الله يحدث عباده عن نفسه

seifellah

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
16 جانفي 2009
المشاركات
5,964
نقاط التفاعل
7,169
النقاط
351
الموضع القرآني 1








أولًا: تقديم




هذه السورة القصيرة العظيمة أعظم ما نزل من السماء في جميع الكتب السماوية، وقد عرَّفنا ربُّنا فيها بنفسه أجلَّ تعريف، فهو رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وهو المعبود الذي يستحق أن يعبد وحده دون غيره.




ثانيًا: الآيات التي يحدَّثنا فيها ربُّنا عن نفسه


{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 1-7].




ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع


الحمد لله: الحمد الثناء التام الكامل على رب العزَّة.
رب العالمين: الرب الخالق المدبر المصرف.
العالمون: العالمون جمع عالم، والعالم كل مخلوق دون الله تعالى.
الرحمن الرحيم: اسمان دقيقان دالان على الرحمة، وهما صفتان من صفات الله تعالى.
مالك يوم الدين: يوم الجزاء والحساب، وهو يوم القيامة.
إياك نعبد، أي: لا نعبد إلا أنت، والعبادة ما أمر الله عباده أن يخصوه بها من الأقوال والأفعال التي لا يجوز صرفها لغيره.
الطراط المستقيم: دين الإسلام الذي لا يقبل رب العزَّة دينًا سواه.




رابعًا: شرح هذا الموضع


حمد الله تعالى نفسه في أول هذه السورة الكريمة، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ثم عرف نفسه – تبارك وتعالى – بصفتين من صفاته العظيمة هما: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وهما صفتان دالتان على اتصافه بالرحمة، والرحمة صفة محببة للعباد، مطلوبة عندهم.


وعرَّفنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – أنه {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وهو يوم الجزاء والحساب، والله مالك الآخرة والدنيا، ولكن ملكه يظهر في ذلك اليوم ظهورًا ليس به خفاء، فيأتي العباد في ذلك اليوم حفاة غراة غزلًا، ولا يكون في ذلك اليوم مال ولا متاع، فيظهر ملكه تبارك وتعالى في ذلك اليوم ظهورًا ليس به خفاء.


وعرَّفنا ربُّنا – تبارك وتعالى – أنه هو وحده المعبود المستعان الذي لا يستحق أن يعبد معه أحد سواه، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وأعلمنا ربُّنا في بقية السورة أنه الذي يطلب منه الهدى إلى الصراط المستقيم الذي هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى من أحد دينًا سواه.


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا على نفسه في هذه الآيات


عرَّفنا ربُّنا – تبارك وتعالى- على نفسه في هذه الآيات بما يأتي:


1- عرَّفنا ربُّنا – تبارك وتعالى – أنه رحمن رحيم، وهما صفتان عظيمتان حبيبتان للمؤمنين ولعباد الله الصالحين.


2- وعرَّفنا أنه مالك يوم الدين، وهو اليوم الذي يبعث فيه العباد، ويحاسبهم عما قدموه فيا لدنيا لآخرتهم من خير أو شر.


3- وعرَّفنا سبحانه أنه المعبود الذي لا يستحق العبادة أخد غيره، فمن عبد غيره فقد أشرك.


4- وعرَّفنا جلَّ وعلا أنه وحده يهدي إلى الصراط المستقيم، أي: دين الله الذي لا يقبل رب العزَّة من أحد دينا سواه.
 
الموضوع القرآني 2






الله تعالى خالقنا وخالق من قبلنا




قسم الله – تبارك وتعالى – الناس جميعا تجاه القرآن الكريم ومنزله رب العالمين إلى ثلاثة أقسام في الآيات الواردة في أوائل سورة البقرة، السابقة لهذه الآيات التي ستتحدث عنها: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين.


ووصف الله كل فريق من الفرق الثلاث بالصفات التي تظهره وتحدده، وحكم على الفريق الأول بأنه على هدى من ربهم وأنهم هم المهتدون، وحكم على الفريقين بأنهم كافرون خاسرون.


ثم دعا الله – تعالى – الناس في آيات هذا النص إلى أن يكونوا مع الفريق الأول، ويحققون ذلك بعبادة الله وحده، وعرفهم سبحانه بأنه وحده الذي يستحق أن يعبد دون غيره، وعرَّفنا لم استحق ذلك سبحانه.


ثانيًا: الآيات التي عرَّفنا فيه بنفسه في سورة البقرة

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].




ثالثًا: تفسير المفردات في هذه الآيات


اعبدوا ربكم: العباد الخضوع لله بالطاعة والتذلل له بالاستكانة.
ربكم: الرب الخالق المدبر المصرف.
الذين من قبلكم: كل البشر الذين خلقهم ربُّنا من قبلنا.
الأرض فراشًا: جعل الله الأرض ممهدة موطأة على النحو الذي نشاهده.
والسماء بناء: سميت السماء سماء لعلوها على الأرض.
رزقًا لكم: ما وهبنا إياه ربُّنا مما تنبته الأرض.
تتقون، أي: تجعلون بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما يأمركم به، وترك ما ينهاكم عنه.
أندادًا: الأنداد الأصنام والآلهة التي تعبد مع الله.




رابعًا: شرح هذه الآيات


نادى الله تعالى الناس جميعًا قائلًا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ثم أمرهم بعبداته وحده لا شريك له {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فهو المستحق للعبادة دون غيره، ثم عرفهم جلَّ وعلا بالأسباب التي استحق بها العبادة دون سواه.


فالأول: أنه سبحانه الخالق لنا {الَّذِي خَلَقَكُمْ}، وكان خلق الله لنا بإنشائنا من العد وإظهارنا إلى الوجود، وكان ذلك مرتين: الأول عندما خلق أبانا آدم من تراب، خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، والثانية: عندما خلق ذريته من ماء مهين.


والثاني: أنه خلق آباءنا من قبلنا، فالله خلق الناس جميعًا من أصل واحد، لا فرق في ذلك بينهم.


والثالث: أنه سبحانه وتعالى جعل لنا الأرض لنعيش فيها، ونتخذها معبدًا لله رب العالمين، وقد جعلها شاسعة واسعة مترامية الأطراف، وبسطها لنا كما يبسط الفراش، فجعل منها السهول والجبال والوديان، وجعل منها البحار والأنهار واليابسة، وبنى فوقها السموات العلى التي جعلها على الأرض كالقباب العظيمة التي لا يقدر قدرها إلا الله تعالى.


والرابع: عرَّفنا ربُّنا سبحانه أنه هو وحده الذي أنزل الماء من السماء وجعله عذبًا زلالًا، فأخرج بهذا الماء العذب الطيب ثمرات الأرض التي نأكل منها، وتأكل منها دوابنا وطيورنا، وجعل الله تعالى ما أخرجه لنا من ثمرات الأرض رزقًا لنا ولأنعامنا.


وكما عقب الله بالأمر بعبادته في الآية الأولى، وهو أعظم مأمور، ثنى بالنهى عن عبادة غيره في الآية الثانية، وهو أعظم منهي عنه.


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات


عرَّفنا الله – تبارك وتعالى – بنفسه في هذه الآيات بما يأتي:
1- عرَّفنا ربُّنا أنه تعالى وحده خالقنا وخالق الناس جميعًا من قبل.


2- وعرَّفنا سبحانه وتعالى أنه الذي جعل لنا الأرض فراشًا لتصلح حياتنا فوقها، ولا تضيق بنا أرضها، وبنى السموات السبع فوق الأرض كالقباب العظيمات العاليات.


3- وعرَّفنا ربُّنا أنه سبحانه هو الذي أنزل من السحب المعصرات المطر من السماء، فأحيا لنا به الأرض، وأخرجت الأرض نباتها، وجادت بثمارها، وجعل الله تعالى فيما تنبته الأرض رزقًا لنا، يقينًا به في حياتنا فوق هذه الأرض.


4- هذا الإله العظيم الكريم الذي جعل ذلك كله لنا هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، وقبيح بنا أن ننصرف عن عبادته إلى عبادة من لا يستحق أن يعبد من المخلوقات المخلوقة المربوبة.



[FONT=&quot] [/FONT]
[FONT=&quot] [/FONT]
[FONT=&quot] [/FONT]
[FONT=&quot] [/FONT]
 
الموضع القرآني 3






تعجيبُ الله من الكفار الذين يكفرون بالله




أولًا: تقديم


أنكر الله – تعالى – على المشركين كفرهم بربهم العظيم، والدلائل الدالى على وجوب الإيمان به قائمة عليهم في أنفسهم وفي الكون من حولهم، والدليل القائم عليهم من أنفسهم أنهم كانوا أموانا عدما غير موجودين، فأحياهم الله، ثم يميتهم في الدنيا، ثم يعيدهم إلى الحياة في يوم القيامة.


والدليل الذي يوجب الإيمان به تعالى هو أنه سبحانه وتعالى خلق لنا الأرض جميعًا لتكون معاشًا لنا نحن البشر، ثم قصد بعد ذلك إلى السماء، فخلقهن سبع سموات، وهو بكل شيء عليم.


ثانيًا: الآيات التي عرَّفنا الله بنفسه في سورة البقرة


{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 28-29].
ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات


كيف تكفرون: الكفر التكذيب بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، أو بواحد من ذلك.
كنتم أمواتًا: أي: عدمًا لا وجود لكم.
فأحياكم، أي: خلقكم ونفخ فيكم الأرواح.
ثم يميتكم ثم يحييكم، أي: يميتكم في الدنيا، ثم يحييكم في يوم القيامة.
ثم إليه ترجعون، أي: في يوم القيامة.
استوى إلى السماء، أي: قصد إليها.
فسواهن، أي: خلقهن.




رابعًا: شرح الآيات التي عرَّفنا الله فيها بنفسه


وجه الله – تعالى – السؤال إلى الكفار المشركين معجبًا من حالهم في كفرهم بالله رب العالمين مع قيام الدلائل الدالة على وجوب الإيمان به، فالله – تعالى – خلق هؤلاء الكفار كما خلق المؤمنين وكانوا أمواتًا، أي: عدمًا لا وجود لهم، فجعلهم أحياء عقلاء يتحركون ويأتون ويتصرفون ويدبِّرون {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}.


