إنعكاسات المشروع الإمبراطوري الأمريكي على المنطقة العربية

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

ريم الرياشي

:: عضو مُتميز ::
إنضم
9 ماي 2009
المشاركات
877
نقاط التفاعل
1
النقاط
16
قراءة في إنعكاسات المشروع الإمبراطوري الأمريكي على المنطقة العربية


د. منذر سليمان*:


01/ 12/ 2009


1 - أمريكا: نعم إنّها إمبراطورية ولكن بالقواعد والوكلاء:

في أبرز خطاب رئاسي أمريكي موجه خصيصاً للعرب والمسلمين أورد أوباما فقرة لم يتم تسليط الضوء الكافي عليها أو تفكيكها، لأنها جاءت في سياق الإنبهار بخطاب مرن غير معتاد من قبل أسلافه نثر فيه بإتقان وإختيار مدروسين آيات من القرآن الكريم، وغلّف العبارة بإعلان غير مسبوق زاعماً فيه "إنه يعتبر التصدي للإساءة إلى الإسلام جزءاً من مسؤوليته." والعبارة المقصودة هنا حسب الترجمة التي وزعها البيت الأبيض والخارجية : "وأرى في ذلك من مسؤوليتي كرئيس للولايات المتحدة حتى أتصدى للصور النمطية السلبية عن الإسلام أينما ظهرت (تصفيق)، ولكن نفس المبدأ يجب ان ينطبق على صورة أمريكا لدى المسليمن (تصفيق)، ومثلما لا ينطبق على المسلمين الصورة النمطية البدائية، فإن الصورة النمطية البدائية للإمبراطورية التي لا تهتم إلا بمصالح نفسها لا تنطبق على أمريكا"1.



monzersuliman.jpg


في تقديري يتوجب تصويب تلك الترجمة ويهمني هنا الجزء المتعلق بموضوع الإمبراطورية. فالأدق والأصح أن تترجم على النحو التالي "ومثلما لا تنطبق على المسلمين تلك الصورة المشوهة التي لا تتبدل فهي لا تنطبق على إعتبار أمريكا إمبراطورية، همها الوحيد الدفاع عن مصالحها الذاتية"... للوهلة الأولى يبدو أوباما محامياً بارعاً وجريئاً في إشارته إلى الإستهداف السلبي المشوّه للإسلام والمسلمين وحرّك مشاعر مستمعيه الذين صفقوا له، لكنه حاول تكريس معادلة لا تستقيم في الواقع أو التجربة العملية حيث ساوى بين الصورة المشوهة التي لا تتبدل عن الإسلام وأمريكا. والأدهى في مطالعته هو محاولة تمرير الإيحاء بإنكار حقيقة أن الولايات المتحدة هي امبراطورية جاعلاً الوصف في موقع الإتهام المغرض وصولاً إلى تقديم أمريكا كضحية للصورة المشوّهة المضاعفة في سلبيتها، أي أن أمريكا مظلومة عندما تتهم بأنها إمبراطورية ومظلومة أيضا عندما تتهم بأنها مهتمة فقط بالدفاع عن مصالحها الذاتية.

يبدو أوباما هنا منسجما مع العديد من المفكرين والسياسيين الأمريكيين المحسوبين على مدارس التفكير الإستراتيجي المختلفة المناصرين لإستخدام القوة الأمريكية (التدخلية المنفردة، التدخلية الإنتقائية بالشراكة وصولاً إلى المدرسة الجديدة مدرسة القوة الذكية) يتحاشون أو على الأصح لا يستسيغون توصيف أمريكا بالإمبراطورية، لأن ذلك يستتبع الإعتراف بأن لديها مشروع إمبراطوري، رغم حرص الجميع على تأكيد الدور القيادي المتفوق والمهمين للولايات المتحدة على المسرح الدولي وتقديمه كحاجة لا يمكن للعالم الإستغناء عنه. ربما يخشى أوباما أن يلتصق بأمريكا ما علق بالإمبراطوريات الكلاسيكية السابقة (إمبراطوريات الإستعمار المباشر) من إرث شديد السلبية قائم على السلب والنهب والقتل والدمار في الذاكرة الجماعية للخبرة الإنسانية .... صحيح أن أمريكا غير مثقلة بإرث إستعماري مستدام مشابه مثلاً للإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، إلا أنها ليست إمبراطورية خفية تماماً فهي إمبراطورية تستند إلى القواعد والوكلاء الإقليميين. إمبراطورية قال عنها الكاتب والناقد الأمريكي لورانس فانس إنها ستجعل كل من تربع على عرش الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، من الإسكندر والقيصر وأغسطس وجنيكز خان والسلطان سليمان والأمبراطور جوستنيان وكذلك الملك جورج الخامس فخوراً وحاسداً2. ما يميز الهمينة الأمريكية ويجعلها فريدة في التاريخ، ليس سيطرتها المباشرة على أجزاء مترامية من الكرة الأرضية أو تجمعاتها السكانية الكبرى، بل إنتشارها ونفوذها الكوني غير المسبوق في التاريخ. لنلقي نظرة سريعة على بعض الأرقام والإحصائيات3:

* يتمركز حالياً أكثر من نصف مليون جندي في أرجاء المعمورة بما فيهم مئتي الف جندي في إحتلال مباشر للعراق وأفغانستان.
* يتبع للبنتاغون في أمريكا والعالم أكثر من 545.700 منشأة ومبنى موزعة على 5.400 موقع، مساحتها 40 مليون هكتار قيمتها تقدر بحوالي 400 مليار دولار. كما يدير البتناغون حوإلى30 مليون هكتار حول العالم.
* هناك أكثر من 700 قاعدة عسكرية موزعة على 63 بلد في العالم وبعض الإحصائيات التي تداولتها الصحافة الألكترونية الأمريكية ترفع هذا الرقم إلى حوالي الألف قاعدة.
* تنخرط الولايات المتحدة في إتفاقيات أمنية ثنائية في أكثر من 35 دولة ولها تواجد عسكري تحت مسميات مختلفة (تدريب وحماية أو تموين) في أكثر من 156 دولة في العالم. وهذا يعني أن نفوذ القوات الأمريكية يطال حوالي 75% من دول العالم.
* بالاضافة إلى تعداد قواتها العسكرية المكونة من مليون ومئة الف جندي، هناك أكثر من 700 الف موظف مدني تابع للبنتاغون دون إحتساب المتعاقدين والمرتزقة من الشركات الأمنية واللوجستية الخاصة، يصل عددهم حالياً إلى حوالي 150 ألف عنصر.
* وفقا لروبرت هيغز الإقتصادي والمؤرخ الأمريكي، تنفق الولايات المتحدة عملياً على الدفاع ما يقارب 1 تريليون دولار أي ما يعادل نصف الانفاق العسكري لدول العالم4.
* تسيطر الولايات المتحدة بانتشار أساطيلها البحرية على معظم الممرات المائية في العالم وخطوط الملاحة، وقسمت الكرة الأرضية الى 6 مناطق جغرافية، تخضع كل منها لقيادة عسكرية خاصة بها مزودة بالسفن الحربية والطائرات العاملة في منطقة مسؤولياتها. وتتوزع جغرافيا على النحو التالي:-

o القيادة الأوروبية.

o قيادة المحيط الهادئ.
o قيادة أمريكا الشمالية.
o القيادة المركزية أو الوسطى.
o قيادة أمريكا الجنوبية.
o قيادة إفريقيا (وهي قيادة شكلت حديثاً) هذا بالإضافة إلى مستويات قيادية عسكرية أخرى مساندة وأبرزها:-

o القيادة الإستراتيجية.
o القيادة المشتركة للقوات.
o قيادة العمليات الخاصة.
o قيادة النقل والتموين.
o قيادة الدفاع الجوي لأمريكا الشمالية والفضاء.

