من ذكرياتي العربية، في الجزائر الأبية

فيصل الملوحي

:: عضو منتسِب ::
إنضم
26 جوان 2009
المشاركات
69
نقاط التفاعل
21
النقاط
8
من وطننا العربي الكبير : الجزائر الأبية




من ذكرياتي العربية
في الجزائر الأبية






كتبها: فيصل الملوحي





أنا واحد من كثيرين كُتبت لهم فرصة زيارة الجزائر الشقيقة والعيش فيها ، كان نصيبي منها عشر سنوات، وما أشد رغبتي في أن يكون لي المزيد في جزائري الحبيبة التي أعرفها ! كان لي من هذه الفرصة تصور شخصي لهذه الأرض الحبيبة ، وما أشد رغبتي في عرض هذا التصور الذي أرجو أن يكون صادقا !قد أتّفق مع إخواني الكثيرين الذين زاروا الجزائر فدرَسوا الطبّ والهندسة وغيرهما ، أو درّسوا فيها ، ، أو قاموا بأعمال أخرى ..وقد يختلف هذا التصور عمّا في أذهان كثيرين .
أظنّ أن تصوّري أقرب إلى الواقع والحقيقة ، ولاعيب في الاختلاف ، فلكل رأيه ، وما عليه سوى أن يعرضه على محكّ الواقع ، ويناقشه ، لعلّنا نصل في آخر المطاف إلى الحقّ .. وأذكّر أننا أمام جزء عزيز من وطننا العربي الكبير ..
ربما كانت لي مسوّغاتي في اعتقادي بصحة رأيي : عشت في الجزائر فترة طويلة في الجزائر ، أمكن لبعضهم أن يعيش مثلها أو أكثر – ومنهم من جعلها بلداً لإقامته وزواجه وحضن أولاده ، ولا أظن أن هؤلاء سيخالفونني الرأي بعد هذا الاختيار ! – ولكن كثيرين كانوا يُمضون فترة أربع سنـوات ثم يغادرون ... ثم كان عيشي موزّعاً بين العاصمة والغرب والشرق ، وأمضيت فترة غير قصيرة في الصحراء ، وحاولت الالتقاء بنماذج كثيرة من هذا الشعب ، كانوا يذكرون – يا لهف نفسي ! هل يتذكر جيل القرن الحادي والعشرين ؟! – فترة الاستعمار البغيض ، فترة العيش معزولاً في الجبال تؤنسه آلام الجهل والجوع والمرض ! ثم أنعم الله عليهم بنعمة الاستقلال ، آملين أن تختفيَ هذه الآلام ، ولكنها لن تختفيَ في سنوات معدودة ، فما كان لأي نظام في العالم أن ينجح في إزالتها بجرّة قلم .
يرى بعض زملائي رأياً لا أرى أنه ينسجم مع واقع هذا الشعب العربي في الجزائر ، يُروِّجونه في مجالسهم الخاصة، ينقلون صورة لايرضاها ضمير عربي، وبخاصّة إذا كان يدّعي لنفسه الثقافة! بيد أني لا ألومهم لوماً تامّا، فقد يكون لهم بعض العذر لجهلهم بعض الخصال العربية الأصيلة لهذا الشعب، ولكنه عذر واهٍ، فمن واجب من يدّعي لنفسه الثقافة أن يتروّى وأن يتفكّر، وأن يكون أعمق في نظراته. ولربما كانوا كأمير الشعراء أحمد شوقي حين زار الجزائر المستعمرة في كامل أناقته الأوربية، تزينها ربطة العنق ال( papillon )، ما كان لعربي ( كان لفظ العربي صفة لكل جزائري لسانه القرآن العربي ) – وقتها – أن يلبس مثل هذا إلا إذا كان متفرنسا ًأو خائنا . قدّم أحمد شوقي قدَمه ل(بويجي ) ماسح الأحذية ، فكلّمه الغلام بكُليمات فرنسية ، وأجابه شاعرنا – ربيب القصور، المثقف فيها منذ صغره بثقافة أعجمية – بلسان فرنسي مبين، وكوّن شاعرنا الكبير من هذه التجربة العميقة!! فكرة ملهمة!! عن الجزائر:
ابك معي أيها العربي ، فلقد زال كل أثر عربي في الجزائر، محا الاستعمار عروبتها وإسلامها ، وصارت فرنسية علمانية، والدليل : ( حتى البويجي يتكلّم الفرنسية ) !!
