صَفْحَةَ مُرَاجَعَةِ اللُغَة اَلْعَرَبِيَةُ وَ اَدَآبُهَآ ~ لِلْجَادِّينَ فَقَطُّ ‏

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

ضآحكة مستبشرة

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
27 جويلية 2014
المشاركات
15,117
نقاط التفاعل
39,535
النقاط
13,026
محل الإقامة
العاصمة
الجنس
أنثى
sada.gif



أَهَّلَا و سَهَّلَا بِكُمْ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ الْمُتَوَاضِعِ

فَتَحْتَ هَذِهِ الصَّفْحَةَ لِتَكَوَّنَ ملتقانا فِي مَادَّةِ اللغة العربية و آدابها ~ ، الَّتِي تَعْتَبِرُ مِنْ أَهُمْ الْمَوَادَّ الَّتِي نُدَرِّسُهَا فِي الثَّانَوِيَّةِ

هَذَا الملتقى مِنْكُمْ و إِلَيكُمْ

* هذه الصفحة أنشئت بنا و لنا لذا فلنساهم في تطورها و لننقص من الدردشة لكي لا يتم غلقها




dwsad.gif



بِسْم اللَّهِ ، لنَبْدَأُ الْمَرَاجِعَةَ
:graduation:

الله ولي التوفيق :)
 

السلآم عليكم يا اخوتي
هدا هو فرضنا المحروس في مآدة الادب
لاكن للاسف كان في نصف ساعة


النـص : قال أبو نوّاس :
01- عُـجْ للوُقــوفِ على راحٍ ، وريحــانِ *** فَما الوُقوفُ على الأطلالِ من شأني
02- لا تَبْــكِيَــنّ عـلى رَسْـــمٍ ولا طَـــلَــلٍ *** واقصِدْ عُـقاراً كعينِ الدّيـكِ نَدمـانـي
03- سُـلافُ دَنٍّ ، إذا مـا المـاءُ خـالَـطَــها *** فـاحـتْ كمَـا فـاحَ تُـفّــــاحٌ بلُـبْـنــــانِ
04- صَهْبـاءُ صافيَـة ٌ، عَــذراءُ ناصِعَـــة ٌ *** للسّـقـمِ دافعَـة ٌ، من كَـرْمِ دهْــقـــــانِ
05- لم تَدْنُ منها يــدٌ، مُــذْ يــوْمِ قَطْـفَـتِــها *** ولــم تُـعَــذَّبْ بتَـدْخـيـــنِ ونــيــــرانِ
05- سَـلسـالَـة الطـعـم إسفَـنْــطٌ معَتَّـقـــة ٌ *** بشرْبِــهـا قَيّــمُ الحانـــوتِ أوْصــانـي
06- مَسحُولَـة ٌ، مُــزّة ٌ، كالمسْــكِ قـرْقفـةٌ *** تُطَيّــرُ الْهَــمّ عــن حَيــزُومِ حـــــرّانِ
07- فلألأتْ في حَوافي الكأسِ مـن يــــدِهِ *** مثْــلَ اليَواقيــتِ مـن مَثـنى ووحـــدانِ
08- حتى إذا اصطَفّـتِ الأقداحُ وانتطحتْ *** بيـضُ القَـواريــرِ من أعيـانِ كِــيــوان
09- خلْنا الظّليـــمَ بَعيــراً عنــد نَهضَـتِــنا *** والتّــلَّ مُـنبَـطِــحاً فـي قََـــدِّ ثَـــهْـــلانِ

معاني الكلمات :
الراح - العُـقار- السُـلافُ : الخمر ، نَدمـانـي : جليس الشرب ، دَنٍّ:وعاء ضخم للخمر ، الدهْــقـــــانِ (فارسية) : التاجر ، إسفَـنْــطٌ : المطيب من عصير العنب خاصة . مُــزّة ٌ: كان طعمها بين الحلو والحامض. قـرْقفـةٌ : اشتدادا . حَيــزُومِ : المرتفع من الأرض. حـــــرّانِ: مدينة قديمة بتركيا . أعيـانِ كِــيــوان : قوارير نفيسة من بلاد فارس . الظّليـــمَ : ذكر النعام . ثَـــهْـــلانِ : جبل .

الأسئلة :
البناء الفكري :
01- ما مظاهر التجديد في مطلع القصيدة ؟ استشهد من النص .
02- ما هي الأوصاف التي أسقطها الشاعر على الخمرة ؟
03- حدد الأفكار الجزئية للقصيدة .
04- الأبيات تعكس لنا مذهب الشاعر في الحياة ؟ وضح ذلك من النص ؟
05- يعكس النص بعض مظاهر البيئة العباسية ؛ حددها ؟
06- ما هو نمط النص ؟ أذكر أهم خصائصه ؟
البناء اللغوي :
01- ما نوع الأسلوب الوارد في البيت الأول ؟ وما غرضه البلاغي ؟
02- استخرج صورة بيانية من القصيدة ، ثم اشرحها وبين أثرها في المعنى؟
03- أعرب ما تحته خط أعرابا مفصلا (تَدْنُ ، قَيّــمُ الحانـــوتِ ، خلْنا)
04- بين ما يجوز التعجب منه وما لا يجوز من الكلمات الآتية ( صهباء ، السقم ، تعذب ، اصطفت)
05- أكتب البيت الأخير كتابة عروضية ثم حدد تفعيلاته وقافيته .
 
رد: صَفْحَةَ مُرَاجَعَةِ اللُغَة اَلْعَرَبِيَةُ وَ اَدَآبُهَآ ~ لِلْجَادِّينَ فَقَطُّ ‏

السلآم عليكم
بانتظار الاخت حكايا الورد

ادا جيتي نتمنى تشرحيلي شخصية ابن الرومي
و كيف تكون قصائده
 
رد: صَفْحَةَ مُرَاجَعَةِ اللُغَة اَلْعَرَبِيَةُ وَ اَدَآبُهَآ ~ لِلْجَادِّينَ فَقَطُّ ‏

شكرا جزيلا لك جزاك الله كل خير
 
رد: صَفْحَةَ مُرَاجَعَةِ اللُغَة اَلْعَرَبِيَةُ وَ اَدَآبُهَآ ~ لِلْجَادِّينَ فَقَطُّ ‏

المؤثرات البيئية والشخصية

في شعر ابن الرومي



د. محمد عبد القادر أشقر



شعْرُ ابن الرومي انعكاس لما كان يعانيه في مجتمعه، ولما كان يعانيه في نفسه وجسمه، ولعله أهم شاعر انصرف إلى التعبير عما يحس به من مشاعر تجاه زمانه وأهل زمانه، وإلى الكشف عما يعانيه من هموم ومتاعب بسبب ضعف جسمه وبنيته، أو ما يحس به من مخاوف وأوهام وظنون. والشعراء عموماً لا يتحدثون كثيراً عن أحوالهم وما يمر بهم من دقائق حياتهم اليومية، لأنهم منصرفون إلى الفن، ينظمون الشعر ويجوِّدونه ويعتنون به، معتقدين أن همومهم الشخصية مِلْكٌ لهم فحسب، وأنه من غير اللائق إطْلاع الآخرين عليها، لذا لا نستطيع الحصول على صور واضحة للشعراء من خلال دواوينهم، لكن الأمر مختلف مع ابن الرومي، لأن شعره انعكاس لكل دقيقة كان يعيشها في مجتمعه، ولكل همّ كان يحسه ويعيشه، إنه باختصار يعرض حياته العامة والخاصة بكل تفاصيلها من خلال الشعر، وهو بذلك يهيئ الشعر ليكون قريباً من روح الحياة والناس، وأكثر تعبيراً عن نفس قائله، كما أنه يهيئه ليكون تعبيراً عن الأحاسيس والمشاعر الخاصة أكثر من كونه وصفاً للممدوح، ومهنةً يتكسب الشاعر منها قوت يومه. إنه يحاكي مختلف مظاهر الحياة، ويحاكي مشاعره أكثر من محاكاته للفن الشعري ذي الأصول الراسخة التي تعارف عليها النقاد. وهذه المحاكاة هي جوهر الشعر، لأن الشعر تعبير عن النفس أولاً. وإن فهمه لوظيفة الشعر على هذا النحو تجديد حقيقي في الشعر، لأنه أبعده قليلاً أو كثيراً عن دائرة الرسميات وما تعارف عليه النقاد وأهل البصر بالشعر. ولعل هذا الموقف سبب من أسباب ابتعاد ممدوحيه عنه، لأنه انصرف عنهم إلى نفسه وأحواله، فبدت قصائده مزيجاً من مشاعر متباينة، فيها وقوف طويل عند ذاته المعذبة المقهورة التي أصابها نُوَبُ الزمان، وفيها وقفات قصار متفرقة عند الممدوح، حتى لتصبح أحوال الشاعر الغرض الرئيس من القصيدة، ويصبح المدح تابعاً أو ذيلاً لها. ولم يترك ابن الرومي صغيرة ولا كبيرة تتعلق بحياته إلا أحصاها في شعره، بل إنه أحصاها في الشعر الموجه إلى الآخرين، فلم يكتفِ بعرض همومه ومشكلاته وكل ما يعانيه في قصائد ذاتية مستقلة، بل إنه جعل تلك الهموم موضوعاً أساسياً في قصائده المدحية التي توجه بها إلى الممدوحين.

