القوقعه ( يوميات متلصص )

ha kh

:: عضو مُشارك ::
إنضم
3 أفريل 2016
المشاركات
355
نقاط التفاعل
689
النقاط
21
السلام عليكم و رحمة الله
اود ان اشارككم هذه القصة الحقيقة و التي كتبها احد الذين عانو من ظلم وهو يروي معاناته في غياهيب السجن لن اشرح كثيرا عنها انما اترككم تكتشفون الاحداث بعد القراءة و اتمنى ان تنال اعجابكم
القــوقعـة- مصطفى خليفة
(( يوميات متلصص ))
الجزء الاول

جلست وسوزان في كافيتيريا مطار أورلي بباريس ننتظر إقلاع الطائرة التي ستقلني إلى بلدي بعد غياب دام ست سنوات.
حتى ربع الساعة الأخير هذا، لم تيأس سوزان من محاولة إقناعي بالبقاء في فرنسا، أخذت تكرر على مسامعي نفس الحجج التي سمعتها منذ شهور عندما أعلمتها بقراري النهائي بالعودة إلى الوطن والعمل هناك.
أنا ابن عائلة عربية تدين بالمسيحية والمذهب الكاثوليكي. نصف العائلة يعيش في باريس، لذلك كانت الأبواب مفتوحة أمامي للدراسة في هذا البلد، دراستي كانت سهلة وميسرة وخاصة إنني كنت أجيد الفرنسية حتى قبل قدومي إلى باريس، درست الإخراج السينمائي وتفوقت في دراستي. وها أنا أعود بعد تخرجي إلى بلدي ومدينتي.
سوزان أيضا ابنة عائلة عربية، ولكن كل عائلتها كانت قد هاجرت وتعيش في فرنسا، أصبحنا صديقين حميمين في السنتين الأخيرتين من دراستي، وكان يمكن أن نتزوج بمباركة العائلتين لولا إصراري على العودة إلى الوطن، وإصرارها على البقاء في فرنسا.
قلت لها حسماً لآخر نقاش في الموضوع ونحن في المطار:
- سوزان .. أنا أحب بلدي، مدينتي. أحب شوارعها وزواياها. هذه ليست رومانسية فارغة، إنه شعور أصيل، أحفظ العبارات المحفورة على جدران البيوت القديمة في حينا، أعشقها، أحن إليها. هذا أولاً، أما ثانياً فهو أنني أريد أن أكون مخرجاً متميزاً، في رأسي الكثير من المشاريع والخطط، إن طموحي كبير، في فرنسا سوف أبقى غريباً، أعمل كأي لاجيء عندهم، يتفضلون علي ببعض الفتات ... لا... لا أريد. في بلدي أنا صاحب حق… وليس لأحد ميزة التفضل عليّ، بقليلٍ من الجهد أستطيع أن أثبت وجودي، هذا إذا نحّينا جانبا حاجة الوطن لي ولأمثالي.
لذلك قراري بالعودة نهائي، وكل محاولة لإقناعي عكس ذلك عبث.
ران صمت استمر بضع دقائق. سمعنا النداء. آن أوان صعود الطائرة، وقفنا، شربنا ما تبقى في كؤوسنا من بيرة دفعة واحدة، نظرت إليها متأثراً، لمحت مشروع دمعة في عينيها، ألقت بنفسها على صدري، قبلتها سريعاً. " لا أطيق هكذا موقف "
قلت : أتمنى لك السعادة.
- وأنا كذلك، أرجو أن تنتبه، حافظ على نفسك.
وصعدت الطائرة.

* يوميات متلصص:

إن التلصص الذي مارسته لم يكن تلصصاً جنسياً - وان لم يخل الأمر من ذلك.
هذه اليوميات كتبت معظمها في السجن الصحراوي، وكلمة ( كتبت ) في الجملة السابقة ليست دقيقة.
ففي السجن الصحراوي لا يوجد أقلام ولا أوراق للكتابة.في هذا السجن الضخم الذي يحتوي على سبع ساحات إضافة إلى الساحة صفر، وعلى سبعة وثلاثين مهجعاً، وعلى العديد من المهاجع الجديدة غير المرقمة والغرف والزنازين الفرنسية (السيلول ) في الساحة الخامسة، والذي ضم بين جدرانه في لحظة من اللحظات أكثر من عشرة آلاف سجين، في هذا السجن الذي كان يحتوي على أعلى نسبة لحملة الشهادات الجامعية في هذا البلد، لم ير السجناء - وبعضهم قضى أكثر من عشرين عاماً - أية ورقة أو قلم.
الكتابة الذهنية أسلوب طوّره الإسلاميون. " أحدهم كان يحفظ في ذهنه أكثر من عشرة آلاف اسم، هم السجناء الذين دخلوا السجن الصحراوي، مع أسماء عائلاتهم، مدنهم أو قراهم، تاريخ اعتقالهم، أحكامهم، مصيرهم .....".
عندما قررت كتابة هذه اليوميات كنت قد استطعت بالتدريب تحويل الذهن إلى شريط تسجيل، سجلت عليه كل ما رأيت، وبعض ما سمعت.
والآن أفرغ "بعض" ما احتواه هذا الشريط.
- هل أنا نفس ما كنته قبل ثلاثة عشر عاما ؟! ... نعم ... ولا. نعم صغيرة، ولا كبيرة.
نعم، لأنني أفرغ وأكتب "كتابة حقيقية" بعضاً من هذه اليوميات.
ولا.. لأنني لا أستطيع أن أكتب وأقول كل شيء. هذا يحتاج إلى عملية بوح، وللبوح شروط. الظرف الموضوعي والطرف الآخر.
20 نيسان
وقفت على سلم الطائرة قليلاً أتملى أبنية المطار. أنظر إلى الأضواء البعيدة، أضواء مدينتي. إنها لحظة رائعة.
نزلت، أخذت حقيبتي وجواز السفر في يدي، إحساس بالارتياح، إحساس من يعود إلى بيته وزواياه المألوفة بعد طول غياب.
طلب مني الموظف الانتظار. قرأ جواز السفر، رجع إلى أوراق عنده، بعدها طلب مني الانتظار، فانتظرت.
اثنان من رجال الأمن استلما جواز السفر وبلطف مبالغ فيه طلبا مني مرافقتهما.
أنا وحقيبتي – التي لم أرها بعد ذلك – ورحلة في سيارة الأمن على طريق المطار الطويل، أرقب الأضواء على جانبي الطريق، أرقب أضواء مدينتي تقترب، ألتفت إلى رجل الأمن الجالس إلى جواري، أساله:
- خير إن شاء الله ؟ .. لماذا هذه الإجراءات ؟!
يصالب سبابته على شفتيه، لا ينطق بأي حرف، يطلب مني السكوت، فأسكت!
رحلة من المطار إلى ذلك المبنى الكئيب وسط العاصمة. رحلة في المكان.
ومنذ تلك اللحظة ولى ثلاثة عشر عاماً قادمة! رحلة في الزمان.
