هيباشيا :


(1) :
هيباشيا : الإسكندرية... المتحف والمكتبة :
الأرجح أن بطليموس الأول ( حكم مصر منذ أن توفّي الإسكندر 323 حتى 282قبل الميلاد ) ، وهو أعظم خلفاء الإسكندر الأكبر والملقّب بـ " سوتر " ، أي المنقذ ، هو الذي بنى مدينة الإسكندرية تحقيقاً لرغبة قائده العظيم ؛ فقد رأى الإسكندر في نومه حلماً غريباً ( من الطريف أن معبد السرابيون serapeion بُني بسبب حلم آخر رآه بطليموس الثالث ؛ فقد رأى من يقول له : لا بد من دين جديد " فأمر أن يحضر من معبد المشترى في سينوب تمثالاً لبلوتوpluto ليكون رمزاً للنحلة الجديدة ، وتعاون الكاهن المصري مانيثو والكاهن الإغريقي ثيموثياس على وضع صفات الإله الجديد ، واتفقا أن يطلق عليه اسم سيرابيبس sarpapis كما عن بنيامين فارنتين في " العلم الإغريقي ". ولا نجد اتفاقاً في الذي بين أيدينا من مصادر قديمة حول الذي أسس هذا المعبد ؛ فالبعض يقول إنه بطليموس الأول ، أو الثاني) ؛ إذ رأى شيخاً أبيض الشعر مهيب الطلعة ، يقترب منه وينشده أبياتاً لهوميروس تقول " هناك وسط البحر الصاخب الذي تسبح فيه مصر ، قامت جزيرة ذائعة الصيت يطلق عليها الناس اسم فاروس pharos ( أقيم جسر يصل الجزيرة باليابسة ، كما عهد إلى سوستراتس sostrates ببناء منارة في هذه الجزيرة الصغيرة ، وهي أول منارة في العالم القديم ، كان لها برج يبلغ ارتفاعه 400قدم ، وتسهل رؤيتها عبر الأماكن المنخفضة ، ومن البحر ، ومن مسافات بعيدة. ذاع صيتها حتى أصبحت من عجائب الدنيا السبع . وأصبح اسم الجزيرة pharos يعني منارة في جميع اللغات ، فهي كذلك بالإنجليزية ، وهي باللاتينية farus ، وبالفرنسية pharos) هناك في الداخل ميناء ذو مرسى بديع " .
فقام من نومه ، وجرى لرؤية الجزيرة التي قامت في البحر على هيئة لسان طوله أكبر من عرضه ، فأمر بعمل رسم هندسي للمدينة الجديدة ، ثم رحل مع أتباعه إلى الصحراء لزيارة معبد آمون في سيوة ، واتجه ، بعد عودته من هذه الزيارة ، إلى فلسطين وسوريا ماضياً في فتوحاته .
فإذا كان الإسكندر قد اتفق مع مهندسيه على موقع المدينة وتخطيطها بوجه عام ، فإنه لم يبدأ بناؤها أثناء حياته لانشغاله بأمور أخرى ( هناك من يرى أن الإسكندر قد وضع أساس مدينة الإسكندرية قبل أن يذهب إلى واحة سيوة. وهناك من يرى أنه تم بناؤها في عهده ) والقول الأرجح إن بطليموس الأول هو الذي شرع / بدأ فعلاً في بنائها ، ولهذا اضطر أن يتخذ منفيس ، لوقت ، مقرّاً لحكومته إلى أن يتم بناء المدينة ، أو الجناح الملكي على الأقل. وكان ديمتري الفاليريdemetrius phalerius ( ديمتري فاليري هذا مفكّر وسياسي آثيني ، حكم آثينا مدة عشر سنوات من317حتى 307 قبل الميلاد ، ثم هرب إلى الإسكندرية فعاش في بلاط صديقه بطليموس الأول ، ولعب ديمتري دوراً مهماً في إنشاء المتحف والمكتبة ) ، صديق بطليموس الأول ، واحداً من الفلاسفة المشّائين الذي أخذوا عن أرسطو نفسه . وقد اقترح ديمتري على بطليموس إنشاء مجمع علمي تلحق به مكتبة تُجمع فيها الكتب من جميع أقطار الأرض ، وسمّى هذا المعهد الموسيون mouseum وهذه كلمة يونانية معناها " معهد ربّات الفنون والعلوم " ، هؤلاء اللائي يوحين للشاعر والكاتب والمفكّر ، ومنها جاء اشتقاق كلمة museum بمعنى المُتحف في اللغات الأوروبية .
ولما كان بطليموس الأول على حظ عظيم من العبقرية ، يقول جورج سارتون ، حيث كان نصيراً للعلوم والفنون ، فقد رحّب الملك المثقف بهذه الفكرة وشرع في تنفيذها ، وقام بتعيين ديمتري الفاليري مشرفاً ورئيساً للموسيون ، ووضع تحت إمرته من المال ما شاء لأجل شراء الكتب وجذب العلماء إلى الإسكندرية ، خاصة وأن بطليموس أراد أن تنافس الإسكندرية آثينا كمركز للثقافة والعلم في العالم القديم .
وتم بناء المُتحف في منطقة القصور الملكية ، وجاء بناءً بالغ الجمال / الروعة . وأول من وصف لنا متحف الإسكندرية هو الجغرافي سترابون strapon حيث زار الإسكندرية في نهاية القرن الأول قبل الميلاد ، وأقام بها زهاء خمس سنين ، عكف فيها على تأليف كتاب له في الحغرافيا . وكتب يقول عن الموسيون " إنه جزء من الحي الملكي ، يحتوي مبناه على رواق وممشى مسقوف ومبنى كبير يتناول فيه علماء المعهد الطعام ، وهؤلاء يعيشون حياة مشتركة . وكانت هناك أموال عامة موقوفة على هذا المجمع العلمي ، كما كان يشرف على أمور المتحف رئيس يلقّب بالكاهن . وكان يعيّن وقتها من قبل الملوك البطالمة ، ثم صار يعينه القيصر " .
ويعد هذا المعهد أول مؤسسة علمية حكومية في العالم القديم ، ولذلك صحّت مقارنته بجامعاتنا لولا أنه لم يكن يضم فصولاً دراسية ، ولا يمنح شهادات علمية . وإن كانت المحاضرات فيه عامة . أما داخل المتحف ، فقد كان العلماء يعيشون كالرهبان ، يقيمون ويأكلون ويشربون داخل المبنى ، وتنحصر دائرة نشاطاتهم داخله ، ويبدو أنهم كانوا يتقاضون راتباً من الدولة ما دام المتحف توقف عليه الأموال العامة كالمعبد تماماً . فقد كان بالمعهد – يرى سارتون – حوالي مائة أستاذ يدفع الملك مرتباتهم ، وقد خصصت به حجرات للأبحاث والمحاضرة والدرس .
وهناك شخصية أخرى مهمة كان لها أثر كبير في النشاط الثقافي للمعهد ، وهو الفيلسوف والعالم الطبيعي ستراتونstraton تلميذ ثاوفراسطسtheophrastos وخليفته في رئاسة اللقيون ، فبناء على اقتراح ديمتري الفاليري استدعى بطليموس الأول هذا الفيلسوف إلى مصر لكي يكون معلماً لأبنائه . وجاء ستراتون إلى الإسكندرية عام 300قبل الميلاد.
ويمكن اعتبار ستراتون المؤسس الحقيقي للمتحف ، لأنه نقل إليه الطابع / المنهج العقلي الذي انطبعت به مدرسة اللقيون ، وإليه يرجع الفضل في تحول المتحف إلى معهد للبحوث العلمية بدلاً من تحوله إلى مدرسة للشعر والخطابة . وقد بلغ من اهتمام ستراتون بدراسة الطبيعة أن سمّاه الناس بالفيزيقي أو الطبيعي . وقد ظل ستراتون في مصر مدة طويلة ، يقال إنها بلغت تزيد عن اثنتي عشرة سنة . حيث دعي إلى آثينا عند وفاة ثاوفراسطس سنة 288قبل الميلاد ، وعين رئيساً لمدرسة اللقيون فكان ثالث كبارها . ونلاحظ أنه من تصاريف الأقدار أن يكون المسؤول عن المتحف السكندري تلميذاً متخرجاً من اللقيون ثم يكون رئيساً لها .
وقد ألحقت بالمتحف مكتبة خاصة كبرى ، سماها المؤرخون المكتبة الكبرى أو المكتبة الأم تمييزاً لها عن المكتبة " الابنة " التي أُلحقت بمعبد السرابيون serapeion بعد ذلك ، وهو المعبد الذي أُنشيء في عصر الملك بطليموس الثالث للإله سرابيون الإله الرسمي الجديد للدولة البطلمية ، وكان في الحي الشعبي من المدينة حيث يقيم غالبية السكان . وكان هذا المعبد من الضخامة والروعة بحيث طبقت شهرته الآفاق. وبطبيعة الحال ضم المعبد مكتبةً ، كما جرت العادة. لكن مكتبته في السرابيوم لم تكن مكتبة عادية ، إذ سرعان ما نمت كثيراً ، ووضعت فيها الكتب التي ضاقت بها مكتبة الموسيون .
