آداب الفتوى للإمام النووي (3)

SOUILAH Mohamed

:: عضو مُشارك ::
إنضم
4 نوفمبر 2011
المشاركات
310
نقاط التفاعل
1
النقاط
7
فصل: في أحكام المفتين

فيه مسائل :
إحداها : الإفتاء فرض كفاية، فإذا استفتي وليس في الناحية غيره تعيَّن عليه الجواب، فإن كان فيها غيره وحضرا فالجواب في حقهما فرض كفاية، وإن لم يحضر غيره فوجهان أصحهما: لا يتعين لما سبق عن ابن أبي ليلى ، والثاني: يتعين، وهما كالوجهين في مثله في الشهادة.
ولو سأل عامي عمَّا لم يقع لم يجب جوابه.
الثانية : إذا أفتى بشيء ثم رجع عنه فإن علم المستفتي برجوعه، ولم يكن عمل بالأول لم يجز العمل به، وكذا إن نكح بفتواه واستمر على نكاح بفتواه ثم رجع، لزمه مفارقتها كما لو تغير اجتهاد من قلَّده في القبلة في أثناء صلاته، وإن كان عمل قبل رجوعه فإن خالف دليلاً قاطعاً لزم المستفتي نقض عمله ذلك، وإن كان في محل اجتهاد لم يلزمه نقضه ; لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
وهذا التفصيل ذكره الصيمري والخطيب وأبو عمرو ، واتفقوا عليه، ولا أعلم خلافه، وما ذكره الغزالي والرازي ليس فيه تصريح بخلافه.
قال أبو عمرو : وإذا كان يُفتي على مذهب إمامٍ، فرجع لكونه بان له قطعاً مخالفة نص مذهب إمامه، وجب نقضه وإن كان في محل الاجتهاد ; لأنَّ نص مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المجتهد المستقل.

----------------------------------------------------

أما إذا لم يعلم المستفتي برجوع المفتي فحال المستفتي في علمه كما قبل الرجوع، ويلزم المفتي إعلامه قبل العمل، وكذا بعده حيث يجب النقض.
وإذا عمل بفتواه في إتلاف فبان خطؤه وأنه خالف القاطع فعن الأستاذ أبي إسحاق أنه يضمن إن كان أهلاً للفتوى، ولا يضمن إن لم يكن أهلاً ; لأن المستفتي قصًَّر. كذا حكاه الشيخ أبو عمرو وسكت عليه، وهو مُشكِلٌ وينبغي أن يخرج الضمان على قولي الغرور المعروف في بابي الغصب والنكاح وغيرهما، أو يقطع بعدم الضمان ; إذ ليس في الفتوى إلزام ولا إلجاء.
الثالثة : يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه، فمن التساهل: أن لا يتثبت، ويُسرِع بالفتوى قبل استيفاء حقِّها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة.
ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرَّمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلباً للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره.

----------------------------------------------------

وأما مَنْ صَحَّ قصده فاحتسب في طَلَبِ حيلةٍ لا شبهة فيها، لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا، كقول سفيان : "إنمَّا العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد".
ومن الحيل التي فيها شبهة ويذم فاعلها: الحيلة السُّريجية في سدِّ باب الطلاق.
الرابعة : ينبغي أن لا يفتي في حال تغيُّر خُلُقه، وتشغل قلبه، ويمنعه التأمل، كغضب، وجوع، وعطش، وحزن، وفرح غالب، ونعاس، أو ملل، أو حر مزعج أو مرض مؤلم، أو مدافعة حَدَث، وكل حال يشتغل فيه قلبه ويخرج عن حد الاعتدال، فإن أفتى في بعض هذه الأحوال وهو يَرَى أنه لم يخرج عن الصواب جاز وإن كان مخاطراً بها !!
الخامسة : المختار للمتصدِّي للفتوى أن يتبرعَ بذلك، ويجوز أن يأخذ عليه رزقاً من بيت المال، إلا أن يتعيَّن عليه وله كفاية، فيحرم على الصحيح.
ثم إن كان له رزقٌ لم يجز أخذ أجرة أصلاً، وإن لم يكن له رزق فليس له أخذ أجرة من أعيان مَنْ يفتيه على الأصح كالحاكم.
واحتال الشيخ أبو حاتم القزويني من أصحابنا فقال: له أن يقول: يلزمني أن أفتيك قولاً، وأما كتابة الخط فلا، فإذا استأجره على كتابة الخط جاز.

-----------------------------------------------------

قال الصيمري والخطيب : لو اتفق أهل البلد فجعلوا له رزقاً من أموالهم على أن يتفرغ لفتاويهم جاز.
أما الهدية فقال أبو مظفر السَّمعاني له قبولها، بخلاف الحاكم فإنه يلزم حكمه.
قال أبو عَمرو : ينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بعوض.
قال الخطيب : وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف، ويكون ذلك من بيت المال، ثم روى بإسناده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى كلَّ رجلٍ ممن هذه صفته مائة دينار في السنة.
السادسة : لا يجوز أن يفتي في الأيمان والإقرار ونحوهما مما يتعلق بالألفاظ إلا أن يكون من أهل بلد اللافظ، أو متنَزِّلاً منزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعرفهم فيها.

------------------------------------------------------

السابعة : لا يجوز لمن كانت فتواه نقلاً لمذهب إمام إذا اعتمد الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوقٍ بصحته، وبأنه مذهب ذلك الإمام، فإن وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصفة لكن لم تكن هذه النسخة معتمدة، فليستظهر بنسخ منه متَّفقة، وقد تحصل له الثقة من نسخة غير موثوق بها في بعض المسائل إذا رأى الكلام منتظماً وهو خبير فَطِن لا يخفى عليه لدربته موضع الإسقاط والتغيير.
فإن لم يجده إلا في نسخة غير موثوق بها فقال أبو عمرو : ينظر فإن وجده موافقاً لأصول المذهب، وهو أهل لتخريج مثله في المذهب لو لم يجده منقولاً فله أن يفتي به. فإن أراد حكايته عن قائله فلا يقل: قال الشافعي مثلاً كذا، وليقل: وَجدتُّ عن الشافعي كذا، أو بلغني عنه، ونحو هذا.
وإن لم يكن أهلاً لتخريج مثله لم يجز له ذلك، فإن سبيله النقل المحض، ولم يحصل ما يجوز له ذلك، وله أن يذكره لا على سبيل الفتوى مُفصِحاً بحاله، فيقول: وجدته في نسخة من الكتاب الفلاني ونحوه.