"عرفت فيما بعد أن أحدهم، وكان طالبا معنا في باريس، قد كتب تقريرا رفعه إلى الجهة الأمنية التي يرتبط بها، يقول هذا التقرير إنني قد تفوهت بعبارات معادية للنظام القائم، وإنني تلفظت بعبارات جارحة بحق رئيس الدولة، وهذا الفعل يعتبر من اكبر الجرائم، يعادل فعل الخيانة الوطنية إن لم يكن أقسى.
وهذا جرى قبل ثلاث سنوات على عودتي من باريس".
ذلك التقرير قادني إلى هذا المبنى الذي يتوسط العاصمة – قريباً من بيتنا هذا المبنى الذي أعرفه جيداً، فلطالما مررت من أمامه. كنت حينها مُثاراً بالغموض الذي يلفه، وبالحراسة الشديدة حوله.
رجلا الأمن يخفراني، اشتدت قبضاتهما على ساعديّ عندما ولجنا الباب إلى الممر الطويل. في آخر الممر شاب، صاح عندما رآنا:
- أهلين موسى ..شو ؟! أخضر ولا أحمر؟
- كلّو ..... من بعض.
من الممر إلى ممر آخر، درج داخلي، ممر علوي، غرفة إلى اليمين... قرع الباب... صوت من الداخل: أدخل.
فتح مرافقي الباب بهدوء، ثم خبط الأرض بقدميه بقوة:
- احترامي سيدي .. هذا مطلوب جبناه من المطار .. سيدي.
انسلت إلى أنفي رائحة مميزة، لا يوجد مثيلها إلا في مكاتب ضباط الأمن، هي خليط روائح، العطور المختلفة، السجائر الفاخرة، رائحة العرق الإنساني، رائحة الأرجل.
كل ذلك ممزوج برائحة التعذيب. العذاب الإنساني. رائحة القسوة.
ما أن تصل الرائحة إلى أنف الإنسان حتى يشعر بالرهبة والخوف، وقد شعرت بهما رغم اعتقادي أن التباساً ما وراء كل هذا.
التفت إلينا شخص عملاق، أبيض الشعر ذو وجه أحمر، لمحت عند قدميه شاباً مقرفصاً معصوب العينين، قال العملاق:
- خذه لعند أبو رمزت.
جذبني المرافقان، هذه المرة بعنف ظاهر. ممرات وأدراج، كم يبدو البناء صغيراً من الخارج، بينما هو بكل هذا الاتساع من الداخل، خلال سيرنا تصلني أصوات صراخ إنساني واستغاثات، كلما تقدمنا أكثر تزداد هذه الأصوات ارتفاعاً ووضوحاً، نزلنا – على ما أعتقد - إلى القبو، فتح أحد مرافقيّ الباب، رأيت مصدر الصراخ والاستغاثة، فاجأتني صرخة ألم عالية إثر ضربة كابل على قدمي الشخص الممدد أرضاً والمحشور في دولاب سيارة خارجي، رجلاه مرتفعتان في الهواء.
"أحسست أن شيئي بين فخدي قد ارتجف".
بينما كنت مذهولاً من رؤية الكابل الأسود يرتفع ثم يهوي على قدمي الشاب المحشور في دولاب السيارة الأسود ثم يرتفع ناثراً معه نقاط الدم ونتف اللحم الآدمي، جمّدني صوت زاعق. التفت مرغماً إلى مصدره، في زاوية الغرفة رجل محتقن الوجه، محمرّه، والزبد يرغي على زاويتي فمه:
- طمّش عيونه ..ولا حمار!!
قفز أحد مرافقيّ قفزتين، واحدة إلى الأمام، وأخرى إلى الوراء، وإذا بشيء يوضع على عينيّ ويُربط بمطاط خلف رأسي، ولم أعد أرى شيئا.
- وقفوه على الحائط.
دفعة على ظهري، صفعة على رقبتي، يداي إلى الخلف، أسير مرغما، يرتطم رأسي بالجدار، أقف.
- إرفع يديك لفوق ..ولك كلب ...
أرفعُهما.
- إرفع رجلك اليمين ووقف على رجلك اليسار ..يا ابن ال......
أرفع رجلي، أقف.
في الخلف يستمر ما كان يجري، أسمع صوت الكابل، صوت ارتطامه بالقدمين، صوت الشاب المتألم، صوت لهاث الجلاد، أكاد اسمع صوت نتف اللحم التي رأيتها تتطاير قبل قليل.. أصوات.. أصوات.
عند الأعمى الصوت هو السيد.
الكرسي المريح في مطار اورلي، سوزان، مرطبات، بيرة، المقعد الوثير في الطائرة، المضيفة التي تفيض رقةً وجمالاً، العصير.. الشاي !!
تتعب رجلي اليسرى التي تحمل كامل جسدي." لو بدلت اليمنى باليسرى، هل سينتبه الرجل ذو الوجه المحتقن؟! وإذا انتبه ماذا سيفعل ؟!" .
تتخدر اليسرى، لم أعد أستطيع الاحتمال، أغامر ..أبدل !!.. لم يحصل شيء، لم ينتبه أحد، أشعر بالانتصار!.. "بعد سنين طويلة من السجن مستقبلاً، سأكتشف أنه في الصراع الأبدي بين السجين والسجان، كل انتصارات السجين ستكون من هذا العيار!!".
الزمن ثقيل .. ثقيل .. حالة من اللاتصديق تنتابني!! ما الذي يجري؟! ولم أنا هنا ؟! آلاف الأسئلة، أحاول أن أستند بيدي إلى الحائط، ألمسه برؤوس أصابعي .... فجأة يصيح الشاب المحشور في دولاب السيارة الخارجي الأسود:
- بس يا سيدي ..بس، مشان الله، ما عاد فيني أتحمل! رح أحكي كل شي.
بهدوء وبلهجة المنتصر، يقول الرجل ذو الوجه المحتقن:
- بس إبراهيم .. كافي، اتركه، طالعه من الدولاب وخذه لعند الرائد.
اسمعه يتكلم بالهاتف مع الرائد. فكرت: جاء الآن دوري !!؟ .
فعلاً، سمعت صوت سماعة الهاتف تعاد إلى مكانها، صاح المحتقن:
- ولك أيوب ..أيوب.
- نعم سيدي.
- تعال شوف هذا الزبون.
أحس بأيوب خلفي .
- دخله عـ الدولاب ..يا لله بسرعة.
شعرت بأن أكثر من خمسة رجال قد جذبوني وأوقعوني أرضاً. " الى الآن، بعد أربعة عشر عاماً مضت على تلك اللحظة، لم أستطع أن أفهم أو أتصور كيف أن أيوب قد حشرني في ذلك الدولاب الخارجي للسيارة، بحيث أصبحت رجلاي مشرعتين في الهواء، لا أستطيع الفكاك مهما حاولت، ولا كيف انتزع حذائي وجواربي !!".
- سيدي ..كابل ولاّ خيزرانة؟
- خيزرانه .. خيزرانه، يظهر الأستاذ نعنوع!