وقد غلب الطابع العلمي على المتحف ، واتضح ذلك في اهتمام علمائه بالعلوم الرياضية وعلم الفلك الذي كان جزءاً من الرياضة ، وكذلك كان هناك اهتمام بالعلوم الطبيعية وعلم الحيوان وعلم الطب والتشريح والفسيولوجيا . وبذلك كان هذا المتحف ، في بداية العهد به ، مجمعاً علمياً لا شأن له بالدراسات الإنسانية. ولكن مؤسسي المتحف ، والمشرفين عليه ، تنبهوا إلى أهمية الدراسات الأخيرة وعرفوا أنه إذا تعذر القيام بها في المتحف ذاته ، فلا بد أن يتم ذلك في مؤسسة ملحقة به ، فكانت المكتبة هي تلك المؤسسة التي اختصت بالدراسات الإنسانية .
وقد اهتم ملوك البطالمة بتدعيم المكتبة ؛ فيروى أنه أمكن شراء مكتبة أرسطو نفسه بفضل ديمتريوس الفاليري من نيلوسneleus تلميذ ثاوفراسطس ووريثه ، وذلك مقابل مبلغ ضخم . وكانت مكتبة أرسطو تعتبر أكبر مكتبة في عصره ، فكانت من أعظم مقتنيات مكتبة الإسكندرية ، ومن أكثر ما جلب لها من شهرتها العالمية قديماً وجعل الناس يقصدون الإسكندرية ليقرأوا في مكتبة أرسطو بعد أن انتقلت إلى مكتبة الإسكندرية .
وفضلاً عن ذلك ، فقد كانت هناك مصادر شتى للكتب العديدة التي تزخر بها مكتبة الإسكندرية ، إذ كان يتم الحصول عليها من سبل متنوعة : فيروى ، مثلاً ، أن بطليموس الثاني الملقب بـ " فيلادلفوس " أي المحب لأخته ، كان يشتري الكتب من أسواق آثينا وينقلها إلى مكتبة الإسكندرية. في حين أن بطليموس الثالث الملقب بـ " يورجبتس " أي الخير ، كان شغوفاً بالكتب لدرجة أنه حكي أنه كان يلجأ إلى وسائل تعسفية ، منها ما يمكن أن يسمى الحجر على الكتب التي تحملها الكتب الراسية في الميناء !!! . وقد أصدر أمراً بأن تحمل إليه شخصياً الكتب التي يمكن أن توجد في جميع السفن الراسية في ميناء الإسكندرية ، فيأمر بنسخها على ورق جديد ، وبعد ذلك تُعطى النسخ المنقولة إلى أصحاب هذه السفن ، على أن تضم الكتب الأصلية إلى حوزته لكي تودع في المكتبة . وكانت الكتب التي ترد إلى المكتبة عن هذا الطريق تُعطى عنواناً خاصاً هو " من السفن ". وأما الكتب الأخرى المدون عليها تصويبات أو تعليقات ، فتسمى " ذات التصويبات " ، أو تسمى باسم صاحبها . وبعد أن يفرغ الموظفون ، أتباع الملك ، من نسخ الكتب التي تم الحصول عليها من جميع ركاب السفن وعنونتها باسم صاحبها أو حسب مصدرها ، يقومون بتخزينها في المخازن ، حيث إنها لم يكن تُوضع مباشرة في المكتبات فور الحصول عليها .
والدليل على أن بطليموس الثالث كان مهتماً بالحصول على كل صنوف الكتب أن جالينوس ( هو طبيب ماهر ذو شهرة ذائعة الصيت . عاش ما بين 131 ، 201م ) .
روى أن الملك بعث إلى آثينا يطلب المخطوطات الأصلية لمسرحيات سوفوكليس ( أحد أشهر شعراء اليونان ، شدد ، في مؤلفاته ، على الجانب الأخلاق ، فكان كثيراً ما يثير مشكلة الصراع بين القوانين المكتوبة كمدبّر للأخلاق ، وبين القوانين الإلهية ... وبدا ذلك أكثر ما يكون في مسرحيته " أنتيجونا " ، فهو يُظهر أنتيجونا محتجةً على قوانين الملك كريون بقوانين الأجداد وعاداتهم المستمدة من الآلهة . وفي تاريخ الفكر اليوناني قام تيار ، يتزعمه سقراط ، زعم أن لا تعارض بين القوانين المكتوبة / الوضعية ، وبين القوانين غير المكتوبة / الإلهية ، وذلك قبالة تيار آخر ، تزعمه سوفوكليس ، يرى وجود تعارض بين بين هذين النوعين من القوانين ، ويرى أن السبب في ذلك راجع إلى اصطدام التشريعات الإنسانية بقوة العادات والتقاليد القديمة) وأسخيلوس ويوروبيدس ، تلك التي كانت – بصفة رسمية – في حزينة / خزائن المدينة ، ذلك لكي يقوم الناسخون بنسخها في الإسكندرية ثم تُعاد مرة أخرى إلى المدينة . وفي مقابل تلك النسخ المهمة ، كرهن / ضمان مالي ، أودع الملك في آثينا مبلغاً كبيراً من الفضة ( قيل إنه أودع خمسة عشر تالنت . والتالنت talent يساوي 26كيلوجراماً . والبعض يرى أن هذا يساوى ستة آلاف دراخمة يونانية ، وهذا – بكل المقاييس – مبلغ جد ضخم ) ولكن ما يحدث بعد تمام عملية النسخ ، تلك التي تُنقل فيها الأصول على ورق غاية في الفخامة العملية والشكلية لضمان أطول مدة ممكنة للبقاء ، أن أمراً يصدر من الملك بأن تُرسل النسخ المنقولة ، لا الأصلية ، مع طلب موافقة أن يحتفظ الإثينيين بمبلغ الخمسة عشر تالنت . ولم تكن تلك خُدعة من الملك ، بل كان إنفاذاً لأحد شروط الإيثينيين ، وفيه : أنه في حال لم يرسل الملك الأصول / النسخ الأصلية ، وتم الاحتفاظ بها في حوزته ، فعليه أن يرسل النسخ المنسوخة بدلاً عن الأصلية ، ولن يُرد له المبلغ المرصود ضماناً للإعادة.
وعليه ... فإن الملك يأخذ النسخ / الأصول الأساس ، ويرد للإيثينيين النسخ المنسوخة راضياً ألا يسترد الضمان المالي الذي سبق أن أودعه بالمدينة .
وهذه من الملك تضحية بالمال قبالة الحصول على الكتب ، قلّ أن يشيع مثلها في ذلك الوقت .
ونعلم أن البطالمة قد كانوا أصحاب ميول حقيقية للثقافة بمفهومها الأوسع ؛ فقد نقلوا الكثير من المعتقدات المختلفة إلى اليونانية ؛ فقام ماثينون ، الكاهن المصري المعروف ، بتأليف كتاب باليونانية عن تاريخ مصر القديمة . كذلك ضمت مكتبات البطالمة كتباً / مؤلفاتٍ عن البوذية بأقلام بعض الهنود البوذيين أنفسهم. وأرسل بطليموس الثاني ( 285 : 246 قبل الميلاد ) إلى حاخام بيت المقدس يطلب إرسال الكتب الدينية اليهودية ، ومعها عدد من علماء اليهود المتقنين للغة العبرية واليونانية كي يقوموا بترجمة هذه الكتب من لغتها الأم إلى اللغة اليونانية لتكون بمكتبة الإسكندرية .
وبهذا تمت أهم ترجمة للتوراة ، وهي تلك المعروفة بـ " الترجمة السبعينية " لأن من قام على ترجمتها اثنان وسبعون حَبراً من علماء الدين اليهود . وما تزال موجودةً حتى وقتنا الراهن .
وبدراسة تاريخ الديانة المسيحية ، نجد أنه إذا كانت تلك الديانة السماوية قد لاقت الاضطهاد غير المبرر ، ولا المقبول ، في كل الإمبراطورية الرومانية ، إلا أنها بدأت تأخذ لها مكاناً منذ أن أصدر الإمبراطور جالينوس في شهر إبريل العام 311م مرسوماً بالكف عن اضطهاد المسيحية والمسيحيين ، طالباً منهم الصلاةَ والدعاء له ، إذ كان يعاني مرضاً آيس الجميع من شفائه ، وتشاء الأقدار أن يموت الإمبراطور بمرضه بُعيد أيام من سريان المرسوم الإمبراطوري القاضي الكفَّ عن عمليات الاضطهاد التي كان يتعرض لها كل معتنقي المسيحية . وبعد ذلك بعامين تحديداً ، صدر إعلان ميلان في 313م معلناً بداية ما عُرفَ بمبدأ التسامح الديني . ثم ، وبعد إعلان الإمبراطور قسطنطين اعتناقه الديانة المسيحية ، أصبح سهلاً الاعتراف بالمسيحية ديانةً أولى ، ورسمية ووحيدة ، لكل الإمبراطورية الرومانية.