ثم بعد أن تنقضي حياتهم يميتهم، وكل الناس إلى ذهاب، لا يخلد في هذه الدنيا أحد من بني آدم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}، وبعد أن تقوم الساعة، ينفخ في الصور مرة أخرى، فيقوم الناس لرب العالمين أحساء، ثم يرجعون إلى الله {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .


هذا فعل الله تعالى بعباده في إماتتهم وإحيائهم وإعادتهم إليه، نعرفه به، ويجعلنا نؤمن به.


وعرَّفنا – سبحانه وتعالى- أنه هو الذي خلق لنا الأرض بسهولها وجبالها وودياتها وصحاريها وبحارها، خلقها لنا، لنعيش فوقها، وننعم بما فيها من ثمار وعيون وأنهار وأمطار، ومعادن وحيوان، فالله خلق لنا ذلك كله {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}.


وعرَّفنا ربُّنا سبحانه أنه بعد أن خلق لنا الأرض كلها استوى إلى السماء، أي: قصدها، فسواهن سبع سموات، أي: خلقهن سبع سموات، وجعلهن كالقباب العظيمة فوق اللأرض، وهو سبحاته بكل شيء عليم {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.


خامساً: كيف عرف ربُّنا – تبارك وتعالى – بنفسه في هذه الآيات


عرَّفنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – بنفسه في آيات هذا المقطع ببيان ما يأتي:
1- عرَّفنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – أنه – سبحانه- هو الذي أحيانا في هذه الدنيا بعد أن كنا عدمًا ليس لنا وجود.


2- ثم إن الله بعد حياتنا يميتنا، ثم يعيدنا إلى الحياة مرة أخرى في يوم الدين، ويحاسبنا على أعمالنا.


3- وعرَّفنا ربُّنا – تبارك وتعالى – أنه خلق لنا جميع ما في هذه الأرض من خيراتٍ، لتقوم بها حياتنا، وهذه الخيرات كثيرة طيبة.


4- وعرَّفنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – أنه بعد أن خلق لنا ما في الأرض جميعًا قد إلى السماء، فسواهن سبع سموات، أي: خلقهن.
 
الموضع القرآني 4






وقالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه




الله تعالى واحد في ذاته، واحد في أسمائه وصفاته، واحد في أفعاله، وقد شوه البشر وحدانية الله عندما زعموا أن الله اتخذ ولدًا، وقد حكى الله تعالى هذه الفرية التي افتراها الناس عليه وردًّ عليها، فقال {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 116-117].


زعم كثير من الناس في القديم والحديث أن الله اتخذ ولدًا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [البقرة: 116].


ومن هؤلاء اليهود الذين قالوا: عزَّيزٌ ابنٌ الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، ومشركو العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله.


وقد نزَّه الباري – عزَّ وجلَّ – نفسه عن هذه النقيصة الشنيعة، فقال {سُبْحَانَهُ} والتسبيح: التنزيه لله عن كل النقائص والعيوب، وقد ورد في الحديث الصحيح أن نسبة الولد إلى الله مسبة للباري تبارك وتعالى، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم [FONT=&quot] قال: «قال الله: كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، فأمأ تكذيبه إياي، فزعم أني لا أقدر أن أعبده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا*» [البخاري: 4482].[/FONT]


وقد أخبرنا ربُّنا – تبارك وتعالى – بعظم جريمة الذين ادعوا هذه الدعوى فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 88-91]، وجاء في الحديث عن أبي موسى [FONT=&quot]رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس أحد، أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدًا، وإنه ليعافيهم ويرزقهم» [البخاري: 6099. ومسلم: 2804. واللفظ للبخاري].[/FONT]


رد الله تبارك وتعالى على هذا الزعم الكاذب من الأمم السابقة والمعاصرة، قائلًا: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116].


أخبرنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – في رده على من افترى هذه الفرية أنه سبحانه السيد العظيم الذي خلق السموات والأرض وما فيها وما بينها، وهما ملكة يصرفهما كيف يشاء، ومن جملة ما فيهما العزَّيز وعيسى ابن مريم والملائكة وغيرهم مما نسبه الكفار إلى الله، وكل السموات والأرض وما فيها قانت لله، أي: طائع خاضع لله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26].


إن نسبة الولد إلى الله تنافي وحدانية الله تبارك وتعالى، فالله واحد في ذاته، وواحد في صفاته وأسمائه، ليس له مثيل، وليس له شبية، ولا نظير، ودعوى أن الله اتخذ ولدًا، تعني أن له صاحبة مثله، ولو كان الله اتخذ ولدًا، لكان الولد جزءًا من أبيه، أي: لأصبح إلهًا معبودًا، وكل ذلك كذب وباطل من القول، وقد أنزل الله سورة عظيمة قررت الوحدانية والصمدية لله، ونفت عنه أن يكون له والد أو ولد، كما نفت عنه أن يكون له نظير أو مثيل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4].


إن هذه الدعوى التي يدعيها الظالمون دعوى هزيلة، تجعل المخلوق المربوب المألوه جزءًا من الخالق العظيم، وسيظهر لهؤلاء كذبهم يوم الدين عندما يسوق الله العباد جميعًا للحساب {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93-95]، ومما يدلُّ على ذكب من ادَّعى هذه الدعوى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15].


وأخبرنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – في رده على من ادعى هذه الفرية العظيمة أنه سبحانه وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]. وقال ربُّنا عزَّ وجلَّ في سورة الأنعام: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101].


والمراد بــــ (بديع) في قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] أي: مكونهما على غير مثالٍ سابق، ومن جملة ما كونه وأبدعه ما جعلوه – كذبًا وزورًا- ابنًا لله تعالى، مثل العزَّيز والمسيح والملائكة.


وأخبرنا تبارك وتعالى أن هؤلاء الذين نسبوهم إلى القهار الجبار خلقوا كما خلق غيرهم، {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]، فالله إذا أراد إيجاد شيء فإنه يقول له كلمة واحدة، وهي (كن) فيكون كما يريده الله رب العالمين.


فالله لا يعجزه شيء، ولا يستعصى عليه شيء، وكل شيء أمره الله أن يكون، فإنه يكون كلمح البصر {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، وقال مبينًا كيف خلق الله عيسى وآدم: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].


وردَّ الله تعالى على الذين زعموا كاذبين أن الله اتخذ ولدًا في آية سورة الأنعام أنه بديع السموات والأرض، وكيف يكون له ولد، ولم يكن له صاحبة، فوجود الولد يلزم فيه أن تكون هناك زوجة، وبين الله أنه خالق كل شيء، ومن جملة ذلك ما ادعوه أن له ولدًا، وهو بكل شيء عليم، وهو يعلم سبحانه أنه ليس له ولد.
 
الموضع القرآني 5

الآيات الدالة على رب العباد

أولًا: تقديم

هاتان آيتان عظيمتان كريمتان حدَّثنا ربُّنا فيهما عن ذاته الكريمة سبحانه، فقد أعلمنا ربُّنا في الآية الأولى منهما أنه وحده المعبود الذي لا يستحق العبادة أحد غيره، وهذا أصل الدين وقاعدته، وأعظم فهم بعث الله به رسله، وأنزله في كتبه.


والأمر الثاني الذي عرَّفنا الله تعالى به عن نفسه سوقُه ثمانية آيات عظيمة أبدعها الله في كونه، ومن نظر فيها نظر فيها نظر معتبر، وتأمل فيها بصدق، كانت هادية له إلى بارئها ومبدعها سبحانه وتعالى، وسيأتي تفصيل القول فيها في شرح الآيات.


ثانيًا: الآيات التي عرَّفنا فيها بنفسه في سورة البقرة


{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة: 163 - 164].




ثالثًا: تفسير المفردات في هذه الآيات


وإلهكم: الإله المعبود.
واختلاف الليل والنهار: تعاقبهما وتقارضهما.
والفلك: السفن.
فأحيا به الأرض بعد موتها: أحياها بالنبات والشجر.
الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان وحيوان وطيور.
تصريف الرياح: توجيه الرياح إلى مختلف الجهات.
لآياتٍ: لعلامات دالاتٍ على وحدانية الله تعالى.




رابعًا: شرح الآيات التي عرَّفنا الله فيها بنفسه


عرَّفنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – في هاتين الآيتين في هذا الموضع عن نفسه، وأعلمنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – أنه هو المعبود الذي لا يستحق أن يعبد معه أحد{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.


وعرَّفنا- سبحانه- بصفتين من صفاته العظيمة التي تحبها نفوس المؤمنين، هما الرحمن الرحيم، وهما صفتان مشتقتان من الرحمة {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.


ثم أورد رب العزَّة في الآية الثانية من هذا الموضع ثماني آيات تدل على وحدانيته وعظمته وقدرته وبديع صنعه.


فمن ذلك أنه خلق السموات والأرض، وهما من أعظم ما خلقه ربُّنا، وقد مدح الله نفسه كثيراً بإيجادهما وخلقهما سبحانه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ومن ذلك أنه سبحانه خلق الليل والنهار على نحو معجب بديع، فهما يتعاقبان ويتقارضان، ويحقق وجودهما فوق الأرض الحياة المطمئنة للإنسان، {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار}.


ومن تلكم الآيات العظيمة التي أبدعها الله في هذا الكون لبني آدم الفلك التي تمخر عباب البحار والأنهار، تحملهم إلى بلدٍ لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}.


وأعلمنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنه أنزل لنا من السماء ماء، فأحيا به الأرض بعد ما ذوت أشجارها، ومات نباتها {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}.


ومما عرَّفنا الله أنه بثَّه ونشره في الأرض من الآيات الدواب من الإنسان والحيوانات والطيور، وهي تملأ الأرض في كلِّ أنحائها {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}.


ومن ذلك خلقه- سبحانه- الرياح، وتوجيهها إلى مختلف أنحاء الأرض، أحيانًا تحمل السحاب بالخير والمطر، وأحيانًا تهيج وتحمل العذاب، وأحيانًا تثير البحر، فيغرق السفن {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}.