سيخ من النار لسع باطن قدمي، صرخت. قبل انتهاء الصرخة كانت الخيزرانه قد لسعت مرة أخرى .. الضرب متواصل، الصراخ متواصل. رغم ذلك سمعت صوت الرجل المحتقن:
- أيوب.. بس استوى ناديلي.
لا أعرف لماذا يضربونني! لا أعرف ماذا يريدون مني، تجرأت وصرخت:
- لك يا أخي شو بتريد مني؟.
- كول ...... ولاه
هذا كان رد أيوب الذي لم أر وجهه أبداً. وبدأت أعد الضربات وأنا أصرخ ألما. "بعد ذلك بزمن طويل، أخبرني المتمرسون: إن عدَّ الضربات أول علامات الضعف، وإن هذا يدل على أن المجاهد أو المناضل سينهار أمام المحقق!!..وقتها قلت في نفسي: ولكنني لست مناضلاً ولا مجاهداً. وأخبروني أن من الأفضل في هذه الحالات أن تكون لديك قدرة كبيرة على التركيز النفسي بحيث تركز على مسألة محببة لك، وتحاول أن تنسى قدميك !!".
عند الرقم أربعين أخطأت العد، وبدأت أفقد إحساسي بجسدي، صراخي خفتت حدته، حالة من عدم التوازن و الدوار، الغمام – رغم الطماشة – بدأ يطفو أمام عيني "هل بدأت أفقد وعيي ؟" غمام ..دوار .. مطار أورلي .. العصير البيرة ..الطائرة والمضيفة اللطيفة ...
إحساس مبهم بأن كل شيء قد توقف.. استعدت استيعاب الموقف.. نعم حتى الضرب توقف! خدر... خدر ..
دقائق قد تكون طويلة ... قد تكون قصيرة ..لست أدري !! صحوت!.
صوت الرجل ذو الوجه المحتقن ثانية:
- شو يا أيوب .. صحي ولاّ لأ؟
- صحي .. سيدي.. صحي ، بس .. شخ تحتو!!
- العمى بـ عيونه ..الظاهر إنو الأستاذ كتير خروق!!
أحسست بلكزة في خاصرتي، وصوت المحقق:
- ولك شو ؟ .. مانك رجّال ؟! العمى بعيونك ما بتستحي تشخ تحتك ؟! شو اسمك ولا ؟
قلت له اسمي.
- ولا كلب .. شوف ، لسه ما بلشنا معك، صار فيك هيك، لسه هذا كله مزح وما بلشنا الجد، الأفضل من البداية تريح حالك وتريحنا ... بدك تحكي ... يعني بدك تحكي!! هون عندنا الكل بيحكوا ... وبدك تحكي كل شي .. من طق طق ..لـ السلام عليكم ! هاه ..؟ مستعد تحكي ؟
- يا سيدي بحكي شو ما بتريد .. بس قولولي شو بدي أحكي!
- طيب ..هات لنشوف ..شو أسماء أسرتك ولا؟
بدأت أعد له أسماء أهلي، بدءاًً من والدي ووالدتي، لكنه قاطعني صارخاً مهتاجاً:
- ولا جحش ..عم تجدبها علي ؟ أنا بدي أسماء أهلك !! ....... عليك وعلى أهلك، قل لي أسماء أسرتك بالتنظيم ولا ... كرّ.
- أي تنظيم يا سيدي؟ أي تنظيم؟
- يا أيوب .. يبدو هـ التيس عم يغشم حاله!! بدو يعذبنا و يعذب حاله!!
- يا سيدي ..وحياة الرب..وحياة الرب ..ما بعرف عن شو عم تسألني! أي تنظيم هذا يللي عم تحكي عنه؟
صوت خطوات. شعرت أنه اقترب مني، أنفاسه لفحت وجهي، وبهدوء شديد قال:
- تنظيم ال..... أمثالك .. تنظيم الإخوان المسلمين ..شو ما بتعرف تنظيمك ؟!.
"لاحظت أن رائحة فمه كريهة جداً".
لم أدر. هل علي أن أفرح لأن الالتباس بدا واضحاً جلياً ؟ ..أم ألعن حظي العاثر الذي أوقعني في هذا الالتباس ؟.. أم ألعن الصدف التي قدرت أن أصل مباشرة إلى أبو رمزت ؟.. لو أنهم فتشوني وأخذوا أغراضي كما يفعلون مع الجميع.. لتبين لأحد ما من أكون وما هي جريمتي، ولكن أن أدخل فرع المخابرات في اللحظة التي كان يأتي فيها إلى الفرع يومياً مئات المعتقلين من الإخوان المسلمين، وأن أُحشَر بينهم، وأن يعمل الضباط والعناصر على مدار الأربع وعشرين ساعة يومياً، وأن تكون الفوضى داخل الفرع عارمة لهذه الدرجة، فمن المستحيل عندها أن أستطيع إزالة وتوضيح هذا الالتباس. وفوق كل هذا اسمي الذي لا يوحي بأنني لست مسلماً.
ولكن رغم ذلك، صرخت:
- بس سيدي أنا مسيحي.. أنا مسيحي!!
- شو ولا !! عم تقول مسيحي ؟! العمى بعيونك ولا ..ليش ما حكيت ؟! ليش جايبينك لكان؟..أكيد..أكيد عامل شغلة كبيرة!..مسيحي؟!
- أنتو ما سألتوني يا سيدي ..ومو بس مسيحي .. أنا رجل ملحد ..أنا ما بآمن بالله !!
"الى الآن لم أجد تفسيراً لفذلكتي هذه، فما الغاية من إعلان إلحادي أمام هذا المحقق ؟.. لا أعرف !".
- وملحد كمان؟!
سألها بصوت عليه مسحة من تفكير.
- نعم سيدي ..نعم . والله العظيم..وشوف جواز سفري.
سكت الرجل المحتقن لحظات بدت لي طويلة جداً. سمعت صوت أقدامه تبتعد، وبصوت واضح قال:
- قال ملحد... قال !! إي.. بس نحن دولة إسلامية !!..أيوب..كمل شغلك!!
وعادت خيزرانة أيوب تواصل عملها.
" منذ اللحظات الأولى لاحتكاكي بهؤلاء، استخدمت كلمة _ ياأخي_ عند الإجابة على سؤال ما، لكن أيوب صفعني قائلاً:
_ ولا كلب.. أنا أخوك؟.. أخوك بالخان.
تداركت الأمر وخاطبته ب "يا أستاذ" وصفعة أخرى:
- أستاذ؟.. أستاذ ببيت أهلك......
منذ تلك اللحظات علموني أن أقول: " ياسيدي".
هذه الكلمة لاتستخدم هنا كما بين رجلين مهذبين، هذه الكلمة تُنطق هنا وهي تحمل كل معاني الذلّ والعبودية.