لذا سأحاول البحث عن المؤثرات التي تركت صداها في شعره، سواء أكانت عامة تتعلق ببيئته وعصره، أم خاصة تتعلق بشخصيته جسماً ونفساً. وسأرى كيف تجلت في شعره. وإنني أعترف أن الفصل بين تلك المؤثرات غير علمي، لأن تلك المؤثرات متداخلة متشابكة فيما بينها، تَشابُك المشاعر والأحاسيس، لكني سأفصل بينها فصلاً مؤقتاً لأتلمّس مظاهر كل أثر على حدة، وأنا أعلم أن استقلالية الأثر أحياناً قد ينتج عنها تشابهٌ في المظاهرات التي تجلت فيها مع مؤثرات أخرى، لكن لا حيلة أمامي إلا أن أفعل ما سأفعل تتبعاً للأثر من مصادره، ورصداً له في مظاهره التي تجلى فيها.

أولاً: مؤثرات عامة (البيئة والعصر):

عاش ابن الرومي في عصر مضطرب أشد الاضطراب، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعقائدياً، كما عاش في بيئة أسرية منكوبة، بل إن المصائب أحاطت بها من كل حدب وصوب. وكان لابد لهذا الاضطراب أن ينعكس في شعره، أو أن يترك آثاره فيه، وأن يستجيب استجابات مختلفة للواقع الذي عاشه في مجتمعه. وقد تجلت هذه الاستجابات في الإكثار من أشعار المناسبات كالمديح والتهاني والمراثي ذات الطابع الرسمي، وفي الاستجابة للتطور العقلي الذي شهده العصر العباسي الثاني، وفي ظهور مفردات أعجمية في شعره، وفي التعبير عن قضايا خاصة به.

1 كثرة أشعار المناسبات:

استجاب ابن الرومي لأحداث عصره المختلفة وشارك فيها من خلال رصده لها وتعبيره عن مشاعره تجاهها، وهي مشاعر غير صادقة أملتها طبيعة مهنته بوصفه شاعراً مداحاً يعيش على مهنة الشعر وما فيها من مديح وتهانٍ ورثاء؛ فقد شارك في أحداث عصره مهنئاً بالخلافة وبالوزارة وبولاية العهد، وبالقدوم من السفر، والشفاء من المرض، وبناء الدُّور، وبالأعياد المختلفة، وبالزفاف والولادة والخِتان، وأشاد بالأعمال الإيجابية للخلفاء ووزرائهم وقوادهم، كالقضاء على الخارجين على الخلافة، والانتصار على الروم واستعادة ما اغتصبوه من بلاد المسلمين، والإصلاحات الإدارية والاقتصادية، كما رثى من مات من أقرباء الخلفاء والوزراء وغيرهم.

والشعر الذي قاله في هذه المناسبات شعر ضعيف القيمة والأهمية، لأن ابن الرومي هدف من ورائه إلى التكسب والمجاملة، ولم ينطلق فيه من ثوابت أخلاقية أو من مشاعر صادقة، كما يغلب عليه التكلف والتكرار والإطالة.

لكن ابن الرومي وقف موقفاً أخلاقياً صادقاً من محنة تعرضت لها ديار المسلمين، وتأذى منها الناس جميعاً، هي ثورة الزَّنج على الخلافة العباسية سنة خمس وخمسين ومئتين للهجرة، وما تبع تلك الثورة من سفك للدماء ونهب للثروات وتخريب للبلدان وقطع للطريق، إلى أن استطاع الموفق أخو الخليفة المعتمد القضاء على ثورة الزنج قضاء تاماً سنة سبعين ومئتين للهجرة، بعد أن استمرت خمس عشرة سنة، وذهب فيها خلقٌ كثير، عدا ما تهدم من بلدان، وما دُمر من زروع، وما هلك من مواشٍ، كما يقول المؤرخ الطبري.

وقد تأثر ابن الرومي كثيراً لما أصاب الناس ولما أصاب مدينة البصرة من خراب، وصوّر ما فعله الزنج بالناس من تعذيب وإذلال، وما ألحقوه بالبصرة من تخريب في قصيدة طويلة هي من أجمل ما قيل في رثاء البلدان، لأن ابن الرومي رثاها من خلال إحساسه بالفاجعة التي أصابتها وأصابت أهلها، ومن خلال خوفه من الشر والموت والدمار.

وقد صور في هذه القصيدة خراب المدينة وتشرد أهلها، وما لحقهم من شر، وتأسّى على تلك المدينة العظيمة وتذكر ماضيها الزاهر:

ذاد عن مُقْلَتي لذيذَ المنامِشُغْلُها عنه بالدموعِ السِّجَامِ

أيّ نومٍ مِنْ بعدِ ما حَلَّ بالبَصْرَةِ مِنْ تِلْكُمُ الهَنَاتِ العِظام؟

أيّ نومٍ من بعدِ ما انْتَهَكَ الزَّنْجُ جِهاراً مَحَارِمَ الإسلام؟

وينتقل إلى الحديث عما أصاب الناس على أيدي الزنج من قتل وتشريد، ويفصّل في كل مشهد على عادته في التفصيل؛ فقد باغت الزنج أهل البصرة وهم نيام، وأعملوا فيهم السيف، ولم يراعوا كبيراً ولا صغيراً، ولا رجلاً ولا امرأة، بل إنهم بالغوا في إلحاق الأذى بالناس؛ فاغتصبوا العذارى علانية، وفضحوا النساء المصونات المحجبات، وفرقوا بين أفراد الأسرة الواحدة بين قتل وسَبْيِ واغتصاب:

ومن هنا يكون مديحه للموفق عرفاناً بالفضل وإحقافاً للحق، وليس مديح مجاملة أو تكسب، فقد رأى ابن الرومي في الموفق فارساً مغواراً لا يخاف الأعداء مهما بلغوا من قوة، وهو رجل ترك نعيم العيش ورغده والخمر والنساء لغيره، وسَمَتْ هِمَّتُهُ إلى قيادة الجيش وإعداده للفتك بأعداء الدين، لذا انتصر عليهم وشتت شملهم. وإسرافُه في الشجاعة والفتك بخصومه لا يقل عن إسرافه في إنفاق المال على الشعراء وغيرهم. وقد كان الموفق كما قال ابن الرومي تماماً؛ فارساً مغواراً حمل هَمَّ الخلافة، واستطاع أن يقضي على ثورة الزنج وعلى تسلط القواد الأتراك، فلم يجرؤوا على ارتكاب المظالم والاستبداد بالسلطة ما دام حياً:

2 بروز ثقافة العصر في شعره:

تثقف ابن الرومي بثقافات عصره المختلفة، فلسفية وغير فلسفية، وبرع فيها، ولاسيما الاعتزال، وأغلب الظن أنه لم يكن معتزلياً، لكننا لا نستطيع إنكار معرفته بالاعتزال وتمكّنه من أدواته ومادته ومنهجه، لأنه لون من ألوان الفكر الخصب. والمعتزلةَ أصحاب فكر حر مستنير منفتح على كل الثقافات العربية والأجنبية ولاسيما اليونانية، لأنهم تسلحوا بتلك الثقافات للرد على أصحاب النحل والأديان الوضعية والمُلْحِدَةِ والزنادقة. وقد بلغ ابن الرومي من تلك الثقافات الغاية حتى قيل: إن الشعر كان أقل أدواته. وكان لابد لتلك الثقافة من أن تظهر في شعره، وتتجلى فيما يلي:

آ الخصب في المعاني:

في شعر ابن الرومي معانٍ كثيرة جداً، غنية وعميقة، تدل على تمكنه من ناصية الفلسفة والمنطق في عصره. وهذه السمة لم ينفرد بها ابن الرومي عن الشعراء في تاريخ الأدب العربي، فقد سبقه أبو تمام (231ه)، وجاء من بعده أبو العلاء المعري (449ه)، لكن ابن الرومي زاد كثيراً على أبي تمام وإن كان متمكناً مثله من شاعريته ولم يسمح للفلسفة أن تطغى على شعره وتفسده، بل استطاع أن يقدم الفلسفة من خلال الفن، على عكس المعري الذي لم يستطع تقديم الفلسفة من خلال الفن، فبدت نابية قبيحة، لأنها جاءت على حساب الفن الشعري. لكن ابن الرومي لم يستطع أن يقدم الفلسفة والمنطق دائماً في إهاب الفن، بل إنه كان يقع أحياناً فريسة للمعنى الفلسفي من غير أن يقدر على تذليله لفنه، فيبدو المعنى نابياً وبعيداً عن روح الشعر. من ذلك قوله يمدح:

إذا صَبَتْ زُهْرَتُهُ صَبْوَةًقال لها هِرْمِسُهُ هَنْدِسِ

وإن عَدَا هِرْمِسُهُ حَدَّهُقالت له زُهْرِتُهُ نَفِّس

((والزُّهْرَةُ هي رَبّةُ الجمال واللهو، وهِرْمِس هو اسم عُطارِد عند الفُرْس وهو رَبُّ الكتابة والحكمة... يعني أن ممدوحه يميل مع اللهو والجمال فتهيبُ به الحكمة والمعرفة، ويُرهق نفسه بهذه فتدعوه الزُّهرَةُ إلى التنفيس)).

وهذا المعنى صعب، ويبدو التكلف واضحاً فيه، لكن ابن الرومي آثر أن يقدم ذلك المعنى البسيط تقديماً فلسفياً إظهاراً للمقدرة وإثباتاً للشاعرية والمعرفة بالفلسفة، وإن جاء كل ذلك على حساب الفن.

أو كقوله يعاتب ممدوحاً آخر عليه بالعطاء الذي كان قد وعده به:

كنتَ مِمَّنْ يَرى التَّشَيُّعَ لكنْمِلْتَ في حاجتي إلى الإرْجاءِ

يريد أن يقول لممدوحه إنك تنكرت لأصدقائك وأرجأت حاجتي لديك فلم تقضها لي، لكنه عبّر عن هذا المعنى من خلال مصطلحين سياسيين دينيين، أولهما مصطلح التشيع: ويعني تأييد أبناء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأحفاده في حقهم في خلافة المسلمين، لم يكفروا أحداً من أهل السنة والشيعة وغيرهم، وإنما أرجئوا الأمر كله إلى الله لينظر فيه.

أو كقوله في مصطلحي الجبر والاختيار في معرض معاتبته لأحد ممدوحيه على تأخره في عطاء كان قد وعده به:

لَئِنْ خَيَّبْتَني ورَفَدتَ غيريلقد صَدَّقْتَ عندي قَوْلَ (جَهْمِ)

ألا لا فِعْلُ حَيٍّ باخْتِيارٍمتى خَيَّبْتَني لكن بِحَتْمِ

فَجَهْمُ المذكور هو جَهْمُ بن صَفْوانْ (128ه) كان يقول: إن الإنسان مجبر في كل أفعاله، وليس حر الإرادة في فعل ما يريد، يريد ابن الرومي أن يقول لممدوحه: إنني سأهجوك مُجْبَراً على هجائك على مذهب جهم هذا لأنك حرمتني وأعطيت غيري.

وابن الرومي لا يقبل بعرض المعنى وتقديمه بلا تعليل، لأن التعليل عنده جزء مهم من أجزاء توضيح المعنى؛ فقد تكلم الشعراء قبل ابن الرومي وبعده على الصداقة ورأوا أن الصديق قد يتحول إلى عدو، لذا يجب الحذر من الصديق أضعاف الحذر من العدو، لكن ابن الرومي لم يرضَ بتقديم هذا المعنى كما يقدمه غيره، بل لجأ إلى التعليل والقياس، فقاس الصديق على الطعام، والغدر على الداء، فوجد أن الداء يكون خطيراً عندما يكون داخل الطعام لا نراه، لأننا لو رأيناه ما أكلناه، وكذلك الصديق الذي يتحول إلى عدو فيأتي خطره من حيث لا نتوقع الخطر:

عَدُوَّكَ مِنْ صديقِكَ مُسْتَفادٌفلا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحابِ

فإنَّ الداءَ أكثرُ ما تَراهيَحُولُ مِنَ الطعامِ أو الشَّراب

ثم يتكلم عن كثرة الأصدقاء، ويرى أن كثرتهم لا تغني شيئاً، وأن الخير في القليل منهم. وهذا المعنى مألوف، لكن ابن الرومي لا يرضى به على هذه الصورة، بل يعلله بقوله: إن البحر على اتساعه وعظمه مالح لا ينفع العطشان، على عكس القطرة من الماء الصافي العذب:

ولو كان الكثيرُ يَطِيْبُ كانتمُصاحَبَةُ الكثيرِ مِنَ الصَّوابِ

فَدَعْ عنكَ الكثيرَ فكم كثيرٍيُعافُ وكم قليلٍ مُسْتَطاب

وما اللُّجَجُ المِلاحُ بِمُرْوِياتٍوتَلْقَى الرِّيَّ في النُّطَفِ العّذاب

وثقافته الواسعة المتنوعة، وقدرته على الجدل والاحتجاج جعلتاه يقف عند المعنى الواحد المألوف فيفصل القول فيه مادحاً، ثم يذمه مفصلاً في ذكر عيوبه، دون أن يخلَّ بالمعنى في كلتا الحالين. وهذا الصنيع من ابن الرومي لم يكن مقصوراً عليه وحده، فقد سبقه إليه المعتزلة والمتكلمون ولاسيما الجاحظ، حتى إن البَيْهَقِيَّ أحد معاصري ابن الرومي ألف كتاباً في ذلك عنوانه: المحاسن والمساوئ، ذكر فيه أشياء كثيرة، ممدوحة حيناً ومذمومة حيناً آخر . وقد عُرف عن ابن الرومي هذا الصنيع.

فالحقد داء يكرهه كل الناس ويذمونه كما ذمه ابن الرومي، لكن أحداً لم يمدح الحقد ويبين مزاياه، مثلما فعل ابن الرومي؛ فهو يرى أن الحقد توأم الشكر، ولكلٍّ موضعٌ، فهنالك أشخاص يستحقون أن نحقد عليهم لإساءتهم للناس، مثلما يستحق آخرون الشكر لإحسانهم إليهم، لأن المسألة مسألة دَيْنٍ واستحقاق، ثم يضيف إلى هذا المعنى معنى آخر أكثر عمقاً وجِدَّةً من سابقه، فيرى أن الحقد محمود لأنه يوصل صاحبه إلى ثأره، ولولا الحقد لنسي صاحب الثأر ثأره:

وما الحِقْدُ إلاَّ تَوْأَمُ الشُّكْرِ في الفتىوبعضُ السَّجايا يَنْتَسِبْنَ إلى بعضِ

فحيثُ تَرَى حِقْداً على ذي إساءَةٍفَثَمَّ تَرَى شُكْراً على حَسَنِ القَرْض

ولا عَيْبَ أنْ تُجْزَى القُروضُ بمثلِهابل العَيْبُ أنْ تَدَّانَ دَيْناً فلا تَقْضي

وخَيْرُ سَجِيَّاتِ الرجالِ سَجيَّةٌتوفّيكَ ما تُسْدي مِنَ القَرْض بالقَرض

ولولا الحُقودُ المُسْتَكِنَّاتُ لم يَكُنْلِيَنْقُضَ وِتْراً آخِرَ الدهرِ ذو نَقْض

ب تقصي المعاني:

قادته ثقافته الواسعة وقدرته على الجدل والحجاج إلى تقصي المعاني واعتصارها اعتصاراً شديداً لا يبقى فيه زيادة لمستزيد، مع المحافظة على الوحدة العضوية فيها، فكل بيت يرتبط غالباً بأخيه من قبل ومن بعد، لأن المعنى لا يكتمل إلا إذا قرأنا ما قبله وما بعده، فالمعاني عنده متولد بعضها من بعض، ولا سبيل إلى الفصل بينها في كثير من الأحيان. وهذا سبب من أهم أسباب إطالة القصائد في شعره.