وآخر الآيات التي عرَّفنا ربُّنا أنه خلقها لنا {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} تحمل الخصب والنماء، وتسير مشرقةً ومغربةً فتفرح النفوس، وتبهج القلوب.


خامساً: كيف عرَّفنا الله تعالى بنفسه في هذه الآيات


عرَّفنا الله- عزَّ وجلَّ- في هاتين الآيتين بنفسه وفق ما يأتي:
1- عرَّفنا سبحانه وتعالى أنه وحده المعبود الذي يستحق العبادة، ولا يستحق العبادة أحدٌ غيره في هذا الكون الواسع العريض.
2- عرَّفنا ربُّنا- سبحانه وتعالى- أنه هو الرحمن الرحيم.
3- وعرَّفنا سبحانه أنه وحده خالق السموات والأرض.
4- وأنه هو الذي خلق لنا الليل والنهار على هذا النحو الذي نراه ونشاهده.
5- وأنه هو الذي خلق السفن تجري بنا وبأثقالنا إلى مختلف أنحاء الأرض.
6- وهو الذي أنزل لنا الماء من السماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، فأنبتت من كل زوج بهيج طعامًا لنا ولدوابنا.
7- وهو الذي نشر في هذه الأرض الدواب تملأ السهل والجبل، وتمدنا بالغذاء والدواء.
8- وهو الذي صرف الرياح في جنبات الأرض، منها الخفيف، ومنها الشديد، ومنها الذي يحمل الخصب، ومنها ما يحمل العذاب.
9- وهو الذي سخر لنا السحاب يحمل هذه الكميات الهائلة من الأمطار تجودنا بالخير، وتروي حقولنا ومزارعنا سبحانه.


* * * *
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك اخي الطيب
وجزاك الله خير الجزاء
وجعله في موازين حسناتك
 
الموضع القرآني 6

الله تعالى قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه

أولًا: تقديم


هذه الآية الكريمة التي في هذا الموضع الذي يُعرِّفنا ربُّنا فيها أنه قريبٌ منا، يسمعنا من غير حاجةٍ بنا إلى رفع أصواتنا بالدعاء، تأتي في أثناء آيات الصيام، لتدل على أن الصائم قريبٌ من الله تعالى بسبب صيامه.


ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة البقرة


{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].





ثالثًا: شرح الآية التي حدَّثنا الله تعالى فيه عن نفسه

عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- عن نفسه أنه قريبٌ منا، فهو يسمعنا، ويرانا، ولا تخفى عليه خافيةٌ من أمورنا وليس بنا من حاجةٍ إلى أن نصرخ بأصواتنا حتى يسمعنا.


وهذه الآية تدل على أن بعض الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، فقالوا: أبعيدٌ ربُّنا فنناديه، أم قريبٌ فنناجيه؟ فجاء الجواب من رب العزَّة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وما دام الله قريبًا منا، فإنه يسمع دعاء الداعي، ويجيب ذلك الدعاء، وطلب الله من عباده أن يدعوه ويسألوه، ويؤمنوا به، لعلهم يرشدون، أي: ليكونوا من الراشدين.


وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا إذا أشرفنا على وادٍ هللنا وكبرنا، وارتفعت أصواتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنه معكم سميعٌ قريبٌ، تبارك اسمه، وتعالى جده» [البخاري: 2992، مسلم: 2704].


وقوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} يدل على أن الله يجيب دعوة العبد، ولا بد، ولكن تختلف صور الإجابة، كما في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد: عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يدعو الله عزَّ وجلَّ بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاثٍ: إما أن تعجلَّ له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» قالوا: إذا نكثر، قال: «الله أكثر» [مسند أحمد: 11133].


وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال يُستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجلَّ، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أرَ يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء» [مسلم: 2735].


رابعًا: كيف عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- بنفسه في هذه الآية

بين الله- تعالى- لنا في آية هذا الموضع ما يأتي:


1- عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنه قريبٌ منا، فلا نحتاج أن نرفع أصواتنا عندما ندعوه ونستغيث به.


2- وأمرنا ربُّنا- تبارك وتعالى- في هذه الآية أن ندعوه ونسأله، ولا نتكبر عن عبادته، والله- تعالى- يحب منا دعاءنا له.


3- أعْلمنا ربُّنا في هذه الآية أننا إذا دعوناه فإنه يجيب دعاءنا، وبين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أننا لا ندعوه بدعوةٍ ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم إلا أعطانا بها إحدى ثلاث: إما يعطينا سؤلنا، أو يدفع عنا من الشر مثلها، أو يدخر لنا أجرها يوم القيامة.


* * * *
 
الموضع القرآني 7

ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض





عرَّفنا الله تبارك وتعالى بسنّةٍ من سننه في عباده، فقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] «أي: لولا أنَّ الله يدفع أهل الباطل بأهل الحق، وأهل الفساد في الأرض بأهل الإصلاح فيها، لغلب أهل الباطل والإفساد في الأرض، وبغوا على الصالحين، وأوقعوا بهم، حتى يكون لهم السلطان وحدهم، فتفسُد الأرض بفسادهم، فكان من فضل الله على العالمين، وإحسانه إلى الناس أجمعين أن أذن الله لأهل دينه الحق المصلحين في الأرض، بقتال المفسدين فيها من الكافرين والبغاة المعتدين» [تفسير المنار: 2/ 395].




ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عزَّيزٌ} [الحج: 40].




وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] بين الله- سبحانه- أنه دفع بالمؤمنين شر الكافرين، وأن هذا الدفع فضلٌ منه ونعمة.




وختم الله هذا النصَّ بقوله: {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252] الإشارةُ بقوله: {تِلْكَ} إلى ما حدثنا الله به في هذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وأخبرنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنه قص علينا هذه القصص بالحق، أي أخبرنا به وفق ما وقع، ليس فيه تغيير ولا تبديل، وقال في خاتمة الآية {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252]، ولذلك أنزل الله عليه ما أنزل، وبيَّن له ما بيَّنه.




* * * *
 
الموضع القرآني 8

تعريف الله تعالى بنفسه في آية الكرسي




أولًا: تقديم


هذه الآية التي يُعرِّف الله تعالى فيها بنفسه هي آية الكرسي، وهي أعظم آية في كتاب الله تبارك وتعالى، ففي صحيح مسلم عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا المنذر، أتدري أيَّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «يا أبا المنذر، أتدري أيَّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. قال: فضرب في صدري، وقال: «والله، لِيَهنك العلم أبا المنذر» [مسلم: 810].


وهذه الآية إنما كان لها هذا الفضل؛ لأنها عرفتنا بربِّنا- تبارك وتعالى- تعريفًا كاملًا وافيًا لا مزيد عليه.


ثانيًا: آية هذا الموضع الذي حدَّثنا الله عن نفسه في سورة البقرة
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].




ثالثًا: تفسير مفردات الآية التي حدثنا فيها ربنا عن نفسه


الإله: المعبود سواء كان بحق أو باطل.
الحيُّ: الدائم الحياة، فحياة الله- عزَّ وجلَّ- أبدية سر مدية.
القيوم: القائم بنفسه- تبارك وتعالى- المقيم لغيره.
سِنَةٌ: السنة ابتداء النعاس في الرأس، فإذا خالط القلب صار نومًا.
كرسيُّه: كرسي الرب مخلوق عظيم، يسع السموات والأرض، وقد ذكر ابن عباس أنه موضع قدمي الرب.
ولا يؤوده، أي لا يُثقله.




رابعًا: شرح الآية التي عرَّفنا فيها ربُّنا بنفسه

هذه الآية أعظم آية في كتاب الله عزَّ وجلَّ- كما سبق بيانه، وإنما كانت كذلك لأنها تعرَّفنا بالله ربُّنا تبارك وتعالى بما لا مزيد عليه، وقد عرَّفنا ربُّنا في هذه الآية أنه:


1- المعبود الذي لا يستحق العبادة أحدٌ إلا إياه {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو} والإله: في لغة العرب المعبود، وكل من عبد فهو إله، وقد عبد الناس البشر والشجر والحجر والشمس والقمر، وعبدوا اللات والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى، وكلُّ هذا الذي عبدوه آلهةٌ باطلةٌ، والإله الحق الذي يستحق العبادة هو الله، وهذا هو توحيد الألوهية، وكان المشركون ينكرونه، ويجادلون في استحقاقه العبادة وحده.
2- الحيُّ القيُّوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، والله- تبارك وتعالى- حيُّ، وحياته تامة كاملة، وهو قيوم، أي: قائم بنفسه، لا يحتاج إلى غيره، وهو مقيم لغيره، وحياته وقيوميته أبديتان سرمديتان- سبحانه وتعالى- فهو حي أبدًا وسرمدًا، وهو قيومٌ كذلك {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}.


والله - تبارك وتعالى- لكمال حياته وقيوميته لا تأخذه سنة، وهو النعاس، كما لا يأخذه النوم، بخلاف الإنسان الذي جاء عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورا، ثم أحياه الله فجعله سميعًا بصيرا، ولكن حياته ناقصةٌ لها بداية، ولها نهاية بالموت، وهو ينعس وينام.


3- له ملك السماوات والأرض، فهو خالق السموات والأرض، وهو: مالكهم، وهما تحت قهره وتصرفه، يأمرهما فتطيعان {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وقد قال لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
4- لا يشفع في يوم القيامِ أحدٌ عنده إلا بإذنه، فحتى تقبل الشفاعة لا بدَّ أن يرضى الله عن الذي يشفع، ولا بد أن يرضى عن المشفوع له، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}.


وأخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نبي الله إبراهيم عليه السَّلام يشفع عند الله في أبيه عندما يلقاه في عرصات القيامة، فلا تقبل شفاعته فيه، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَلقى إبراهيم أباه آزرَ يوم القيامة، وعلى وجه آزرَ قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك.
فيقول إبراهيم: يا ربِّ إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، فأي خزيٍ أخزى من أبي الأبعد؟ يقول الله تعالى: إني حرَّمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجلَّيك؟ فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه، فيلقى في النار» [البخاري: 3350]. والذيخُ: الضبع الذَّكر الملتطخ بالنتن.