 
القوقعه مصطفى خليفة
الجزء الاول يوميات متلصص
القسم الثاني
21 نيسان
فتحت عيني ببطء، أكاد اختنق من نتانة الروائح المحيطة بي، حولي غابة من الأقدام والأرجل، ملقى على الأرض بين هذه الأقدام المكتظة، رائحة الأقدام القذرة، رائحة الدم، رائحة الجروح المتقيحة، رائحة الأرض التي لم تنظف منذ زمن طويل ... الأنفاس الثقيلة لأناس يقفون متلاصقين "علمت بعد قليل من خلال عملية التفقد والعد، أننا كنا ستة وثمانين رجلاً، عاينت سقف الغرفة وقدرت أن مساحتها لا تزيد عن خمسة وعشرين متراً مربعا.!!".
الحديث بين الناس يجري همساً، الأمر الذي يولد أزيزاً متواصلا يخيم فوق الجميع. أردت الوقوف لاستنشاق بعض الهواء.آلام فظيعة في كامل الجسد، تحاملت، تجلدت، وعندما حاولت أن أقف على قدمي صرخت ألماً.
انتبه الناس من حولي، عدة أياد امتدت، أمسكت بي من تحت إبطي وأنهضتني، وقفت مستندا إلى الأيادي، قال شاب يقف إلى جانبي:
- اصبر يا أخي.. اصبر، إنها شدة وتزول!!
قال آخر:
- من يكن مع الله فإن الله سيكون معه..لا تيأس يا أخي.
مع الحركة خفت الآلام قليلاً، نظرت حولي، رجال.. شباب.. ويوجد أطفال في الثانية عشر والثالثة عشر ..كهول.. شيوخ!!
التفتّ إلى الرجل الذي حاول أن يشد من عزيمتي قبل قليل، سألته :
- مين هدول الناس؟ .. ليش نحن هون؟ ليش الناس واقفين؟!
نظر الرجل إليّ بحيرة تقرب من البلاهة وكأنه يقول: كيف يمكن شرح ما هو بديهي؟!! ورد بسؤال:
- أنت ..ما بتعرف شو صاير بالبلد ؟!
"كنت، وأنا في فرنسا، قد سمعت أنباءً عن اضطرابات سياسية تحصل هنا، وأن هناك حزباً يدعى الإخوان المسلمين يقوم ببعض حوادث العنف هنا وهناك. ولكني لم أعر هذه الأنباء أية أهمية، وبقيت مبهمة، فلم أعرف التفاصيل، ولم أكن يوما من هواة نشرات الأخبار، أو العمل السياسي المنظم، رغم أنني كنت في المرحلة الثانوية وما تلاها قريباً من بعض الماركسيين ومتأثراً بأفكارهم، خاصة أفكار خالي الذي كان على ما يبدو يحتل مركزاً قيادياً مهماً في الحزب الشيوعي".
أجبته:
- لا والله .. ما بعرف! .. ليش شو صاير؟
- ليش مانك عايش بالبلد؟!
و أردت أن اقطع كل دابر أسئلته، فأجبته دفعة واحدة عن كل ما يمكن أن يسأله:
- لأ .. كنت عايش بفرنسا.. واليوم أنا جيت، يعني من.. "نظرت الى ساعتي" أربع عشرة ساعة بس.
- العمى معك ساعة ؟!! ..خبيها يا أخي خبيها، شايف كل الناس هون، هدول كلهم من خيرة المؤمنين والمدافعين عن الإسلام بها البلد، امتحان يا أخي امتحان، امتحان من الله عز وجل.
قاطعته وقد بلغ بي الإحساس بغرابة وضعي وبالغبن والضيق حداً كبيراً، قلت محتدّاً:
- طيب .. العمى أنا شو دخلني؟! أنا مسيحي ماني مسلم، وأنا ملحد ماني مؤمن!!
" هذه هي المرة الثانية التي أعلن فيها أنني ملحد - وكانت فذلكة أيضا -. في المرة الأولى كلفتني وجبة من خيزرانة أيوب، بأمر من أبو رمزت الذي ذبح المسلمين لأننا نعيش في دولة إسلامية !!! أما في المرة الثانية فإنها ستكلفني سنوات طويلة من العزلة المطلقة، ومعاملة كمعاملة الحشرات، لا بل أسوأ منها".
رأيت محدثي وكأنه قفز إلى الخلف. ولكوننا محشورين، لم يتحرك منه إلا جزؤه العلوي فقط، وبشكل عفوي قال:
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. - ثم بصوت أعلى - .. يا شباب في واحد نصراني كافر !.. في عندنا واحد جاسوس.
صُوّبت نحوي مجموعة من العيون، في نفس الوقت الذي سمعت فيه صوتاً آتياً من خلفي، صوتاً آمراً:
ـ مين هذا يللي عم يرفع صوته ؟ .. سكوت ..سكوت ! يا لله .. صار وقت التبديل.
لم استطع استيعاب الأمر !! في الجزء الأبعد من الغرفة كانت هناك مجموعة من الناس المستلقين على الأرض، وقد اصطفوا بطريقة غريبة ولكن منتظمة. "كما لو كانوا مجموعة من لفائف التبغ قد اصطفت في علبة". وبين المستلقين وبيننا نحن الواقفين، توجد المجموعة الثالثة، مجموعة المقرفصين على الأرض.
بعد كلام الرجل الضخم ـ علمت أنه رئيس المهجع ـ تحركت المجموعات الثلاث. خلال لحظات كان النيام جميعاً قد وقفوا واحتلوا الركن الذي كنا فيه تدريجياً. نحن قرفصنا. المجموعة الثالثة اتجهت الى مكان النوم
ـ يا لله سيّف.. سيّف، كل النايمين يسيّفو.
"وتبين أن التسييف هو النوم على الجنب".
الأول استلقى لصق الحائط على جنبه، ظهره إلى الحائط، الثاني استلقى أمامه واضعاً البطن على البطن، رأس كل واحد منهما عند أقدام الآخر.
الثالث سيّف ووضع ظهره لصق الظهر الثاني، الرابع بطنه على بطن الثالث، ودائماً الرؤوس عند الأقدام.
تتابع المستلقون إلى أن وصل الصف إلى الحائط الثاني من الغرفة ولازال هناك ستة أو سبعة أشخاص لم يبق لهم مكان. هنا صاح رئيس المهجع:
ـ يا لله ..يا كبّيس .. أجا شغلك!
قام الرجل الضخم الثاني بهدوء ـ يبدو مصارعاً ـ . ذهب إلى أول رجل مستلقٍ عند الحائط ، وبهدوء وضع قدميه بين الحائط وبين الرجل المستلقي، استند بظهره إلى الحائط، ثم أخذ يدفع المستلقي بباطن قدميه، دفع أكثر، أنضغط المستلقون قليلا، أصبح هناك مسافة تتسع لرجل آخر، نادى على واحد من المتبقين: يا لله .. إنزل هون.
نزل الرجل مستلقياً على جنبه بين أقدام الكبّيس والرجل الأول، ثم بدأ الكبّيس بالضغط على الرجل الجديد، ومرة أخرى حقق مسافة تتسع إلى آخر.. يا لله .. إنزل هون، ثم الضغط من جديد ورجل جديد، في النهاية تم استيعاب جميع الذين لم يبق لهم مكان سابقا، عاد الكبيس إلى مكانه بنفس الهدوء، وهو ينفض يديه!.