فكان أن بدأ أتباعها يمكّنون لأنفسهم وأخذوا يردّون ما وقع لهم أضعافاً لمن فعلوا بهم ذلك !!! ؛ فبدأ عصر آخر /جديد من الاضطهاد ؛ فراحت الديانة الجديدة تضطهد الديانات الأخرى ، وما سلم من هذا الاضطهاد حتى من أعلن مسالمته للمسيحية الوليدة . بل حدث أن اضطُهد بعض المسيحيين على يد إخوان لهم مسيحيين كهم !!!. إذ كان المضطهَدين لا يؤمنون بأفكار / توجهات / قناعات بعض رجال الدين ، كما حال القديس أثناسيوس Athanasius ، أحد أبناء الإسكندرية والأسقف العام لها مدةً طويلة ، مع زميله القس آريوس Arius الذي كان – هو الآخر – أحد قسسة كنيسة الإسكندرية .
وبحلول العام 385م تولى توفيلوس Theophillus منصب الرئاسة العامة لأساقفة الإسكندرية ، وكان معروفاً عنه ضيق الأفق وشدة التعصب ، فعمل على تحويل المعابد المصرية واليونانية القديمة إلى كنائس جبراً وقسراً ، فضيّع معبد الإله ديونسيوس ، ما أوجد تبرماً عمّ لا الوثنيين وحدهم ، بل المسيحيين أيضاً . واستمر هذا الأسقف يمارس تعصبه ، خاصة – وهذه عادة بعض رجال الدين ذوي الأفق الضيق – بين العامة ، فكان ، في عام 391م ، أن جمع جمهوراً من البسطاء / الغوغاء وذهب بهم في مظاهرة حاشدة غاضبة في آن ، إلى معبد السرابيون وضرب الإله سرابيس ، فتبعه الجمهور بالتدمير والتخريب والنهب والسلب ، في سلوك همجي ، ثم أصدر توفيلوس أمره بتحويل المعبد ، أو ما تبقى من المعبد ، إلى كنيسة .
وبذا تحطم / تدمّر معبد السرابيون Serapeion العام 391م ، وأمّحت مكتبته التي كانت عامرةً ، وذاع صيتها ، خاصة في العصر الروماني . على يد أحد رجال الدين الجديد ، بزعم مناهضته للوثنية ، حيث كانت نظرة رجال المسيحية الأُوَل إلى العلم والثقافة على أنهما يتماهيان ، في هوية واحدة ، مع الوثنية ؛ فكان أن صيغ القول " لا علم ولا ثقافة إلا ما جاء في الكتاب المقدّس " . وسنعلم ، بعد ، كيف " مسّح " البعض أرسطو !!! ، فتم قتل برونو ، وغيره ، بالخاذوق ، وتم ما سنراه في السطور القادمة لشخصية هذه الدراسة .
وهكذا ... ، وبحلول النصف الأخير / الثاني من القرن الرابع الميلادي ، سنشهد فترة حاسمة تاريخياً ، شنّ فيها رجال الدين المسيحيون حرباً اتسمت بالاضطهاد ، لا على الوثنية فقط ، بل طال الاضطهاد طوائف أخرى ، فلم تسلم اليهودية مما لم تسلم الوثنية منه ، وطالها ما طال الوثنية من حرب / اضطهاد كانت السمة الأساس فيها الحدة والعنف في درجاته العليا .
ولم تقف عمليات الحرب / الاضطهاد بحد الأشخاص والمعابد ، بل تعدت هؤلاء جميعاً إلى الكتب ، كل الكتب ، التي حوت ثقافة غير مسيحية ، ما جعلنا نسمّي هذا كله بـ " التصفية المعنوية " ، وهي – برأينا – أشد من التصفية المادية .
وشهد المؤرخون المعابد في الإسكندرية وقد خلت أرفف مكتباتها من الكتب. بل إن مكتبة السرابيون ختمت تاريخها في نهاية القرن الرابع الميلادي ، وكذا فإن الموسيون " المتحف " نفسه أغلق رسمياً أيضاً متزامناً مع تدمير السرابيون أو بعده يقليل .
هذا يجعلنا نعيد النظر في الرواية التاريخية التي تنسب نهاية مكتبة الإسكندرية إلى عمرو بن العاص وقت أن جاء فاتحاً مصر العام 642م (من اللافت للنظر أن العرب ، أنفسهم ، هم من روّج لهذه القصة التي نراها غير حقيقية ) لكن باحثين منصفين ، كسارتون ، يرون أن قصة إبادة المسلمين لمكتبة الإسكندرية لما جاءوا المدينة في العام 646م لا أساس لها من الصحة ، لأن الكلام في أن المكتبة كانت موجودة وقتها أمر محاط بشك كثير .
يٌتبع ...
 

(2) :
الإسكندرية... المرأة المعجزة :
وُلِدتْ شخصيتنا " هيباشيا " Hypatiaفي هذا الجو المأزوم ، فهي – بمقاييس كثيرة ، لكنها منصفة – تعد فيلسوفة الإسكندرية بلا منازع... ولدت هيباشيا عام 370م لأستاذ / عالم في الرياضيات ، هو ثيون THeonK بل هو يعتبر / يعدّ آخر العلماء العظام الذين سُجّلتْ أسماؤهم في سجل أساتذة متحف الإسكندرية.
ونحن نفتقر إلى وثائق تبيّن لنا التاريخ العلمي المبكّر لهيباشيا ، شأننا في كثير من المهمات في حياتنا!!!. لكننا نعرف أنها تعلمت على يد أبيها وقت أن كان يدرّس الرياضيات والفلك في المتحف. ولذلك – وبما أنه لم يرد إلينا ما يثبت أن أبا هيباشيا قد درس الفلسفة ، وما دامت هيباشيا قد درست الفلسفة وحاضرتْ فيها بعد ذلك في الإسكندرية المتحف والمدينة – فلا بد من وجود فرضية تعتمد القول إن هيباشيا قد درَستْ الفلسفة على فلاسفة الأفلاطونية المحدَثة 10، وكانت الفلسفة الأفلاطونية هي الفلسفة السائدة وقتذاك. وإلا يمكننا وضع فرضية أخرى ، تقول إن هيباشيا قد ثقّفتْ نفسها بنفسها ، فقرأت لأفلاطون وأرسطو وأفلوطين. فهي – بذلك – عصامية الثقافة والمعرفة.
إلا أن معجم سويداس Suidas Lexicon يتبنّى القول بأن هيباشيا درست الفلسفة في آثينا. وهذه رواية لا تجد بين الجمهرة الكبيرة من المؤرحين نصيراً / مؤيداً ، هؤلاء الذين يؤكدون ، بشكل أو بآخر ، أن هيباشيا تعلمت على علماء الرياضيات في متحف الإسكندرية ، ودرست الفلسفة على يد باحثين آخرين من فلاسفة المكتبة. يؤكد هذا الاتجاه قول سويداس نفسه بأن علية القوم في مدينة آثينا هُرعوا إلى هيباشيا لما أن وصلت إليها. وهذا معناه أن هيباشيا كانت شخصية مرموقة ومعروفة ، ولم تكن طالبةً لما أن وصلت إلى آثينا. وهناك قول آخر يقوله سويداس مفاده أن وجهاء مدينة آثينا كانوا يتوافدون لزيارة هيباشيا. وهذا يعني أموراً... منها :
أن كبار الفلاسفة ، وقتها ، كانوا يلقون معاملة حسنة / فاضلة من الشخصيات العامة في آثينا.
أن هيباشيا كانت ذات علم واسع ، جعل علية القوم يفدون لزيارتها ، كما كان الحال معها في الإسكندرية.
هيباشيا ، إذن ، تتلمذت على يد علماء الإسكندرية ، ما دفع دائرة المعارف البريطانية لأن تؤكد أن هيباشيا " فيلسوفة مصرية وعالمة في الرياضيات ، ولدتْ بالإسكندرية عام 370م وماتت بالإسكندرية في 415م ، وكانت المرأة الأولى التي لمعت في ميدان الرياضيات واشتهرت أنها عالمة فيها".
والقراءة الواعية للنص الفائت عن دائرة المعارف البريطانية يبيّن أن هيباشيا ، ربما ، لم تغادر مدينة الإسكندرية.. إلا أن الأمر المؤكد أن هيباشيا قد تلقت علمها الأول في ألإسكندرية ، وكانت متفوقة ومتميزة ، وذات قدرات علمية رائدة. يؤكد هذا أمران :
الأول : أن هيباشيا ، وبمصادر تاريخية موثقة ، تعلمت على نفقة الدولة. إذ دفعت الخزانة العامة نفقات تعليم هيباشيا. وهذا أمر نادر الحدوث ، وقتها ، خاصةً حين نعرف أن النساء لم يكنّ يُخْترن ليُنفقَ عليهن من الموارد العامة للدولة.