وهذا التقصي واضح كل الوضوح في شعره، لا تكاد تخلو قصيدة منه، فالشيب مثلاً موضوع تكلم فيه الشعراء كثيراً منذ الجاهلية، لكن ابن الرومي لم يترك معنى يمكن أن يقال في الشباب والمشيب إلا أتى به، من خلال تفصيل زائد يعتصر فيه المعنى ولا يترك فيه شيئاً. من ذلك قوله في رثاء شبابه، وقد جعله مقدمة لقصيدة مدحية من مئة وخمسة وسبعين بيتاً، منها سبعون بيتاً في رثاء الشباب والتفجع عليه، وفي هذه الأبيات السبعين يكرر عبارة (يُذَكِّرني الشبابَ...) ثماني مرات؛ فمرة يذَكَره الشبابَ عطشُه الطويل إلى رضاب النساء الجميلات فيفصّل القول في ذلك، ومرة أخرى يذكّره الشبابَ انصرافُ النساء عنه لشيبه، ومرة ثالثة يذكّره الشبابَ ما فعلته أحداق النساء بقلبه، وهكذا قبل أن يصل إلى المديح:

يُذَكِّرُني الشَّبابَ صَدىً طويلٌإلى بَرَدِ الثَّنايا والرُّضابِ

وشُحُّ الغانياتِ عليه إلاعن ابنِ شَبيْبَةٍ جَوْنِ الغُراب

فإن سَقَّيْنَني صَرَّدْنَ شُرْبيولم يَكُ عن هَوىً بلْ عنْ خِلاب

يذكرني الشبابَ هَوَانُ عَتَبْيوصَدُّ الغانياتِ لدى عِتابي

لكن ابن الرومي لم يكن موفقاً في تقصي المعاني وتفصيلها وتقليبها على وجوهها دائماً، بل إنه في كثير من الأحيان يقع في التكلف والرّكَّة وهو يفصّل في المعنى الواحد. من ذلك التقصي غير الموفق قوله في أحد ممدوحيه:

لكَ مَكْرٌ يَدِبُّ في القومِ أَخْفَىمِنْ دَبِيْبِ الغِذاءِ في الأعضاءِ

أو دبيبِ المَلالِ في مُسْتَهامَيْنِ إلى غايةٍ مِنَ البَغْضاء

أو مَسِيْرِ القضاءِ في ظُلَمِ الغَيْبِ إلى مَنْ يُريدُهُ بالتَّواء

أو سُرَى الشيبِ تحت لَيْلِ شبابٍمُسْتَحِيْرٍ في لِمَّةٍ سَحْماء

دَبَّ فيها لها ومنها إليهافاكتستْ لَوْنَ رَثَّةٍ شَمْطاء

فهو يصف مكر ممدوحه بأنه خفي لا يشعر به أحد كدبيب الغذاء في أعضاء الجسد، لكنه لا يكتفي بهذا المعنى، بل يأتي بأربعة أبيات بعده يوضح فيها معنى المكر ويتفنن في تصويره، حتى إنه راح يلتمس التفصيل والتوضيح في حروف الجر أيضاً؛ فذكر الحروف (في واللام ومن وإلي) في شطر واحد، فماذا بقي من معنى المكر بعد أن اعتصره ابن الرومي هذا الاعتصار الشديد؟

وكذا الأمر في المديح، بل إنه يلجأ إلى الإطالة قاصداً ليستوفي المعاني:

كلُّ امرئٍ مَدَحَ امرَأً لِنَوَالِهِفأطال فيه فقد أراد هجاءَهُ

لو لم يُقَدِّرْ فيه بُعْدَ المُسْتَقىعند الوُرُودِ لما أطالَ رِشاءه

غيري فإني لا أُطيْلُ مدائحيإلا لأُوْفِيْ مَنْ مَدَحْتُ ثَناءه

وأَعُدُّ ظُلْماً أنْ أُقِلَّ مديحَهعَمْداً وأَسْخَطُ إنْ أَقَلَّ عَطاءه

3 ظهور مفردات أعجمية في شعره:

في شعر ابن الرومي مفردات أعجمية ليست بالقليلة، معظمها فارسي، وأغلب الظن أن ابن الرومي كان يجريها على لسانه لكثرة ما يسمعها في اليوم من العامة، ومن المعلوم أن العصر العباسي هو عصر تمازج الأعراق والأمم والثقافات، أو أنه كان يقولها تظرفاً ومجاراة لذوق معاصريه العام الذي يميل إلى التملّح بالألفاظ الأعجمية. ولا أستطيع أن أُرجع هذا الأعجمي إلى أمه الفارسية الأصل التي لا نعلم كثيراً عن أصلها أكثر مما ذُكر في أخبار ابنها، لكن وجودها في حياته مع أخت وأخ لها تَسَرُّبَ شيء من الأعجمي الفارسي إلى لسان ابنها، وإن كنت لا أمتلك دليلاً على ذلك. وأغلب الظن أن جريان الأعجمي على لسان ابن الرومي كان بسبب تأثير البيئة المحيطة به، ولأن في اللغة العربية كثيراً من الألفاظ الأعجمية منذ العصر الجاهلي، وقد تأثر الشعراء من العرب وغيرهم بهذه الألفاظ، وأوردوها في أشعارهم، وإن اختلف التأثر من شاعر لآخر، ومن عصر لآخر.

ومن نماذج الأعجمي في شعر ابن الرومي قوله على سبيل المثال في قصيدة يمدح بها أبا القاسم الشِّطْرَنْجِيّ ويعاتبه على مَطْلِهِ في تنفيذ وعدٍ كان قد وعده إياه:

تَهْزِمُ الجَمْعَ أَوْحَدِيّاً وتُلْويبالصَّناديدِ أَيَّما إلْواءِ

وتَحُطُّ (الرِّخاخَ) بعد (الفَرازِيْنِ) فَتَزْدادُ شِدَّةَ اسْتِعْلاء

غَلِطَ الناسُ لستَ تَلعبُ (بالشِّطْ رَنْجِ) لكنْ بِأَنْفُسِ اللُّعَباء

تَقْتُلُ (الشَّاهَ) حيثُ شِئْتَ مِنَ الرُّقْعَةِ طَبّاً بالقِتْلَةِ النَّكْراءِ

غيرَ ما ناظِرٍ بعينِكَ في (الدَّتِ) ولا مُقْبِلٍ على الرُّسلاءِ

فهو يمدحه من خلال مصطلحات الشطرنج، وهي مصطلحات أعجمية ابتداء من اسم اللعبة (الشطرنج) وانتهاء بأحجارها ورقعتها. ومعاني هذا المديح من المعاني التي جَدَّتْ في العصر العباسي بعد أن كان الرجل يمدح بالقيم المعروفة من كرم وشجاعة ونجدة وحمية وحلم... أما هذا الممدوح فهو بطل في ميدان جديد، ليس فيه إلا المنافسون من اللاعبين، وليس فيه أسلحة إلا العقول، وأرضُ المعركة هي رقعة الشطرنج بأحجارها المختلفة الموزعة بين الجنود والخيول والفرسان والوزراء والملوك، وهذا الممدوح متفوق على أقرانه في لعبة الشطرنج، فلا ينظر إلى الرقعة أو إلى اللاعبين عندما يلعب، وكأنه حفظها عن ظهر قلب.