نسوق هذه النادرة من المضحك المبكي، وليس في هذا أي انتقاص من احترامنا لأحمد شوقي شاعرا، ولكن وجهة النظر العلمية، والبحث الاجتماعي المنصف يعدّان هذا حكماً سطحياً لا رويّة فيه، ولاتفكير، إذ لايجوزأن ننتقص من عظمة شعب بقي ثلاثين ومئة عام مستعمَرا، ثم خرج منه منتصرا.. فلو نسي إخواننا العرب في الجزائر لسانهم وعاداتهم لما اندفعوا هذا الاندفاع الذي لم يكن له نظير في تاريخنا العربي الحديث ( هذا الرأي موقوت بعام 1975م تاريخ أول كتابة هذا الموضوع ), أخرجوا استعماراً استيطانياً ماكان- في حساباته العلمية !! - بخارج منها، وماكان لابن باديس والثورة سوى أنهما نقلا قوة الشعب من دال نفسه ، وحوّلاها إلى نار لاتبقي أحداً من المستوطنين ولاتذر. ( قد يكون لأحمد شوقي عذره ، فقد انتقل إلى رحمة الله قبل استقلال الجزائر !! ) .
فإذا توجهت إلى مقرّ عملك ، وجدت صعوبات بالغة في الوصول إليه، فأنت تسأل عن عنوان مَن لا تستطيع فهمه بالعربية ولا يستطيع فهمك،حتى بالفرنسية إن كنت( تلطّش) بعض كلمات منها فلن تفيدك في شيء، فالاستعمار لم يصل بها إلى الأعماق – تجهيلاً للعربي ، ورفضاً من العربي للغة ال( گوَر) الفرنسية. فإذا أسعفك الحظّ ووصلت إلى المدرسة، استقبلك مديرها(أو قل:Monsieur Le Proviseur ) بوجه مشدود تتصور من خلاله أنك جئت عبئاً ثقيلا، وأتساءل الآن عن باعث هذا العبوس ،هل كانت طبيعة العربي بسبب المرار الذي خالط حياته، أم كان كرهاً من متفرنس جئت تُزيحه عن كرسيه!) ولا تنس بعد هذا ما تعانيه في البحث عن مسكن، فتقبل بغرفة إن كنت عزبا، وتتذوّق المرار إن كنت بعلاً ومعك أولاد ، وتبدأ بالدفع للفندق والطعام في مطعم.. فتحسب راتبك، فتراه طيراً يحلّق بعيدا، وتقول لنفسك : لماذا الغربة، ولماذا المرار، إن لم أرجع إلى بلدي بثمن شُقة أعيش فيها؟! (والحقيقة أن في هذا الكلام مبالغة مرفوضة، فالتوفير من الراتب كان أمراً سهلا، بل إن الإنسان الذي من عادته المعيشة المتوسطة لايفكّر بالتوفير، وسوف يفيض من راتبه مبلغ ذو قيمة، إلا إذا كان صاحبنا من أهل(الكيف) !
ولن تُعفى من المضايقة في دوائر الدولة(التي قيل لنا: سوف تُعرَّب الدوائر بعد حين ، ونحن اليوم مضطرون لإبقاء عملها بالفرنسية بأيدي المتفرنسين ) وفي الشوارع، وخصوصاً في العاصمة التي لاتشبه عواصم الدنيا بأسرها ( وإن كانت كل عواصم الدنيا فيها نسبة مما نراه في الجزائر العاصمة . ) لأسباب كثيرة أعرض لها لاحقا.
سوف أناقش الأمر من الجانبين الثقافي والاجتماعي، فهما اللذان أدّعي لنفسي القدرة على مناقشة الموضوع على هذا الأساس .
أمّا الجانب الثقافي – وهو ألصق بي من الجانب الاجتماعي– فقضية ما سُمّي ( التعريب) ، وما يسره الأعداء والأصدقاء ( مشكلة اللسان العربي )، أما الجانب الاجتماعي فقضية العلاقة بين العربي القادم من المشرق، والعربي في الجزائر.