------------------------------------------------------

قلتُ: لا يجوز لمفتٍ على مذهب الشافعي إذا اعتمد النقل أن يكتفي بمصنَّفٍ ومصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والترجيح ; لأن هذا المفتي المذكور إنما ينقل مذهب الشافعي ، ولا يحصل له وثوق بأن ما في المصنفين المذكورين ونحوهما هو مذهب الشافعي ، أو الراجح منه لما فيهما من الاختلاف.
وهذا مما لا يتشكك فيه من له أدنى أنس بالمذهب، بل قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذٌ بالنسبة إلى الراجح في المذهب، ومخالفٌ لما عليه الجمهور، وربما خالف نصَّ الشافعي أو نصوصاً له، وسترى في هذا الشرح إن شاء الله تعالى أمثلة ذلك، وأرجو إن تم هذا الكتاب أنه يستغنى به عن كل مصنّف ويعلم به مذهب الشافعي علماً قطعياً إن شاء الله تعالى.
الثامنة : إذا أفتى في حادثة ثم حدثت مثلها، فإن ذكر الفتوى الأولى ودليلها بالنسبة إلى أصل الشرع إن كان مستقلاً، أو إلى مذهبه إن كان منتسباً، أفتى بذلك بلا نظر، وإن ذكرها ولم يذكر دليلها ولا طرأ ما يوجب رجوعه، فقيل: له أن يفتي بذلك، والأصح وجوب تجديد النظر.

-------------------------------------------------------

ومثله القاضي إذا حكم بالاجتهاد ثم وقعت المسألة، وكذا تجديد الطلب في التيمم، والاجتهاد في القبلة، وفيهما الوجهان.
قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في آخر باب استقبال القبلة: وكذا العامي إذا وقعت له مسألة فسأل عنها ثم وقعت له فليلزمه السؤال ثانياً يعني على الأصح قال: إلا أن تكون مسألة يكثر وقوعها ويشق عليه إعادة السؤال عنها، فلا يلزمه ذلك، ويكفيه السؤال الأول للمشقة.
التاسعة : ينبغي أن لا يقتصر في فتواه على قوله: في المسألة خلاف، أو قولان، أو وجهان، أو روايتان، أو يرجع إلى رأي القاضي، ونحو ذلك، فهذا ليس بجواب، ومقصود المستفتي بيان ما يعمل به، فينبغي أن يجزم له بما هو الراجح، فإن لم يعرفه توقَّف حتى يظهر، أو يترك الإفتاء كما كان جماعة من كبار أصحابنا يمتنعون من الإفتاء في حنث الناسي.

فصل: في آداب الفتوى

فيه مسائل
إحداها : يلزم المفتي أن يبين الجواب بياناً يزيل الإشكال، ثم له الاقتصار على الجواب شفاهاً. فإن لم يعرف لسان المستفتي كفاه ترجمة ثقة واحد ; لأنه خبر، وله الجواب كتابةً، وإن كانت الكتابة على خطر.
وكان القاضي أبو حامد كثير الهرب من الفتوى في الرِّقاع.
قال الصيمري : وليس من الأدب كون السؤال بخط المفتي، فأما بإملائه وتهذيبه فواسع، وكان الشيخ أبو إسحاق الشيرازي قد يكتب السؤال على ورق له، ثم يكتب الجواب. وإذا كان في الرقعة مسائل فالأحسن ترتيب الجواب على ترتيب السؤال، ولو ترك الترتيب فلا بأس، ويشبه معنى قول الله تعالى: ( { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ } )، وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ.
ثم له أن يستفصل السائل إن حضر، ويقيد السؤال في رقعة أخرى ثم يجيب، وهذا أولى وأسلم، وله أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنه الواقع للسائل، ويقول: هذا إذا كان الأمر كذا، وله أن يفصِّل الأقسام في جوابه، ويذكر حكمَ كلِّ قسم.
لكن هذا كرهه أبو الحسن القابسي من أئمة المالكية وغيره. وقالوا: هذا تعليم الناس الفجور.

---------------------------------------------------

وإذا لم يجد المفتي من يسأله فصَّل الأقسام واجتهد في بيانها واستيفائها.
الثانية : ليس له أن يكتب الجواب على ما علمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعرّض له، بل يكتب جواب ما في الرقعة، فإن أراد جواب ما ليس فيها فليقل: وإن كان الأمر كذا وكذا، فجوابه كذا.
واستحب العلماء أن يزيد على ما في الرقعة ما له تعلُّق بها. مما يحتاج إليه السائل لحديث: « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » .
الثالثة : إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفقْ به، ويصبر على تفهم سؤاله، وتفهيم جوابه، فإن ثوابه جزيل.
الرابعة : ليتأمل الرقعة تأملاً شافياً، وآخرُها آكد، فإن السؤال في آخرها، وقد يتقيد الجميع بكلمة في آخرها ويغفل عنها.
قال الصيمري : قال بعض العلماء: ينبغي أن يكون توقفه في المسألة السهلة كالصعبة ليعتاده، وكان محمد بن الحسن يفعله.
وإذا وجد كلمة مشتبهة سأل المستفتي عنها ونقَّطها وشكلها، وكذا إن وجد لحناً فاحشاً أو خطأ يحيل المعنى أصلحه، وإن رأى بياضاً في أثناء سطر أو آخره خط عليه أو شغله ; لأنَّه ربما قَصَد المفتى بالإيذاء، فكتب في البياض بعد فتواه ما يفسدها، كما بلي به القاضي أبو حامد المروروذي .