راقبت المستلقين، بعضهم استغرق في النوم فوراً!!.
ثلاثة أيام قضيتها في تلك الغرفة. "سمعت أن بعضهم سابقاً ولاحقاً، قضى فيها شهوراً عديدة، وفي بعض الحالات كان العدد يزيد على عددنا". خلال هذه الأيام تعرفت على الغرفة جيداً.
بعد قليل من جلوسنا القرفصاء، أحسست أنني أريد قضاء حاجة، التفت إلى جاري وسألته:
ـ أين يقضي الإنسان حاجته ؟
أشاح بوجهه عني ولم يجب، سألت الجار الآخر، أيضاً لم يجب. تذكرت أنني نصراني، كافر، جاسوس، وستظل تلاحقني هذه التهم.
موقعي قريب من رئيس المهجع، سألته فدلني على المرحاض. "إذن في الغرفة مرحاض!". اضررت للانتظار أكثر من ساعة. مرحاض واحد، حنفية ماء واحدة، وستة وثمانون شخصاً.
عدت إلى موقعي. حركة ما فوق، نظرت. أنبوب الصرف الصحي، ويبدو أنه للبناء كله، يقطع الغرفة من أولها إلى آخرها. بين الأنبوب وبين سقف الغرفة حوالي النصف متر. فوق هذا الأنبوب ينام اثنان من الفتية عمر كل منهما حوالي خمسة عشر عاماً، احتضن الواحد منهما الأنبوب بيديه وصدره وتدلت الأرجل إلى الأسفل، بينما الرأس مرتاح على صوت خرير الماء داخل الأنبوب.
ـ بحياتي ما نمت أحلى من هـ النومة!!
قال أحدهما في اليوم الثاني.
22 نيسان
استيقظت!
بعد ثماني ساعات من القرفصة جاء دورنا في الاستلقاء. بعض المقرفصين ممن لهم خبرة نبهوا بعضهم إلى ضرورة الذهاب إلى المرحاض قبل الاستلقاء، لأنك إذا استلقيت وانتهى الكبيس من عمله، ومهما كان السبب الذي قمت من الاستلقاء من أجله فإن مكانك سيذهب.
استلقيت مضغوطاً بظهر رجُل على ظهري، وبطن رجل آخر على بطني، "تذكرت صديقتي التي تحب الوضعية الفرنسية
خلف رأسي قدمان، وأمامه قدمان. كيف يمكن للإنسان أن ينام وهو يشم هذه الرائحة ؟!!
ورغم ذلك نمت نوماً عميقاً .. والآن استيقظت.. صحوت تماما .. كل شيء في جسدي مضغوط ..لكن الضغط على أسفل بطني شديد ويكاد يكون مؤلما. "يبدو أن لصيقي الأمامي قد امتلأت مثانته، فتحجر وطبيعي أن ينغرز في بطني أنا". وفي ظل هكذا ظروف من المعيب أن تفكر باحتمال آخر!!
حاولت زحزحته فلم أفلح، فمع كل حركة ينغرز أكثر، سمعت شخيره، فكرت أن أمد يدي على صعوبة ذلك، ولكن خشيت أن يستيقظ لحظتها. "ماذا سيقول إذا استيقظ ..... في يدي ؟!!".
انسللت من وضعية الاستلقاء بصعوبة، وذهبت إلى المرحاض.
ثلاث ليال.. وثلاث مرات يفتح الباب في اليوم ويغلق، وفي كل مرة يفتح الباب.. يدخل الطعام في أوانٍ يسمونها قصعات. صباحاً لكل واحد رغيف مرقد مع قطعة حلاوة، هذان الصنفان يوزعهما رئيس المهجع، وخمس قصعات من سائل أسود "تبين انه شاي". وفي المساء كذلك. تدور القصعة من شخص لآخر .. يرفعها، يرشف منها، يناولها لمن بجانبه. أما الظهر، فتكون القصعات مليئةً بالبرغل، مع قصعة رب البندورة تحتوي بعض الخضار.
" لن أنسى أبدا الطريقة التي تخاطف بها الناس قطع اللحم في المرة الوحيدة التي جلبوا فيها لحماً. فكرت، حتى الوجبتين الصباحية والمسائية، لولا رئيس المهجع لتحول المهجع إلى غابة".

خلال هذه الساعات التي بدت لي بطول دهر، كنت كمن يطفو في الزمان والمكان. رغبة بدت لي كاعتقاد راسخ بأن كل هذا ماهو إلا خطأ سخيف سينتهي بعد قليل.
حسي المهني والفني قابع في زاوية بعيدة يراقب ولايتدخل، هذا الحس الذي يبقى خارج حيز الألم والقلق، يبقى متيقظاً ومحايداً مهما كانت درجة آلامي النفسية أو الجسدية، هو يراقب ويسجل.
أتذكر قولاً لأحد أساتذتي المرموقين: إن الحدث مهما كان صغيراً، فإن المخرج الجيد يستطيع أن يصنع منه فيلماً جيداً، الحدث هو الهيكل العظمي وعلى المخرج إكساؤه باللحم والثياب.
هذا الحس التقط مشهد تخاطف قطع اللحم، وأحس المفارقة الصارخة بين مجموعة من الأشياء المحيطة التي تدعو للإقياء_ أو على الأقل_ العزوف عن كل شيء، وبين الفعل المادي الممارس من قبل خاطفي قطع اللحم.
ما الذي يفقد هؤلاء الناس الحس باللياقة والذوق؟! وبالتالي بالكرامة والعزة البشرية، هل هو الصراع من أجل البقاء؟.. قد يكون.

ثلاثة أيام بلياليها، أكلت نصف رغيف مع قطعة حلاوة.
23 نيسان
استيقظت!.
كان الاستلقاء الثاني " النوم على البلاط " أفضل قليلاً، استيقظت قبل انتهاء مدة الثماني ساعات، لم أشعر برغبة في النهوض. حلمت أني قد شبعت نوماً ولكني أتابع استرخاءً وترفاً.
"تمنيت لو أني أستطيع المطمطة قليلاً!. تمنيت فنجان قهوة وسيجارة".
مكاني قريب من رئيس المهجع. أسمع حديثه والكبّيس، فتح السجان طلاّقة الباب وهي النافذة الصغيرة في أعلى الباب. قفز رئيس المهجع، تبادل حديثاً مطولاً مع السجان الذي فتح الطلاّقة. عاد رئس المهجع. قال للكبّيس همسا:
- جاي دفعات كبيرة من المحافظات .. وجماعتنا هدول .. اليوم أو بكرة راح يترحلوا عـ السجن الصحراوي.
ردّ الكبّيس متسائلاً باستغراب:
- العمى.. شو راح يحطوا الناس كلها بالسجن !؟ ... إي .. ما ضل حدا برات السجن !!.
- ولك سكوت .. اوعا حدا يسمعك ... ما دخلنا نحن يا عمّي!!.