4 التعبير عن قضايا خاصة به:

التفت ابن الرومي إلى أحواله كثيراً وتأملها وعبر عنها في شعره، مبيناً ما لحقه من ظلم وغَبْنٍ على أيدي أبناء مجتمعه، أو على أيدي الطبيعة التي زادت في مصائبه ونُوَبِهِ؛ فقد أشار إلى زرعه الذي قضى عليه الجراد، وإلى ممتلكاته التي أتى عليها الحريق، كما أشار إلى محاولات عدة لاغتصاب ممتلكاته، مرة على يد أحد المتسلطين، ومرة على يد إحدى النساء ذوات اليد الطولى في الدولة. وهذا الشعر يضيء جوانب كثيرة في حياة ابن الرومي، ويساعد في الكشف عن كثير من أخباره التي ضاعت عبر الزمن، فتغدو أشعاره عندئذ وثيقة تاريخية لا تقل أهمية عما جاء به المؤرخون من أخبار عن ذلك العصر المضطرب.

لكننا لا نستطيع أن نسلّم بكل ما كان يقوله في هذا المجال، لما عُرِفَ عنه من مبالغات وافتراءات، غير أن ما قاله يخفي خلفه كثيراً من الحقيقة، ولابد أن نعتمد على ما قاله بسبب ندرة أخباره، فليس أمامنا إلا ما قاله من أشعار في ممتلكاته أو في جسمه أو في نفسه، وإن كنا لا ننظر إلى كل ما يقوله في هذا المجال بعين التصديق.

فقد أتى الجراد على زرعه فقضى عليه، فلم يجد ابن الرومي إلا ممدوحه يستعطفه على ما أصابه من أضرار:

ليَ زرعٌ أتى عليه الجرادُعادَني مُذْ رُزِْتُهُ العُوَّادُ

كنتُ أرجو حَصَادَهُ فأتاهقبل أنْ يَبْلُغَ الحصادَ حصادُ

ثم جاء الحريق فقضى على ما بقي من أملاكه:

وبعدُ فإن عُذري في قُصُوريعنِ البابِ المُحَجَّبِ ذي البَهاءِ

حُدوثُ حَوادثٍ منها حريقٌتَحَيَّفَ ما جَمَعَتُ مِنَ الثَّراء

أُعاني ضَيْعَةً مازلتُ فيهابِحَمْدِ اللهِ قِدْماً في عَناء

لكن معاناته الكبيرة كانت مع جباة الخراج، فقد كان المسؤول عنه رجلاً ظالماً متسلطاً اسمه (ابن بَسْطام)، لم تأخذه رحمة ولا شفقة بما حل بزرع ابن الرومي وبضيعته، بل طالبه بالخراج واشْتَطَّ في الطلب وجار، فلم يجد ابن الرومي إلا أن يتوجه إلى ممدوحه الوزير عبيد الله بن عبد الله ليسقط عنه خراج تلك الضيعة الفقيرة، وليكفَّ يد ابن بسطام عنه، فاستجاب الوزير له وأسقط عن ضيعته الخراج، وكفَّ يد ابن بسطام عنه، فقال ابن الرومي يشكره:

حَطَّ مِنْ ثِقْلِ الخَراجِ عني وقد كانَ كأركانِ يَذْبُل وشَمَامِ

وأراني الضِّياعَ مالاً وقد كنتُ أَرى مُلْكَها كبعضَ الغَرام

كَفَّ مِنْ سَوْرَةِ ابنِ بَسْطَامَ عنيوهْي مَشْبُوبَةٌ كَحَرِّ الضِّرامِ

وأراه بنوره حَقَّ مِثْليوهْو مُذْ كان مُوْقِظُ الأفهام

فقضى حاجتي وكان كَسَيفٍهُزَّ فاهْتَزَّ وهْو غيرُ كَهَامِ

وما قاله ابن الرومي عن تسلط جباة الخراج على الناس صحيح تؤيده الأخبار؛ إذ كان هؤلاء الجباة يبالغون في تعذيب المزارعين وأصحاب الضياع ليستخلصوا منهم أموال الخراج، وقد صور ابن المُعْتَزِّ (عبد الله بن محمد 296 ه) في أرجوزته المشهورة ما كان يفعله هؤلاء الجباة في المزارعين، مِنْ ضَرْبٍ بالسِّياط، وجَرٍّ على الوجوه وهم مقيدون بالأغلال، ومن المبالغة في تعذيبهم كصبِّ الزيت المغلي أو النفط على رؤوسهم، ومن تعليقهم بالجدران من أيديهم وأرجلهم حتى يدفعوا ما عليهم وزيادة، من غير أن يُقَدِّرَ أولئك الجباة الظالمون سوء أحوال المزارعين والكوارث التي لحقت بهم، وأقلّها شُحُّ المطار وغلاءُ الأسعار والآفاتُ التي لحقت زروعهم..

ويبلغ هَوَانُ ابن الرومي عند الناس لضعف سلطة العدل والقانون حداً مخزياً عندما تتجرأ عليه امرأة فتسلبه بيته الذي يسكنه، ويدهش ابن الرومي لهذه الجرأة التي تصدر من امرأة من المفترض أن تكون ضلعاً قاصراً ضعيف الأركان والقوى، فيستغيث بممدوحه من آل وهب ليرد له بيته من براثن هذه المرأة الضعيفة القوية:

أجِرْنْي وزيرَ الدِّينِ والملْكِ إننيإليكَ بحقّي هاربٌ كلَّ مَهْرَبِ

تَوَثَّبَ خَصْمٌ واهِنُ الرُّكْنِ والقُوَىعلى أَيِّدِ الأركانِ لم يَتَوَثَّب

أريدُ ارتجاع َالدارِ لي كيف خَيَّلَتْبِحُكْمِ مُمَرٍّ أو بِلُطْفٍ مُسَبَّب

وتا للهِ لا أرضَى برَدِّ ظُلامَتيإلى أن أَرى لي ألفَ عَبْدٍ ومَرْكَب

والعصر العباسي كما هو معلوم عصر امتزاج عرقي بين العرب والأعاجم ولاسيما الفرس والترك الذين استعان بهم الخلفاء العباسيون لتوطيد حكمهم، فبرزت مشكلة كبيرة تتعلق بهذا الامتزاج هي الاعتداد بتلك الأصول على حساب الأصول العربية، والزراية بها والسخرية من معيشة الأعراب، وقد عُرف هؤلاء بالشعوبيين. لكن العرب لم يسكتوا، بل تصدوا للشعوبيين وحاوروهم وحاجُّوهم ودافعوا عن الأصول بين الطرفين. وقد غُمِزَ ابن الرومي في أصله غير العربي، فاهتاج ورَدَّ عن نفسه ضَعَةَ نسبه بأنْ وصل نسبه بملوك الفرس من جهة أمه، وبملوك اليونان من جهة أبيه، من غير أن يتعالى على العرب أو يسخر منهم ومن حضارتهم كما يفعل الشعوبيون. ومن اللافت للنظر أن جميع الأعاجم كانوا يربطون أنسابهم غير العربية بالملوك من الفرس والروم أو اليونان والترك، وهم في الحقيقة ليسوا من أحفاد أولئك الملوك، بل إن معظمهم من عامة الأعاجم، لكن الرغبة في التباهي والتعالي على العرب جعلتهم يزعمون هذا الانتساب، فكل فارسي هو من سلالة كسرى والساسانيين، وكل رومي هو من سلالة قيصر، وكل تركي هو من سلالة خاقان. وليس الأمر كذلك، لكنه الكَيْدُ والتباهي.