--------------------------------------------------

الخامسة : يستحب أن يقرأها على حاضريه ممّن هو أهل لذلك، ويشاورهم ويباحثهم برفق وإنصاف، وإن كانوا دونه وتلامذته؛ للاقتداء بالسلف، ورجاء ظهور ما قد يخفى عليه، إلا أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه، أو يؤثر السائل كتمانه، أو في إشاعته مفسدة.
السادسة : ليكتب الجواب بخط واضحٍ وسط، لا دقيق خاف، ولا غليظ جاف، ويتوسط في سطورها بين توسيعها وتضييقها، وتكون عبارة واضحة صحيحة تفهمها العامة ولا يزدريها الخاصة.
واستحب بعضهم أن لا تختلف أقلامه وخطه ; خوفًا من التزوير ; ولئلا يشتبه خطه، قال الصيمري : قل ما وجد التزوير على المفتي ; لأن الله تعالى حَرَسَ أمر الدين.
وإذا كتب الجواب أعاد نظره فيه ; خوفًا من اختلال وقع فيه، أو إخلال ببعض المسؤول عنه.
السابعة :إذا كان هو المبتدي فالعادة قديمًا وحديثًا أن يكتب في الناحية اليسرى من الورقة.
قال الصيمري وغيره: وإن كتب من وسط الرقعة أو حاشيتها فلا عتب عليه، ولا يكتب فوق البسملة بحال، وينبغي أن يدعو إذا أراد الإفتاء.
وجاء عن مكحول ومالك -رحمهما الله - أنهما كانا لا يفتيان حتى يقولا: لا حول ولا قوة إلا بالله.

--------------------------------------------------

ويستحب الاستعاذة من الشيطان، ويسمي الله تعالى ويحمده، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: ( { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي } الآية ونحو ذلك.
قال الصيمري : وعادة كثيرين أن يبدءوا فتاويهم: (الجواب وبالله التوفيق)، وحذف آخرون ذلك، قال: ولو عمل ذلك فيما طال من المسائل واشتمل على فصول، وحذف في غيره، كان وجهًا.
قلتُ: المختار قول ذلك مطلقًا، وأحسنه الابتداء بقول: (الحمد لله)، لحديث: « كُلُّ أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أجذم » ، وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه، قال الصيمري : ولا يدع ختم جوابه بقوله: (وبالله التوفيق)، أو: (والله أعلم)، أو: (والله الموفق)، قال: ولا يقبح قوله: (الجواب عندنا)، أو: (الذي عندنا)، أو: (الذي نقول به)، أو: (نذهب إليه)، أو: (نراه كذا)، لأنه من أهل ذلك، قال: وإذا أغفل السائل الدعاء للمفتي أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الفتوى ألحق المفتي ذلك بخطه، فإن العادة جارية به.

-------------------------------------------------

قلتُ: وإذا ختم الجواب بقوله: (والله أعلم) ونحوه مما سبق فليكتب بعده: كتبه فلان، أو: فلان بن فلان الفلاني، فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلدة أو صفة، ثم يقول: الشافعي، أو: الحنفي مثلًا، فإن كان مشهورًا بالاسم أو غيره فلا بأس بالاقتصار عليه.
قال الصيمري : ورأى بعضهم أن يكتب المفتي بالمداد دون الحبر خوفًا من الحك، قال: والمستحب الحبر لا غير.
قلتُ: لا يختص واحد منهما هنا بالاستحباب، بخلاف كتب العلم، فالمستحب فيها الحبر ; لأنها ترادُ للبقاء، والحبر أبقى.
قال الصيمري : وينبغي إذا تعلقت الفتوى بالسلطان أن يدعو له فيقول: (وعلى ولي الأمر أو السلطان أصلحه الله أو سدده الله أو قوى الله عزمه أو أصلح الله به، أو شد الله أزره)، ولا يقل: (أطال الله بقاءه)، فليست من ألفاظ السلف.
قلتُ: نقل أبو جعفر النَّحَّاس وغيره اتفاق العلماء على كراهة قول: (أطال الله بقاءك)، وقال بعضهم: هي تحية الزنادقة، وفي صحيح مسلم في حديث أم حبيبة رضي الله عنها إشارة إلى أن الأولى ترك نحو هذا من الدعاء بطول البقاء وأشباهه.
الثامنة : ليختصر جوابه ويكون بحيث تفهمه العامة.

---------------------------------------------------

قال صاحب الحاوي: يقول: يجوز، أو لا يجوز، أو حق، أو باطل.
وحكى شيخه الصيمري عن شيخه القاضي أبي حامد أنه كان يختصر غاية ما يمكنه، واستفتي في مسألة آخرها: يجوز أم لا ؟ فكتب: (لا، وبالله التوفيق).
التاسعة : قال الصيمري والخطيب : إذا سئل عمن قال: (أنا أصدق من محمد بن عبد الله )، أو (الصلاة لعب)، وشبه ذلك، فلا يبادر بقوله: هذا حلال الدم أو: عليه القتل، بل يقول: إن صح هذا بإقراره، أو بالبينة، استتابه السلطان، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يتب فعل به كذا وكذا، وبالغ في ذلك وأشبعه.
قال: وإن سئل عمَّن تكلم بشيء، يحتمل وجوهًا يكفر ببعضها دون بعض قال: يسأل هذا القائل. فإن قال: أردت كذا، فالجواب كذا.
وإن سئل عمن قتل أو قلع عينًا أو غيرها احتاط، فذكر الشروط التي يجب بجميعها القصاص.
وإن سئل عمن فعل ما يوجب التعزير، ذكر ما يعزر به فيقول: يضربه السلطان كذا وكذا، ولا يزاد على كذا، هذا كلام الصيمري والخطيب وغيرهما.
قال أبو عمرو : ولو كتب: عليه القصاص، أو التعزير بشرطه، فليس ذلك بإطلاق، بل تقييده بشرطه يحمل الوالي على السؤال عن شرطه والبيان أولى.