بالطبع لا يجوز النظر إلى الذراع العسكرية الطويلة للولايات المتحدة باعتبارها العنصر الوحيد الذي استندت إليه في مشروعها الإمبراطوري الكوني. فقاعدتها الإقتصادية المتينة، بعد الحرب العالمية الثانية حيث كانت مسؤولة عن حوالي 57% من الإنتاج العالمي، مضافاً إلى إعتماد عملة الدولار كأساس التبادل في النظام النقدي العالمي، مع ترسيخ الإنطباع بثبات وإستقرار نموذجها الإقتصادي للنظام الرأسمالي العالمي الجاذب للودائع والإستثمارات الآمنة، وساعدها أيضا سيطرتها على وسائل الاعلام الحديثة لترويج ادعائها المتفوق لتجربتها الديمقراطية (التي تمجد الحرية والمبادرة الفردية والحقوق الأساسية للفرد)، وإنتشار سلعها وإبتكاراتها ونمط معيشتها الإستهلاكي الجذاب، عدا عن إنفتاحها لإستقبال هجرة اليد العاملة الاحترافية، وسمعة جامعاتها المرموقة، وصولاً إلى مطاعم الوجبات السريعة .... بعبارة أخرى قدمت أمريكا صورتها للعالم بأنها بلد الفرصة السانحة لجني الثروة وتحقيق الحلم الإنساني بالتقدم والنجاح الفردي.

استطاعت أمريكا أن تقدم للعالم صورة جذابة عن الداخل الأمريكي، رغم فيض المشكلات الإجتماعية والفروقات الطبقية وأشكال التمييز العنصري والديني والطبقي التي تموج تحت السطح البراق الموضّب. ساعد النخبة الحاكمة في تعزيز مشروعها الإمبراطوري في الخارج إنعزال أمريكا الجغرافي كمحمية طبيعية، وإنهماك شعبها في دورة إقتصادية معيشية إستهلاكية مرفهّة قياساً ببقية العالم، بعيداً عن الإنخراط في هموم السياسة أو المحاسبة ، إلآّ حين ترتد مغامرات النخبة الحاكمة العسكرية إلى الداخل عندما تصبح كلفتها البشرية والمادية فوق طاقة الإحتمال، أو عرضة للإنكشاف رغم عمليات التمويه والخداع.

2 - ثوابت المشروع الأمريكي وأهدافه في الوطن العربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية

غالباً ما يفسِّر أقطاب النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة دوافع الإنخراط الأمريكي في الشؤون الدولية، وخاصة تدخلاتهم العسكرية في الوطن العربي، انه من أجل حماية المصالح الحيوية للأمن القومي الأمريكي ؛ ومن وقت لآخر يضيفون انه من أجل حماية نمط الحياة الأمريكية ، الأمر الذي وصل بوزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيم بيكر، خلال عهد الرئيس بوش الأب، أن يبرر الحرب على العراق انها من أجل إخراج القوات العراقية من الكويت عام 1991. بالطبع هناك مبالغة في هذا التبرير، ولكنه يعكس حقيقة الموقع المركزي لمخزونات النفط وضمان تدفقه باسعار رخيصة - في منطقتنا التي تحوي ما يقارب ثلثي إحتياطي النفط العالمي . فالنفط يشكل العجلة التي تسيِّر الاقتصاد العالمي، وتستهلك الولايات المتحدة بمفردها ربع الإنتاج العالمي، رغم أن تعداد سكانها لا يتجاوز 5% من سكان العالم . هذا نموذج الإستهلاك الأمريكي المفرط الذي هو أحد مظاهر رفاهية العيش الأمريكي على حساب بقية شعوب العالم.

إن إلقاء نظرة فاحصة وسريعة على ما يمكن وصفه بالأطوار أو المراحل التاريخية الثلاثة للمشروع الإمبراطوري الأمريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يبين لنا أن الأهداف الثابتة لهذا المشروع في الوطن العربي تتخلص بما يلي :-

1. السيطرة المطلقة على مخزونات الطاقة والتحكم بعملية الإنتاج وتحديد الأسعار وحماية طرق الإمداد.
2. احتواء النفوذ السوفياتي أو المد الشيوعي خلال مرحلة الحرب الباردة والحيلولة دون بروز نفوذ دولي وإقليمي منافس لهيمنة الولايات المتحدة.
3. حماية الكيان الصهيوني وضمان أمنه وتعزيز دوره الوظيفي في خدمة المصالح الأمريكية، والحرص على إبقاء تفوقه العسكري النوعي.
4. ضمان ولاء وتبعية النظام الرسمي العربي وحمايتة من أي تهديد لبقائه.
5. إقامة قواعد عسكرية وتسهيلات تضمن الإستخدام اللوجستي في الإستراتيجية الإقليمية والكونية للولايات المتحدة.
6. تهميش دور مؤسسات العمل الإقليمي المشترك أو أية ترتيبات أمنية أو إتحاد أو تعاون إقليمي إلا اذا كانت بمبادرة أو رعاية أمريكية ولخدمة أهدافها.
7. في الطور الثالث والأخير، أي مرحلة ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، تم إضافة أهداف جديدة :

o محاربة ما يسمى بالإرهاب والتطرف الإسلامي.

o التهديد والتلويح بمشاريع الإصلاح والتغيير ونشر الديمقراطية كوسيلة ضغط وإبتزاز للنظام الرسمي العربي.
o حرمان الدول العربية وإيران ومنعها من تطوير البرامج النووية كذريعة للتدخل العسكري تحت عنوان الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل.

وتبدو مقاربة النخبة الحاكمة بجناحيها (الديمقراطي والجمهوري) للمنطقة محط إجماع على الأهداف مع تنوع في أساليب التنفيذ.

3 - الأطوار أو المراحل الثلاثة للمشروع الأمريكي:

يمكن تقسيم مراحل المشروع الإمبراطوري وانعكاساته على المنطقة العربية بثلاثة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية:

1. مرحلة الحرب البادرة حتى إنهيار الإتحاد السوفياتي :