"رئيس المهجع والكبّيس مسجونان بجرم التهريب".
عند المساء، وعندما انتقلت مجموعتنا من الوقوف إلى القرفصة، تعمدت أن أقرفص قرب رئيس المهجع. انتظرت حتى قبيل وجبة الطعام الثالثة، وبوجه حاولت أن يكون بشوشاً، قلت له:
- يا أستاذ .. عفواً .. ممكن احكي معك شغلة ؟.
- أستاذ ؟! .. من وين لوين ساويتني أستاذ ؟ .. نعم شو بدك ؟! .
- يا سيد .. أكيد في غلط!.
- وين الغلط ؟.. يا أستاذ.
- يا أخي أنا ماني مسلم .. حتى أكون إخوان مسلمين.. أنا مسيحي وليش حطوني هون، ليش جابوني أصلاً، ما بعرف!! .
- لك يا أخي الطاسة ضايعة .. ما في حدا لحدا .! .؟
- طيب ممكن تقول لرئيس السجن .. لشي حدا مسؤول هالحكي ؟
- وين أنا بدي شوف مدير السجن ؟.. خلص .. خلص.. هلق بيجي السجان وراح أنقل له هـ الحكي.
سمعت طقطقة القفل، وقف رئيس المهجع، أمسكت يده:
- أرجو ألا تنسى أن تقول له.
هز رأسه، فُتح الباب، "يا لله دخّلوا الأكل". دخل الأكل. خاطب رئيس المهجع السجان:
- يا سيدي ... في عنا واحد هون .. عم يقول ..
قاطعه السجان مسرعاً:
- عم يقول ما عم يقول ! أنا ما بعرف شي ... هلق ببعتلك رئيس النوبة .
بعدما يقرب من نصف الساعة، طقطقة الباب مجددا، ظهر شخص وسيم، وبلهجة جبلية ثقيلة:
- شو في عندك يا رئيس المهجع؟
جذبني رئيس المهجع من كتفي، وقفت. قال:
- احكي له... احكي له، لسيدنا أبو رامي!
متلعثماً.. متأتئاً .. شرحت له الأمر، وبنفس اللهجة الجبلية ردّ علي :
- طيب أنا شو بدي ساوي لك ؟ ... مسيحي ؟ .. إيه وإذا مسيحي !... بلكي عاونت الأخوان المسلمين مثلاً ... يعني بلكي بعتهم سلاح مثلا ... إي هيك بتكون أضرط منهم مثلا ...
ثم التفت إلى السجان، أمره :
- سكّر ... ولا سكّر الباب .
وقبل أن يغلق السجان الباب، التفت أبو رامي إلى الناس في المهجع، وبصوت عال قال :
- ولا .. عرصات ... ولا انتو مانكن إخوان مسلمين ... انتو إخوان شياطين ... فرجونا شطارتكم لشوف .... هاي عندكم واحد مسيحي ... انشطوا معه .... اهدوه للدين الحنيف ... بس شاطرين تقتلوا وتخربوا بـ هالبلد !!
أغلق الباب الحديدي بيده بقوة، ومالبث أن فتحه فوراً وعلى وجهه ابتسامة عريضة، تعلقت كل الأنظار به، فتابع يقول :
- ولا كلاب ... عرصات ... إذا حسنتوا تساووه مسلم، لا تنسوا تنظموه بالإخوان المسلمين، مشان تصير حبسته محرزة.
وأغلق الباب بقوة.

الاستلقاء الثالث:
لصيقي الخلفي كان ذا مؤخرة عريضة وكبيرة، ضايقني وأراحني، إنه أفضل من ذوي العظام الناتئة التي تنغرز في جسدك بلا رحمة عند الكبس. لصيقي الأمامي شاب في العشرينات لا تبدو عليه علائم التدين.
عاصاني النوم بعد حديث أبو رامي. كان هناك أمل كبير يعيش داخلي بأن أحداً ما سيكتشف الخطأ، وفوراً يُصار الى تصحيح هذا الخطأ، ولكن بعد هذا الحديث ... والطاسة ضايعة ... والترحيل إلى السجن الصحراوي !!... خالطني اليأس والخوف من المصير المجهول.
ساعتان أو ثلاث... لست أدري ... وأخيرا بدأت أهوم ، التعب ، الإرهاق ، النوم ... ثم ... أصحو تدريجياً. إحساس بالضيق. أقترب من الصحو أكثر، أشعر أن قدميّ مكبلتان، كانت قدماي قد تورمتا من خيزرانة أيوب، أصحو أكثر ... شعور بالدفء والرطوبة يصعد من قدمي، قليل من الألم أيضاً... حركة ما... أنتفض... أصحو تماماً... أرفع رأسي وأنظر إلى قدمي العلوية:
لصيقي الأمامي، الشاب، يقبض على قدمي العلوية بكلتا يديه، وقد وضع أصبع قدمي الكبير في فمه وأخذ يمصه !! لكزته ... ثم لكزته، تراخت يداه ، سحب رأسه! تابعت اللكز، استيقظ الشاب تماماً، نظر إلي بغضب واستنكار!!. وبحدة قال :
- ليش فيقتني؟ !
- شو ليش فيقتك ؟ مانك شايف شو عم تساوي ؟
- يلعن سماك!! قطعت علي أحلى منام !!
- شوكنت شايف منام ؟
- نعم .... كنا أنا وميسون ... وباللحظة يلي مسكتها ومسكتني ... وبلشنا ... بـ " " حضرتك فيقتني!!
- ومين هي ميسون .... دخلك ؟
- ميسون؟ .... ميسون خطيبتي.
- عفواً لا تواخذني ... ارجع نام .. لكن لا تخربط بين إصبع رجلي وشفايف ميسون .
لم أستطع النوم بعدها ... أسئلة وأسئلة، أي عالم هذاالذي حشرت فيه؟! هل هذه هي البداية؟ ولكن إلى أين؟. هل بإمكان أي كاتب أو سينارست أو مخرج تخيل هكذا عوالم؟! أسئلة تطارد أسئلة !! ...
} طوال ثلاثة عشر عاما ، لم أسمع مرة قرقعة المفتاح في الياب الحديدي إلا وأحسست أن قلبي يكاد ينخلع!! لم أستطع الاعتياد عليها{
قرقع المفتاح في غير وقته، قفز رئيس المهجع في اللحظة التي انفتح فيها الباب، أبو رامي والى جانبه شخص طويل في الخمسينات يضع نظارات طبية بيضاء، خلفهما حوالي العشرين عنصرا، قال ذو النظارات:
- وين رئيس المهجع ؟
- حاضر سيدي !
- بهدوء ونظام، طالعلي هدول كلهن لبره، اتنين اتنين، ما يبقى هون إلا أنت والمهرب الثاني ...وين المهرب التاني؟
- حاضر سيدي.
- خليك هون أنت كمان... يا لله .
وخرجنا ... اثنين ... اثنين ... وكان فجر 24 نيسان.