من ذلك قول ابن الرومي يباهي بأصله الرومي أو اليوناني كما سماه من جهة أبيه، وبأصله الفارسي الساساني من جهة أمه، مشيراً إلى أنه سيصل إلى الأمجاد التي وصل إليها أجداده:

إنْ لم أَزُرْ مَلِكَاً أُشْجي الخُطوبَ بهفلم يَلِدْنيْ أبو الأملاكِ يونانُ

بل إنْ تَعَدَّتْ فلم أُحْسِنُ سِياسَتَهافلم يَلِدْنيْ أبو السُّوَّاسِ ساسان

ثم يرى أن الروم أهل أمجاد وقوة وحكمة، وانه وقومه لا يرون وجوههم في المرايا كالنساء، وإنما يرونها في صفحات السيوف البيض القاطعة:

ونحن بنو اليونانِ قومٌ لنا حِجاًومَجْدٌ وعِيْدانٌ صِلابُ المَعاجِمِ

وحِلْمٌ كأركانِ الجبالِ رَزانَةًوجَهْلٌ تَفادَى منه جِنُّ الصَّرائِم

وما تتراءى في المَرايا وجوهُنابلى في صفاحِ المُرْهَفاتِ الصَّوارم

ثانياً: المؤثرات الشخصية (جسمه ونفسه):

وصف ابن الرومي جسمه ونفسه بكل ما فيهما من عيوب وأوجاع ومآخذ. وأسرف في ذلك الوصف حتى لم يستطع أحد من الشعراء غيره اللحاق به في هذا المجال، بل إن معظم شعره يمكن أن يحمل على هذا الوصف. وثمة نماذج شعرية كثيرة له في وصف جسده بما فيه من علل وعيوب، ونفسه بما فيها من مخاوف وأوهام وظنون، لكنني سأقف عند شاهد واحد هاهنا يصور فيه ابن الرومي جملة من المصائب التي نزلت به في جسده وفي نفسه، وهذه المصائب هي التي ركز عليها في شعره أكثر من غيرها، وفصل القول فيها. كقوله يمدح الوزير القاسم بن عبيد الله ويعاتبه، في قصيدة تتألف من مئتين وستة عشر بيتاً، ثلثاها في تصوير سوء حاله:

أنا مَولاكَ أنت أَعْتَقْتَ رِقّيبعدما خِفْتُ حالةً نَكْراءَ

فَعَلامَ انصرافُ وجهِكَ عنيوتَنَاسيْكَ حاجتي إلْغاء

أنا عارٍ مِنْ كلِّ شيءٍ سوى فَضْلِكَ لا زلْتَ كِسْوَةً وغِطاء

أنا مَنْ خَفَّ واسْتَدَقَّ فما يُثْقِلُ أرضاً ولا يَسُدَّ فضاء

أنا لَيْثُ اللُّيوثِ نَفْساً وإنْ كُنْتُ بجسمي ضَئِيْلَةً رَقْشاء

لستُ باللُّقْطَةِ الخَسِيْسَةِ فاعرِفليَ قَدْري واسألْ به الفُهَماء

أنا ذاك الذي سَقَتْهُ يَدُ السُّقْمِ كُؤوساً مِنَ المُرَارِ رِوَاء

ورأيتُ الحِمامَ في الصُّوَرِ الشُّنْعِ وكانتْ لولا القضاءُ قَضاء

ورَماهُ الزمانُ في شُقَّةِ النَّفْسِ فَأَصْمَى فُؤَادَهُ إصْماء

وابتلاهُ بالعُسْرِ في ذاكَ والوَحْشَةِ حتى أَمَلَّ منه البَلاء

وثكِلْتُ الشبابَ بعد رَضَاعٍكان قبلَ الغِذاءِ قِدْماً غِذاء

كلُّ هذا لَقِيْتَهُ فَأَبَتْ نَفْيَ إلاَّ تَعَزُّزاً لا اخْتِتاء

وأَرى ذِلَّتي تُرِيْكَ هَوَانيودُنُوِّي يَزيدُني إقْصاء

إن هذه الأبيات تصور حقاً حال ابن الرومي تمام التصوير، وتعبر عما يحسه من هموم وعذاب في جسده وفي نفسه، وقد توجه بهذه الأبيات إلى ممدوحه الذي وصفه بأنه سيده ومالك أمره الذي سيقضي له حوائجه، ثم يشير إلى أن ضعف بنيته لا يؤثر في همته وشجاعة نفسه وإبائه، وأنه ذو أصل عريق، وليس لقيطاً لا يُعرف والدُه أو أصله، وهو الذي تكالبت عليه الأمراض والعلل حتى طحنت جسده، وهو يكره الأشكال القبيحة ويراها كالموت الذي يكرهه ولا يحب لقاءه، وهو فوق كل ذلك مُعْسِرٌ وحيد في حياته، فقدَ الشباب في سن مبكرة. لكن كل ما أصابه لم يجعل ممدوحه يَحِنُّ عليه أو يقدّر سوء حاله، بل ظن أن ما به من تذلل وخضوع له هو مِنْ هَوانِ نفسه، فما زاده ذلك التذلل إلاَّ إبعاداً له عن مجالسه وتنكراً له.

وهذه المعاني تصور ما أصاب ابن الرومي في حياته، وإن كان فيها بعض المبالغة، لكن هذه المبالغة تخفي خلفها حقيقة ما أصابه.

وقد أثرت هذه الأوضاع التي ذكرها ابن الرومي في شعره كثيراً، لكن تأثيرها لم يكن واحداً، بل أخذ منحنين اثنين؛ أولهما التعبير عن هذه الأوضاع تعبيراً حقيقياً من خلال مئات القصائد والمقطعات التي تدور في معظمها حول هذه المعاني، وثانيهما تجاوز هذه المعاني والبحث عن معانٍ مناقضة لها على سبيل التعويض، فادعى أشياء لم تكن فيه، وصور نفسه بصورة بعيدة عما هي عليه، كما حوّل ضعف بنيته إلى قوة مبالَغ فيها. ولم يقف عند هذا الحد بل أثرت أحواله الجسدية والنفسية في طبيعة شعره أيضاً.

وسأَفْصِل بين جسده ونفسه فصلاً مؤقتاً لأبحث في كل قسم على حدة عن المؤثرات التي أثرت فيهما، وعن المظاهر التي نتجت عن تلك المؤثرات. وإن كان هذا الفصل غير علمي، لأن كلاً من جسده ونفسه كان يستجيب للآخر، ويحركه، ويتحرك به.

1 جسمه:

كان ابن الرومي ضعيف البنية، يُغَرْبِلُ في مشيته، ويستند على العصا في آخر أيامه، ضعيف البصر والسمع، يشكو من ضعف جنسي، ومن شيب غزا رأسه في سن الشباب، علاوة على نهمه الشديد إلى الطعام.

وقد عبر عن هذه الأحوال بالصدق حيناً من خلال أشعار كثيرة، وبالادعاءات الكاذبة حيناً آخر ليخفي ضعفه، لكنه بادعاءاته تلك قدم لنا تحليلاً دقيقاً لنفسه وإن كان تحليلاً معكوساً، لكنه لا يقل أهمية عن الأشعار التي وصف فيها أحواله الجسدية والنفسية فمن بين ادعاءاته الكثيرة قوله يصف شجاعته وفروسيته وبطولاته، على الرغم مما عرف عن بنيته من ضعف واعتلال، وعن نفسه من جبن وخوف وتوهم:

وإني لَلَيْثٌ في الحروبِ مُظَفَّرٌمُعَارٌ أَداةَ الهَصْرِ بالظَّفْرِ والعَضِّ

إذا ما هَزَزْتُ الرُّمْحَ يومَ كَريهةٍلِجَمْعٍ فذاكَ الجَمْعُ أولُ مُنْفَضّ

تَضاءَلُ في عيني الجُموعُ لدى الوَغَىوإنْ هي جاءتْ بالقَضِيْضِ وبالقَضّ

وما ضَرْ بِيَ الأقْرانَ عند لقائِهمْبِذَبّ ولا طَعْنِي هنالك بالوَخْض

فهو أسد في الحروب، مظفر دوماً، وسلاحه في انتصاره على الأعداء، كسرهم أظافره وأسنانه، وهو قادر على تفريق الجموع برمحه مهما كانت كبيرة وكثيرة العدد، وهو يهجم على أعدائهم ويضربهم، ولا ينتظر هجومهم عليه ليدافع عن نفسه. وهذا الافتخار مبني على الادعاء الكاذب على شاكلة كثير من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، وينسبون إلى أنفسهم أشياء ليست فيها. ولعل ابن الرومي أراد بهذه الأبيات أن يدفع عن نفسه تُهَمَ العجز والضعف والجبن التي كان يراها في نظرات معاصريه وغمزاتهم، ولعله أراد الخوض في موضوع الفخر بالشجاعة كما خاض فيه غيره من الشعراء.