الثاني : أنه بقرب انتهاء العام 400م تم تعيين هيباشيا ، وهي – بعد – بنت الخمسة وعشرين أو الثلاثين عاماً. وهذا – بمقاييس العصر – استثناء ، خاصة لما أن نعلم أن حكومة الإسكندرية كانت مسيحية ، وأن هيباشيا بقيت على ديانة اليونان. وقد كانت التعيينات في المتحف ، وملحقاته تأتي الأوامر بها من الإمبراطور مباشرة ، أو ممن ينيبه لهذا الأمر ، ما يعني أن هيباشيا كانت أستاذة متفوقة ما جعل الأمر يصدر بأن تتميز على باقي علماء المتحف في الراتب والإعاشة... وغير ذلك.
كانت هيباشيا ذات جمال أسطوري ، إلا أنها آثرت أن تبقى بلا زواج ، تفرغاً لما رأت أنه الأولى : التعلم والتعليم. جاء عن المؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون11 E.Gibbon قوله " إن هيباشيا رغم أنها كانت شديدة التواضع ، إلا أنها كانت بارعة الجمال ، ناضجة الحكمة ، وقد رفضت عشاقها ، وعلمت تلاميذها دروساً. وقد تلهف أشهر الناس مقاماً وجدارة أن يزوروا تلك الفيلسوفة ". وجاء في دائرة المعارف البريطانية القول " قد اجتمعت لهيباشيا الفصاحة والتواضع والجمال ، مع قدراتها العقلية الممتازة ، فجذبت عدداً هائلاً من التلاميذ ". وجاء قول المؤرخ سقراط كما يذكره وول ديورانت " بلغ من رباطة جأشها ، ودماثة أخلاقها الناشيئين عن عقلها المثقف ، أن كانت في كثير من الأحيان تقف أمام قضاة المدينة وحكامها دون أن تفقد ، وهي في حضرة الرجال ، مسلكها المتواضع المهيب الذي امتازت به عن غيرها والذي أكسبها احترام الناس جميعاً وإعجابهم بها ".
ولعلنا نتوقف عند كلمة " جميعاً " الواردة في النص الآنف ، ذلك لأن هذا الإعجاب لم يشمل الناس " جميعاً " حيث كان مسيحيو الإسكندرية ، وقتها ، ينظرون إلى هيباشيا بكراهية غير قليلة لأسباب كثيرة... منها :
** أنها بقيت على ديانتها اليونانية.
** كانت نظرة مسيحيي الإسكندرية ، وقتها ، للعلم والثقافة أنهما متحدان والوثنية ، وانسحبت هذه النظرة على هيباشيا باعتبارها مثالاً حياً للعلم والثقافة. جاء قول وولف A.Wolf " كان العداء عنيفاً بين المسيحية ، في عهدها الأول ، وبين الفلسفة والعلم ، وقد تجلّى هذا العداء في موقف الاحتقار الذي كانت تقفه منهما ". ولا شك ، عندنا ، أن هذا " الاحتقار " قد تجاوز حيز الكلام / الوعظ / الأمر إلى الفعل ؛ فكان أن اضطُهِد المفكرون الوثنيون ، ودُمّرت معابدهم وأُحرِقت كتبهم / مؤلفاتهم ، وهُدّمت دور العلم التي كانوا يترددون عليها إما للتعلم أو للتعليم ، ونُهبت ممتلكاتهم... وكان هذا كله ، يقول توفيق الطويل ، يتم بإشراف مباشر ومباركة من كبير الأساقفة توفيلوس.
** كانت هيباشيا ، برأي كارهيها ، ترتبط بعلاقة صداقة طيبة بحاكم المدينة أورستيس Orestes ، وكان وثنياً ، إذ كان يستشيرها في كثير من المسائل ذات الصبغة الفكرية والفلسفية ، وإذ قامت الخلافات حادةً بين كبير الأساقفة وهذا الحاكم ، فقد حُمّلت هيباشيا مسؤولية اشتداد هذا الخلاف ، بحسب نظرية المؤامرة التي نحن أشد الناس إدماناً لها. وأصبحت هيباشيا ، بعد ، النقطة المحورية في ما جرى من شغب وتوترات بين المسيحيين وخصومهم في الإسكندرية.
وعاصر تلك الأحداث أحد أكثر الأساقفة ميلاً لاضطهاد المخالفين ، وهو القديس كيرلس ، الذي حاز لقب " القديس " لما أن فاق سابقيه في الذي ارتكبه من جرائم بحق الطوائف الدينية المخالفة له ، انتصاراً منه ، بظنه ، للمسيحية!!!. جاء قول جيبون " يعتبر لقب القديس الذي لُقّب به كيرلس دليلاً على أن آراءه وفريقه كُتبتْ لهم الغلبة في نهاية الأمر ".
تولّى كيرلس السكندري منصب رئيس أساقفة الإسكندرية عام 412م خلفاً لـتوفيلوس THeophillus عمّه. وإذ كان كيرلس ابن أخي توفيلوس وربيبه ، فقد أخذ عن العمّ الكثير ، والكثير جداً ، من دروس الغيرة والحقد والهوس الديني ، هذا... رغم أن مصادر تاريخ الأديرة تبين لنا أن كيرلس هذا قضى زمناً هو خمس سنوات في أديرة صحراء وادي النطرون ، وصحب مجموعة طيبة من الرهبان ، وقت أن بدأ ظهور نظام الرهبنة في مصر 12 ، ورغم هذا كله كانت قيم الحياة المدنية ومباهجها تسيطر على عقله وتأخذ عليه وجدانه ، ولذا رحّب بشدة إذ استدعاه عمه ليحضر إلى الإسكندرية. جاء قول جيبون " كان كيرلس يؤدي الصلاة والصيام ، خلال إقامته في الصحراء ، غير أن أفكاره ظلت عالقةً بالدنيا ".
وهكذا... سُرّ كيرلس بالدعوة للذهاب حيث المناصب والأضواء والأنصار ، فرحل الشاب الناسك الطموح استجابة لطلب العم ، وتقلّد منصب " واعظ الشعب " وحاز شهرة كبيرة ، وصارت خطبة / مواعظه تُسمع وتُكتب لتوزع على " الجمهور ".
استغل كيرلس سذاجة الجمهور ، وكذا منصب الأسقفية ، وكذا رئاسته الدينية لأكبر مدينة في العالم القديم : الإسكندرية ، فبدأ يقلّص من صلاحيات حاكمها المدني أورستيس Orestes ، فكان أن أعطى لنفسه الحق " الإلهي " في التصرف في أمور المدينة العامة والخاصة!!! وإذ كان ذا تأثير " بلاغي / إنشائي / وعظي " فقد كثر أتباعه من البسطاء / الجمهور / العامة / الدهماء ، هؤلاء الذين كانوا يطيعونه بآلية وتعصب شديدين مهما كان الأمر الصادر إليهم ، فالمهم – عندهم – ليس الأمر ، بل من أصدره!!!.
أعلن كيرلس بدء محاربة الهرطقة ، بعد أن وسّع مفهومها فشمل كل من ليس مسيحياً بحسب فهم كيرلس للمسيحية ، ودخل في هذا المفهوم الفضفاض اليهود ، الذين بلغ عددهم ، وقتها ، أكثر من أربعين ألفاً ، أي أكثر من تعداد يهود أورشليم نفسها!!!. وقد كانوا يتمتعون بالحرية الدينية والتسامح الديني بكفالة القياصرة والأباطرة البطالمة الوثنيين!!!. لكن كبير الأساقفة ، وبدون أي سند قانوني ، أو موقع سياسي ، قاد – كصنيع عمّه توفيلوس من قبل – مجموعة من أتباعه البسطاء / المعوزين / الدهماء / الجمهور ، ومن مثيري الشغب ومحدثي التوترات ، وأمرهم بمهاجمة المعابد اليهودية وتحطيمها ونهب ما فيها من الممتلكات ، بزعم أنها لهم – المشغّبين – حلال ، إذ اليهود هم " الشعب الكافر " من حيث إنهم – يرى كيرلس – مسفّون في الثراء كارهون للمسيحيين.
شكا أورستيس الأمر للحاكم / الإمبراطور ، لكن الحاكم ثيودسيوس لم يلق بالاً للأمر ، إذ كان واقعاً تحت تأثير وزرائه ، وكانوا متعاطفين مع كيرلس ، إضافةً لكونه مثقلاً ب****ا كبير الأساقفة الذي أجاد " كسب " الآخرين إلى صفه بطريق أو بآخر. لكن هذا لم يشفع للحاكم أمام مجموعة أخرى هيّجها كيرلس لضربه بالحجارة ، وتم هذا رغم إعلان الحاكم أنه مسيحي وكاثوليكي.
ظلت هيباشيا تدرّس الفكر الروحي الخالص ، وتدرّس ما صعب فهمه من فلسفة أفلاطون وأرسطو ، وكذلك درّست ، يقول ديورانت ، فلسفة أفلوطين والأفلاطونية المحدثة مشيعةً جواً من الروحية الخالصة.