إنتقلت الولايات المتحدة تدريجيا من الإعتماد على بريطانيا للقيام بدور الشرطي في الوطن العربي إلى لاعب رئيسي بعد الإنسحاب البريطاني شبه الكامل من المنطقة عام 1971. تخلل هذه المرحلة تنسيق بريطاني – أمريكي ميداني مشترك لمواجهة ما أعتُبر تهديداً من موسكو بالتمدد إلى المنطقة، اعتمدت فيه واشنطن سياسة الإحتواء والردع، التي طرحها جورج كينان، ومارست استعراض قوتها البحرية في المتوسط عام 1946 لمواجهة الضغوط السوفياتية على تركيا، بالإضافة إلى إقامة قاعدة بحرية دائمة للأسطول الأمريكي في البحرين. وعملت على تشكيل وتشجيع الأحلاف الإقليمية مثل حلف بغداد (الذي ضم كل من تركيا، والعراق، والباكستان، وإيران بالإضافة إلى بريطانيا)، وسعت كذلك لتطويع واحتواء ثورة يوليو عام 1952 في مصر. وانتقلت للإطاحة بنظام عبد الناصر ومجابهة مشروعه الوحدوي والنهضوي على امتداد رقعة الوطن العربي منذ تدخلها في لبنان عام 1958، وصولاً إلى حرب عام 1967. وخلال تلك الحقبة ساهمت أيضا في تدبير الإطاحة بنظام مصدق الوطني في إيران عام 1953، وإعادة تشكيل حلف السينتو بعد انسحاب العراق من حلف بغداد عام 1959، وابرمت اتفاقات ثنائية مع أعضائه مقرونة بتقديم الدعم العسكري والمادي لها. وجرت محاولات ضم الأردن إلى الحلف ولكن المعارضة الوطنية الداخلية المتصاعدة أفشلتها. ومع تغير ملامح المشروع الأمريكي في حرب فتينام حاول نيكسون إيجاد مخرج تحت ستار الفتنمة (Vietnamization)، وطوّر مبدأه القائل بتقديم الدعم والعون العسكري لحلفاء الولايات المتحدة وتوفير مظلة الحماية لهم شرط أن يوفروا القوة البشرية اللازمة لحماية أنظمتهم. وتركز دعم نيكسون في المنطقة بالدرجة الأولى على السعودية وإيران لصلتهما المباشرة بمخزون النفط، وتحولت السعودية سريعا إلى الممول الرئيسي لنشاط الولايات المتحدة في الهيمنة على المنطقة، بينما أوكل إلى إيران الشاه تولي مهمة شرطي الخليح. وشكل الغزو السوفياتي لأفغانستان ونجاج الثورة الإيرانية بقيادة الخميني محطة أساسية في تعديل عناصر المشروع الأمريكي، خاصة بعد نشوب أزمة احتجاز الرهائن الأمريكيين في السفارة الأمريكية في طهران. وأعلن الرئيس كارتر مبدأه الشهير في عام 19805 مفاده "إن أية محاولة من قبل قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج ستعتبر اعتداءاً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة وستجابه بكل الوسائل المتاحة بما فيها القوة العسكرية". وتم تشكيل قوات التدخل السريع آنذاك التي تحولت فيما بعد إلى القيادة المركزية (أو الوسطى) لتشمل منطقة عملياتها مساحة جغراقية تمتد من الباكستان إلى مصر. واستطاع كارتر إبرام اتفاقيات كامب دايفيد بين مصر والكيان الصهيوني التي أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي – الصهيوني، وشجعت واشنطن نظام الرئيس الراحل صدام حسين على مجابهة نية النظام الثوري الجديد في طهران للتمدد الاقليمي في حرب استنزفت مقدرات البلدين البشرية والإقتصادية وأضعفتهما، كما وأسهمت في إبعاد العراق عن لعب دور العمق الإستراتيجي لدعم دول المواجهة مع الكيان الصهيوني وخاصة سوريا. وشكلت الحرب العراقية – الإيرانية ومضاعفاتها التي امتدت لثماني سنوات أحد الحوافز الأساسية لإستدراج النظام العراقي لإجتياح الكويت للتعويض عن خسائره المادية البالغة في الحرب مع إيران، ولمواجهة حالة الحصار والتطويق التي عادت الولايات المتحدة لممارستها على العراق للحيلولة دون تمكينه من إعادة البناء أو التحول إلى قوة إقليمية وازنة. وشكلت مغامرة اجتياح الكويت من قبل النظام العراقي والرد الأمريكي بالتدخل السريع لإخراج القوات العراقية، مؤشراً على ترسيخ مفهوم نهاية الحرب الباردة، وعلامة فارقة على إنحسار النفوذ السوفياتي الذي عجز عن لعب دور في لجم الإندفاع الأمريكي، أو إيجاد مخرج للعراق يحفظ له هامشاً للمناورة، أو يثبت للإتحاد السوفيتي دوراً في حماية نفوذه مع حلفائه في العالم العربي. وبذلك تكون حرب الخليج الثانية أو ما أطلق عليه حرب "تحرير الكويت،" الإعلان الأوضح عن انتهاء حقبة الحرب الباردة والدخول في مرحلة زعامة القطب الأمريكي المتفرد للنظام الدولي (يعتبر بعض المراقبين أن سقوط جدار برلين شكل محطة فاصلة لنهاية تلك المرحلة). في المجمل، يمكن توصيف مرحلة الحرب الباردة أنها مرحلة إعتماد المشروع الأمريكي بصورة أساسية على أدوار وظيفية مرسومة للدول الإقليمية، وخاصة الكيان الصهيوني ونظام الشاه حتى إنهياره وأنظمة التبعية الرسمية العربية وفي مقدمتها السعودية ومصر بعد دخولها في إتفاقيات كامب دايفيد وإرتهانها للمعونة الأمريكية. وفي نفس الوقت عززت واشنطن إنتشارها العسكري عبر إقامة قواعد والحصول على تسهيلات مختلفة على إمتداد الوطن العربي وخاصة في منطقة الخليج وصولاً إلى تدخلها العسكري المباشر في حرب "تحرير الكويت".

يتبع
 
2. مرحلة ما بعد الحرب الباردة حتى هجمات 11 سبتمبر/ايلول 2001.

تميزت هذه المرحلة بلجوء الولايات المتحدة إلى المزج بين نزعة التدخل العسكري وإستراتيجية الإحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران، وخاصة خلال عهد الرئيس كلينتون، واستمرت في ممارسة سياسة الضغط والحصار والعقوبات والتلويح بالتدخل العسكري. وشهدت تلك الحقبة تدخلاً عسكرياً في الصومال (بين عامي 1992 و 1994) بالإضافة إلى توجيه ضربات جوية وصاروخية ضد العراق (في الأعوام 1993، 1996، 1998)، وهجوم صاروخي وجوي عام 1998 على افغانستان والسودان بإستهداف مواقع ومنشآت اقتصادية زعمت إدارة كلينتون أنها تابعة لتنظيم القاعدة. ولكن إدارة كلينتون حاولت تسويق إستراتيجية كونية تعتمد على ضمان الأمن الإقتصادي وتسخير التفوق العسكري والتقني للولايات المتحدة لخدمة هذه الإستراتيجية.

ج- مرحلة ما بعد هجمات 11/9 /2001 حتى الآن:

شكلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ايلول 2001 منصة لانعطافة جديدة في المشروع الإمبراطوري الأمريكي، وسرعة في وتيرة إنجاز مخطط "المشروع الأمريكي للقرن الجديد"6 الذي لم تستطيع رموز ما يسمى بالمحافظين الجدد، مثل وولفويتر وتشيني، من وضعه موضع التنفيذ. وخلاصة المشروع أن يتم استخدام فائض القوة العسكرية والتقنية للولايات المتحدة لصياغة نظام عالمي جديد تتفرد فيه الولايات المتحدة على عرش النظام الدولي إلى أقصى مدة ممكنة عبر التحكم بمصادرة مخزونات الطاقة، والحيلولة دون تمكين أي دولة أخرى من منافسة الولايات المتحدة عسكرياً وإقتصادياً.

وجاءت هجمات الحادي عشر من ايلول/سبتمبر لتوفر الفرصة والمبرر لإعادة رسم خريطة المنطقة بما يضمن هذه الأهداف، ويحقق بوليصة التأمين المستدامة لأمن وبقاء الكيان الصيهوني وإزاحة أي خطر كامن يهدده. ومن اللحظة الأولى لم تنشغل إدارة بوش الإبن بالإعداد لضربة إنتقامية ثأرية، لما إعتبرته حاضنة الإرهاب لتنظيم القاعدة في أفغانستان فقط، وباشرت في عملية الأعداد لغزو العراق تحت ذريعة تطويره لأسحلة الدمار الشامل وتعامله مع تنظيم القاعدة.