وله قصيدة أخرى طويلة ضاع معظم أبياتها، ولم يبق منها إلا اثنان وعشرون بيتاً كلها على هذا النحو من الادعاءات الكاذبة بالقوة والشجاعة.

وفي موضع آخر في شعره يتحول ابن الرومي الجبان الذي يخاف مما لا يخيف إلى واعظ يعظ الناس بألا يجبنوا أو يخافوا، ويحضهم على الشجاعة والاستهانة بالنفس لأن العمر واحد والموت واحد، وأن الذي يخاف من الموت هو ناقص الإيمان، لاعتقاده أنه لن يُبْعَثَ من جديد بعد موته. وكل هذا ليظهر نفسه شجاعاً لا يخاف الموت، وأنه ليس جبانا ًكما يظن الناس:

لا تَجْبُنَنَّ لأنَّ النَّفْسَ واحدةٌفإنما الموتُ أيضاً واحدٌ فَقَدِ

ما يَجْبُنُ المرءُ إلا وهْو مُعْتَقِدٌأو مُشْفِقُ أنه إن مات لم يَعُد

وكان له شأن مهم مع أصحاب اللحى الطويلة، لأنه كان يكره إطالة اللحية، ويراها تعبيراً عن الحمق والنقص في صاحبها، وهذا أمر مألوف من شاعر ينفر من مظاهر القبح في كل شيء.

واللحية الطويلة الزائدة في طولها أو كثافة شعرها عن الحد أمر قبيح حقاً، لكن ابن الرومي في هجومه على أصحاب اللحى الطويلة كان يشعر بعقدة النقص تجاههم لأن لحيته هو كانت قصيرة، ولا سبيل إلى إطالتها، فلابد إذاً أن يقصروها هم. ومن هاهنا نستطيع أن نفهم سر هجومه على أصحاب اللحى الطويلة، لأن نصف شبر منها يكفي علامة على الرجولة كما يقول، فما الداعي إلى تلك الإطالة؟

أو فَقَصِّرْ منها فَحَسْبُكَ منهانِصْفُ شِبْرٍ علامةَ التذكيرِ

فالقضية لم تعد نفوراً من منظر قبيح فحسب، بل صارت تعويضاً نفسياً، وتعالياً على تهمة قد تُوجَّه إليه بسبب قصر لحيته، فبادر بالهجوم على الآخرين قبل أن يهاجموه هم، بل راح يُزَيِّنُ في أعينهم اللحية القصيرة، حتى لا يظن أحد منهم أن قِصَرَ لحيته عيبٌ فيه، بل لأنه هو يريدها أن تكون قصيرة، كالثعلب الذي قُطِعَ ذيلُه فلم يجد أمامه إلا أن يُزَيِّن ذلك الذيل القصير المقطوع في أعين الثعالب حتى يقطعوا أذياله مثله، لأنه ليس باستطاعته أن يعيد ذيله إلى ما كان عليه، أو كقولِهِ إن العِنَبَ حِصْرِمٌ حامض لأنه لم يستطع الوصول إلى كرمته.

وكان ابن الرومي نهماً إلى الطعام نهماً شديداً أفسد عليه صحته، حتى قيل: إن نهمه تسبب في هلاكه. وقد عبر عن هذا النهم تعبيرين مختلفين، وإن كان بينهما خيط دقيق واضح؛ فقد وصف شهوته الجامحة إلى الطعام بمختلف صنوفه من خلال كثير من القصائد والمقطعات، وتفنن في وصف أصنافه وأشكاله وطعومه وطرائق تحضيره... ويضيق بنا المجال لو رحنا نتبع الأصناف التي ذكرها منه في شعره، لكنه شهر بحبه للسمك. من ذلك قوله في قصيدة مدحية تتألف من اثنين وعشرين بيتاً، منها سبعة أبيات باهتة في المديح، والباقي في ذكر السمك:

واعلمْ وُقِيْتَ الجهلَ أنك فيقَصْرٍ تَلِيْهِ مَطارِحُ السَّمَكِ

وبَناتُ دِجْلَةَ في فِنائِكُمُمَأْسُوْرَةٌ في كلِّ مُعْتَرَكِ

بيْضٌ كأمثالِ السَّبائِكِ بلْمَشْحُونَةٌ بالشَّحْمِ كالعُكَك

تُغْنِي عن الزَّيَّات قالِيَهاوتُبَخِّرُ الشاوِيْنَ بالوَدَك

والهازِباءُ هَدِيَّةٌ ذهبتْمذ جاوزتْ أسْكُفَّةَ الحَنَكِ

وافَى فألْفَيْناهُ في مِعَدٍلم نُلْقِهِ للنَّسْلِ في بِرَك

فما يطلبه من ممدوحه هو أكلة سمك من نهر دجلة المجاور لقصره، ثم يصف ذلك السمك وهو في النهر قد طُبِّقَ شحماً يغني عن الزيت، وتفوح منه رائحة الدسم إذا قلي، لكن هذه الأكلة الهدية قد ذهبت إلى المعدة بعد المضغ، وهذا خير من أن تظل الأسماك في النهر لتتكاثر وتتناسل.

وهذا المزج بين الطعام والمرأة نقله أيضاً إلى أركان الصورة نفسها، فاستعان به ركناً من أركان التشبيه؛ فالأطعمة والأشربة عناصر مهمة من عناصر الصورة الشعرية عنده، ويكفي للتدليل على ذلك أن نتذكر ما قاله في قصيدته المشهورة في المديح التي مطلعها:

أَجْنَتْ لك الوَجْدَ أغصانٌ وكُثْبانُفيهنّ نوعانِ تفاحٌ ورمان

وفوقَ ذَيْنِكَ أعْنابٌ مُهَدَّلَةٌسُوْدٌ لهنَ مِنَ الظَلْماءِ أَلْوان

وتحت هاتِيْكَ أعنابٌ تَلُوْحُ بهأَطْرافُهُنَّ قُلوبُ القومِ قِنْوان

فهو يركّب صوراً جميلة من الطبيعة والثمار الطيبة؛ فقامة المرأة غصن، وردفاها ضخمان يرتّجان ككثيب الرمل الناعم، وخداها لونهما أحمر كالتفاح، ونهداها بارزان مستديران كالرمان، وشعرها أسود مرسل فاحم كالعنب الأسود، وأطراف أصابعها محمرة كأنها عنب أحمر، أو (عنّاب) كما في رواية أخرى، لذا كان لابد لامرأة بهذه الأوصاف أن تجني ثمار الوجد لعاشقيها، أو أن تتجنى عليهم وتمزق قلوبهم، لأن لكلمة (جَنَى) معنيين؛ أحدهما من الجَنْيِ يكون للثمار، والآخر من الجِنايَةِ بمعنى الذنب والجُرْم. والمعنيات جائزان في البيت السابق.

وإمعان ابن الرومي في الطعام ونهمه الشديد فيه من أهم أسباب إطالته في المعاني أو في القصائد، وكأنه لا يريد أن يترك المعنى حتى يشبع منه، ولا يبقي منه إلا الفضلات التي لا تنفع أحداً. وقد دفعه ضعفه الجنسي إلى التعويض أيضاً بعدة طرق؛ منها وصف بعض المغامرات مع النساء، وأنه محبوب مرغوب فيه على طريقة عمر بن أبي ربيعة في الغزل المعكوس، بل إن النساء يتهالكن عليه وهو يرفضهنّ ولاسيما إذا كن مغنيات، ومنها الهجاء الفاحش الذي يذكر فيه السوءات ويسمي الأشياء بمسمياتها، كما دفعه هذا الضعف إلى تَشَهِّي المرأة، وتخيلها في كل شيء كالطبيعة والطعام، لكن الحقيقة بعد كل ذلك أن المرأة كانت تنفر منه لقبحه ولشيبه، وربما لضعفه الجنسي، مما زاده كرهاً لها، وإمعاناً في هجائها ونفي كل فضل عنها.