فالله لا يقبل شفاعة إبراهيم في أبيه الكافر يوم القيامة، ويمسخه الله في ذلك اليوم ضبعًا، حتى لا يخزى به إبراهيم، فيؤخذ من قوائمه، ويلقى به في النار.


5- يعلم الله ما بين أيدي مخلوقاته وما خلفهم، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: يعلم ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ومن هؤلاء الملائكة الذين قالوا: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. ومع أن علم الله محيط بجميع الكائنات، فإن الجن والإنس والملائكة لا يحيطون بشيء من علم الله إلا بمقدار ما يشاء الله أن يحيطوا به، وهو قليل، لا يساوي قطرة من بحر، أو ذرة في صحراء.


6- وسع كرسيه السموات والأرض، يدل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} على أن لله كرسيًا، الكرسي كما قال ابن عباس: «موضع القدمين» أي: موضع قدمي الرب تبارك وتعالى [وحديث ابن عباس صحيح موقوف عليه، أخرجه ابن خزيمة في «التوحيد»، والدرامي في «الرد على المريسي» وعبد الله بن أحمد في «السنة» وقال الألباني فيه: «هذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات» مختصر العلوم للذهبي تحقيق الألباني، ص 102]. وقد أخبرنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أن الكرسي أعظم من السموات والأرض، ولذلك قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}.


وقد ساق الشيخ ناصر الدين الألباني حديثًا رواه أبو ذر الغفاري، قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» وقد ذكر الألباني طرقه في كتب السنة [وأصح طرقه الطريق التي ساقها ابن جرير الطبري، ثم قال الألباني: الحديث بهذه الطرق صحيح. سلسلة الصحيحة: حديث رقم: 109]. فدلَّ هذا الحديث على أن الكرسي غير العرش، وأن الكرسي أعظم من السموات والأرض، والعرش أعظم من الكرسي.


7- لا يُثقلُ الله حفظ السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، بل ذلك سهل ويسير عليه، فالله بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} فالله له العلو كله، أي: العلو الحسيُّ والمعنوي، وهو العظيم الكامل في عظمته سبحانه.


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآية الكريمة

هذه الآية الكريمة عرفتنا بربِّنا جلَّ في علاه تعريفًا واسعًا، ومن النظر فيها بتمعن ندرك أن الله- تبارك وتعالى- هو:


1- المعبود الذي لا يستحق أن يعبد معه أحد في السموات ولا في الأرض.
2- وهو الحي الذي حياته دائمة أبدة سرمدية، وهو قيوم، قائم بنفسه، مقيم لغيره.
3- ولتمام حياة الله وتمام قيوميته، لا تأخذه سنة، وهي أوائل النوم، وهو الذي يسميه الناس النعاس، ولا يأخذه نوم.


4- الله تعالى له السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، لا يشركه في ذلك أحد، وكان مشركو العرب يقرون بهذه الحقيقة، ويكفرون بتوحيد الألوهية.
5- لا أحد يوم القيامة يشفع في إنجاء أحد من عذاب الله، ودخوله جنته إلا بإذن من الله عزَّ وجلَّ.


6- الله- تعالى- محيط علمه بعباده من الملائكة والجن والإنس وغيرهم، يعلم ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة، ولا يحيط العباد من علم الله تعالى إلا بما شاء.


7- لله تعالى كرسيُّ عظيم، لسعته وسع السموات والأرض.
8- الله حافظ للسموات والأرض، ولا يثقله حفظهما، ولا يشق عليه.
9- الله تعالى عليُّ في ذاته، فذاته أعظم ذات، وصفاته أعظم الصفات، وهو مستوٍ على عرشه فوق سماواته سبحانه، وهو العظيم، لا أحد أعظم منه.


* * *
 
الموضع القرآني 9

الله وليُّ الذين آمنوا





عرَّفنا ربُّنا- سبحانه- أنه {وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البقرة: 257] والولي هو الذي يتولى أمورهم، وينصرهم، ويحفظهم، ويرعاهم، ومن آثار ولايته سبحانه أنه يخرج المؤمنين من ظلمات الكفر والشرك والجهل إلى النور، أي: إلى نور القرآن ونور الإسلام {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} [البقرة: 257].


وخير مثال يُضرب في هذا المجال تولي ربُّ العزَّة لصحابة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا كفارًا مشركين، فأخرجهم من الكفر والشرك إلى نور القرآن ونور الإسلام، فاستنارت قلوبهم وعقولهم، وصلحت أعمالهم، وكانوا خير أمة أخرجت للناس.


أما الذين كفروا فأولياؤهم الطاغوت {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]. وأعلمنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أن الذين كفروا أنصارهم الطواغيت، والطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى، وأعظم الطواغيت الشيطان، ونشأ في كل عصر طواغيت تحاد الله تعالى ورسوله، وتحارب المؤمنين، وتحاول أن تضل عباد الله تعالى.


وهؤلاء الطواغيت في كل عصر ومصر يخرجون أتباعهم ومن يتولون أمرهم من النور إلى الظلمات، فترى طواغيت الفكر اليوم بما يطرحونه من نظريات فاسدة، وآراء جائزة، وعقائد ضالة، يخرجونهم من بقايا النور التي عندهم إلى الجهل والكفر والباطل.


ولك أن تتصور منطقتين إحداهما منيرة مضيئة، والأخرى مظلمة معتمة، ثمَّ ترى عمليتين دائبتين، ينتقل الناس في الأولى من الدائرة المظلمة إلى الدائرة المضيئة، أي: ينتقلون من الكفر إلى الإسلام، وفي الثانية ينتقلون من النور إلى الظلمة، أي: من الإسلام إلى الكفر.


* * *
 
الموضع القرآني 10

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}

أولًا: تقديم

الله تعالى هو الذي يحيي ويميت، وقد احتج نبي الله إبراهيم على نمرود عصره بإحياء الله تعالى العباد وإماتتهم، والله يحيي الناس بعد موتهم في يوم القيامة، ولكنه أرى بعض خلقه مثل هذا الإحياء في الحياة الدنيا، فمن ذلك إحياؤه قتيل بني إسرائيل عندما ضربوه بجزء من البقرة المذبوحة، ومن ذلك إحياء الله {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243].


ومن ذلك ما حدَّثنا الله تعالى في هذه الآيات عن ذلك الرجلَّ الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: أنى يحيي الله هذه بعد موتها، فأماته الله مائة عام، ثم بعثه، وبعث حماره.


وأعلمنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أن نبيَّه إبراهيم طلب منه أن يريه كيف يحيي الموتى، فأمره أن يأخذ أربعة من الطير، ثم يقطعهنَّ، ثم يفرقهن على عدَّة جبال، ثم أمرهن أن يجتمعن، فاجتمعن وأحياهنَّ الله تعالى.


* * *
ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة البقرة

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عزَّيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 258- 260].


ثالثًا: غريب الآيات


حاجَّ إبراهيم: خاصمه وحاوره.
فبهت، أي: سكت، وخصم ولم يحر جوابًا.
خاوية على عروشها، أي: ساقطة جدرانها على سقوفها.
لم يتسنه، لم يصبه أي فساد.
ننشرها، أي: كيف نكونها.
فصرهن إليك، أي: أمره أن يقطعهن بعد أن يذبحهن.


رابعًا: تفسير هذه الآيات


الله تعالى هو الذي يحيي الموتى، وقد حدَّثنا الله تعالى في هذه الآيات عن نبيه إبراهيم أنه احتج على نمرود عصره بذلك، وقص علينا ثلاث قصص أحيا فيها الموتى في الدنيا.




1- الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه:


حدَّثنا ربُّنا مذكرًا إيانا بالملك الذي حاجَّ نبيَّه إبراهيم عليه السَّلام في ربِّه، فقد كان هذ الملك منكرًا لوجود الله، فقال له نبيُّ الله إبراهيم عليه السَّلام محتجًا عليه {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258].


قال له إبراهيم: ربِّي الذي أؤمن به يحيي النفوس بإدخال الروح فيها، فتصبح عاقلة مدركة، تذهب وتأتي، وتسمع وتبصر، فسارع ذلك الطاغية بالرد قائلًا: أنا أحيي وأميت، وذلك بأن يأتي برجلَّين من أحد سجونه، فيطلق أحدهما، ويقتل الآخر، سمى ذلك إحياءً للأول منهما، وسمى ذلك إماتةً للثاني منهما.


لقد كان همُّ ذلك الطاغية أن يجيب، ولو كان في إجابته خلل واضح، إن مراد إبراهيم بإحياء الله وإماتته أمرٌ مخالفٌ لما يفعله ذلك الطاغية، وتوضيح الأمر من قبل إبراهيم لذلك الملك سيدخله في مجادلةٍ مع ذلك الطاغية، فساق إبراهيم دليلًا آخر بهت الخصم وحيره وأسكته، قال: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].


قال له إبراهيم: إن الله ربِّي يأتي بالشمس من جهة المشرق، فإذا كنت ربًا كما تدعي، فائتِ بها من جهة المغرب، وبذلك تكون قد غلبت وقهرت.
لقد جاءه إبراهيم بجواب أعجزه وأسكته، وكشف حقيقة أمره، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، أي: لا يهديهم إلى الإجابة الحقَّة، ولكنه يهدي إلى الصواب والإجابة الحقة رسله وأنبياءه ومن سار على طريقهم كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83].




2- قصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها:


وقص علينا ربُّنا قصة الذي مر على قريةٍ، فوجدها خاويةً على عروشها، ومعنى: خاويةً، أي ساقطةً، والعروش السقوف، أي: ساقطةٌ على سقوفها، سقطت السقوف، ثم وقعت عليها الحيطان، يشير إلى خرابها علوًا وسفلًا [عمدة الحفاظ: 3/ 65]. ومنه قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج: 45]، وقال: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52].


فالقرية التي مرَّ عليها ذلك الرجلَّ كانت محطمةً مهدمةً خاليةً من الناس، فهي على ذلك ميتة، وهذه القصة معطوفةٌ في المعنى على قصة إبراهيم التي سبق ذكرها بحرف العطف (أو)، قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259].