رأى كيرلس كيف يسارع الناس إلى الأكاديمية يتلقون العلم على يد هيباشيا ، وفعل هذا في نفسه كثيراً من الحقد ، فأوعز لأتباعة بإطلاق شائعة تقول إن هيباشيا هي من كان وراء الخصام القائم بين الحاكم وكبير الأساقفة ، ومن ثم فهي السبب الرئيس في تعكير صفو المدينة.
مهدت تلك الشائعة الطريق لمطلقها كي يعد العدة ليفعل بهيباشيا ما لايقره دين أعلى من قيمة الإخاء والعطف ، بله الحب.
في إحدى ليالي شهر مارس " فصل الصيام الكبير " من العام 415م اعترضت مجموعة من " رهبان صحراء وادي النطرون " الذين قضوا عمرهم " يصارعون ، بنصوصهم ، قوى الشر مجتمعة " ويديرون المعركة المقدسة من أجل صد " شهوات الجسد والنفس الأمّارة بالسوء ، يقولون "!!! ، وبأمر من كبير الأساقفة كيرلس ، عربة هيباشيا فأوقفوها وأنزلوا الفتاة الشابة العزلاء من العربة ، وجرّوها إلى كنيسة قيصرون Caesarun فتقدمت مجموعة أخرى من الرهبان لتجرّد هيباشيا من ثيابها تماماً ، ويتقدم قاريء الصلوات في الكنيسة (!!!) بطرس القاريء Peter The Reader فيذبح الفتاة ذبح الشياة!!! وهي عارية من ثيابها ، كما ولدتها أمها ، وقد أمسك بها رهبان الكنيسة!!!. ثم راح نفر منهم يقطّع الجسد المسجى أشلاءً في تلذذ بليد. وقام آخرون بسلخ الأجزاء الميتة الملقاة هنا وهناك وكشط جلدها والقذف به في نار أوقدت لذلك الغرض في شارع سينارون Cinaron. يقول رسل وديورانت إن الرهبان ألقوا بأعضاء هيباشيا في النار ، بينما كانت الحياة مازالت تنبض فيها!!! .
 
آخر تعديل:
(3) :
هيباشيا : العالمة :
يذكر التلاميذ المقربون من هيباشيا أنها كانت ذات نشاط ثقافي راقٍ غاية في الرقي ؛ فيروي دمشيوس Damascius وهو أحد رجال الأفلاطونية الجديدة ، أن هيباشيا كانت تُحاضر في الرياضيات وعلم الهندسة. حتى ليذكر فلوستجوريوس PHilostogorius أن هيباشيا فاقت أباها ثيون في هذين العلمين ، رغم أن الأب كان أحد أشهر أساتذة متحف الإسكندرية في علمي الهندسة والرياضيات. وأيضاً يذكر هسيخيوس Hesychius أشهر علماء النحو في الإسكندرية في أواخر القرن الرابع الميلادي وصاحب المعجم الشهير للكلمات اليونانية ، أن هيباشيا كانت عالمة فلك متميزة كأبيها ، ويدلل على ذلك بخطابات متبادلة لها مع تلميذها النابغة سينسيوس Synesius... فمن هو ذا ؟ :
وُلِدَ سينسيوس في مدينة قورينا 13، ولهذا يُعرف بالقورينائي ، عام 365م ووفد إلى الإسكندرية من بنتا بوليس 14 Pentapolisالعام 393م 15 ليدرس على هيباشيا الرياضيات والفلك والفلسفة ، وبقي حتى النهاية قريباً منها صديقاً وفياً. حتى لكان يسميها " الشارحة الحق للفلسفة الحق ". ورغم وثنيته تزوج ، في آثينا ، بسيدة مسيحية العام 403م فتحول إلى المسيحية ، وحوّل ثالوث الأفلاطونية المحدثة المكوّن من الواحد والعقل والنفس ، إلى الأب والروح والابن. ثم كتب في المسيحية كتباً مهمة ، منها كتابه " انعدام النوم " Deinsommis. وكتاب آخر بعنوان ديون Dion.
ورغم تحوّل سينسيوس إلى المسيحية ، وبقاء هيباشيا على ديانتها الوثنية ، فإن العلاقة بينهما ، التلميذ بالأستاذ ، بقيت كما هي. وكم كان سرورها لما بلغها نبأ تعيين سينسيوس أسقفاً لواحدة من كنائس بطليمية ، وكذا لما أسموه " الأسقف الفيلسوف ". حتى ليقول سارتون إن مائة وتسعة وخمسين خطاباً ما بين العامين 394م و 413م كانت بين هيباشيا وسينسيوس ، ما يعد دليلاً على حميمية العلاقة العلمية بينهما ، حتى أنه ، سينسيوس ، سأل هيباشيا في إحدي رسائله أن تصنع له جهازاً لقياس الوزن النوعي Baiyilion وهو نوع من الهيدروميتر ، ويعد ما جاء بالخطاب المقابل أولَ وصفٍ لهذا الجهاز.
ويؤكد سينسيوس فضل هيباشيا في تعليمه وتثقيفه ثقافة شاملة بشكل موسوعي ؛ فقد درّستْ له ، بشروح وافية ، كل مؤلفات أفلاطون وأرسطو ، وكذا علوم الفلك والميكانيكا والرياضيات. هذا... علاوةً على شروحها الجيدة لفلسفة أفلوطين ، والفلسفة الوثنية اليونانية ، وهي تلك التي كانت تمثّل ضداً ، بدرجة ما ، للفلسفة المسيحية ، بل للفكر المسيحي بشكل مجمل.
والدارسون يعلمون كيف كانت فلسفة أفلوطين ، وشروح هيباشيا عليها ، أحد أهم عوامل التحول العقدي من الوثنية إلى المسيحية... الدين الجديد. بل يمكننا التأكيد أن فهم سينسيوس لفلسفة أفلوطين عبر شروح هيباشيا عليها هي ما أدّى به إلى أن يعتنق المسيحية. والرجل ، في أكثر من موضع ، يؤكد أن الناس – في ذلك العصر – ما كانوا ينظرون إلى هيباشيا على أنها كانت – فقط – أعظم شارحة لفلسفة أفلاطون وأرسطو ، بل إن الكثيرين من طلاّب العلم كانوا يأتون إليها من أماكن نائية / بعيدة ليدرسوا على يديها الحكمة والفلسفة الحقيقية. فهو ، وفي العام 395م في خطاب له إلى هيركيولانوس Herculianus ، يذكر أن شباباً عديدين سافر من قورينا إلى الإسكندرية ليتلقوا العلم على يد " شخصية معروفة ، فاقت شهرتها الوصف ، ورأيناها بأنفسنا بعد أن سمعنا عن تلك المرأة التي تتربع ، بشرف ، على قمة الأسرار الفلسفية ".
في العام 404م شغلت هيباشيا منصب رئيس المدرسة الأفلاطونية الجديدة في مدينة الإسكندرية ، فأرسل سينسيوس إليها كتابين من تأليفه ، هما " في انعدام النوم " و " ديون " وسألها أن تكتب عليهما تعليقها.
كان سينسيوس يرى ، وربما اعتقدَ ، أن كتابه " في انعدام النوم " وحيّ إلهي من السماء!!! ، ولذا ، ولهذا السبب ، فهو مصرّ على نشره مهما عارضه المعارضون. وقرأت هيباشيا الكتاب بشكل نعلم منه أنها ، رغم وثنيتها ، لم تكن تنكر الإيمان بالوحي كأحد مصادر المعرفة اليقينية.
أما الكتاب الثاني ، فقد أكد سينسيوس أنه لن ينشره ما لم تكتب هيباشا تعليقاً له ، وقد نُشر الكتاب ، ما يعطينا دليلاً أن هيباشيا كتبت تقرّظه.
جاء كتاب " ديون " دفاعاً عن الفلسفة ضد الخطباء الذين صنّفوا أنفسهم فلاسفةً. واشتمل الكتاب على شرح من سينسيوس للأفلاطونية الجديدة كما فهمها عن هيباشيا ، ما جعله كتاباً مزيجاً من الصوفية والمذهب الكلبي؛ فالله – تعالى – ليس موجوداً متعالياً ، فحسب ، بل هو – أيضاً – واحد أحد!!! ليس بمقدور الإنسان أن يعرفه مباشرةً بأية طريقة. ومن الواحد المتعالي المفارق ، اللهِ ، فاض النوس الكلي Nous ( = العقل ) الذي تشبه أفكاره النظرية مُثُلَ أفلاطون. ومنه نفسه ، النوس الكلي ، فاضت المادة التي هي ماهية الكون المادي والسبب المباشر للكون ولكل موجوداته الحسية. وبما أن المادة " شرٌّ " والنوس الكلي هو المقدّس ( = الخير ) ، ولما كان الإنسان مادةً في أحد جوانبه ، وروحاً وعقلاً في الجانب الآخر ، فإنه في جانبٍ شريرٌ ،وفي جانب آخر روحٌ مقدّس. وبمقدور الإنسان ، عبر ضبط النفس وإخضاع / قهر الكلبي للحواس ، أن يكون قادراً على تلقّي الوحي مباشرة عن الحقيقة الإلهية من العقل الكلي. وهذا الطرح يقف مقارباً ، إبستمولوجياً ، للفكرة الدينية عند كل من هيباشيا وسينيوس ، بمعنى أنه طرح يتماهى مع وثنية هيباشيا ومسيحية سينسيوس.