24 نيسان
اليدان مقيدتان بالقيد الحديدي إلى الخلف، كاحل القدم مربوط بجنزير حديدي إلى كاحل سجين آخر، نسير بصعوبة، نتعثر، ممرات ... أدراج .... تُسجّل أسماؤنا ضمن لوائح.
يتركنا ذو النظارات بضع دقائق واقفين و يذهب حاملاً اللوائح الاسمية، يعود، من المؤكد انه ذو أهمية، لم لا أشرح له الأمر، يقترب مني، أعاجله:
- يا سيدي كلمة واحدة.
- كول خرى ..... ولا.
وصفعة مدوية.
تنبثق آلاف النجوم البراقة أمام عيني، الفجر ربيعي، أترنح.... أسكت.
يسحبوننا إلى خارج البناء، أرى أربع سيارات شحن ذات أقفاص معدنية، السجناء يسمون هذه السيارات بـ " سيارات اللحمة ". قد تكون سميت كذلك لأنها تشبه السيارات التي يوزعون بها الأغنام المذبوحة من المسالخ إلى الجزارين ، أو لأن السجناء يصطفون بداخلها كما تصف الذبائح داخل سيارات اللحمة الحقيقية.
سلم معدني ذو ثلاث عوارض، نصعد بصعوبة بسبب الأرجل المقيدة وعدم إمكانية الاستعانة باليدين، يجلسوننا على أرضية السيارة، تمتلىء السيارة، يغلق الباب بقفل كبير، يجلس عنصران من الأمن أمام الباب من الخارج. انتظار .... انتظار، ثم تنطلق السيارات سوية.
نصبح خارج المدينة، تزداد سرعة السيارات، نترك الظلام وراءنا، شيئاً فشيئاً تلوح أولى خيوط الفجر الفضية.
} هل هي رحلة من الظلام إلى النور ؟ ... آمل ذلك. {
سمعت أحدهم يسأل آخر:
- قديش بدنا وقت حتى نوصل ؟
- تيسير الله... شي أربع أو خمس ساعات.
- يا أخي... والله ما فيني أتحمل كل هالوقت !!... كنت نايم .. فيقوني من النوم وفوراً لبرّه... وهلق أنا كتير محصور.... شو بدي ساوي ؟!.. مثانتي راح تطق !!
- إذا مافيك تصبر... أنا بفكلك سحاب البنطلون، وساويها هون بالسيارة.
- هيك معقول ؟!!! قدام كل هالناس؟
- إي ... إي .. مافيها شي، والحمد لله مافي نسوان بيناتنا.
ثم وبصوتٍ مرتفعٍ متوجها بالحديث إلى الجميع:
- يا شباب... يا شباب اسمعوني.
توجهت إليه الأنظار، شرح لهم الأمر، بعضهم همهم، وبعضهم سكت، البعض وافق، فأدار المتكلم ظهره إلى المحصور، وبيديه المقيدتين خلفاً، تلمس السحاب، فكّه، أخرجـ "ـه " له، وابتعد.
- يا لله ... ريّح حالك يا أخي .
بعدها وحتى وصولنا السجن الصحراوي تكررت هذه العملية أربع مرات، خمسة رجال آخرون تقيأوا فوق بركة البول. "القيء كله ذو لون واحد".
أما جاري، المقيدة رجلي إلى رجله، فيبدو أنه كان يعاني من تعفن الأمعاء، لفني بغلالة من روائح بطنه !
في الثامنة صباحاً وصلنا أمام السجن الصحراوي. " في الطريق كنت أنظر كثيرا إلى ساعتي، وأكثر من شخص نصحني أن أخبأها، ولكن أين ؟... تركتها على معصمي".
 
القــوقعـة- مصطفى خليفة
(( يوميات متلصص ))
الجزء الثاني القسم الأول
أمام السجن.
عشرات من عناصر الشرطة العسكرية، الباب صغير، تصدم العين لوحة حجرية فوق الباب مخططة بالأسود النافر:
"ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب".
فتح لنا رجال الأمن أبواب السيارات، هم أنفسهم اللذين كانوا يعاملوننا بفظاظة وقسوة، أنزلونا من السيارات برفق مشوب بالشفقة، حتى أن أحدهم قال: " الله يفرج عنكم ! ". وفيما بينهم كانوا يتحدثون همساً وبصوت خافت، يتحاشون النظر إلى عناصر الشرطة العسكرية الذين اصطفوا حولنا بما يشبه الدائرة، لاحظت أن لهم جميعاً نفس الوقفة تقريبا، الساقان منفرجتان قليلاً، الصدر مشدود إلى الوراء، اليد اليسرى تتكىء على الخصر، اليد اليمنى تحمل إما عصاً غليظة أو كبلاً مجدولاً من أشرطة الكهرباء أو شيئاً مطاطيا أسودَ يشبه الحزام. " عرفت فيما بعد أنه قشاط مروحة محرك الدبابة ". ينظرون إلينا والى عناصر الأمن نظرة فوقية تحمل استخفافاً بعناصر الأمن ووعيداً مبطنا لنا. حركاتهم تدل على نفاذ الصبر من بطء إجراءات التسليم والاستلام، ينقلون ثقل جسدهم من رجل إلى رجل، يهزون يدهم اليمنى بما تحمل هزات تبرم وغيظ، لباسهم جميعا عسكري أنيق، أعلى رتبة بينهم مساعد أول، وهو الذي كان يوقع على لوائح استلامنا .
} قرأت في مكان ما أن رجال إحدى القبائل الإفريقية عندما التقوا بالإنسان الأوربي الأبيض لأول مرة نظروا إلى بعضهم البعض بدهشة، وتساءلوا: هذا الرجل، لماذا قام بسلخ وجهه ؟! {
وتخيلت أن عناصر الشرطة العسكرية، هؤلاء الذين أراهم امامي، ذوو وجوه مسلوخة، أية قوة سلخت هذه الوجوه ؟ ... كيف سلخت ؟... لماذا ؟... أين ؟... لست أدري لكن ما أراه أن الوجوه البديلة لا تشبه وجوه باقي البشر، وجوه أهلنا وأصدقائنا !!... مسحة غير بشرية ... هي غير مرئية، صحيح، ولكنها قطعاً موجودة!.
- الله يعطيكم العافية ... خلص انتو تيسروا، خلصت مهمتكم.
هكذا قال مساعد الشرطة العسكرية للرجل ذي النظارات. كانوا قد فكوا قيودنا، السجناء غريزياً التصقوا بعضهم ببعض. ذهب رجال الأمن.
بدأت الدائرة تضيق .... صمت مطبق!!
- يا لله ... صفوهم تنين تنين ... دخلوهم.
