء القلب وإيقاظه، وتعويد المؤمن على الأنس بربه والتنعم بمناجاته، والشعور بقربه. فلا بد للمؤمن من جلسة يذكر الله خالياً منفرداً بربه بعد أن يحاسب نفسه ويطلع على عيوبه وأخطائه، فإذا ما رأى سيئة ؛ استغفر وتاب وإذا ما رأى عيباً ؛ جاهد نفسه للتخلص منه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله... وذكر منهم: ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب أبواب صلاة الجماعة، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة].
 
بارك الله فيك ،اللهم أجعلنا من الذاكرين كثيرا والذاكرات يارب ثبتنا على طاعتك ....واغفر ذنوبنا.
 
رد

شكرا على مرورك الكريم وارجو لك دوام الصحة والعافية ودمت وفية
اخوكم محمد المستغانمي
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top