درّستْ هيباشيا ، إذن ، فلسفة أفلاطون وأرسطو ، وكذا فلسفة فيثاغورث وزينوفان والمدرسة الكلبية والمدرسة الرواقية، وكتبت شروحاً / حواشي على فلسفة أفلوطين. وكتبت ، بتأثير من اهتماماتها ، كأبيها ، بالرياضيات والعلوم ، في الميتافيزيقا والكسمولوجيا والإبستمولوجيا والأخلاق والسياسة. ودرّست كتاب ديوفنطس Diophantus ذا الصلة بعلم الحساب Arithmeticorum.
ساعدت ثقافة هيباشيا الفلسفية على تشكيل الأساس الطبيعي لاهتمامها بعلم الفلك ، فقد كانت ، كأبيها ثيون ، عالمةَ فلك وعالمةَ رياضيات ، من حيث كان الفلك فرعاً من الرياضيات ، وكان أحد أهم العلوم الفلسفية ، لأن الفلسفة كانت أم العلوم ، أو كانت ملكة العلوم Regina scientiarum. ولعل هذا أن يكون السبب وراء أن كل العلماء التجريبيين والرياضيين ، معاً ، سعوا لأن يفهموا فلسفة أرسطو الميتافيزيقية ، فضلاً عن الفيزيقا والكسمولوجيا وتطبيقات هذا كله ، وكذا إبستمولوجيا أفلاطون وتطبيقاتها على الكون المرئي وفق استخدام نظريات الرياضة والهندسة ، والأدوات والأجهزة العلمية ، بغرض الإجابة عن أسئلة فلسفية بالأساس... كسؤال :من نحن؟ وما مصيرنا ؟ وما مكان الإنسان في منظومة الأشياء الكونية ؟.
قامت هيباشيا بتحرير شروح متميزة اعتُبِرَتْ كتباً مهمة :
• شرح على كتاب ديفونطس السكندري المسمى علم الحساب ( = الآرتمطيقا ) كقول مؤرخي العرب.
• شرح على كتاب بطليموس المسمى المجموع الرياضي ، أو المركّب الرياضي16 Syntaxis Mathematica .
• شروح على كتاب قطوع المخروط Conic Sections لمؤلفه أبولونيوس Apollouins Pergaeus.
وبرغم أن سويداس يروي أن الكتب الثلاثة قد فقدت ، فإن ماري آيلين ويث كشفت عن وجود كتابين منهما ، على الأقل ، وهما الكتاب الأول والكتاب الثاني. أما الكتاب الثالث فمن المحتمل أن يكون قد بقي أيضاً باسم شروح على النظريات الهندسية للبرجي Pergaeus .
أما الكتاب الأول " شرح كتاب ديفونطس Arithmeticorum " فيمكن القول إن مؤلفه كان أحد أشهر علوم الرياضيات حوالي العام 250م ، إذ كان عالماً مرموقاً في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي ، وهو صاحب الكتاب المعروف باسم أرتمطيقا أي علم الحساب. ويقع هذا الكتاب في ثلاثة عشر مقالاً ، لم يبق منها غير ستة مقالات لا غير. وقد اختلف الباحثون حول تلك المقالات التي فُقدت والتي بقيتْ!!!. لكنهم متفقون على أن هيباشيا قد كانت أعظم وأشهر شارحة لهذا الكتاب في العالم القديم، بل بلغ من تقدير الباحثين لما فعلته هيباشيا أن أكدوا أن التنقيحات والتعديلات التي أدخلتها هيباشيا على كتاب علم الحساب تعد أعمق وأدق من النسخ الأصلية!.
وترجع أهمية هذا الكتاب وشروح هيباشيا عليه ، إلى أن ديفونطس ، مؤلفه ، كان أول من وضع أسس / قواعد علم الجبر. وهذا لا ينفي الإجماع أن المصريين والبابليين كان متقدمين في الدراسات الرياضية. لكن ديفونطس كان يحل كل مسألة تُعرض له على حدة حلاً مستقلاً ، ذلك دون الرجوع إلى طريقة علمية ، ولا إلى قاعدة عامة. وإن كان قد انتهى ، بطريقته تلك ، إلى الفكرة الأساس التي أثمرت علم الجبر عند الفيثاغوريين ، هؤلاء الذين كانوا يرمزون لكل عدد بخط أو شكل هندسي أكثر تعقيداً ، والذين كانوا يحلون البراهين الهندسية محل العمليات الحسابية المتداولة الآن.
ولكي نبين للقارئ مدى أهمية شروح هيباشيا على هذا الكتاب ، فلا بد أن نعرف التفرقة التي ساقها أفلاطون في محاورة جورجياس Gorgias بين العلم النظري المجرد الذي يدرس موضوعات عامة بغير تخصيص ، وبين الفن التطبيقي لهذا العلم. وقد ميّزسقراط في هذه المحاورة بين علمي الحساب Arithmetic وبين فن العدد17 Calculation فلاحظ أن علم الحساب يبحث في العدد الزوجي والعدد الفردي بغض النظر عن كمية كل منهما أو مقدارها ، بينما فن العدد يبحث في الكمية أو كيف يرتبط العدد الزوجي أو الفردي بنفسه من حيث الكمية من ناحية ، وبعضهما بالبعض الآخر من ناحية أخرى.
إلا أن التفرقة بين الأعداد المجردة ، كالأعداد الفردية والزوجية بشكل عام... أي علم الحساب ، وبين الأعداد الخاصة / النوعية... أي فن العدد ، كثيراً ما كانت تختفي عند ديفونطس بسبب أن فن العدد ، عنده ، كثيراً ما كان يتخذ شكلاً مجرداً. وكان الذي فعلته هيباشيا أن شرحت ، أولاً ، هذه التفرقة ، ثم أدخلت ، ثانياً ، مشكلات جديدة. وأسهمت في التوصل إلى بعض الحلول البديلة للمشكلات الأصلية عند ديفونطس ، ما أدى إلى توضيح الطابع المجرد ، علاوة على توضيح طبيعة الرياضيات بشكل عام ، وبينت جهود ديفونطس التي ولّدت علم الجبر بعد ذلك.
قامت الباحثة ماري ويت Mary Waithe بالكتابة عن ذلك 18، فذكرت ما أضافته هيباشيا من تعليقات وتنقيحات ، وكذا ترجمت جانباً من الشروح المتبقية التي اشتهرت بها هيباشيا ، وذكرت ماري أنها نقلت هذا عن النشرة العلمية التي أعدها بول تانري Paul Tannery الذي نشر النص اليوناني مقابلاً النص اللاتيني لكتاب ديفونطس. كما نشر القس روم A. Rome النص نفسه مع مراجعة ثيون والد هيباشيا له.
وأما الكتاب الثاني " شرح على كتاب بطليموس المجموع الرياضي Syntaxis Mathematica . فنذكر أن بطليموس كلوديوس Ptolemy Claudius كانت العرب تسميه بطليموس القلوذي. وكان أشهر علماء عصره ، وأكثرهم تأثيراً في الشرق والغرب بعد أرسطو ، وبقيت مكانته هكذا حتى كوبرنيكس Copernicus . هو عالم فلك ورياضيات وجغرافيا وفيزيقا. ولد بصعيد مصر ، ونشأ بالإسكندرية في الربع الأخير من القرن الثاني الميلادي ، أي حوالي العام 170م. ووضع كتباً كثيرة أشهرها كتاب المجموع أو المركّب الرياضي ، وهو يُعرف عند اليونان باسم التصنيف العظيم في الرياضيات ، ويُعرف عند العرب باسم المجسطي AL-mageste أخذاً عن اللفظ اليوناني Megiste التي معناها " العظيم " ، باعتباره دائرة معارف في علوم الفلك والمثلثات. وهو يتناول – ضمن ما يتناول – كروية الأرض ، وموقع الأرض بالنسبة لمركز العالم ، والبروج ، وعروض البلدان ، وحركة الشمس ، والانقلابان الربيعي والخريفي ، والليل والنهار ، وحركات القمر وحساباتها ، والخسوف والكسوف ، والنجوم الثوابت ، والكواكب المتحيرة. تلك التي كانت أكثر شئ شغل بال بطليموس وحركاتها في العين ، إذا كانت الأرض ثابتة في مركز العالم ، والشمس والقمر والنجوم والكواكب تدور حولها ( !!! ) من المشرق إلى المغرب ، فلماذا نرى القمر والكواكب الخمسة ( عطارد والزهرة والمريخ والمشترى وزحل ) تتحير في السماء : تتقدم حيناً على الشمس ، وتتأخر عنها حيناً آخر ، ويتقدم بعضها على بعض مرة بعد مرة ، وتختلف مواقعها في السماء بين حين وآخر ، بالإضافة إلى النجوم الثوابت 19 ؟.