وساهمت هجمات 11 سبتمبر/ايلول في إعادة صياغة إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية7، لتوسع من نطاق تفسير مفهوم الدفاع عن النفس ضد الأخطار المحتملة، وصولاً إلى صياغة ما عرف لاحقاً بـ "مبدأ بوش" الرامي إلى منح الولايات المتحدة حق شن الحروب الاستباقية، على ما يمكن إعتباره خطراً قادماً محتملاً وإن لم يكن وشيكاً أو فعلياً. ووفق ذلك، يكفي أن تتهم أية دولة عاصية على طاعة الولايات المتحدة بأنها تعمل على تطوير أسلحة الدمار الشامل لتكون عرضة للغزو العسكري والتدمير وتغيير النظام. وإنتشرت مقولات "من ليس معنا فهو ضدنا، ولن ننتظر حتى نهاجم داخل أراضي الولايات المتحدة كي نتحرك بل علينا نقل المعركة إلى أراضي الخصم". ولم تكشف الوقائع اللاحقة لغزو العراق زيف وبطلان كل الادعاءات حول تطوير العراق أو إمتلاكه لأسلحة الدمار الشامل فقط، بل تبين أن نائب الرئيس تشيني كان قد ناقش في إجتماع خاص مع مسؤولي شركات النفط الأمريكية خرائط ومخططات ذات صلة بالسيطرة على إحتياطي النفط العراقي قبل هجمات سبتمبر8. وحتى اللحظة لم يتم الكشف عن طبيعة هذه المداولات بحجة الحفاظ على السرية وعلى مصالح الأمن القومي الأمريكي.

إختارت إدارة بوش الإبن الإنتقال إلى الإستراتيجية الهجومية لبسط سيطرتها الكونية ولم تتورع عن غزو وإحتلال بلدين إسلاميين، العراق وأفغانستان، لشعورها أنها ستتحرك دون رداع أو منافس في المسرح العربي- الإسلامي. ولولا نجاح قوى المقاومة ( في العراق وافغانستان ولبنان وفلسطين) في عرقلة خططها وإرغامها الدخول في حرب استنزاف مكلفة، في الميدانين العراقي والافغاني تحديدا لما توقفت في إندفاعها عند حدود العراق وأفغانستان .

4. تعثر المشروع عسكريا أفضى إلى طرح مبادرات سياسية موازية

من خلال ما تقدم، سعت الولايات المتحدة وبوتائر مختلفة لتثبيت نفوذها بوسائل أخرى غير التدخل العسكري المباشر. وأبرز تلك المحاولات سعيها لفرض تسويات منفردة للصراع العربي – الصهيوني، وجذب فائض العائدات النفطية للدول العربية لاقتصادها، وتشجيع عمليات الخصصة وإحداث إصلاحات اقتصادية مغايرة لاحتياجات شعوب المنطقة، وإبرام اتفاقيات مناطق التجارة الحرة مع العديد من الدول العربية، كمغريات لتسهيل وتيرة التبعية والإلحاق، وتقديم المعونات السخية للمنظمات غير الحكومية (تحت ستار نشر ثقافة الديمقراطية والحكم الصالح الرشيد وحقوق الإنسان، وتمكين المرأة،) واختراق العديد من الوسائل الإعلامية العربية. إضافة إلى تجنيد كتائب من الكتاب والمثقفين العرب لترويج ما أطلق عليه ثقافة السلام والإعتدال، اذ وصل الأمر إلى محاولة تشجيع مراكز الأبحاث الأمريكية التعاون مع مثقفين ليبراليين عرب ومسلمين في الترويح لما يمكن وصفه بطبعة جديدة منقحة ومعتدلة للإسلام وللمناهج التعليمية العربية. ولكن إدارة بوش الإبن (التي روجت لاحتلالها العراق بأنه سيمكنها من تقديم نموذج يحتذى للتخلص من الانظمة الاستبدادية وبناء التجربة الديمقراطية الرائدة،) اصطدمت في عجزها عن تقديم نظام بديل مقنع، ولم تتمكن رغم تطبيلها وتزميرها لإجراء الإنتخابات تحت حراب الإحتلال من إفراز نظام مستقر لا ينخره الفساد والرشوة والمحاصصة الطائفية والعرقية، عدا عن عدم القدرة على تلبية الحاجات الأساسية. وتوالت فضائح التعذيب في معسكرات الاعتقال، في غوانتامو وأبوغريب، لتنسف أية أوهام علقت بذهن البعض حول النموذج الديمقراطي الذي تحاول الولايات المتحدة فرضه.

ومع تعثر مشروعها ميدانيا واشتداد ضربات المقاومة لقواتها المحتلة، وبداية تذمر حلفائها الأوروبيين والعرب معاً من حصاد المغامرة العراقية البائسة، وتوجيه الاتهامات لها بأنها لا تهتم إلا بالسيطرة على مقدرات العراق النفطية، توجهت مرغمة نحو إطلاق مبادرة الشرق الأوسط الكبير التي عدلتها لاحقاً وأضحت "مبادرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" أو الشرق الأوسع9 للتغطية على فشلها وإظهار جديتها في السعي لإحداث تغييرات جوهرية في المسرح العربي – الاسلامي.

يمكن إعتبار إطلاق هذه المبادرة الجديدة أول تعبير صريح من إدارة أمريكية عن عزمها على طرح مشروع للإصلاح والتغيير في منطقة الوطن العربي. وجاء خطاب الرئيس بوش الإبن في نوفمبر 2003 عبر مؤسسة "الوقفية الوطنية من أجل الديمقراطية،" التي يحتضنها مركز "أمريكان أنتربرايز" المحافظ، مؤشراً على طرح ما أسماه "إستراتيجية التقدم نحو الحرية في الشرق الأوسط."10 وذكّر مستمعيه بأن هذه المبادرة تحاكي ما أقدمت عليه الولايات المتحدة في هلسينكي عام 1975 لتشجيع الإصلاحات الديمقراطية في أوروبا الشرقية. وأعترف بوش أن الولايات المتحدة لم تكن جادة في المضي بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط مشيراً إلى"أن ستين عاماً من تقديم الغرب للتبريرات أو التغاضي عن غياب الديمقراطية لم يجعلنا أكثر أماناً، لانه في المحصلة النهائية لا يمكن شراء الإستقرار على حساب الحرية"11. هذه اللهجة الجديدة عكست إعترافاً ضمنيا بأن المبادرة التي أطلقها كولن باول وزير الخارجية آنذاك، في ديسمبر 2002 بعنوان "مبادرة الشراكة الشرق أوسطية"12 لتشجيع برامج الإصلاح في الدول العربية لم تؤد الغرض المطلوب. ورمت المبادرة التي طرحت في فبراير 2003 (أو مبادرة منطقة التجارة الحرة الشرق أوسطية- الأمريكية) إلى الإيعاز بتحقيق جملة أهداف منها: تعزيز دور المجتمع المدني؛ اتخاذ مبادرات للاستثمار في مشاريع اقتصادية؛ توسيع قاعدة المشاركة السياسية؛ وتعزيز حقوق المرأة.13 لكنها أيضا عكست قناعة أيديولوجية لفريق المتشددين من المحافظين الجدد، الذين طالما روّجوا لضرورة اعتماد مبدأ تغيير الأنظمة بكل السبل الممكنة وخاصة القوة العسكرية، للبدء بتقديم مبررات جديدة للشعب الأمريكي عقب تنامي قلقه وتشكيكه بالأهداف المعلنة للغزو الأمريكي للعراق، للإقلاع عن ذريعة أسلحة الدمار الشامل واعتبار نشر الحرية والديمقراطية في العالمين العربي والاسلامي هدف حيوي ضروري لتعزيز الأمن القومي الأمريكي، وأن نشر الديمقراطية في المنطقة هو الطريق الوحيد للقضاء على الأرهاب والتطرف.14