-------------------------------------------------

العاشرة : ينبغي إذا ضاق موضع الجواب أن لا يكتبه في رقعة أخرى خوفًا من الحيلة، ولهذا قالوا: يصل جوابه بآخر سطر، ولا يدع فرجة ; لئلا يزيد السائل شيئًا يفسدها، وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصقة كتب على الإلصاق، ولو ضاق باطن الرقعة وكتب الجواب في ظهرها كتبه في أعلاها إلا أن يبتدئ من أسفلها متصلًا بالاستفتاء فيضيق الموضع فيتمه في أسفل ظهرها ليتصل جوابه، واختار بعضهم أن يكتب على ظهرها لا على حاشيتها، والمختار عند الصيمري وغيره أن حاشيتها أولى من ظهرها، قال الصيمري وغيره: والأمر في ذلك قريب.
الحادية عشرة : إذا ظهر للمفتي أن الجواب خلاف غرض المستفتي وأنه لا يرضى بكتابته في ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب، وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه، ووجوه الميل كثيرة لا تخفى، منها أن يكتب في جوابه ما هو له ويترك ما عليه، وليس له أن يبدأ في سائل الدعوى والبينات بوجوه المخالص منها.
وإذا سأله أحدهم وقال: أي شيء تندفع دعوى كذا وكذا ؟ أو بينة كذا ؟ لم يجبه كي لا يتوصل بذلك إلى إبطال حق، وله أن يسأله عن حاله فيما ادعى عليه، فإذا شرحه رفه بما فيه من دافع وغير دافع.

---------------------------------------------------

قال الصيمري : وينبغي للمفتي إذا رأى للسائل طريقًا يرشده إليه ينبهه عليه، يعني ما لم يضر غيره ضررًا بغير حق، قال: كمن حَلَفَ ينفق على زوجته شهراً، يقول: يعطيها من صداقها أو قرضاً أو بيعاً يبريها، وكما حكي أن رجلاً قال لأبي حنيفة - رحمه الله - : حلفتُ أني أطأ امرأتي في نهار رمضان ولا أكفر ولا أعصي، فقال: سافر بها.
الثانية عشرة : قال الصيمري إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي لعامي بما فيه تغليظٌ وهو مما لا يعتقد ظاهره، وله فيه تأويل، جاز ذلك زجراً له، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن توبة قاتل فقال: ( لا توبة له ) وسأله آخر فقال: (له توبة ) ثم قال: " أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكيناً قد ضلَّ فلم أقنطه " .

---------------------------------------------------

قال الصيمري : وكذا إن سأله رجل فقال: إن قتلتُ عبدي علي قصاص؟ فواسع أن يقول: إن قتلت عبدك قتلناك، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: « من قتل عبده قتلناه » ، ولأن القتل له معان: ولو سئل عن سب الصحابي هل يوجب القتل ؟ فواسع أن يقول: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « مَن سب أصحابي فاقتلوه » ، فيفعل كل هذا ; زجراً للعامة، ومن قَلَّ دينه ومروءته.
الثالثة عشرة : يجب على المفتي عند اجتماع الرِّقاع بحضرته أن يقدم الأسبق فالأسبق، كما يفعله القاضي في الخصوم، وهذا فيما يجب فيه الإفتاء، فإن تساووا أو جهل السابق قدم بالقرعة.
والصحيح أنه يجوز تقديم المرأة والمسافر الذي شدَّ رحله، وفي تأخيره ضرر بتخلفه عن رفقته ونحو ذلك على من سبقهما، إلا إذا كثر المسافرون والنساء، بحيث يلحق غيرهم بتقديمهم ضررٌ كثير فيعود بالتقديم بالسبق أو القرعة. ثم لا يقدم أحداً إلا في فتيا واحدة.

---------------------------------------------------

الرابعة عشرة : قال الصيمري وأبو عمرو : إذا سئل عن ميراثٍ فليست العادة أن يشترط في الورثة عدم الرق والكفر والقتل، وغيرها من موانع الميراث، بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما إذا أطلق الإخوة والأخوات والأعمام وبنيهم، فلا بد أن يقول في الجواب: من أب وأم، أو من أب، أو من أم، وإذا سئل عن مسألة عول كالمنبرية، وهي زوجة وأبوان وبنتان فلا يقل: للزوجة الثمن، ولا التسع; لأنه لم يطلقه أحدٌ من السلف، بل يقول: لها الثمن عائلاً، وهي ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين، أو لها ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين، أو يقول: ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: صار ثمنها تسعاً.
وإذا كان في المذكورين في رقعة الاستفتاء مَنْ لا يرث أفصح بسقوطه فقال: وسقط فلان، وإن كان سقوطه في حال دون حال قال: وسقط فلان في هذه الصورة أو نحو ذلك ; لئلا يتوهم أنه لا يرث بحال.
وإذا سئل عن إخوة وأخوات، أو بنين وبنات، فلا ينبغي أن يقول: للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن ذلك قد يشكل على العامي، بل يقول: يقتسمون التركة على كذا وكذا سهماً، لكل ذَكَرٍ كذا وكذا سهماً، ولكل أنثى كذا وكذا سهماً.