وكان عند هذا الرجلَّ الذي مرَّ على تلك القرية المهدمة الخاوية على عروشها علمٌ بأن الله سيحيي هذه القرية بعد موتها، أي: بعد خرابها وتدميرها، فلما رآها على تلك الصفة قال: {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] أي: قال ذلك مستغربًا متعجبًا لشدة ما أصابها من الدمار والخراب.


عند ذلك أماته الله بقبض روحه مائة عام، وبعد تمام المائة أحياه، فسأله كم لبثت؟ فقال: لبثت يومًا أو بعض يوم، وكذلك قال أصحاب الكهف بعد أن ناموا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19].


فلما قال ذلك، قال الله له: {بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَام} [البقرة: 259] وقد تلاشى في هذه المدة لحمه، وفنيت عظامه، وتقطعت أوصاله، أما الطعام الذي كان معه والذي يفسد في العادة في يوم أو في عدة أيام، فقد حفظه الله فلم يفسد، ولم يتغيَّر، ولم يتبدَّل، وأما العظام فقد بليت.


وقد كان معه عند موته حماره أماته الله بموته، فأحياه هو أولًا، ثم أحيا حماره، وأراه كيف ينشيء عظامه ويكوِّنها، ثم يصل ما بينها، ثم يكسوها لحمًا، ثم ينفخ فيها الروح وتدب فيها الحياة، عند ذلك قال وقد امتلأ قلبه خوفًا وخشيةً من الله: أعلم أن الله على كلِّ شيءٍ قدير، وأنه لا يعجزه شيءٌ أراده {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 259].




3- إحياء الله الموتى على يد نبيِّه إبراهيم عليه السَّلام:


قص علينا ربُّنا في آيات هذا النص قصة طلب فيها إبراهيم عليه السَّلام من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] فسأله ربه قائلًا له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة: 260] فأجاب قائلًا: بلى آمنت، ولكنني أريد مزيدًا في طمأنينة قلبي {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] عند ذلك أمره ربه أن يأخذ أربعة من الطير، ثم يصورهن إليه، أي: يقطعهن، أي: بعد أن يذبحهن، ثم يجعل على كل جبلٍ منهن جزءًا، أي: يفرق أجزاءهن على عدة جبال، ثم أمره أن ينادي عليهن طالبًا منهن أن يجتمعن، فتجمعت الأجزاء المقطعة، وتواصلت وتلاحمت، ونفخت فيها الحياة {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عزَّيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] والعزَّيز: المنيع الذي لا يغلب ولا يعجزه شيءٌ، وهو {حَكِيمٌ} سبحانه فيما يدبره.




خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في هذه الآيات

عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى في هذه الآيات أنه يحيي الموتى، وبين ذلك بما يأتي:
1- احتجَّ نبيُّ الله إبراهيم عليه السَّلام على نمرود عصره بأن ربه يحيي الموتى.
2- تعجَّب رجلَّ ممن كان قبلنا من إحياء الله لقريةٍ خاويةٍ على عروشها، فأماته الله تعالى مائة عام، ثم بعثه، وأمات معه حماره، ثم بعثه.


3- طلب نبيُّ الله إبراهيم عليه السَّلام من ربِّه أن يريه كيف يحيي الموتى، فطلب الله تعالى منه أن يذبح أربعة طيور، ثم يقطعها، ويوزِّع أجزاءها على الجبال، ثم يدعوها فتأتيه سعيًا، أي: مسرعات، بعد أن نفخت فيها الروح.


* * *
 
الموضع القرآني 11

حكمة الله تعالى في التشريع


أولًا: تقديم


عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى في هذه الآية التي ختم بها هذه السورة العظيمة سورة البقرة أنه سبحانه لا يكلِّف في تشريعه نفسًا إلا ما في وسعها، فلا يكلف أحدًا فوق ذلك، وعلَّم الله تعالى صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعوه في بقية الآية بما ذكر فيها، وأعلمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في الأحاديث أن الله قال عندما دعوه: نعم، أي: قد استجبت لكم، وهذه الآية تعرَّفنا بالمنهج الذي أظهر الله حكمته في التشريع الذي شرعه لهذه الأمة.


وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن آية هذا الموضع والآية التي قبلها فيهما فضلٌ عظيم وثوابٌ جزيل، فمن ذلك:


1- ما أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نورهما أحد نورين أوتيهما رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يؤتهما نبيٌّ قبله، فعن ابن عباس قال: «بينما جبريل قاعدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضًا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا بابٌ من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملكٌ، فقال: هذا ملكٌ نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلَّم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌّ قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرفٍ منهما إلا أعطيته» [مسلم: 806].


2- أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن من قرأ بالآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه، فعن أبي مسعود قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه» [البخاري: 5009، مسلم: 807، 808].


3- هاتان الآيتان أنزلهما الله من كتابٍ كتبه قبل خلقه السموات والأرض بألفي عامٍ، فعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرةن ولا يقرآن في دارٍ ثلاث ليالٍ فيقربها شيطان» [الترمذي: 2882، وقال فيه: هذا حديث حسن غريب، صحيح الترمذي للألباني: 2311].



ثانيًا: آية هذا الموضع من سورة البقرة

{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ربُّنا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ربُّنا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ربُّنا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].





ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآية


لا يكلِّف: التكاليف ما أمرنا الله تعالى به، ونهانا عنه.
وسعها: طاقتها.
لها ما كسبت، أي: من خير.
وعليها ما اكتسبت، أي: من الشرِّ.
نسينا، أي: ما تركناه أو فعلناه من عملٍ من غير قصدٍ.
إصرًا: الآصار الأثقال التي كلف الله بعض الأمم من قبلنا بها.
ولا تحمِّلنا، أي: لا تكلِّفنا بما لا نطيقه.
مولانا: إلهنا وناصرنا ومؤيدنا.




رابعًا: شرح هذه الآية التي عرَّفنا فيها ربُّنا بنفسه


عرَّفنا ربُّنا في هذه الآية أنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي: لا يكلف نفسًا فوق طاقتها، وهذا من رحمته سبحانه بعباده، ولطفه بهم، وقرَّر- سبحانه- في هذه الآية أنَّ لكلِّ نفس ما كسبته من خير، وعليها ما اكتسبته من شرٍّ، وهذا في الأعمال الظاهرة التي يطيق العباد التحكم بها كالصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.


وأعلمنا ربنا بما يقوله عباده في دعائهم ربَّهم، فقد أعلمنا أنهم يقولون في دعائهم: {ربُّنا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ربُّنا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ربُّنا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}.


أي: يقولون: يا رَبَّنا لا تؤاخذنا إن نسينا شيئًا مما فرضته علينا، كالذي ينسى صلاةً، أو ركعةً من الصلاة، أو طوافًا بالبيت أو شوطًا في السعي، أو نحو ذلك، ولا تؤاخذنا إن أخطأنا، كالذي لا يهتدي إلى وجه الصواب فيما كلف به من أعمال، دعا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذا الدعاء فقال الله: «نعم» أي: لا أؤاخذكم بذلك، ومن دعائهم قولهم: {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} أي: «لا تحمل علينا إصرًا يثقلُ علينا كما حملته على الذين من قبلنا، نحو أمر نبي إسرائيل بقتل أنفسهم، أي: لا تمتحنا بما يثقل» [معاني القرآن، للزجاج: 1/ 371] والإصر: الأثقال التي تثبط عن الخيرات.


وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أنَّ ربَّنا استجابَ دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم ودعاء أصحابه، فلم يحمل علينا الآصار والأغلال التي حملها على الذين من قبلنا، ودعوا ربهم أن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به، ودعوه أن يعفو عنهم ويغفر لهم، وقالوا في ختام هذا الدعاء الطيب المبارك: {أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي: ناصرنا، ومتولي أمورنا، فانصرنا على الكفرة المشركين الذين رفضوا دينك، وأعرضوا عن كتباك، وحاربوا رسولك.


وقد جاءت أحاديث كثيرة تدلُّ على ما تضمنته هاتان الآيتان الكريمتان، من صفة التكاليف التي كلف الله بها عباده:
‌أ- فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به» [مسلم: 127].




‌ب-وعن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عزَّ وجلَّ: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئةً، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلَّي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف» [البخاري: 7501، مسلم: 128].


‌ج- عن أبي هريرة قال: جاء ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم، قال: «ذلك صريح الإيمان» [مسلم: 132].


‌د- وعن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال: «تلك محض الإيمان» [مسلم: 133].


‌ه- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» [البخاري: 3276، مسلم: 134].
وهذه الأحاديث تدلُّ على عدم مؤاخذة الله إيانا بما حدثتنا به أنفسنا ما لم نتكلم أو نعمل، وأنه لا يؤاخذ المؤمنين بما وسوست به الشياطين، وسمَّى دفع هذه الوسوسة: صريح الإيمان ومحض الإيمان.




خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآية الكريمة


عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- في هذه الآية أنه سبحانه:
1- رحيمٌ بعباده، شفيقٌ بهم، لا يكلفهم فوق ما يطيقون، ولا يحاسبهم إلا على ما عملوه، من خيرٍ أو شرٍّ.


2- شرع الله هذا الدين الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم ليس فيه شيء من الآصار والأغلال التي حملها اليهود من قبلنا، فقاعدة الحلال والحرام في ديننا: إحلال الطيبات وتحريم الخبائث.
3- لا يكلف عباده بما نسوه أو أخطئوا بفعله.


4- عفو من عباده المؤمنين، يغفر لهم ذنوبهم، ويرحمهم.


* * * *
 
الموضع القرآني 12

الله تبارك وتعالى لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء




عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- عن نفسه في آيتين قصيرتين في فاتحة سورة آل عمران، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 5- 6].