يمكننا تسجيل عدة عوامل رئيسية كامنة وراء مبادرة بوش الجديدة للإصلاح والتغيير في المنطقة:

1. الفشل الميداني لقوات الإحتلال وإشتداد عود المقاومة العراقية وانهيار شعبية الرئيس داخليا أسهم في دفع الإدارة لاتخاذ خطوات ترمي إلى وقف الانحدار المتعاظم في تأييد الشعب الأمريكي لإحتلال العراق (خاصة بعد انكشاف زيف إدعاءات إمتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل أو لعلاقته بهجمات الحادي عشر من سبتمبر.) لذلك اعتقد بوش أنه وجد ضالته بإستخدام نغمة نشر الحرية والديمقراطية لأنها ستكون أكثر قبولاً لدى الشعب الأمريكي.
2. حاجته للتلويح بفزاعة التغيير لأنظمة التبعية الرسمية العربية لكي تخضع أكثر للتعاون والتنسيق ولعب الدور الوظيفي المطلوب في حربه الكونية على الإرهاب المتجسد بالتطرف الإسلامي حسب رأيه.
3. توظيف النهج الجديد في ممارسة التهديد والضغط على الدول العصية على الطاعة الأمريكية، والمحسوبة في معسكر المقاومة للمشروع الأمريكي (مثل سوريا وإيران)، بغية تعديل سلوكها وتقديم حوافز اقتصادية وسياسية ومعنوية لها ورفع العقوبات عنها، أو ستكون عرضة للتغيير مثل شقيقاتها في "معسكر الاعتدال".
4. التجاوب مع الرغبات الأوروبية بمعالجة هواجسها الأمنية من تفاقم الهجرة غير القانونية من البلاد العربية والإسلامية إلى أراضيها، ودرءا لتنامي ما تعتبره خطر إنتشار التطرف الإسلامي ونهج تنظيم القاعدة في صفوف الجاليات العربية والاسلامية المقيمة هناك. وقامت أوروبا بإطلاق مبادرة الشراكة الأوروبية –المتوسطية في عام 1995، والمعروفة "بعملية برشلونة للتعاون،"15 نموذجاً لما يجب أن تسلكه الولايات المتحدة. وهدفت عملية برشلونه إلى مقاربة أوروبية موحدة لتعزيز الإستقرار والنمو الإقتصادي في "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا،" تشتمل على تقديم برامج المساعدات التنموية، وتحرير التجارة، وتشجيع القيام بالإصلاحات السياسية واحترام حقوق الإنسان وتوسيع التبادل الثقافي. بالإضافة إلى الدور الأوروبي في تشجيع المضي بما يسمى عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ وتقدر المساعدات السنوية المقدمة للدول العربية والسلطة الفلسطينية بحوالي مليار دولار.
5. التجاوب الشكلي مع تطلعات الدول الأوروبية، وخاصة الدول الأطلسية التي تشارك قواتها في أفغانستان، لتشجيعها بعدم التردد في إرسال المزيد من القوات التي يحتاجها المسرح الأفغاني، بالإضافة إلى مساعدة حكومات هذه الدول في مواجهة المنسوب المتنامي للمعارضة الشعبية داخل أراضيها ضد مشاركتها في احتلال أفغانستان.
6. توفير ما يمكن إعتباره ذخيرة معنوية للمنظمات والأحزاب والشخصيات الفكرية والثقافية والإعلامية في العالم العربي، التي دافعت عن الغزو الأمريكي وبررته بالتخلص من نظام إستبدادي وروجت لفكرة نشر الديمقراطية ولو عن طريق الدبابة الأمريكية . ومع إنكشاف حقيقة المشروع الأمريكي وتعثره في العراق أصابها الشعور بالإحباط والتذمر والخذلان والإرتباك. وكان ملفتاً أن تستند المبادرة الأمريكية في خلفياتها على خلاصة تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة حول الوطن العربي في عام 2002 – 2003. والذي ركز على النواقص الثلاثة التي يشهدها العالم العربي حسب واضعي التقرير وهي: المعرفة، والحرية والحكم الصالح، وفي تمكين النساء16.

كان لتسريب مسودة المبادرة التي ذُكر أنها تعدّها لتقديمها في قمة الدول الصناعية المنتظرة (بعض بضعة شهور)، للصحافة العربية وخاصة صحيفة الحياة اللندية التي نشرت ترجمة للمسودة في عددها الصادر بتاريخ 13 فبراير/شباط 2004 17، وقع الصاعقة على من يعتبرون أنفسهم حلفاء أمريكا المقربين في العالم العربي. فمن جهة فوجئوا بما يطرح إذ لم يتم التشاور المسبق معهم حول مثل هذه المبادرات، ومن جهة أخرى تصاعدت مخاوفهم من أن تكون إدارة بوش الإبن قد حزمت أمرها بوجوب إستبدال أصدقائها الحاكمين بطاقم جديد. وعبّر العديد من المسؤولين في هذه الدول عن مواقف تجاوزت حدود العتب على عدم التشاور المسبق إلى التعبير عن الإستياء والإستغراب.

وعلق السيد عمرو موسى أمين الجامعة العربية على المبادرة بقوله "من غير المنطقي الحديث عن مبادرة تستوجب تعاون الحكومات العربية دون إستشارة هذه الحكومات حول طبيعة وتفاصيل هذه الأفكار."18 أما وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل فشدد على أن المبادرة "تتضمن إتهامات واضحة للشعوب العربية وحكوماتهم بجهلهم في تدبير شؤونهم بأنفسهم" 19. كما نقل عن وزير الخارجية الأردني آنذاك مروان المعشر تمنيه "بألا ترى هذه المبادرة ضوء الشمس،"20 كما عبر العديد من المسؤولين العرب عن عدم ترحبيهم أو موافقتهم على المبادرة.

وأدركت إدارة بوش تحت ضغوط ردود الفعل العربية والأوروبية المختلفة مطالبة بضرورة التشاور وأخذ وجهات نظرها في الإعتبار، إلى إجراء تعديلات على المقاربة لم تقتصر على تغيير إسم المبادرة فقط. أدى تسريب المسودة الأولى للمبادرة إلى حراك رسمي وغير حكومي في الوطن العربي باتجاه تطوير برامج وأفكار للإصلاح تكون مطروحة قبل قمة مجموعة الثمانية المنتظرة في " سي آيلاند،" ولاية جورجيا الأمريكية في يونيو/حزيران 2004. وكان أهم المبادرات الرسمية "بيان مسيرة التطوير والتحديث" الذي صدر عن القمة العربية التي إنعقدت في أيار/مايو 2004. ودعا البيان إلى إستمرار الجهود وتكثيفها لمواصلة مسيرة التطوير العربية في المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والتربوية، تحقيقا لتقدم المجتمعات العربية النابع من إرادتها الحرة. كما دعا إلى تعميق أسس الديمقراطية والشورى، وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام في صنع القرار، في إطار سيادة القانون، وتحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين وإحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير وضمان إستقلال القضاء"21. وبدت هذه المبادرة بتوقيتها محاولة للتأثير على ما يمكن أن يصدر عن مجموعة الثمانية وبنفس الوقت إرسال إشارة إلى الشعوب العربية بأن حكوماتها مهتمة بالإصلاح والتطوير بعيداً عن الإملاءات الخارجية. كما ظهرت بعض المبادرات من القطاع الأهلي مطالبة بالإصلاح كان أهمها "إعلان صنعاء"22 في يناير/كانون الأول 2004 الذي تمخض عن المؤتمر الإقليمي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ودور المحكمة الجنائية الدولية. بالإضافة إلى"وثيقة الإسكندرية" التي صدرت عن مؤتمر "قضايا الإصلاح العربي، الرؤية والتنفيذ" في شهر مارس/آذار من العام نفسه23.