---------------------------------------------------

قال الصيمري : قال الشيخ: ونحن نجد في تعمد العدول عنه حزازة في النفس، لكونه لفظ القرآن العزيز، وأنه قلَّما يخفى معناه على أحد.
وينبغي أن يكون في جواب مسائل المناسخات شديد التحرز والتحفظ، وليقل فيها لفلان كذا وكذا ميراثه من أبيه، ثم من أخيه.
قال الصيمري : وكان بعضهم يختار أن يقول: لفلان كذا وكذا سهماً، ميراثه عن أبيه كذا، وعن أمه كذا، قال: وكل هذا قريب.
قال الصيمري وغيره: وحسن أن يقول: تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا.
الخامسة عشرة : إذا رأى المفتي رقعة الاستفتاء وفيها خط غيره، ممن هو أهلٌ للفتوى، وخطُّه فيها موافق لما عنده، قال الخطيب وغيره: كتب تحت خطه: (هذا جواب صحيح، وبه أقول). أو كتب: (جوابي مثل هذا). وإن شاء ذكر الحكم بعبارة ألخص من عبارة الذي كتب.
وأما إذا رأى فيها خط من ليس أهلاً للفتوى، فقال الصيمري : لا يفتي معه ; لأن ذلك تقريراً منه لمنكرٍ، بل يَضْرِب على ذلك بأمر صاحب الرقعة، ولو لم يستأذنه في هذا القدر جاز، لكن ليس له احتباس الرقعة إلا بإذن صاحبها.

---------------------------------------------------

قال: وله انتهار السائل وزجره، وتعريفه قبح ما أتاه، وأنه كان واجباً عليه البحث عن أهل للفتوى، وطلب من هو أهل لذلك.
وإن رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه، فإن لم يعرفه فواسع أن يمتنع من الفتوى معه، خوفاً مما قلناه.
قال: وكان بعضهم في مثل هذا يكتب على ظهرها.
قال: والأولى في هذا الموضع أن يشار على صاحبها بإبدالها، فإن أبى ذلك أجابه شفاها.
قال أبو عمرو : وإذا خاف فتنةً من الضرب على فتيا العادم للأهلية، لم تكن خطأ، عدلَ إلى الامتناع من الفتيا معه، فإن غلبت فتاويه لتغلبه في منصبها بجاه أو تلبيس أو غير ذلك، بحيث صار امتناع الأهل من فتيا معه ضاراً بالمستفتين، فليفت معه، فإن ذلك أهون الضررين، وليتلطف مع ذلك في إظهار قصوره لمن يجهله.
أما إذا وجد فتيا من هو أهل وهي خطأ مطلقاً بمخالفتها القاطع، أو خطأ على مذهب من يفتي ذلك خطئ على مذهبه قطعاً فلا يجوز له الامتناع من الإفتاء، تاركاً للتنبيه في خطئها إذا لم يكفه ذلك غيره، بل عليه الضرب عليها عند تيسره، أو إبدال وتقطيع الرقعة بإذن صاحبها، أو نحو ذلك وما يقوم مقامه وكتب صواب جوابه عند ذلك الخطأ.

---------------------------------------------------

ثم إن كان المخطئ أهلاً للفتوى فحسن أن تعاد إليه بإذن صاحبها، أما إذا وجد فيها فتيا أهل للفتوى، وهي على خلاف ما يراه هو، غير أنه لا يقطع بخطئها، فليقتصر على كتب جواب نفسه، لا يتعرض لفتيا غيره بتخطئة ولا اعتراض.
قال صاحب الحاوي: لا يسوغ إذا استفتي أن يتعرض لجواب غيره بردٍّ ولا تخطئة، ويجيب بما عنده موافقة أو مخالفة.
السادسة عشرة : إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلاً ولم يحضر صاحب الواقعة فقال الصيمري يكتب: (يزاد في الشرح ليجيب عنه)، أو (لم أفهم ما فيها فأجيب).
قال: وقال بعضهم: لا يكتب شيئاً أصلاً.
قال: رأيتُ بعضهم كتب في هذا: يحضر السائل لنخاطبه شفاهاً.
وقال الخطيب : ينبغي له إذا لم يفهم الجواب أن يرشد المستفتي إلى مُفتٍ آخر إن كان، وإلا فليمسك حتى يعلم الجواب.
قال الصيمري : وإذا كان في رقعة استفتاء مسائل فُهِمَ بعضها دون بعض، أو فهمها كلها ولم يرد الجواب في بعضها، أو احتاج في بعضها إلى تأمل أو مطالعة، أجاب عمَّا أراد وسكت عن الباقي، وقال: (لنا في الباقي نظر أو تأمل أو زيادة نظر).
السابعة عشرة : ليس بمنكَر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصاً واضحاً مختصراً.

--------------------------------------------------

قال الصيمري : لا يذكر الحجة إن أفتى عامياً، ويذكرها إن أفتى فقيهاً، كمن يسأل عن النكاح بلا ولي فحسن أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا نكاح إلا بولي » ، أو عن رجعة المطلقة بعد الدخول فيقول: له رجعتها قال الله تعالى: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } ).
قال: ولم تجر العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد، ووجه القياس والاستدلال، إلا أن تتعلق الفتوى بقضاء قاضٍ فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد، ويلوح بالنكتة، وكذا إذا أفتى غيره فيها بغلطٍ فيفعل ذلك لينبه على ما ذهب إليه، ولو كان فيما يفتي به غُموضٌ فحسن أن يلوح بحجته.
وقال صاحب الحاوي: لا يذكر حجة ليفرق بين الفتيا والتصنيف.
قال: ولو ساغ التجاوز إلى قليلٍ لساغ إلى كثير، ولصار المفتي مدرساً.
والتفصيل الذي ذكرناه أولى من إطلاق صاحب الحاوي المنع.

---------------------------------------------------

وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول: (وهذا إجماع المسلمين)، أو: (لا أعلم في هذا خلافاً)، أو: (فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب)، أو: (فقد أثم وفسق)، أو: (وعلى ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر)، وما أشبه هذه الألفاظ على حسب ما تقتضيه المصلحة وتوجيه الحال.
الثامنة عشرة : قال الشيخ أبو عمرو -رحمه الله - : ليس له إذا استفتي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتي بالتفصيل، بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أو في شيء منه وإن قلَّ، ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير تفصيل، ويقولوا فيها وفي كل ما ورد من آيات الصفات وأخبارها المتشابهة: إن الثابت فيها في نفس الأمر ما هو اللائق فيها بجلال الله - تبارك وتعالى - ، وكماله وتقديسه المطلق، فيقول معتقدنا فيها، وليس علينا تفصيله وتعيينه، وليس البحث عنه من شأننا، بل نكل علم تفصيله إلى الله - تبارك وتعالى - ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا، فهذا ونحوه هو الصواب من أئمة الفتوى في ذلك، وهو سبيل سلف الأمة، وأئمة المذاهب المعتبرة، وأكابر العلماء والصالحين وهو أصون وأسلم للعامة وأشباههم.