فهو يصور نفسه محبوباً من النساء اللواتي يخطبن وده ويتهالكن على وصاله، وهو يتأبى عليهن ويتمنع، وله قصيدة كتلك القصائد التي نظمها عمر بن أبي ربيعة في وصف النساء اللواتي يسعين خلفه، فحاول ابن الرومي أن يقلده، ونجح في ذلك إلى أبعد حدود النجاح، حتى ليخيل إلى القارئ أن القصيدة لعمر وليست لابن الرومي:

كتبتْ رَبَّةُ الثنايا العِذابِتَتَشَكَّى إليَّ طُوْلَ اجْتِنابي

وإذا قرأنا القصيدة بتمامها رأينا كيف يخدعنا ابن الرومي بادعائه الجديد هذا، فهو يزعم أن صاحبته أرسلت إليه خطاباً تدعوه إليها، وتشتكي له من طول غيابه عنها، وتصف حبها الذي أضنى فؤادها، فاستجاب لخطابها ورحل إليها مقتحماً المخاطر، ومتجاوزاً الحراس في الليل بعد أن هجعوا من التعب، فاستقبلته صاحبته مع أترابها وهنّ كاشفات عن وجوههن وقد أمضين الليل ساهرات ينتظرن قدومه، وتسلَّلْنَ إليه خوفاً من الحراس والبواب، ورُحْنَ يتحدثنَ عنه أحاديث تَشِفُّ عن عشقهن له وعدم قدرتهن على الصبر على فراقه، وهن يتمنْينَ أن يَرِقَّ لأحوالهن، ثم جلس إلى صاحبته فراحت تعاتبه على هجره لها، فأعلمها أنه ما هجرها طائعاً ولا سالياً عنها بالخمر والطرب، بل لأنه كان مثلها يشكو من نار الهوى التي كَوَتْهُ فلم يستطع أن ينام ليله، وكأن فراشه حشي بالحجارة الحادة الناتئة. وبعد هذا العتاب تصالحا وتواعدا على اللقاء من جديد.

إنها حكاية جميلة بلا شك، لكن ابن الرومي مُدَّعٍ في كل كلمة قالها، فهو لم يكتف بالقول إن صاحبته تشتاق إليه، وأنها متيمة به، بل زعم أن صويحباتها متيمات به أيضاً، ثم صور ما لحق بصاحبته من عذاب بسبب هجرانه، حتى راحت تتمنى هي وصويحباتها أن يرق لها. لكنه ختم القصيدة بخاتمة لا تناسب ادعاءاته فيها، فقد أشار إلى أنه متيم بصاحبته كما هي متيمة به، حتى إنه قَلِقٌ يتقلب على فراشه ولا يستطيع أن ينام لشدة حبه لها واشتياقه إليها. وكان من المفترض بعد كل تلك المقدمات التي ساقها ليؤكد محبة المرأة له وسعيها خلفه وهجرانه لها أن يخفي مشاعره نحو صاحبته ويتلذذ بعذابها وسعيها خلفه، أو يظهر عدم اهتمامه بحالها وقلة مبالاته لما أصابها.

ويزعم في مواضع أخرى كثيرة مزاعم كهذا الزعم، لكنه يضيف إليه مزاعم جديدة تؤكد فحولته وقوته الجنسية.

ونستطيع أن نعلل بعد هذا الفهم لحقيقة علاقته بالنساء أسباب سوء ظنه بالمرأة، والمبالغة في هجاء النساء ولاسيما المغنيات، لأن المرأة نفرت منه لقبحه ولشيبه، أو لعنانته، أو لأمراضه وعلله، أو لكل هذه الأسباب معاً، فكان رد ابن الرومي عليها أنْ سلب منها كل فضيلة، وصورها فاجرة، أو على أقل تقدير خائنة لا تعرف الوفاء بالعهود. وهذا الكلام ينطبق على كل النساء في زعمه كما يقول:

ولا يَدُمْنَ على عَهْدٍ لِمُعْتَقِدٍأنّى وهُنّ كما شُبِّهْنَ بُسْتانُ

يَمِيْلُ طَوْراً بِحِمْلٍ ثم يُعْدَمُهُويَكْتَسي ثم يُلْفَى وهْو عُرْيان

حالاً فَحالاً كذا النَّسْوانُ قاطِبَةًنَوَاكِثٌ. دِيْنُهُنَّ الدَّهرَ أدْيان

يَغْدُرْنَ والغَدْرُ مَقْبُوحُ يُزِّيُنهُللغاوِياتِ وللغافِيْنَ شَيْطان

تَغْدو الفتاةُ لها حِلٌّ فإنْ غَدَرَتْراحتْ يُنافِسُ فيها الحِلَّ خِلان

فإنْ تُبِعْنَ بَعَهْدٍ قُلْنَ مَعْذِرةًإنا نَسِيْنا وفي النّسْوان نِسْيان

يكفي مُطالِبَنا للذّكْرِ ناهِيَةًالغالِبَ المشهورَ نِسْوان

فَضْلُ الرجالِ علينا أنَ شِيْمَتَهمجُوْدٌ وبَأْسٌ وأحْلامٌ وأَذْهان

وأنَّ فيهم وَفاءٌ لا نَقومُ بهولن يكونَ مع النُّقْصانِ رُجْحان
 
رد: صَفْحَةَ مُرَاجَعَةِ اللُغَة اَلْعَرَبِيَةُ وَ اَدَآبُهَآ ~ لِلْجَادِّينَ فَقَطُّ ‏

السلام عليكم
بالتوفيق لكم يا غالية في هذا الموضوع الجميل و المفيد
أولا هذا الفرض ليس في نصف ساعة فقط صراحة ظُلمتم
أنت طلبت شخصية ابن الرومي
من خلال دراستنا له في الجامعة أهم مظهر لشعره
أنه كان يحاكي الواقع الذي يعيشه على خلاف شعراء زمانه
فنراه ينقل أهم تفاصيل حياته اليومية في شعره
و لذلك إذا ركزنا في شعر ابن الرومي على العموم نرى
انها مزيج بين مختلف المشاعر و الاحاسيس
و اعتمد كثيرا على صفة المدح في جل قصائده
شخصية ابن الرومي نجدها عاطفية كثيرا و ميالة
الى مايحدث حولها و ترجمته في قصائد
ابن الرومي لا يقبل بعرض المعنى وتقديمه بلا تعليل،
لأن التعليل عنده جزء مهم من أجزاء توضيح المعنى
قصائده كما قلت سابقا متنوعة تنوع البيئة التي يعيش فيها
و تنوع المشاعر التي تطغى عليه
وقصائده ذات معنى معين في أغلبها يحب الكتابة في المدح خصوصا
لا أدري إن كنت قد وفيت لك و هذه المعلومات من خلال دراستي
و ليس من الانترنت
ممكن أيضا اذا أردت المزيد ان أبحث لك

 
رد: صَفْحَةَ مُرَاجَعَةِ اللُغَة اَلْعَرَبِيَةُ وَ اَدَآبُهَآ ~ لِلْجَادِّينَ فَقَطُّ ‏

اختي شكرآ لك
مي احنآ قرينا شخصية ابن الرومي تتميز بهجآئه للاخرين
نتيجة الطبقية السائدة في العصر العباسي
الطبقة الحاكمة هم الفقراء و الجهلاء
و الطبقة العامة هم العلماء


اريد تحليلآ كيما هذآ تعيشي اختي عاونيني
 
رد: صَفْحَةَ مُرَاجَعَةِ اللُغَة اَلْعَرَبِيَةُ وَ اَدَآبُهَآ ~ لِلْجَادِّينَ فَقَطُّ ‏

momkn al7al !!!
 
رد: صَفْحَةَ مُرَاجَعَةِ اللُغَة اَلْعَرَبِيَةُ وَ اَدَآبُهَآ ~ لِلْجَادِّينَ فَقَطُّ ‏

momkin al7al !!
 
رد: صَفْحَةَ مُرَاجَعَةِ اللُغَة اَلْعَرَبِيَةُ وَ اَدَآبُهَآ ~ لِلْجَادِّينَ فَقَطُّ ‏

momkiin l7al !!!!!
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

المواضيع المشابهة

لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top