قلنا: إن القادم الجديد من المشرق إلى الجزائريجد صعوبة بالغة في التفاهم منذ البدء، من لحظة وصوله.. والمصيبة الأنكى أن أول ما تجابهه الجزائرالعاصمة التي لا تشبه عاصمة في العالم – رغم أن كل العواصم تجتمع فيها النقائض من خير وشر، ولكن جانب الشر يطغى في العاصمة الجزائرية أكثر، لأسباب سأشرحها لاحقا – أول ما يحتاج القادم إلى قهوة يستريح فيها، ويطلب قهوة أو شايا، فيحتاج غالباً إلى الرطانة باللغة الفرنسية– لا تظنن النادل جاهلاً بلغته العربية الدارجة، ولكن المحيط من حوله يفرض هذه الرطانة، في هذا الجوّ الغريب يعيش القادم الجديد، ويحكم بتفرنس الجزائر ..
ولكن هذه الصعوبة تزول بعد زمن ليس بالطويل، فيتفاهم هذا العربي مع إخوانه في الجزائر باللغة الدارجة العربية، وليس لك أن تحكم عليهم أنهم بعيدون عن اللسان العربي، فلغتهم ابتعدت بعض البعد عن الأصل، كما ابتعدت لغاتنا العربية في المشرق تماما، ولكن الانطباع الأول الذي صدمه في العاصمة أو وهران أو قسنطينة لا يزول من مخيّلته .
وتصدمنا مفردات كثيرة غريبة على مثقفينا، فيسخر بعضهم منها، ويتندّرون بغرابتها.. بيد أن المدقّق المنصف لا يغرب عن باله أن هذه المفردات الغريبة غريبة لأنه لم يعرف–هو – أصولها العربية... أضف إليها المفردات الأعجمية الحضارية الحديثة، والجزائر لاتنفرد بها ، بل هو مرض يصيب كل لغاتنا( لهجاتنا) المحلية: (تلفزيون، راديو، سينما، تكسي، موتور، كرّوسة..).فلنعد إلى قضية المفردات الدارجة الغريبة،ولنعلم أن كثيراً منها ذات أصل عربي خالص مُحَرَّف– وهناك مفردات ذات أصول تركية وفارسية وبربرية..– المشرق في هذا المغرب العربي الكبير– ففي اللغة الشامية( ليكو)، وأصلها كما قال أهل العلم:( إليكه )، ( شعّو - وبلغةالدلع : شحّو - ) وأصلها كما قال أهل العلم : ( اقشعه أي انظره )، وفي الجزائر مثل هذا كثير، فكلمة ( بزّاف )– التي تعني: الكثير – تصدمك بغرابتها الشديدة ، وقد شغلتني كثيراً حتى وجدت الحلّ فعددت حرف الباء ليس من أصل الكلمة – فقد يكون حرف جرّ – فوجدتها في المعاجم ذات معنيين: المعنى الأول حقيقي الذي جاء من الكثرة، والمعنى المجازي المركب من المعنى الحقيقي مع زيادة في الوزن والمعنى، زيّف ( العملة ) بمعنى أنه يحاول زيادتها – طبعاً بالاحتيال – . ومثل كلمة ( بهلول ) وهي عربية خالصة، تعني : الضحّاك أي كثير الضحك، وفي المشرق عندنا( مهبول ). ولاتسأل عن مفردات كثيرة عربية أصيلة ( برقوق : الخوخ في لغتنا ، والخوخ : الدرّاق ) ، بل لديهم مفردات ينساها كثير من دارسي اللسان العربي.. فكلمةمكوس( مفردها: مََكْس)بمعنى الكلمة الشائعة الدخيلة على عربيتنا: ( جمارك ، وگرمگ – في مصر - ) ، ويشتقون منها فعل ( يُِمَكِّس ) . خرجت من بيتي صباحاً بعد أن تناولت إفطاري متوجهاً إلى عملي – في يوم من أيام الجزائر المجيدة – ، فالتقيت- في طريقي بأمين المختبر- حيث أعمل ، ودعاني إلى فنجان من القهوة ، فلم أٌفلت من الدعوة لأنني لم أجد عذراً صادقاً للاعتذار – وويلي من رفض دعوة عربي في الجزائر بدون عذر صادق - ، لكني لم أترك الأمر دون نصيحة ، فقد قلت له بعد خروجنا من القهوة : ولماذا لم تشرب قهوتك في بيتك وتتناول معها بعضاً من الخبز والإدام ؟! فقال هذه ليست من عادتي ، ولكني اضطررت إلى ذلك لظرف طارئ، وأضاف : ( باغي كل يوم يمكّسني ! ) ، واعذروني لذكري هذه الحادثة الشخصية ، ولكن هذه العبارة حُفرت في ذاكرتي لجمالها وصداها العربي الفصيح . وانظر إلى أمثال لهم كقولهم : ( حاكم ظالم ولا رعية سايبة )، ألا تحس كأنك تقرأ مثلاً فصيحا ؟!