---------------------------------------------------

ومن كان منهم اعتقد اعتقاداً باطلاً تفصيلاً، ففي هذا صرف له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم، وإذا عزر ولي الأمر من حاد منهم عن هذه الطريقة، فقد تأسى بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعزير صبيح -بفتح الصاد المهملة- الذي كان يسأل عن المتشابهات على ذلك.
قال: والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة، وبأنها أسلم لمن سلمت له، وكان الغزالي منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدعاء إليها والبرهنة عليها، وذكر شيخه إمام الحرمين في كتابه الغياثي أن الإمام يحرص ما أمكنه على جمع الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك.
واستفتي الغزالي في كلام الله - تبارك وتعالى - فكان من جوابه: وأما الخوض في أن كلامه تعالى حرف وصوت أو ليس كذلك فهو بدعة، وكل من يدعو العوام إلى الخوض في هذا فليس من أئمة الدين، وإنما هو من المضلين، ومثاله من يدعو الصبيان الذين لا يحسنون السباحة إلى خوض البحر، ومن يدعو الزِّمِن المقعَد إلى السفر في البراري من غير مركوب.

----------------------------------------------------

وفي رسالة له: الصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر، الذي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين، سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل، والتصديق المجمل، بكل ما أنزله الله تعالى، وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير بحث وتفتيش، والاشتغال بالتقوى ففيه شغل شاغل.
وقال الصيمري في كتابه أدب المفتي والمستفتي: إن مما أجمع عليه أهل الفتوى أن من كان موسوماً بالفتوى في الفقه لم ينبغ - وفي نسخة: لم يجز- له أن يضع خطه بفتوى في مسألة من علم الكلام.
قال: وكان بعضهم لا يستتم قراءة مثل هذه الرقعة.
قال: وكره بعضهم أن يكتب: ليس هذا من علمنا، أو ما جلسنا لهذا، والسؤال عن غير هذا أولى، بل لا يتعرض لشيء من ذلك.
وحكى الإمام الحافظ الفقيه أبو عمرو بن عبد البر الامتناع من الكلام في كل ذلك عن الفقهاء والعلماء قديماً وحديثاً من أهل الحديث والفتوى، قال: وإنما خالف ذلك أهل البدع.

--------------------------------------------------

قال الشيخ: فإن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض المذكور جاز الجواب تفصيلاً، وذلك بأن يكون جوابها مختصراً مفهوماً، ليس لها أطراف يتجاذبها المتنازعون، والسؤال عنه صادر عن مسترشد خاص منقاد، أو من عامة قليلة التنازع والمماراة، والمفتي ممن ينقادون لفتواه ونحو هذا، وعلى هذا ونحوه يحمل ما جاء عن بعض السلف من بغض الفتوى في بعض المسائل الكلامية، وذلك منهم قليل نادر والله أعلم.
التاسعة عشرة : قال الصيمري والخطيب - رحمهما الله - : وإذا سأل فقيه عن مسألةٍ من تفسير القرآن العزيز فإذا كانت تتعلق بالأحكام أجاب عنها وكتب خطه بذلك، كمن سأل عن الصلاة الوسطى، والقرء، ومن بيده عقدة النكاح، وإن كانت ليست من مسائل الأحكام، كالسؤال: عن الرقيم والنقير والقطمير والغسلين، رده إلى أهله، ووكله إلى من نصب نفسه له من أهل التفسير، ولو أجابه شفاها لم يستقبح، هذا كلام الصيمري والخطيب .
ولو قيل: إنه يحسن كتابته للفقيه العارف به، لكان حسناً، وأي فرق بينه وبين مسائل الأحكام ؟ والله أعلم .

فصل في آداب المستفتي وصفته وأحكامه

فيه مسائل :
إحداها في صفة المستفتي: كل من لم يبلغ درجة المفتي فهو فيما يسأل عنه من الأحكام الشرعية مُستفتٍ مقلِّد من يفتيه.
والمختار في التقليد أنه قبول قولِ من يجوز عليه الإصرار على الخطأ بغير حجّة على عين ما قبل قوله فيه، ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثة، يجب عليه علم حكمها، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه، وإن بعدت داره، وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام.
الثانية :يجب عليه قطعاً البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفاً بأهليته.
فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم، وانتصب للتدريس والإقراء وغير ذلك من مناصب العلماء، بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك.
ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلاً للفتوى.
وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إنما يعتمد قوله: أنا أهل للفتوى لا شهرته بذلك، ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر ; لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا يوثق بها، وقد يكون أصلها التلبيس، وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس.

------------------------------------------------

والصحيح هو الأول ; لأن إقدامه عليها إخبارٌ منه بأهليته، فإن الصورة مفروضة فيمن وثق بديانته، ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته.
قال الشيخ أبو إسحاق المصنف - رحمه الله - وغيره: يقبل في أهليته خبر العدل الواحد.
قال أبو عمرو : وينبغي أن نشترط في المخبر أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميز به الملتبس من غيره، ولا يعتمد في ذلك على خبر آحاد العامة، لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك.
وإذا اجتمع اثنان فأكثر ممن يجوز استفتاؤهم فهل يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم ؟ والبحث عن الأعلم والأورع والأوثق ليقلده دون غيره فيه وجهان:
أحدهما : لا يجب، بل له استفتاء من شاء منهم ; لأن الجميع أهل، وقد أسقطنا الاجتهاد عن العامي، وهذا الوجه هو الصحيح عند أصحابنا العراقيين، قالوا: وهو قول أكثر أصحابنا.
والثاني : يجب ذلك; لأنه يمكنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسؤال، وشواهد الأحوال. وهذا الوجه قول أبي العباس بن سريج ، واختيار القفال المروزي ، وهو الصحيح عند القاضي حسين ، والأول أظهر، وهو الظاهر من حال الأولين.