وفي ختام مؤتمر مجموعة الثمانية الذي دعي اليه وحضره بعض زعماء في العالم العربي والإسلامي (أفغانستان، الجزائر، البحرين، والاردن، تونس، تركيا، اليمن، والعراق) تم الإعلان عن "مبادرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الاوسع" بعد تعديل الكثير من النقاط التي وردت في المسودة المسربة لشهور خلت. وتمت المصادقة في مؤتمر مجموعة الثمانية على وثيقة "الشراكة نحو التطوير والمستقبل المشترك" بالاضافة إلى"خطة مجموعة الثمانية لدعم الإصلاح"24. ومن أبرز ما تم تعديله النقاط التالية:

1. الإعتراف بضرورة أن يكون دعم برامج الإصلاح في المنطقة يسير بالتوازي مع دعم عملية سلام عادل وشامل ودائم للصراع العربي الصهيوني.
2. التأكيد على أن الإصلاح لا يتم بفرضه من الخارج بل يعتمد على جهود الدول نفسها.
3. ليس بالضرورة ان يتم تغيير الحكومات القائمة لتنفيذ الإصلاح والتغيير.
4. لا توجد معايير واحدة لعملية الإصلاح والتغيير ويتوجب إحترام تنوع وخصوصية كل دولة.
5. كل دولة تقرر بنفسها الوتيرة والمدى الذي يمكن تحقيقه من عملية الإصلاح.
6. تم رفض فكرة تشكيل منظمة غير حكومية لمراقبة سير وتطور عملية الإصلاح.
7. يتم اعتبار "منتدى المستقبل" الإطار المرغوب للقاءات بين الحكومات المعنية، وتم عقد مؤتمرات ذات صلة لتبادل الأفكار والمعلومات والتفاعل بين قطاع رجال الأعمال وناشطي المجتمع المدني.

بعد انقضاء أكثر من خمس سنوات على إطلاق هذه المبادرة، يتبين لنا محدودية الأثر الذي تركته في تحفيز برامج الإصلاح والتغيير في العالم العربي، وترمي إخفاقات تجربة العراق لبناء الديمقراطية (تحت الاحتلال الأمريكي)، وتعثر التجربة نفسها في أفغانستان وعدم احترام نتائج الانتخابات التشريعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بثقلها السلبي على المشروع الأمريكي برمته . ولم تؤد بعض الخطوات الخجولة لإجراء إنتخابات بلدية أو تعيين مجالس إستشارية في البلدان التي لم تعرف الإنتخابات في تاريخها سوى لتعزيز الانطباع بعدم وجود رغبة حقيقية لدى الولايات المتحدة للإصلاح والتغيير في العالم العربي. إذ أن ولوج المسار الديمقراطي الفعلي عبر الإنتخابات سيؤدي في غالب الأحيان إلى صعود قوى معارضة للمشروع الأمريكي في الهيمنة والسيطرة في العديد من الدول المرتهنة حالياً للمشيئة الأمريكية.

ويبدو من التجربة العملية أن إبرام إتفاقيات التجارة الثنائية مع الدول العربية أو السعي لإقامة منطقة التجارة الحرة الأمريكية- الشرق أوسطية هي الأدوات الرئيسية التي تختصر مقاربات الإصلاح والتغيير للمشروع الأمريكي، بالإضافة إلى تهميش قوى المجتمع الحقيقية عبر تشجيع وتمويل بعض المنظمات غير الحكومية لإجراء مؤتمرات ومنتديات حوارية، أو رعاية برامج تدريبية محلية تطال شؤون رجال الأعمال ومؤسسات الإعلام ومنظمات المرأة، أو ترتيب الزيارات والوفود من هذه المؤسسات لبرامج تدريب في الولايات المتحدة.

كما تتضح ماهية الأهداف الحقيقية من وراء تشجيع الأطراف المختلفة إبرام اتفاقات تجارية ثنائية أو السعي لإيجاد منطقة مشتركة للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة. فهي بالإضافة إلى تأمين دخول ميسّر للبضائع الأمريكية للأسواق العربية، تكبل هذه الإتفاقيات أو تعطل مفاعيل الإتفاقيات التجارية العربية – العربية عندما تتضمن شروط وإجراءات تنتهك الإتفاقات المحلية المشتركة. وخير مثال على ذلك ما جرى في الإتفاقية الثنائية للتجارة الحرة بين الولايات المتحدة والبحرين25 حيث أدت إلى مخالفة الإجراءات القائمة بين دول مجلس التعاون الخليجي للإعفاء الضريبي لتداول السلع بينها. ويقضي إتفاق الإعفاء الضربي إلى فرض رسوم ضريبية بمعدل 5% على البضائع الأجنبية التي يتم تداولها في السوق الخليجي. فعندما يستورد بلد خليجي بضائع أجنبية (وهنا نتحدث عن البضائع الأمريكية) بدون ضربية ويتم إغراق الأسواق الخليجية الأخرى بها، تخسر هذه الدول العائدات التي تجنيها عادة من الضرائب المطبقة على إستيراد السلع الأجنبية.

بالنسبة للولايات المتحدة يتم استخدام الإتفاقيات التجارية باعتبارها أداةً لتعزيز الأمن القومي الأمريكي بالدرجة الأولى . ومثال على ذلك عندما وقع الرئيس بوش الابن إتفاقية التجارة الحرة مع المغرب، أعلن بيل توماس رئيس اللجنة الفرعية المختصة في الكونغرس بأن الإتفاق ينسجم مع توصيات لجنة التحقيق في هجمات سبتمبر/ايلول، الرامية إلى تشجيع النمو الإقتصادي في منطقة الشرق الأوسط كأولوية تخدم الأمن القومي الأمريكي. وكان ملفتا ايضا أن يعلن وزير التجارة الأمريكية انذاك روبرت زوليك (مدير البنك الدولي حاليا) أن إتفاقيات التجارة الحرة هي من الوسائل الضرورية لمحاربة الإرهاب26. وهنا يتضح ايضا جوهر المقاربة الأمريكية لكل مشاريع الإصلاح والتغيير المزعومة في المنطقة، فهي مقاربة أمنية لمصلحة الولايات المتحدة قبل أن تكون اهتماماً جدياً لرعاية وتشجيع نشر الديمقراطية.

يتبع
 
4 - أوباما: شعاره للتغيير وموقعه في المشروع الأمريكي

رغم إنه لم يكن المرشح المفضّل أو المرغوب اصلاً للنخبة الحاكمة بجناحها الديمقراطي، إستطاع أوباما بإجتيازه الباهر لماراثون الإنتخابات التمهيدية أن يتقدم ليكون المرشح الأكثر قبولاً لتولي إدارة المشروع الإمبراطوري الأمريكي في مرحلة حرجة يتعثر فيها من الخارج وتهتز ركائزه الإقتصادية في الداخل، وأنيطت له مهمة لجم التدهور والسقوط أو على الأقل الإشراف على نقل المشروع من غرفة الطوارئ إلى استراحة الإنعاش إذا تيسر الأمر.