ويؤسفني أن لديهم عيباً– أعدّه شنيعاً- وهو أن الضاد العربية اختفت من لغتهم ، وحلّت الظاء مكانها، وكان هذا العيب مبعثاً لسخرية الآخرين، وكأنهم نسوا أن الضاد العربية تكاد تختفي من لغاتنا( بل من لساننا الفصيح )، والعربية هي (لغة الضاد)- كما نعلم- ، ونميّزها بوجود هذا الحرف عن غيرها من الألسنة ، وليس للسان آخر حرف شبيه . فمن يلامس لسانه أسنانه اليسرى(أو اليمنى ) ليُشكل حرف الضاد ؟! من يرُاعي – في كثير من أقطارنا– النطق الصحيح للأحرف اللثويـة (الثاء ، والظاء ، والذال)، هذا عيب تكاد كل لغاتنا المدنية(المتحضّرة! ) ترتكبه ، بل هو عيب نرتكبه في فصحانا، فكم عدد المثقفين – بل أساتذة العربية في الثانويات والجامعات – القادرين على نطقها الصحيح بدون حاجة إلى التفكير؟! بل ألا تكاد الجيم الساكنة تختفي ، وأخذنا نلفظ الشين مكانها في مثل كلمة ( مجتمع )؟! فهل يقع أهل الجزائر في مثل هذه الأخطاء ؟!
أما إذا أردت المسّ بلغتهم لوجود مفردات تركية(گوَر، گوْري )، فليس من حقنا أن نقول هذا، فكم من مفرد تركيّ في لغاتنا( كازخانه، بويجي، هانم أو خانم، بابوج ، طشت ) ولو عدت إلى مفردات الفواكه والخضار لوجدت أنهم أكثر تعاملاً مع المفردات العربية، تصوّرأن لكلمة الكرْز ( لقد سكّنت راؤها حين عرّبت من الفارسية ) مقابلاً عربياً وهو: حَبّ الملوك !
وقد أحكم في مسألة حكماً غير مستند إلى برهان علمي صحيح ، ولكن خبرتي المكتسبة من حياتي في الجزائر– تسمح لي بأن أصل إلى النتيجة التالية : إن لغتهم الدارجة أقرب إلى الفصحى من لغات غيرالمثقفين في أقطارنا المشرقية !
لا تحكـم ببعد لغتهم عن اللسـان العربي الفصيح لأننا لانفهمها – ولكن من يعيش بينهم أشهراً، فسرعان ما يفهمها، وسرعان مايتكلمها- ، فلغاتنا ليست أقلّ بعداً عن اللسان العربي الفصيح من لغتهم ، فكم من أهل قطر واحد لايفهم بعضهم بعضا!فلو تكلّم حلبي قديم غير مثقف مع شامي قديم غير مثقف ، لتعثّرا في فهم بعض المفردات– بسب طريقة النطق أو غرابة اللفظ – فاللغة الحلبية تحتوي على مفردات تركية أكثر من اللغات الأخرى،فإذا كانت المسافة بين الشامي والحلبي لا تعدو الأربعمئة ( كيلو متراً ) ، فكيف ستتصوّر الأمر وبيننا وبين الجزائر هذه المسافات الشاسعة ، والتاريخ الطويل للتجزئة الاستعمارية كاد يقطع الصلة بين المشـرق والمغرب، لولا العربية التي تشدّنا رغم أنوفهم ، والدارسين الذين جاؤوا من الجزائر إلى المشرق العربي ، ومهاجرين قدموا إليه وعاشوا بين أهليهم – خصوصاً في دمشق - . بيد أن انتشار وسائل الإعلام ، وبثّها بلسان عربي فصيح – وإن لم يبلغ السلامة اللغوية التي نرجوها ، ولم ينج من تأثير اللغات المحلية - ، سهّلا التقارب بين اللغات والتفاهم .


ملحوظة:


تلك ذكريات صادها خاطري قبل ثلاثين سنة، وأنقلها اليوم إلى أحبتي في الجزائر أبنائي وأحفادي من الأجيال الشابة، فلعلي أقدر على المساهمة في تذكيرهم بأمجاد الجزائر العربية الأصيلة.
.


 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top