--------------------------------------------------

قال أبو عمرو -رحمه الله - ، لكن متى اطلع على الأوثق، فالأظهر أنه يلزمه تقليده، كما يجب تقديم أرجح الدليلين، وأوثق الروايتين، فعلى هذا يلزمه تقليد الأورع من العالمين، والأعلم من الورعين، فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أورع، قلد الأعلم على الأصح.
وفي جواز تقليد الميت وجهان: الصحيح: جوازه ; لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها، ولهذا يعتد بها بعدهم في الإجماع والخلاف، ولأن موت الشاهد قبل الحكم لا يمنع الحكم بشهادته بخلاف فسقه. والثاني: لا يجوز لفوات أهليته كالفاسق، وهذا ضعيف لا سيما في هذه الأعصار.
الثالثة : هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء قال الشيخ: ينظر: إن كان منتسباً إلى مذهب بنيناه على وجهين حكاهما القاضي حسين في أن العامي هل له مذهب أم لا ؟ أحدهما لا مذهب له ; لأن المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما.
والثاني وهو الأصح عند القفَّال له مذهب فلا يجوز له مخالفته.

------------------------------------------------

وقد ذكرنا في المفتي المنتسب ما يجوز له أن يخالف إمامه فيه، وإن لم يكن منتسباً بني على وجهين حكاهما ابن برهان في أن العامي: هل يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين ؟ يأخذ برخصه وعزائمه ؟ أحدهما لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأول أن يخص بتقليده عالماً بعينه، فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء ؟ أم يجب عليه البحث عن أشد المذاهب وأصحها أصلاً ليقلد أهله ؟ فيه وجهان مذكوران كالوجهين السابقين في البحث عن الأعلم والأوثق من المفتين. والثاني : يلزمه وبه قطع أبو الحسن إلكيا ، وهو جارٍ في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم.
ووجهه أنه لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعاً هواه، ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز، وذلك يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف بخلاف العصر الأول، فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث مهذّبة وعرفت، فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين، ونحن نمهد له طريقاً يسلكه في اجتهاده سهلاً، فنقول:

-----------------------------------------------

أولاً ليس له أن يتبع في ذلك مجرد التشهي، والميل إلى ما وجد عليه آباءه، وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من الأولين، وإن كانوا أعلم وأعلى درجة ممن بعدهم ; لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه، فليس لأحد منهم مذهب مهذب محرر مقرر، وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناحلين لمذاهب الصحابة والتابعين، القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها، الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها، كمالك وأبي حنيفة وغيرهما.
ولما كان الشافعي قد تأخر عن هؤلاء الأئمة في العصر، ونظر في مذاهبهم نحو نظرهم في مذاهب من قبلهم، فسبرها وخبرها وانتقدها. واختار أرجحها، ووجد من قبله قد كفاه مؤنة التصوير والتأصيل، فتفرغ للاختيار والترجيح، والتكميل والتنقيح، مع معرفته، وبراعته في العلوم. وترجحه في ذلك على من سبقه، ثم لم يوجد بعده من بلغ محله في ذلك. كان مذهبه أولى المذاهب بالاتباع والتقليد، وهذا مع ما فيه من الإنصاف، والسلامة من القدح في أحد الأئمة جلي واضح، إذا تأمله العامي قاده إلى اختيار مذهب الشافعي ، والتمذهب به. (1) .
_________
(1) لكل من الأئمة الأربعة مزايا تشير إلى فضل تقليده، ولا يقتصر ذلك على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، بل الأئمة المتبوعون أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل على خير وهدى، ومن قلد أحدهم في أحكام الدين، فهو على خير وهدى باتفاق المسلمين، والله أعلم

-------------------------------------------------

الرابعة : إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للأصحاب: أحدها: يأخذ بأغلظهما، والثاني: بأخفهما، والثالث: يجتهد في الأولى فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع كما سبق إيضاحه واختاره السمعاني الكبير ونص الشافعي رضي الله عنه على مثله في القبلة، والرابع: يسأل مفتياً آخر فيأخذ بفتوى من وافقه، والخامس: يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء، وهذا هو الأصح عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي المصنف، وعند الخطيب البغدادي ، ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا واختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه.
وقال الشيخ أبو عمرو : المختار أن عليه أن يبحث عن الأرجح فيعمل به فإنه حكم التعارض فيبحث عن الأوثق من المفتين فيعمل بفتواه، وإن لم يترجح عنده أحدهما استفتى آخر، وعمل بفتوى من وافقه، فإن تعذر ذلك وكان اختلافهما في التحريم والإباحة، وقبل العمل، اختار التحريم، فإنه أحوط، وإن تساويا من كل وجه خيرناه بينهما، وإن أبينا التخيير في غيره ; لأنه ضرورة وفي صورة نادرة.

-----------------------------------------------

قال الشيخ: ثم إنما نخاطب بما ذكرناه المفتين، وأما العامي الذي وقع له فحكمه أن يسأل عن ذلك ذينك المفتيين أو مفتياً آخر وقد أرشدنا المفتي إلى ما يجيبه به.
وهذا الذي اختاره الشيخ ليس بقوي بل الأظهر أحد الأوجه الثلاثة، وهي: الثالث والرابع، والخامس، والظاهر أن الخامس أظهرها ; لأنه ليس من أهل الاجتهاد، وإنما فرضه أن يقلد عالماً أهلاً لذلك، وقد فعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما والفرق بينه وبين ما نص عليه في القبلة أن أمارتها حسية فإدراك صوابها أقرب، فيظهر التفاوت بين المجتهدين فيها، والفتاوى أمارتها معنوية فلا يظهر كبير تفاوت بين المجتهدين والله أعلم.
الخامسة : قال الخطيب البغدادي : إذا لم يكن في الموضع الذي هو فيه إلا مفتٍ واحد فأفتاه لزمه فتواه.
وقال أبو المظفر السمعاني - رحمه الله-: إذا سمع المستفتي جواب المفتي لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه، قال: ويجوز أن يقال إنه يلزمه إذا أخذ في العمل به. وقيل: يلزمه إذا وقع في نفسه صحته، قال السمعاني : وهذا أولى الأوجه.