إن مجيء اوباما إلى سدة الرئاسة، رغم الحواجز والعقبات الكبيرة التي إعترضت طريقه، يؤكد توق الشعب الأمريكي وحاجته المحلة لإحداث التغيير والقطيعة مع تركة الرئيس بوش الابن الثقيلة. ولكن تلقف الشعب الأمريكي لشعار التغيير الذي حمل أوباما إلى البيت الأبيض لا يعني أن هناك إجماع في أمريكا حول طبيعة حجم التغيير ومداه. وإن كان هناك إجماع على حالة الإحباط والفشل والقلق حول المستقبل تتسرب إلى عقول وقلوب الأمريكيين.

قد لا تكون الفترة الزمنية القصيرة منذ استلام اوباما السلطة كافية لإصدار أحكام قاطعة على مصداقية شعار التغيير الذي رفعه، ولكنها فترة كافية لتلمس مؤشرات حول ما يمكن تحقيقه قياساً بالرغبة وبالقدرة. يمكن إختصار ما يسعي أوباما لتحقيقه في دورته الأولى بما يلي:

1. استعادة هيبة ومكانة الولايات المتحدة على المستوى الدولي بدءاً بإغلاق معسكر غوانتانامو، مروراً بإعادة ترتيب العلاقات الأمريكية مع الأطراف والتكتلات الدولية الفاعلة، وانتهاءاً بإحتواء حالة العنف والكراهية تجاه أمريكا في العالم بشكل عام وفي العالمين العربي والإسلامي بشكل خاص.
2. معالجة الزلزال البنيوي الداخلي الذي أحدثته أزمة الاسواق المالية بهدف وقف التدهور وإستعادة الثقة بوضع الإقتصاد الأمريكي على طريق الإنعاش.

3. تخريج عملية الانفكاك من المغامرات العسكرية المكلفة مادياً وبشرياً التي تورطت فيها أمريكا بفعل السياسات السابقة للرئيس بوش الإبن بإتجاه الإحتلال العسكري الأمريكي لكل من العراق وأفغانستان.

4. يتبع ذلك في المسرح العربي والإسلامي مواجهة تعاظم الدورين الإيراني والتركي بعيداً عن إرادة واشنطن ورغبتها، وخاصة وأن نفوذ البلدين المتصاعد يتم استثماره أو توظيفه بالمجمل لصالح معسكر المقاومة العربي الذي تشكل سوريا ركيزة أساسية له (مدّعماً بصمود المقاومة اللبنانية والفلسطينية والعراقية،) مقابل فشل أمريكا والكيان الصهيوني بالتعاون مع أنظمة التبعية. يضاف إلى ذلك مواجهة استمرار طهران في سياسة التحدي حيال ملفها النووي، وإمكانية تغلغل النفوذ الروسي والصيني بأساليب مختلفة إلى حلبة الشرق الأوسط. ومما يقلق واشنطن أيضا معالجة أزمة الخلافة التي تحوم حول نظامين أساسيين للتبعية في كل من مصر والسعودية.

إن ما تقدم يمثل صورة المشهد العام للتحديات الماثلة أمام الرئيس أوباما، وأن كان هناك تفاصيل أخرى في نقاط جغرافية تابعة للمسرح ، مثل ما يجري في الصومال واليمن والسودان، ولكنها تدخل في السياق العام لتعقيد المشهد.

5 . أين مشروع التغيير الأمريكي في المنطقة؟

لا تبدو إدارة أوباما مهتمة بوضع أولويات الإصلاح ونشر الديمقراطية أو أجندة الحرية التي روج لها كثيراً الرئيس بوش الإبن في عهده الثاني، مما دفع الأمر ببعض رموز المحافظين الجدد إلى إتهام أوباما بأنه يدير ظهره لهذه الأجندة، ويشيرون أيضا إلى غياب كلمة الديمقراطية من الخطاب السياسي والدبلوماسي والدعائي الأمريكي منذ مجيء الرئيس الجديد للسلطة27.

يتهم اوباما بأنه مستمر في السياسة القديمة للولايات المتحدة التي تفضل تكريس ميزان قوى قائم على تعزيز الإستقرار في المنطقة على حساب الحرية. ورغم إشارة أوباما في خطابه الشهير في القاهرة إلى قضية الديمقراطية بصورة عابرة إلا أنها جاءت بلهجة مرنة ومطمئنة للحكومات العربية عندما ذكر بأننا "لا نريد أن تفرض دولة ما على دولة أخرى نظام حكم معيناً... أمريكا لا تفترض أنها تدرك الأصلح لكل شعب ... وتدعم كل حكومة تحترم شعبها."28

لا جدال في أن شخصية اوباما وخلفيته ومؤهلاته ولهجته الجديدة غير المعتادة من رئيس أمريكي قد وضعته في موقع المطالب بإجتراح ما يشبه المعجزات. فالآمال الكبيرة المعقودة عليه، داخلياً وخارجياً، تدفع البعض لإحلال رغباتهم الذاتية حول ما يستطيع عمله وكأنه يملك عصاً سحرية تمكنه من تجاوز وفكّ الألغام المزروعة أمامه. وفي تقديري إن من أبرز المعوقات التي تواجهه درجة التفاؤل المفرط السائدة بين مؤيديه ومريديه داخلياً وخارجياً. لكن النظرة الواقعية للمشهد الأمريكي تدفعنا لتوخي الحذر وعدم نسيان حقيقة أن اوباما بالرغم من ثقافته وتجربته وجذروه هو إفراز لمؤسسة حاكمة، ويمثل فريقاً أو إتجاها في جناحها الليبرالي بالمقياس الأمريكي، ولدى تسلمه الرئاسة لا يعود ممثلاً لفريق أو جناح بل هو محكوم بتجسيد مصالح النخبة الحاكمة وطموحاتها وإستمرارها. ولو دققنا قليلاً في خطب أوباما لاكتشفنا، رغم لهجته المرنة وغير الاستعلائية، أنه يتبنى المشروع الأمبراطوري الأمريكي ولم يتخلى عنه. فهو لا يزال ينطلق من هيمنة فائض القوة العسكرية الأمريكية باعتبارها معطى ثابت لا يخضع للمناقشة أو المساءلة، ويعتبر أن مكمن الخلل في تعثر المشروع يعود إلى الإستخدام "الغبي" للقوة العسكرية الأمريكية من قبل الإدارات السابقة وخاصة إدارة بوش الإبن، ويدعو إلى ضرورة إقلاع واشنطن على استخدام القوة الخشنة (Hard Power) المهيمنة بصورة منفردة على المسرح الدولي لتنفيذ إستراتيجيتها الكونية، ويطالب اعتماد إستراتيجية القوة الذكية (Smart Power) من خلال المزج الخلاق بين القوة الخشنة والقوة الناعمة (Soft Power)، فكأنه يعاتب أسلافه على عدم توظيف المروحة الكاملة لعناصر القوة الأمريكية لخدمة أهداف الأمن القومي الامريكي. حسب وجهة نظره، يتوجب على أمريكا أن تستخدم قوة الإذعان والإقناع معاً ولا تنسى مفاعيل استخدام القوة في مجالات الاقتصاد، والدبلوماسية، والثقافة، والفنون، والإعلام .... الخ.