وقد تناولت هاتان الآيتان ثلاث قضايا مما عرف الله تعالى به نفسه:


الأولى: أنه لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، والأرض والسماء مخلوقان عظيمان فيهما ما لا يحصيه إلا رب العزَّة سبحانه من المخلوقات، ففي السماء الملائكة وما لا ندريه من مخلوقات الله تعالى، وفيها ما أبدعه الله تعالى من المجرات، وفي كل مجرةٍ ما لا يعلمه ولا يدريه إلا الله تعالى من الشموس والأقمار والنجوم، وكل ذلك لا يغيب عن الله لحظةً، ولا يخفى عليه منه خافية.


وفي الأرض ما لا يعلمه إلا الله تعالى من البحار والأنهار والعيون، وفيها الجبال والتلول والروابي، وفيها المرتفعات والوديان، وفيها الصحاري والأراضي الخصبة، وفيها الإنسان والحيوان والطيور، وفيها الأشجار والمعادن، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى، ولا يغيب من ذلك عن رب العزَّة سبحانه شيءٌ.


الثانية: أن الله تعالى هو الذي يصوِّرنا في أرحام أمهاتنا كيف يشاء، فالله خلق كل واحد منا في رحم أمه، ثم صوره- سبحانه- كما يشاء، ولكل واحد من بني الإنسان صورة تختلف عن صورة الآخرين، مع كثرة تعداد البشر، ولذا فإن من أسماء الله التي يمدح بها نفسه اسم المصور.


الثالثة: الله تعالى هو المعبود الذي لا يستحق العبادة غيره سبحانه وتعال، وغيره مخلوق مربوب معبد، وقد ذم الله العباد الذين اتخذوا من دون الله أندادًا، وقد سمَّى ربُّ العزَّة نفسه في هذه الآية باسمين عظيمين هما: العزيز الحكيم، والعزيز الغالب الذي لا يعجزه أحد من خلقه، والحكيم، أي: في شرعه وفعله.


* * *
 
الموضع القرآني 13

شهد الله أنه لا إله إلا هو




قال جلَّ جلَّاله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيم} [آل عمران: 18].


عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنَّه شهد لنفسه بالوحدانية، وأنه هو المعبود الذي لا يستحقُّ العبادة أحدٌ غيره، والشهادة تقوم على العلم، وهو سبحانه هو الأعلم بنفسه، فلا أحد أعلم منه بذاته ولا بأفعاله وصفاته، وقرن الله بشهادته لنفسهه بالوحدانية شهادة ملائكته وشهادة أولي العلم {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيم} [آل عمران: 18].


والملائكة أعلم الخلق بالله تعالى، فهم أعظم اطلاعًا على آيات الله من البشر، وإيمانهم بالله أعظم من إيمان كثير من الناس، والراسخون في العلم الذين يعلمون آيات الله عندهم من المعرفة والعلم ما استحقوا به أن يقرن الله شهادتهم بشهادته، وتلك منقبةٌ عظيمةٌ وميزةٌ فاضلةٌ.


وقد شهد الله لنفسه بالتوحيد في حال قيامه بالقسط، أي: بالعدل، والقسط وضع الشيء موضعه، وأعظم العدل التوحيد، كما أن أعظم الظلم الشرك، {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18].


وقد أكد التوحيد الذي شهد لنفسه به بقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُو} [آل عمران: 18]، وختم الآية باسمين عظيمين هما {الْعزَّيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، والعزَّيز القوي الغالب، و{الْحَكِيم} في أقواله وأفعاله سبحانه.


وشهادة الله تعالى لنفسه بالوحدانية دل عليها القرآن الكريم، في آيات كثيرة، وقد صرف الله تعالى القول في هذا الموضع تفصيلًا لا مزيد عليه، وأقام على بيان هذه الحقيقة من الآيات في الأرض والسموات الكثير الكثير، وقد تقدم العلم اليوم، فكشف من العلم الذي تجلَّى في آيات القرآن ما حارت به العقول، وأعجز الألباب، بل أقام الله تعالى في مخلوقاته عجائب لم يزل البشر يرونها ويشاهدونها، وفيها دلائل تدلُّ على شهادة الله لنفسه بالوحدانية، سبحانه وتعالى.

 
الموضع القرآني 14

الله تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء




أولًا: تقديم


عرَّفنا ربُّنا نفسه في هاتين الآيتين في صورة دعاءٍ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو به، وهو دعاء لطيف موفق معجب، لا يمل المرء من الدعاء به، وترديد عباراته، والتأمل في معانيه.




وهو يُعرِّفنا بربِّنا سبحانه، فيرينا إيَّاه ويده تعمل في المجتمع الإنساني على مرِّ الدهور والأزمان، يذلُّ أقوامًا، ويقهرهم، ويعلي شأن آخرين ويعزَّهم، وكما يصرف الله أمور عباده على هذا النحو، يصرف أمر هذا الكون الواسع العريض، فيولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحيَّ من الميت ويخرج الميت من الحيِّ ويرزق من يشاء بغير حساب، إنه الله سبحانه.




ثانيًا: آيات هذا الموضع من القرآن من سورة آل عمران


{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعزَّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26- 27].




ثالثًا: تفسير آيات هذا الموضع من القرآن


اللهم: يا الله.
تنزع، أي: تقبضه وتخلعه.
تُعِزُّ من تشاء: ترفعه وتعلي شأنه.






رابعًا: شرح آيات هذا الموضوع من كتاب الله تعالى



عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- بنفسه في هاتين الآيتين في هذا الموضع، فهو الذي يصرف الملك في عباده، وكما يصرف الملك في عباده فهو الذي يصرف الأمر في كونه تبارك وتعالى.




قال تعالى معرفًا عباده أنه يصرف الملك فيهم: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعزَّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: أن الملك بيده سبحانه في الدنيا، يصرفه في عباده كيف يشاء، فيؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزَّ من يشاء، ويذل من يشاء، ومن تصفح كتب التاريخ في القديم والحديث رأى مصداق ما حدَّثنا الله به في هذه الآية، فالدول كالأفراد، تنشأ وليدةً، ثم ترتقي شيئًا فشئيًا، ثم تصبح في غاية القوة والعنفوان، ثم تتلاشى وتزول، وقد جاء الله بالإسلام، فأزال المسلمون عروش الأكاسرة والقياصرة، وامتدت الدولة الإسلامية، وانهارت عروشٌ كثيرة، وحكم الخلفاء الراشدون، ثم جاء الأمويون والعباسيون، وأخيرًا جاء العثمانيون، وزال العثمانيون، وجرت بعد ذلك خطوب وأهوال، وقدر الله ماضٍ في عباده.




وكما يصرف الله الملك في عباده، فهو وحده مصرف الأمر في كونه، {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27].






ومن تصريف الله كونه بإرادته أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، فهما من جهة متعاقبان، ومن جهة أخرى متقارضان يأخذ الليل من النهار، ثم يأخذ النهار من الليل، وقد يتعادلان.




وهو سبحانه يخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميت من الحي، فهو سبحانه ينزل الماء من السماء، فيحيي الأرض بعد موتها {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] ونحن نشاهد الماء ينزل على الحب والنوى في باطن الأرض، فتتشقَّق الأرض، وينبت الحبُّ، ويورق، ويخضرُّ ويثمر {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] وهذا النبات الحيُّ يخرج من الحبِّ الميت، وصور الإحياء والإماتة في الأرض كثيرةٌ، فمن النطفة والبويضة يخلق الإنسان، ومن البيضة الميتة تتكون الطيور، ومن الطيور الحية تكون البيضة.




ومن ألوان التصريف في الخلق أنه سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب، فيمدُّ بعض عباده بالمال الكثير، الذي لا يعدُّ، ولا يحصى، وقد يضيِّق على آخرين، كل ذلك وفق مشيئته وحكمته وتقديره.




خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه



عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- في هاتين الآيتين بنفسه فذكر:




1- أنَّه يؤتي الملك من يشاء إيتاءه إيَّاه، ويقبضه وينزعه ممن يشاء نزعه منه، وقد رأينا في أيامنا التي عشناها مثل هذا، رأينا الدول القويَّة تسنَّمت قمة الملك في أيامنا، ورأيناها وقد زالت وضعفت، ورأينا من الأفراد من آتاه الله الملك، ورأينا من الأفراد والأسر من زال عرشه وزال ملكه.




2- وكما يصرِّف الله- تعالى- الملك في عباده، فإنه يصرف الأمر في كونه، فإنه هو سبحانه الذي يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، فهما يتعاقبان ويتقارضان.




3- الله تعالى يخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميت من الحيِّ، فمن الحبَّة الصماء تخرج النبتة الخضراء، ومن البيضة الجامدة يخرج العصفور المغرِّد، ويخرج من النبتة الخضراء الحبوب الميتة، ويخرج من الدجاجة الحية البيضة الميتة.




4- الله تبارك وتعالى يرزق من يشاء رزقه بغير حساب، فينزل على أقوام المطر، فينبت لهم النبات، ويخرج لهم الأشجار، ويرزق أقوامًا المال حتى تفيض به خزائنهم.




* * *
 
الموضع القرآني 15

نصرُ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر




أولًا: تقديم


عرَّفنا الله ربُّنا في هذه الآيات الكريمات عن فعله في نصرة عباده في غزوة بدر الكبرى، وقد كانوا قليلي العدد، وقليلي الخيول والسلاح، فأنزل عليهم الملائكة من عنده، ونصرهم وأعلى كلمتهم، وكبت الكافرين وأذَّلهم وشردهم.




ثانيًا: أيات هذا الموضع من سورة آل عمران


{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعزَّيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} [آل عمران: 123- 129].




ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع من الآيات


بدرٌ: هي اليوم مدينة على ساحل البحر الأحمر بين مكة والمدينة، وكانت قديمًا بئرًا يستقى منها الماء.
اتقوا الله، أي: خافوه، واعملوا بطاعته بفعل أمره واجتناب نهيه.
منزلين، أي: منزلين من عند الله تعالى.
مسوِّمين، أي: معلمين، أي: أعلموا أنفسهم وخيولهم بعلامات واضحات.
ليقطع طرفًا: جزءًا أو جانبًا منهم، والقطع القتل أو الأسر.
يكبتهم، أي: يهزمهم، ويغلبهم، ويصرعهم.