كان بابوس Pappus و ثيون والد هيباشيا أعظم شُرّاح المجسطي في ذلك الوقت ، إلا أن الثابت أن هيباشيا اشتهرت بأنها كانت منقحة لعلم الفلك عند بطليموس بشهادة مؤرخين ثقات مثل فابريقوس Fabricus وسقراط وسويداس.
إذا كنا افتقدنا شروحاً قامت بها هيباشيا ، فإن مجموعة كتب بقيت لنا من أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلادي ، بما في ذلك العديد من النسخ من شروح ثيون والد هيباشيا على كتاب المجموع الرياضي لبطليموس ، وكذا الجداول الفلكية التي يرجّح الباحثون أنها من تأليف هيباشيا. بل إن بعض الباحثين يرى أن ترديد الدعوى بأن شروح هيباشيا قد فُقدتْ يجعل الدارسين في تاريخ العلم يقعون بين نقيضين : ظهور جداول فلكية جديدة في عصر الشُرّاح شبيهة بالعمل الأساس / الأصلي من ناحية ، واختفاء عمل مهم وهو شروح هيباشيا بلا أثر!!!. لينتهي هذا البعض إلى التأكيد على أن هذا يؤدي إلى القول بأن الجداول الفلكية هي من تأليف هيباشيا ، ما يعني أن مؤلفات وشروح هيباشيا على كتاب بطليموس لم تفقد ككل ؛ فيرى ج. ف. مونتوكلا J.F.Mmontucla وجود الكتاب الثالث من الشروح على المجسطي ، وهي الشروح التي ينسبها إليها – صراحةً – أبوها ثيون. والظاهر أن ثيون هذا كان يقوم بإعداد شروح على كتاب بطليموس ، وأنه طلب من ابنته هيباشيا مراجعة المخطوطة ومسائل رياضية ومنهجية وعقلية كثيرة ، لم يتناولها أحد قبلها!!!، لكن هيباشيا ، وأثناء تحليلها / فهمها لهذه المسائل ، أعادت دراسة القيم الرياضية للأحداث السماوية 20التي وصفها علماء الفلك القدامى ، بما فيهم العلاّمة الأشهر بطليموس نفسه ، كذا وضعت هيباشيا الجداول الفلكية التي جاءت كنتائج لهذه الدراسة. وكانت شروحها على الكتاب الثالث من المجسطي ، وممكن أيضاً الكتب التالية ، هي التي جعلت تحليلاتها للموضوعات الفلسفية والرياضية تأتي أكثر ثراء ودقةً من الناحية العلمية ، وهي تلك الموضوعات التي كان أبوها ثيون يوجهها إليها في شروحه الأصلية. ولما تطورت هذه التحليلات أصبحت بين أيدينا مجموعة ثمينة من الشروح بيد هيباشيا ، ولذا يصح الظن أن أباها ثيون كان ينسب هذه الشروح القيّمة إلى ابنته هيباشيا.
جاءت شروح هيباشيا على الكتاب الثالث من كتاب بطليموس المجسطي ، أو المجموع الرياضي ، في حوالي مائة وخمسين صفحة من القطع الكبير بطبعة الأب روم. إلا أن ترجمات حديثة لم تظهر لتلك الشروح القيمة حتى الان ، ولعل السبب ، برأينا ، أن يكون دقة اللغة والمصطلحات التي كانت تستخدمهما هيباشيا ، ما يعد دليلاً على حسن فهمها لما تشرح ، كما أن فهم النص ليس يحتاج ، فقط ، إلى معرفة باللغة اليونانية السكندرية ، تلك التي سادت في القرن الخامس الميلادي ، بل يحتاج ، أيضاً ، إلماماً دقيقاً بالطبعات المبكرة لمؤلفات بطليموس ، ويتطلب ، أيضاً ، معرفة بالرياضيات والفلك المصري القديم.
ولابد – لكي نفهم شروح هيباشيا – أن نضع شروحها تلك على الكتاب الثالث من المجسطي في سياقها التاريخي. فنحن نعلم أن بطليموس قد وضع نظاماً مكتملاً لعلم الفلك ، وجاء التخطيط الهندسي للسماء ، كما يراه علماء الفلك ، يماثل النظرية الهندسية. أما التعارضات بين النظرية والملاحظات الفلكية فقد فسّرها بطليموس بفرضه البسيط الذي جعل الأرض مركز الكون!!! تلك الفرضية التي فرضت نفسها على التصور الفلكي للعالم إلى أن جاء كوبرنيقوس ( كوبرنيكوس أو كوبرنيق21 )Copernicus عالم الفلك البولندي ، الذي أكد أن الأرض ، وسائر الكواكب السيارة ، تدور حول الشمس وحول نفسها 22. والسؤال الآن : هل ، يا ترى ، قرأ كوبرنيق شروح / تعليقات هيباشيا على الكتاب الثالث ؟ وهل كان على علم بتلك الانتقادات " المنهجية " التي أخذتها هيباشيا على بطليموس ؟ الثابت ، بين أيدينا ، أن نيق درس الفلك بإيطاليا ، واطّلع على الدراسات الفلكية للعلماء السابقين عليه ، وفي مقدمتهم ، بطبيعة الحال ، بطليموس والشروح على مؤلفاته الفلكية ، وخاصة شروح هيباشيا وأبيها ثيون. وكذا فقد سافر نيق إلى فلورنسا حيث كانت شروح هيباشيا موجودة ضمن مصنفات مكتبة لورنزو دي مديتشي Laurenzo Di Medici ، وهي تلك التي تعتبر ، بحسب التقديرات العلمية ، أعظم مكتبة لما ضمّته من النصوص / مخطوطات قديمة. ما يجعلنا في حكم المتأكدين أن نيق قرأ تعليقات وشروح هيباشيا.
وأما الكتاب الثالث " شروح على كتاب القطوع المخرطية Conic Section ". فيذكر معجم سويداس ، وأيضاً سقراط المؤرخ وفابريقوس ، أن هيباشيا ألّفتْ كتاباً بعنوان " شروح على كتاب القطوع المخروطية " لأبولونيوسOf Pergaeus Apolonuius . ويبدو أن هذا الكتاب هو الوحيد الذي ضاع من مؤلفات هيباشيا الثلاثة. وقد قام عالم الفلك الإنجليزي أدموند هالي23 Edmund Halley في نهاية القرن السابع عشر بتجميع النسخ العربية واللاتينية القديمة من كتاب القطوع المخروطية ، وذلك كمحاولة منه لإعادة تجميع النص الأصلي وما كُتب عنه من شروح وتعليقات. وبداهة فقد تعرّف هالي إلى ما كتبته شروحاً هيباشيا.
وقد اخترعت هيباشيا اختراعين :
الأول : البلانسفير Plansisphere وهي خريطة ذات ثلاثة أبعاد لنصف الكرة السماوية ، لها أداة تشير للجزء المنظور منه في وقت معيّن. أو الآلة الفلكية القديمة " الأسطرلاب " Astrolabe التي طلبها منها سينسيوس وأهداها – بعد – إلى النبيل القسطنطي باينوسوس Paeonius
الثاني : جهاز قياس الوزن النوعي للسوائل Baryllion وهذا نوع من الهيدروميتر Hydrometer وهو جهاز يُستخدم في قياس الأوزان المختلفة للسوائل التي يستخدمها المرضى ، إذ كان الطب القديم ينصح المرضى أن يتناولوا السوائل الأخف وزناً لأنها الأفضل لهم.
يُتبع ...
 
(4) :
... قالوا عن هيباشيا :
كتب Gille Menage عن هيباشيا يقول :
لا بد لكل من يشاهد ويتأمل بيتك الطاهر...
الخالي تماماً من كل زخرف أو زينة...
أن ينشغل بأمر الثقافة...
حقاً ، لقد انشغلتِ أنت بالسماء ،
هيباشيا ، أيتها المرأة الحكيمة ،
لغتك عذبة ، ونجمك متألق في سماء الحكمة.
وكتب Charles Kingsley سيرة حياة هيباشيا في رواية حملت اسمها ، وصدرت حوالي العام 1853م وفي هذه الرواية يعود تشارلز إلى الوراء ليصور لنا مدينة الإسكندرية أول القرن الخامس الميلادي ، فيصور لنا مدينة الإسكندرية كمدينة للعلوم والزحام الفكري والبشري في آن ، ويبين كيف كانت مكانة هيباشيا ، وكيف جاءت جريمة قتلها بصورة يندى لها جبين الإنسانية.
وكتب سارتون عن هيباشيا يقول :
إن هذه المرأة العظيمة كان لها شرف مزدوج ؛ فهي أول من اشتغل بالرياضيات من النساء ، وهي من أوائل من استشهد في سبيل العلم.