لذلك، يبقى المعيار الحقيقي لشعار التغيير في أن يتوصل اوباما والنخبة الحاكمة في واشنطن إلى قناعة راسخة بأن الكلفة الباهظة لإستمرار المشروع الإمبراطوري ومخاطره تحتم الإقدام على إحداث إنعطاف إستراتيجي جوهري، يستند إلى البدء بإدارة عملية لتنظيم التراجع والقبول بدور رئيسي وازن لأمريكا ولكن غير مهيمن يؤدي إلى إعادة صياغة نظام دولي أكثر عدلاً وتوازناً. وتبدو مؤشرات العجز في تحقيق التغيير الموعود جلية، فلا يزال وعده بإغلاق معسكر غوانتانامو عرضة للتأخير والتجاذب الداخلي، كما أن وعده بالإنسحاب من العراق يكتنفه الغموض والتشكيك، لأن اكتفاءه بإعادة الإنتشار العسكري لا يعني إرخاء القبضة الأمريكية المتحكمة بمفاصل القرار العسكري والأمني والسياسي في العراق تحميه قوة عسكرية مقلّصة العدد عن الوضع الراهن، ولكنها مغطاة بإتفاقات تشرّع بقاءها على غرار المثال الألماني والياباني والكوري الجنوبي.

ورغم تصريحاته المتكررة بأنه لا يوجد حل عسكري في أفغاسنتان نراه يندفع باضطراد نحو تصعيد الحملات العسكرية، ويتردد أمام إقتراحات العسكر لزيادة عدد القوات في المسرح الأفغاني- الباكستاني، في وضعية تذكرنا بتجربة التدخل الأميركي في فتينام. أما لدى تناوله قضية الصراع العربي- الصهيوني، نجده يقدم الرواية الصهيونية لأساس الصراع معتبراً أن التنازلات الرسمية العربية التي وفرتها المبادرة العربية ليست سوى نقطة بداية لما يطلبه أو يفترضه من خطوات لإغراء الجانب الصهيوني بإستنئاف المفاوضات. وبرز عجزه في إستعاضته عن تقديم مبادرة مستقلة، بخطاب الصورة المشتركة له ولرئيس السلطة الفلسطينية ورئيس حكومة الكيان الصهيوني خلال اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، والذي يعد أبلغ الدلالات على مقاربته العاجزة. مثلما كانت مقاربتة لإدارة الملفين النووي الإيراني والفلسطيني مشحونة بالألغام والتناقضات العائد لحرصه على اختيار شخصيات استفزازية للأطراف العربية والإيرانية (روس وفيلتمان). ولا تزال إدارة أوباما تسوّق لمقايضة خاوية وخادعة بتجميد جزئي ومؤقت (أو الوعد به ) للإستيطان مقابل إنتزاع خطوات تطبيعية من الجانب العربي ولإستئناف المفاوضات. ويستمر في مطالبة الاطراف العربية بتقديم المعونة له في ملفات العراق وإيران وفلسطين ولبنان...الخ.

وعلى الصعيد الداخلي يواجه برنامجه لإصلاح الضمان الصحي معركة قاسية، لا يستطيع ضمان وقوف الأغلبية الديمقراطية من حزبه في الكونغرس إلى جانبه فيها. أما عملية الإنعاش الإقتصادي فلا تزال تراوح بين مؤشرات التفاؤل بتجاوز الأزمة وبين إمكانية انفجار متجدد، مصدره قطاع البطاقات الإئتمانية أو سوق العقارات التجارية أو كليهما معا. كما يبدو انه غير قادر على تحقيق التماسك والإنسجام داخل فريقه للأمن القومي جراء عدة تحديات : منها استمرار الجدال الداخلي حول كيفية التعامل مع الوضع الأفغاني قائما، وتضارب الآراء بين رموز إدارته، وعودة الصراعات الخفيّة بين الخارجية والدفاع والإستخبارات والكونغرس؛ كلها مجتمعة تهدد اوباما بالشلل والعجز وتآكل رصيده الشعبي، كما تُظهر إستطلاعات الرأي العام مؤخراً حول أدائه.

تؤشر الفترة المنصرمة من عهد الرئيس أوباما أيضاً على أن الجسم البيروقراطي الأمني العسكري الذي ورثه عن سلفه لا يزال بمجمله يتّبع السياسات والمقاربات السابقة رغم التغييرات التي طالت بعض رموزه في القمة.

نستخلص مما تقدم أن هناك كوابح بنيوية موضوعية وذاتية ستحول دون قدرة أوباما على إحداث تغييرات جوهرية وسريعة في المسار الإستراتيجي الأمريكي القائم، حتى لو رغب في تحقيقها. لا ريب أنه سيحاول تعديل المسار من حيث الأسلوب ولكن ذلك ليس كافياً لفتح مسار جديد أو إحداث قطيعة تامة مع الذهنية المورثة لمؤسسة حاكمة، تتناسل جيلا بعد جيل نخبة تؤمن بثقافة التفوق والسيطرة الكونية المتفردة ، وبتعبئة مشحونة بكراهية الخصوم المحتملين والسعي لإخضاعهم بكافة الوسائل بما فيها القوة.

أمريكا لمن لديه بصيرة داخلها وخارجها تعيش مخاض إنكشاف عجزها وتعثر مشروعها الإمبراطوري للهيمنة. وكما أسلفنا لم تتولد القناعة والرغبة بعد لدى النخبة الحاكمة للتسليم بالأمر الواقع، والمباشرة في إدارة إنحسار الإمبراطورية وتنازلها عن العرش المنفرد للنظام الدولي. ولا توجد خبرة أمريكية سابقة ومعاصرة ولا حتى خبرة عالمية مماثلة أعلنت فيها قيادة المشروع الامبراطوري اعترافها بالفشل، واستعدادها لتنظيم عملية التراجع والانتقال من الدور المنفرد إلى دور الشريك الأساسي مع آخرين في إدارة النظام الدولي. وما ينسب إلى تجربتي فرنسا وبريطانيا في تنظيم التراجع والإنكفاء عن المستعمرات لا يقدم مثالاً قاطعاً على عدم التردد والمناورة والتأجيل. ولا تزال الذهنية السائدة تعبر عن إختيار وضعية التكيف والتراجع التكتيكي احياناً بواقع الاضطرار، وتحت ضغط التعثر الميداني أو الأزمات المالية المتفجرة، واعتادت على خدمة المصالح والقوى النافذة في المسرح الأمريكي، ممثلة بالمجمعات الصناعية والعسكرية والاستشارات والمال والنفط، ولن يكون بمقدور أوباما مهما بلغت شعبيته من قوة أو ذكاءه أو نزعته الفطرية نحو التغيير، الإفلات من القبضة الحديدية لهذه المصالح.

قد يتمكن اوباما من فتح كوة في الجدار مشحونة بالأمل والتمنيات، ولكنه سيبقى أسيراً للمرحلة التحضيرية لأفول نجم المشروع الإمبراطوري وليس نهايته. وفي تقديري يوفر المسرح الدولي الراهن، وخاصة منطقة الوطن العربي، فرصة غير عادية للمساهمة في تقصير هذه الفترة التحضيرية وإختصار الآلام للبشرية، والتسليم بقدوم عالم جديد أكثر توازنا تتحقق فيه شراكة نشطة في مواجهة التحديات العالمية الرئيسة، كالفقر والبطالة والمرض وتدمير البيئة والنزاعات الإقليمية وإزالة أسلحة الدمار الشامل. والسؤال المركزي هل تتوفر الإرادة المستقلة والرؤية الواضحة لقوى التغيير في المنطقة لوضع الإستراتيجية الكفيلة بتوظيف العوامل الدولية المساعدة، لإرغام الولايات المتحدة على إحداث الإنعطاف الإستراتيجي المنشود؟ أخشى ان نستفيق بعد رحيل أوباما عن المسرح في نهاية عهده الأول أو عهده الثاني، وما زلنا نتحدث عن مشروع الهيمنة الأمريكية في منطقتنا ونطلق على عهده فترة الإستحضار المكرّر والمعدّل لمزيج من حكم رئيسين أمريكيين لا يزالان على قيد الحياة: بوش الأب وبيل كلينتون ***

 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top