رابعًا: شرح الآيات التي عرَّفنا فيها ربُّنا بنفسه


هذه الآيات الكريمات عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- فيها بنصره لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه في غزوة بدر، وكيف أمدهم بالملائكة، وقد جعل الله تعالى إمدادهم بالملائكة بشرى للمؤمنين، ولتطمئن قلوبهم به، وإلا فإنه سبحانه قادر على نصر المؤمنين بكلمة واحدة منه، فهو على كل شيءٍ قدير.





وقد أعلمنا ربُّنا أنَّ رسوله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في أول المعركة أن الله سيمدهم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من عند الله تعالى وعقَّب الله- تعالى- على ذلك بأنهم إن صبروا في ميدان القتال، واتقوا الله ربهم فإنه سيمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، ولا شك أن الله قد أمدهم بما وعدهم به، فإن الله لا يخلف الميعاد.




وعرَّفنا ربُّنا في آيات هذا الموضع أنَّ له سبحانه ما في السموات وما في الأرض، وأنه يغفر ذنوب من يشاء من عباده، ويعذِّب من يشاء منهم، فالله يملكهم، وهو يتصرف فيهم كما يشاء، بما شاء سبحانه.




خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذا الموضع من الآيات




عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- في هذه الآيات بنفسه، وعرَّفنا أنَّه سبحانه:
1. نصر رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته- رضوان الله عليهم- في غزوة بدر، وكان عددهم قليلًا، وركابهم وسلاحهم قليلًا أيضًا.
2. أمد الله تعالى المؤمنين في غزوة بدر بالملائكة، فجبر كسرهم، وكثر جمعهم، وأدالهم على عدوهم، وجعلهم من المنصورين.
3. الله- تبارك وتعالى- له ملك السموات والأرض، وهو غفار الذنوب، يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء.




* * *
 
الموضع القرآني 16

لله ملك السموات والأرض




أولًا: تقديم


هاتان الآيتان من آخر سورة آل عمران اللتان عرَّفنا فيهما ربُّنا بنفسه، كانتا محلَّ عناية الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا قام يتهجدُ من الليل أخذ يمسح وجهه من النوم، وهو يقرأ العشر الآيات الأخيرة من خاتمة آل عمران وهاتان الآيتان فيهما [البخاري: 4570. ومسلم: 763].




ثانيًا: الموضع القرآني الذي عرَّفنا فيه ربُّنا بنفسه
في سورة آل عمران


{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ربُّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 189- 191].




ثالثًا: تفسير المفردات في هذا الموضع من الآيات


اختلاف الليل والنهار: تعاقب الليل والنهار.
الآيات: العلامات الدالاّت على الله.
أولي الألباب: أصحاب العقول.




رابعًا: شرح آيات هذا الموضع


عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى في هذه الآيات بنفسه، وعرَّفنا- سبحانه- بأنَّ له وحده ملك السموات ولأرض لا يشركه في ذلك أحد {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وأعلمنا ربُّنا أنه سبحانه على كل شيء قدير {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}.


وأخبرنا ربُّنا العزيزُ العليمُ سبحانه وتعالى أنَّه أبدع السموات والأرض على غير مثال سابق، وأحكم خلقهما، وخلق ما فيهما على نحو بديع لا مثيل له، انظر إلى ما حدَّثنا الله به عن السموات في قوتها وارتفاعها واتساعها، وجعلها سبعًا طباقًا، وزينها بالنجوم النيرات، وانظر إلى ما حدَّثنا به عن الأرض، وسهولها وجبالها، وبحارها وأنهارها، وحيواناتها وأشجارها ونباتها، وانظر كيف يتعاور عليها الليل والنهار، وكيف يأخذ كلُّ واحد منهما من الآخر، فهما يتعاقبان، ويتقارضان، وقال في هذا الموضع: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].


وما من شيءٍ تقعُ عليه العينُ في هذا الوجود إلا وفيه آيةٌ تشهد لخالقه بالإبداع.


وفي كلِّ شيءٍ لَهُ آيةٌ




تدلُّ على أنَّه واحدُ


وقد أخبرنا أنَّ الذي يدركُ هذه الآياتِ الدالةِ على بديعِ صنع الله هم أولو الألباب، أي: أصحابُ العقول الزاكية الوافية، أمَّا الكفرة الفجرة فإنهم يمرون على هذه الآيات، ولا يعتبرون بها، ولا يتعظون {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].


وأخبرنا ربُّنا- سبحانه- أنَّ أولي الألباب هم {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ويقولون: {ربُّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} [آل عمران: 191].


فأصحاب العقول الزاكية الوافية يدركون آيات الله التي بثَّها في الكون، ويشغلون ألسنتهم بذكر الله من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير في كل أحوالهم، فالإنسان في دنياه إمَّا أن يكون قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا، وهم يذكرون الله في هذه الأحوال الثلاث، كما قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103].


ومع إدراك أولي الألباب لآيات الكون، وذكرهم لله بألسنتهم، يتفكرون في خلق السموات والأرض فينظرونَ {إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17- 20]. وانظر إلى ما أمرنا الله سبحانه بالنظر إلى السموات والأرض لنتعرف على آياته في قوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 6- 10].


وهذا التفكيرُ في خلق السموات والأرض الذي هدى الله إليه أُولي الألباب، أوصلهم إلى نتيجةٍ عظيمة، فهذا الخلقُ للسموات والأرض المبدَع المحكم لابدَّ أن يكون لغايةٍ محمودةٍ، ولا يمكن أن يكون الله قد خلقهما عبثًا، ولهوًا ولعبًا، وقد أبان الله في أكثر من آيةٍ أنَّه خلقهما لتكون الأرض معبداً لله وحدَه، فإياه نعبدُ، وله نُصلِّي ونسجدُ، ولذلك فإن أولي الألباب يقولون: سبحانَك، أي: ننزهك، ونقدِّسك عن كلِّ سوء يا ربَّنا، فقنا عذابَ النار، أي: جنبنا عذاب النار، وإنَّما يكون ذلك بعبادةِ الله وطاعته.


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات



عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في هذه الآيات، وأعلمنا أنَّه سبحانه:


1- له ملك السمواتِ والأرض، فليس لأحدٍ من ملكهما شيءٌ، وما يدَّعيه المشركون أنَّه آلهةٌ من دون الله تعالى هو في الحقيقة مخلوقٌ مملوك لله من الأصنام والأوثان والشمس والقمر وغيرها.


2- الله- تعالى- على كلِّ شيءٍ قدير، لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قولُه القولُ، وأمره الأمر.
3- وأعلمنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنَّ في خلق السموات والأرض آياتٌ لا تعدُّ ولا تحصى وكلها تدل على ربِّ العزَّة.


4- وأعلمنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنَّ أصحاب العقول، وهم أولو الألباب هم الذين يهتدون من خلال تفكرهم في السموات والأرض إلى أنَّ هذا الكون حقٌّ، وأن الله لم يخلق هذا الكون باطلًا، بل خلقه ربٌّ العباد لنعبده فيه، ولذلك يتوجهون إلى ربِّهم قائلين: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.


* * *
 
الموضع القرآني 17

اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة





نادى ربُّ العزَّة- تبارك وتعالى- الناس جميعًا في الآية الأولى من سورة النساء آمرًا إياهم أن يتقوا ربَّهم- تبارك وتعالى- وذلك بمخافته، وفعل ما أمرهم به، وترك ما نهاهم عنه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1].




ثم عرَّف الله- سبحانه- عباده بنفسِهِ، فقال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] قال الله تبارك وتعالى: الربُّ الذي أمرتكم بعبادته، هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ هي آدمُ عليه السَّلام، وخلق من آدم زوجه حواء، وبثَّ من آدم وحواء كلَّ البشر الذين خلقهم.




وقد بيَّن لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم كيف خلقت حواء من آدم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيرًا، فإنَّ المرأة خُلِقت من ضِلَع، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضِّلَعِ أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنِّساء» [البخاري: 3331. ومسلم: 1468].




وقوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} أعلمنا الله تعالى في هذه الآية أن جميع من خلقهم من الرجال والنساء المبثوثين في هذه الأرض هم من آدم وحواء.


* * *
 
الموضع القرآني 18

الله تعالى لا يغفر أن يشرك به




عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنَّه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116] وهذا النصُّ ورد في آيتين من سورة واحدةٍ هي سورة النساء.


والشركُ أن يعتقدَ الإنسانُ وجود آلهةٍ أخرى تستحقُّ العبادة مع الله، كالذين يعبدون الشمس والقمر والنجوم، أو يعبدون معه الأصنام والأوثان، أو يعبدون القبور من دون الله، أو الذين عبدوا عيسى أو العزَّيز، كلُّ هؤلاء ضالُّون مشركون، فالعبادة لله وحده، لا يستحقُّها أحدٌ من دون الله، وقد جاءت أحاديث كثيرةٌ تدلُّ على أنَّ مصير من مات على التوحيد الجنَّة، وإن لم يتب من الكبائر التي ارتكبها فمن ذلك:


1. ما رواه أبو ذرٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد قال: لا إله إلاَّ الله، ثمَّ مات على ذلك إلاَّ دخل الجنة» قال أبو ذرٍّ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» قلت: وإن زنى وأن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق». قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذرٍّ» [البخاري: 5827، ومسلم: 94].




2. وعن أبي ذرٍّ أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل، فقال: «من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنَّة» [البخاري: 2388، مسلم: 94].




3. وفي رواية عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم: «ذلك جبريل عليه السَّلام عرض لي في جانب الحرَّة، قال: بشر أمَّتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنَّة. قلت: يا جبريل، وإن سرق، وإن زنى؟ قال: نعم. قال: قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، وإن شرب الخمر» [البخاري: 6443، ومسلم: 94].




4. وعن جابر بن عبد الله، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ قال: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنَّة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النَّار» [مسلم: 93]. وهذه الآيةٌ صريحةٌ في أنَّ الذي لا يقبل الغفران هو الشرك، أما ما دونه من الزنا والسرقة والربا، إن لم يستحلَّها فهي إلى الله تعالى إن شاء عفا عن الذنب، وإن شاء عذب به، ثمَّ أخرجه من النَّار.