--------------------------------------------------

قال الشيخ أبو عمرو : لم أجد هذا لغيره، وقد حكى هو بعد ذلك عن بعض الأصوليين أنه إذا أفتاه بما هو مختلف فيه خيره بين أن يقبل منه أو من غيره، ثم اختار هو أنه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ويلزمه الأخذ بفتيا من اختاره باجتهاده.
قال الشيخ: والذي تقتضيه القواعد أن نفصل فنقول: إذا أفتاه المفتي نظر فإن لم يوجد مفت آخر لزمه الأخذ بفتياه، ولا يتوقف ذلك على التزامه لا بالأخذ في العمل به ولا بغيره، ولا يتوقف أيضا على سكون نفسه إلى صحته.
وإن وجد مفت آخر فإن استبان أن الذي أفتاه هو الأعلم الأوثق لزمه ما أفتاه به، بناء على الأصح في تعينه كما سبق، وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ما أفتاه بمجرد إفتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده، ولا يعلم اتفاقهما في الفتوى، فإن وجد الاتفاق أو حكم به عليه حاكم لزمه حينئذ.
السادسة : إذا استفتي فأفتى ثم حدثت تلك الواقعة له مرةً أخرى، فهل يلزمه تجديد السؤال ؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه; لاحتمال تغير رأي المفتي، والثاني: لا يلزمه وهو الأصح ; لأنه قد عرف الحكم الأول، والأصل استمرار المفتى عليه.

------------------------------------------------

وخصص صاحب الشامل الخلاف بما إذا قلد حياً وقطع فيما إذا كان ذلك خبرا عن ميت، بأنه لا يلزمه، والصحيح أنه لا يختص، فإن المفتي على مذهب الميت قد يتغير جوابه على مذهبه.
السابعة : أن يستفتي بنفسه، وله أن يبعث ثقةً يعتمد خبره ليستفتي له، وله الاعتماد على خط المفتي إذا أخبره من يَثِقُ بقوله أنه خطه، أو كان يعرف خطه ولم يتشكك في كون ذلك الجواب بخطه.
الثامنة : ينبغي للمستفتي أن يتأدب مع المفتي ويبجله في خطابه وجوابه ونحو ذلك.
ولا يومئ بيده في وجهه، ولا يقل له ما تحفظ في كذا ؟ أو ما مذهب إمامك أو الشافعي في كذا ؟
ولا يقل إذا أجابه: هكذا قلتُ أنا، أو كذا وقع لي، ولا يقل: أفتاني فلان أو غيرك بكذا، ولا يقل: إن كان جوابك موافقاً لمن كتب فاكتب وإلا فلا تكتب.
ولا يسأله وهو قائم أو مستوفز أو على حالة ضجر أو هم أو غير ذلك مما يشغل القلب.
وينبغي أن يبدأ بالأسن الأعلم من المفتين، وبالأولى فالأولى إن أراد جمع الأجوبة في رقعة، فإن أراد إفراد الأجوبة في رقاع بدأ بمن شاء، وتكون رقعة الاستفتاء واسعة، ليتمكن المفتي من استيفاء الجواب واضحاً، لا مختصراً مضراً بالمستفتي.
ولا يدع الدعاء في رقعة لمن يستفتيه.

---------------------------------------------------

قال الصيمري : فإن اقتصر على فتوى واحد قال: ما تقول رحمك الله ؟ أو رضي الله عنك أو وفقك الله، وسددك ورضي عن والديك ؟ ، ولا يحسن أن يقول: رحمنا الله وإياك.
وإن أراد جواب جماعة قال: ما تقولون رضي الله عنكم ؟ أو ما تقول الفقهاء سددهم الله تعالى ؟
ويدفع الرقعة إلى المفتي منشورة، ويأخذها منشورة فلا يحوجه إلى نشرها ولا إلى طيها.
التاسعة : ينبغي أن يكون كاتب الرقعة ممن يحسن السؤال، ويضعه على الغرض مع إبانة الخط واللفظ وصيانتهما عما يتعرض للتصحيف.
قال الصيمري : يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم، وكان بعض الفقهاء ممن له رياسة لا يفتي إلا في رقعة كتبها رجل بعينه من أهل العلم ببلده.
وينبغي للعامي أن لا يطالب المفتي بالدليل، ولا يقل: لم قلتَ ؟ فإن أحبَّ أن تسكن نفسه لسماع الحجة طلبها في مجلس آخر، أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة.
وقال السمعاني : لا يمنع من طلب الدليل، وأنه يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعاً به، ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعاً به لافتقاره إلى اجتهاد يقصر فهم العامي عنه، والصواب الأول.

--------------------------------------------------

العاشرة : إذا لم يجد صاحب الواقعة مفتيًا ولا أحدًا ينقل له حكم واقعته لا في بلده ولا غيره قال الشيخ: هذه مسألةُ فَترة الشريعة الأصولية ، وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع، والصحيح في كل ذلك القول بانتفاء التكليف عن العبد، وأنه لا يثبت في حقه حكم لا إيجاب ولا تحريم ولا غير ذلك، فلا يؤاخذ إذن صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها، والله أعلم.
تم ما في شرح المهذب من كلام عن الفتوى وشروطها، وبقية الكلام في هذا الباب خاص بمذهب
الإمام الشافعي ، فلينظره طلاب العلم الشافعية.
والله تعالى الموفق لكل خير.
والحمد لله رب العالمين.
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top