وأصدرت مارجريت سيمونز Margaret Simons جريدة فلسفية تحمل ، تخليداً لهيباشيا ، اسمها ، وتتولى نشرها جامعة ألينوي بأمريكا.
وكتب الدكتور توفيق الطويل عن حياة هيباشيا ، ومأساتها يقول :
في عام 390م حطّم إحدى مكتبات الإسكندرية أحدُ المطارنة ، وبعد قرن كامل وقع حادث وحشي مفزع ؛ ذلك أن هيباشيا ابنة الفلكي ثيون كانت من المشتغلات بتعليم الرياضيات والفلسفة ، وعرض مذهب أفلاطون وأرسطو على وجه الخصوص ، وكانت قاعة درسها تكتظ بأثرياء الإسكندرية وأكابرها. كانوا يختلفون إلى قاعتها ليستمعوا إليها وهي تبحث في هذه الموضوعات التي أثارت الجدل منذ زمن : من أنا ، وأين مصيري ، وماذا في استطاعتي أن أعرف ؟ فضاق بها القساوسة وأثاروا عليها الشعب بتعصبهم ، فتربص بها بعض الدهماء وانقضوا عليها وهي في طريقها إلى قاعة درسها ، وجردوها من ثيابها وحملوها إلى الكنيسة ، ثم مزقوا جسدها إرباً إرباً ، وجردوا اللحم عن العظم ، وألقوا ما بقي منها إلى النار.
وكتب الدكتور زكي نجيب محمود عن هيباشيا عبر حوار مُتخيّل بينه وبينها يقول :
قالت هيباشيا : كيف عرفت مأساتي ، وبيننا خمسة عشر قرناً ؛ فأنا من أهل القرن الخامس الميلادي ، وأنت من أبناء القرن العشرين ؟
قلت : قرأت عن مأساتك فيما كتبه شيخ المؤرخين الإنجليز إدوارد جيبون.
قالت : كانت مأساتي مروّعة دامية. وأعجب ما فيها أن جنايتي ، عند أولئك القساة ، هي اشتغالي بالفلسفة وعلوم الرياضة. ولقد أوقعوا بي ما أوقعوه باسم الدين!!!.
قلت : هيه يا فتاتي ، حدثيني ، فأمْسُنا يبدو كيومنا ، والإنسان هو الإنسان ، لا يغيره الزمان. حدثيني يا فتاتي عمّا حدث.
قالت : أراد بي ربي ألاّ ألهو مع اللاهيات ، فشغلت نفسي بالدراسة ، ودفعني هواي إلى أن تكون الفلسفة موضع حبي. ولعلك تعلم أن الفكر الفلسفي والفكر الرياضي قرينان ، لأنهما شبيهان في طريقة البدء ، وفي منهج السير.
وما أنا ذات يوم ، في ساعة الضحى ، وبينما كنت متنقلة في عربة أطوي بها الطريق في مدينة الإسكندرية ، أنعم بزرقة البحر تحت زرقة السماء ، والهواء منعش جميل ، إلا وقد دهمت العربةَ جماعة اشتد بهم الهوس والجهل معاً ، فحسبوني خارجةً على الدين ، فلا هم يعرفون حرفاً مما أدرسه ، ولا هم يأخذون بكلمة مما يوصي به الدين ، فانتزعوني من العربة انتزاعاً ، وخلعوا عني الثياب عنوةً وقسراً ، ودفعوا بجسدي العريان على الأرض ، وشدوني إلى حبل ، ثم جروني جراً على حصباء الطريق ، حتى لقد تسلّخ ونهش وكادت تظهر العظام مما كان يكسوها. فلما بلغوا بي إلى حيث أرادوا ، وجدتُ رؤساءهم في انتظاري ، وأقاموا ، من أنفسهم ، ما يشبه المحكمة الدينية لمحاكمتي.
وعبثاً حاولتُ الكلام ، فالبدن منهوك القوى ، والطغاة لا يصغون ، والحكم مقرر سلفاً. فانقضّوا عليَّ بالسكين ذبحاً ، وأشعلوا ناراً وأخذوا يكشطون ما بقي من لحم بمحارات مسنونة الأطراف ، ويقذفون في النار بالأشلاء شلواٍ شلواً ، وبقطع اللحم قطعةً قطعةً ، وكان بعضها يُلْقَى في اللهب وهو لم يزل يرتعش ببقية من حياة.
قلت : يا لهول المأساة. هل لكِ أن توجزي فلسفتك في عبارات قليلة لأوازن بين الجريمة والعقاب ؟
قالت : أتقول " جريمة " عن فكر فاحص باحث دؤوب ؟ لا ، لا ، إنه لا جريمة هناك. وما كانت فلسفتي إلا صدى للفلسفة التي سادت الإسكندرية منذ نحو قرنين! فلقد كانت الإسكندرية نقطةَ التقاء الشرق والغرب في كل شئ من تبادل السلع في دنيا التجارة ، إلى تبادل المذاهب الفكرية في دنيا الفلسفة. وكانت الإسكندرية ، كذلك ، هي التي رفعت لواء الفكر بعد أن وهنت ، دون حمله ، مدينة آثينا. وكان قد جاءنا ، فيما جاءنا من اليونان ، فلسفة أفلاطون ، فأخذناها ، لكننا طبعناها بطابع مصري أصيل ، كشأن مصر دائماً في عصور قوتها ، وماذا يكون الطابع المصري الأصيل إن لم يكن هو التدين والتصوف ؟ هكذا مزجنا الأفلاطونية اليونانية بجرعة قوية من الدين والحس الصوفي ، فكان لنا – بذلك – ما يسمونه الأفلاطونية المحدثة. وكان حقها أن تسمى بالأفلاطونية المصرية ، والفضل في إبداعها هو الأسيوطي " أفلوطين " الذي كان قد جاء إلى الإسكندرية من موطنه أسيوط في صعيد مصر ، جاء لطلب العلم واكتساب الحكمة ، ولستُ أنا إلا تابعة من أبتاعه.
قلت : الحق أني لا أجد في تلك الرؤية الفكرية ما يستحق العقاب.
قالت : أبداً ، أبداً ، ليس فيها ما يعاب ، فهي رؤية تؤكد وحدانية الله ودوامه ومشيئته بالنسبة إلى مخلوقاته المتعددة المتغيرة الفانية ، ثم هي تقدم تفسيراً معقولاً لخلق الله للعالم ؛ إذ تشبه ذلك بالشمس يفيض عنها الضوء.
قلت : لا تحزني يا فتاتي ، فالذين ، واللائي ، اغتالهم الجهل والتعصب كثيرون في التاريخ. وتحضرني قصة المتصوف التقي الورع عبد الله بن حبّاب ، الذي جاءت حياته بعد حياتك بمائة عام تقريباً!!! إذ فاجأته جماعة من الخوارج بمثل ما فاجأتك الجماعة المتهوسة التي رويتِ لي حكايتها ، فقالوا له – وهم يشيرون إلى مصحف كان حباب يعلقه بعنقه - : إن هذا يأمرنا بقتلك. وبعد أخذ ورد حول الموقف من علي – كرّم الله وجهه – ورفض حباب أن يقول عليه عيباً ، دفعوا الرجل وزوجته ، وكانت حاملاً ، إلى النهر فذبحوه وبقروا بطن امرأته الحبلى!!!. وكانت تلك الفظاظة والفظاعة وقسوة القلب وغلظة الكبد ، هي أيضاً باسم الدين ، كالذي حدث لكِ في مأساتك.
انتهى .
 
لا اعرف اسمه بطليموس او بطليوس
هل هو أبن خفرع المدعو [براع] او خوفو ؟
لان بينهم في التاريخ بالقليل ليس كثير وهم كانت لهم عوائد وراثية
حكم ملكى الابن الابن الى الابن...سلالة واحدة
كالالهة يزعمون [استغفر الله العظيم]
معاذ الله ما يقولون
انا متعجب الاسكندرية نشأة قبل تعمير البشر الارض يا عجباه
إذن كل مقاطعات مصر نشأة قبل نشأة الاعشاب في اوربا الخضراء المزعومة بالتى لا تغيب عنها الشمس^^
سبحان الله
الله سبحانه اشرق مصر شرقاً عظيما لكن عبيد البشر همشوها:dunno01:
لا اتذكر مصر انها تحررة من العبودية الى مرتين في تاريخها منذ خلق بلد اسمه مصر
الاولة دخول عمر بن الخطاب لها
الثانية عهد مرسي !
وهاهى الان في عام 2012 عادة للعبودية كما كانت ولا عليها
 
صدقاً أصبحت ارى هكذا يا استاذى
من طول الموضوع ^^
من الكلمة هيباشيا الى.... كلمة انتهى
حسيت نفسي أتصعد للسماء وانا اقرا واضائة شاشة الجهاز قوية
وقرأتها بمتعه في منتهي النظير
12153_large.jpg

 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top