وختم الله- تعالى- الآية رقم (48) بقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} أي: من أشرك بالله تعالى فقد افترى على الله إثمًا عظيمًا، والافتراء أعظم الكذب، ولا أعظم كذبًا على الله من دعوى من ادَّعى أنَّ الله- سبحانه- شريك.




وقد أخبر الله- تبارك وتعالى- في خاتمةِ هذه الآية- الآية رقم (116)- أنَّ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] وإنِّما كان ضلال المشرك بعيدًا، لأنَّ الشِّرك أعظم أنواع الضلال، وأبعده عن الاستقامة والصلاح.




* * *
 
الموضع القرآني 19

جعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس




أولًا: تقديم


كان الله تعالى قد شرع فيما مضى على لسان نبيه إبراهيم وابنه النبيِّ إسماعيل تشريعات بقيت قائمة في الجزيرة العربية إلى بعثة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقد أقامت هذه التشريعات كثيرًا من مصالح العباد، وحفظت لهم نسبةً عاليةً من الأمن في الوقت الذي لم يكن للعرب فيه مَلِكٌ يقيم لهم الأمن كما هو الحال عند الأمم الأخرى، وهذا يدل على أنَّ الله- تعالى- عليمٌ بكل شيءٍ، ويشرِّع من التشريع ما يقيم به مصالح العباد، وكلُّ ما شرعه الله لرسولنا صلى الله عليه وسلم داخل في هذا الباب.




ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة المائدة


{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [ المائدة: 97- 99].

ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع من الآيات


الكعبة: هي البنية التي بناها نبيُّ الله إبراهيم وابنه إسماعيل، والتي يحجُّ الناس إليها في مكَّة، سمِّيت بذلك لأنها مربَّعة، وكلُّ بناءٍ مربعٍ عند العرب فهو كعبةٌ.


البيت الحرام: البيت الحرام الكعبة، سمِّيت بيتًا لأنَّ لها سقفًا وجدرًا.
وجعل الله الكعبة حرمًا، لأنه لا يجوز الاقتتال والعدوان عندها، ويحرم أن يصاد في الحرم، كما يحرم قطع شجره.


قيامًا للناس، أي: جعل الكعبة بما تحفظه من أمنٍ وما تقيمه من أمورهم الدينية مقيمةً لمصالحهم الدنيوية.


الشهر الحرام: المراد به جنس الشهر الحرام، والأشهر التي حرَّم الله تعالى القتال فيها أربعةٌ: رجب الذي بين جمادى وشعبان، وذو الحجة ذو القعدة، وشهر الله المحرم.


والهدي: ما يُهدى إلى الحرم من إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ.
والقلائد: الأكاليل التي كانت العرب تحيط به أنفسها أو أنعامها إذا ما أرادت حجَّة أو عمرة.




رابعًا: شرح هذا الموضع من الآيات


أنزل الله ربُّنا من التشريع على رسله وأنبيائه في مختلف الأزمنة والعصور ما يقيم مصالح العباد في هذه الحياة، وهذه التشريعات التي أنزلها سبحانه قائمة على العلم الذي يتصف به ربُّنا، فعلمه سبحانه محيطٌ بكلِّ شيءٍ في السموات وفي الأرض. وقد شرَّع الله تعالى للناس في الجزيرة العربية على لسان رسوله وخليله إبراهيم وابنه إسماعيل تشريعاتٍ تقيم مصالحهم الدينية والدنيوية.




وقد ذكر الله تعالى في قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ ...} الآية أنه شرع لهم أربعة أمور تقيم مصالحهم في الجزيرة العربية، فقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} [المائدة: 97].




وسميت الكعبة بهذا الاسم، لأنها مربعةٌ، فكل بيتٍ مربَّع فهو كعبةٌ، وسمَّاها بيتًا، لأنَّ لها سقفًا وجدرًا، والمراد بالكعبة هنا الحرم، وجعل الله الكعبة حرمًا، لأنه حرَّم أن يعتدي الإنسان أو يَقتصَّ من غيره في الحرم، وحرَّم أن تُصاد الطيور والحيوانات في الحرم، وحرَّم أن يُخْتَلى خلاه، أو يُعْضد شوكه.




{وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} المرادُ به جنس الشهر الحرام، والأشهر الحرم أربعةٌ، وهي: رجبٌ، الذي بين جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، وشهر الله المحرم، واحد فرد وثلاثة سردٌ، وهذه الأشهر الأربعة لا يجوز أن يبدأ المسلمون فيها الحرب والقتال.




{وَالْهَدْيَ} ما يُهدي للحرم من بهيمة الأنعام، وهي الإبل، والبقر، والغنم، {وَالْقَلَائِدَ} جمع قلادةٍ، والمراد بها ما كان يتقلَّده العُمَّار والحجَّاج من قلائد مصنوعةٍ من ورق الشَّجر أو غيره.




وقد جعل الله تعالى الأربعة المذكورة في الآية، وهي البيت الحرام، والشهر الحرام، والهدي، والقلائد، قياماً للناس، أي جعلها مصالح تقيمُ لهم أمورهم الدينية والدنيوية في الجزيرة العربية منذ عهد إبراهيم عليه السَّلام حتى مجيء رسولنا صلى الله عليه وسلم، فأبقى الأمر على ما كان مشروعًا من عهد إبراهيم. ووجه كونها قيامًا للناس أنَّ العرب في الجزيرة العربية لم يكن لديها ملكٌ أو حاكمٌ يحجز قويَّهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم، فصيَّر الله الكعبة، والشهر الحرام، والهدي والقلائد بمثابة الحاكم أو الملك الذي يطيعه الناس، ويلتزمون بأمره، فالعرب في جاهليتها كانت تعظِّم الحرم، ومن ذلك أنَّ الرجل كان يلقى قاتل أبيه في الحرم، فلا يهيِّجه، ولا يؤذيه، قال الطبريُّ بعد أن نقل كلام أهل العلم في تفسير الآية الكريمة: «وهذه الأقوال وإن اختلفت من قائليها وألفاظها، فإنَّ معانيها آيلة إلى ما قلنا في ذلك من أنَّ القوام للشيء هو الذي به صلاحه، كما الملك الأعظم قوام رعيته ومن في سلطانه، لأنه مدبِّر أمرهم وحاجز ظالمهم عن مظلومهم، والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم.




وكذلك كانت الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قوام أمر العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية، وهي في الإسلام لأهله معالم حجهم ومناسكهم ومتوجَّهِهِم لصلاتهم وقبلتهم التي باستقبالها يتم فرضهم».




ونقل عن قتادة أنه قال: «{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية: فكان الرجلُ لو جرَّ كلَّ جريرةٍ ثم لجأ إلى الحرام لم يتناول ولم يقرب، وكان الرجلُ، لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجلُ إذا أراد البيت تقلد قلادةٍ من شعر، فأحمته ومنعته من الناس، وكان إذا نفر تقلَّد قلادةً من الإذخر أو من لحاء السَّمر، فمنعته من الناس حتى يأتي أهله، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية».




وعن ابن زيد قال: «{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} قال: كان الناس كلهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعضٍ، قال: ولم يكن في العرب ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعضٍ، فجعل الله تعالى ذكره لهم البيت الحرام قيامًا يدفع بعضهم عن بعضٍ به، والشهر الحرام كذلك، يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم والقلائد، قال: ويلقى الرجلُ قاتل أبيه أو ابن عمه فلا يعرض له» [الطبري: 4/ 3056].




وأخبرنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنَّه تعالى إنما شرَّع هذه الشريعة في جعله هذه الأربعة قواماً للناس ليعلم الناس أنَّ الله تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض، وأنَّه بكلِّ شيءٍ عليم.




إنَّ الذين ينظرون في أسرار التشريع ويعلمون بدائعه وحكمه، يعلمون موقنين أنَّ الذي شَرَعَ هذه التشريعات عليم بكلِّ شيءٍ، ولو لم يكن عليمًا لم يستطع أن يُشرِّع مثل هذا التشريع.




وقال ابن جرير الطبريُّ في قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98] «اعلموا أيها الناس أنَّ ربكم يعلم ما في السموات وما في الأرض، ولا يخفى عليه شيءٌ من سرائر أعمالكم وعلانيتها، وهو يحصيها عليكم ليجازيكم بها، شديدٌ عقابه من عصاه، وتمرَّد عليه، على معصيته إيَّاه. {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98] وهو غفور لذنوب من أطاعه وأناب إليه، فساترٌ عليه، وتاركٌ فضيحته بها، رحيمٌ به أن يعاقبه على ما سلف من ذنوبه بعد إنابته وتوبته منها» [الطبري: 4/ 3057].






وهذه الآية تدلُّ على أنَّه يجب على كلِّ عبدٍ مؤمنٍ أن يعلم يقينًا أنَّ الله شديد العقاب وأنه غفورٌ رحيمٌ سبحانه.




خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- بنفسه في هذه الآيات


عرَّفنا ربُّنا العزيزُ الكريم أنَّه سبحانه وتعالى:
1- جعل الكعبة والأشهر الحرم والهدي والقلائد لتقيم مصالح الناس في الجزيرة العربية، شرعها على لسان نبيه إبراهيم وابنه إسماعيل، وبقي العرب ملتزمين بها عبر تاريخهم إلى أن بُعث رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقامت هذه التشريعات مقام المَلِك الضائع المفقود في الجزيرة العربية.




2- هذا التشريع ومثله جميع التشريعات التي شرعها ربُّ العزَّة سبحانه قائمةٌ على علم الله الواسع الكبير، فالجاهل لا يستطيع أن يُشرِّع التشريعات المحكمة الصحيحة.




3- أمرنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أن نعلم أنَّه شديد العقاب لمن أشرك وكفر به، وأنَّه غفورٌ رحيم لمن أطاعه وآمن به وتاب إليه.




4- عرَّفنا ربُّنا- سبحانه- أنه يعلم بما نظهره ونبديه، كما يعلم ما نبطنه ونخفيه، كلُّ ذلك في علمه سواء.
* * *
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top