وأدخلونا من هذا الباب الصغير، وفوقنا منحوتة "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب". اثنين اثنين، في رتل طويل داخل ساحة في وسطها وعلى جنباتها بعض الأشجار والورود الريفية، وهي محاطة من جميع الجهات بغرف تشرف عليها. وقف الرتل أمام مساعد آخر، جلس خلف طاولة أخرى، ولوائح اسمية أخرى، أكثر من مائة عنصر من عناصر الشرطة العسكرية يحومون حولنا، جميع السجناء يتحاشون النظر مباشرة إلى أي عنصر. رأسنا منخفض قليلا، أكتافنا متهدلة. وقفة فيها خشوع، وقفة تصاغر وذل، كيف اتفق جميع السجناء على هذه الوضعية وكأننا تدربنا عليها سابقا؟! لست ادري.
كأن كل واحد منا يحاول الاختباء داخل ذاته !!!
حكني رأسي من القفا، وكما يفعل كل إنسان يحكه رأسه، مددت يدي عفوياً وحككت !! وسمعت صوتاً راعداً:
- ولك يا جماعة ... شوفوا الكلب شوفوا !! عم يحك راسه كمان ...!!
- شــــوووو .... ! عم يحك راسه ؟!
وسحبتني الأيدي خارج الرتل، تقاذفتني صفعاً ولكماً، لكمة تقذفني، صفعة توقفني، النار في الرقبة والوجه .... تمنيت لو أبكي قليلاً... طلبني المساعد لتسجيلي فلم يبق غيري، سجلني وأصبحت نزيلاً رسمياً في هذا السجن.
مرة أخرى قادونا، بين غرفتين باب حديدي صغير، أصغر من الباب الأول، " لم الأبواب تصغر كلما تقدمنا ؟! " ومن هذا الباب ولجنا إلى ساحة كبيرة، إنها الساحة الأولى، ساحة مفروشة بالإسفلت، كل الطرقات والساحات مفروشة بالإسفلت الخشن، يحيط بالساحة أبنية من طابق واحد مكتوب عليها أرقام متسلسلة : المهجع الثالث ، المهجع الرابع ... المهجع السابع.
} الأبواب تصغر ولكن في الساحة الأولى فتحت جهنم أوسع أبوابها، وكنا وقودها !! {.
بهدوء ودقة أوقفونا بعضنا إلى جانب بعض، يفصل بين الواحد والآخر متران أو ثلاثة، صاح المساعد:
- هلق ... كل واحد منكن يشلح كل تيابه .... حط تيابك على يمينك .... خليك بالسروال الداخلي فقط.
لاحظت أنني الوحيد الذي يلبس " سليب " بعد ان خلع الجميع ثيابهم ووقفوا ينتظرون، وانتابني إحساس بالغربة !..
كان صوت المساعد في البداية هادئاً، ومع مرور الوقت أخذ يتصاعد شيئاً فشيئاً، حدةً وشدة، وكلما تصاعد صوت المساعد كنت أحس أن التوتر والعصبية يزدادان في حركات الشرطة... والخوف والهلع يزدادان في نفوس السجناء، يغضون أبصارهم وتتهدل أكتافهم أكثر فأكثر!.
اقترب مني شرطيان يحملان الكرابيج، قال أحدهم:
- نزّل الكيلوت ولا ...واعمل حركتين أمان!!
أنزلت الكيلوت حتى الركبة، نظرت إلى الشرطيين مستفهماً ...
- اعمل حركتين أمان ولا...
- شلون يا سيدي بدي اعمل.. شلون حركتين الأمان؟
- قرفص وقوم مرتين ولا... صحيح انك جحش!
"حركات الأمان تُعمل خشية أن يكون السجناء قد خبأوا شيئاً ممنوعاً في شرجهم!"
نظر أحد الشرطيين الى الآخر مبتسماً، وبصوت خفيض:
- العمى ... شو تبعو صغير!!
نظرت اليـ"ـه"، إلى تبعي، نعم لقد كان صغيراً جداً !! حتى هو أحس بالذعر الشديد والهلع، فا ختبأ داخل كيسه، أنا لم أستطع الاختباء!
خلفي مهجع كبير كتب على بابه / المهجع 5 -6 /. تخرج من جانب الباب بالوعة "صرف صحي" على وجه الأرض، تسيل في هذه البالوعة مياه سوداء قذرة.
انتهى التفتيش. جرى بدقة محترفين، حتى ثنايا الثياب، جميع النقود والأوراق، أي شيء معدني، الأحزمة وأربطة الأحذية ... جميعها صودرت، "أنا كنت حافيا". ورغم كل هذه الدقة بالتفتيش فإن ساعة يدي مرت، لم أتعمد إخفاءها، فقط لم ينتبه لها احد، وعندما صاح المساعد:
- ولا كلاب ... كل واحد يحمل تيابه.
حملت ثيابي ووضعتها على يدي اليسرى، وفورا فككت الساعة ودسستها في الجيب الداخلي لسترتي، وشعور آخر بالانتصار.!

البلديــــــــات :
كلمة خاصة بالسجون هنا، هم جنود سجناء ... الفارون من الخدمة العسكرية، الجنود الذين يرتكبون جرائم القتل، الاغتصاب، السرقة، مدمنو المخدرات... كل الجنود المجرمين، حثالة الجيش، يقضون فترة عقوبتهم في السجون العسكرية، في مثل هذا السجن، مهمتهم التنظيف وتوزيع الطعام وغيره من الأعمال... من هنا جاء اسم البلديات، هؤلاء في السجن الصحراوي لهم مهمات أخرى.
جمعونا في أحد أطراف الساحة، تكومنا ونحن نحمل ثيابنا، صوت المساعد ارتفع كثيراً، البلديات يقفون في الطرف الآخر من الساحة. كثير من البلديات، البعض منهم يحمل عصاً غليظةً مربوط بها حبل متدل يصل بين طرفيها، حبل سميك يتدلى من العصا "الفلقة". صاح المساعد بصوت مشحون موجهاً حديثه للسجناء :
- مين فيكم ضابط ؟.. الضباط تعو لهون.
خرج اثنان من بين السجناء، أحدهما في منتصف العمر، الآخر شاب.
- شو رتبتك ؟
- عميد.
- عميد؟!!.
- نعم.
- وأنت شو رتبتك؟
- ملازم أول.
- هـممم.
التفت المساعد إلى السجناء، وبصوت أقوى:
- مين فيكم طبيب .. أو مهندس أو محامي.. يطلع لبره.
خرج من بيننا أكثر من عشرة أشخاص.
- وقفوا هون.. ثم متوجهاً للسجناء:
- كل واحد معه شهادة جامعة ... يطلع لبرّات الصف.
خرج أكثر من ثلاثين شخصاً، كنت أنا بينهم.
مشى المساعد مبتعداً، وقف بجوار البالوعة، صاح بالشرطة:
- جيبولي سيادة العميد!!
انقض أكثر من عشرة عناصر على العميد، وبلحظات كان أمام المساعد!!
- كيفك سيادة العميد؟
- الحمد لله ... الذي لا يحمد على مكروه سواه.
- شو سيادة العميد ... مانك عطشان؟
- لا .. شكراً.
- بس لازم نشربك.. يعني نحن عرب، والعرب مشهورين بالكرم، يعني لازم نقدم لك ضيافة... مو من شان شي ... منشان واجبك!!
بعد لهجة الاستهزاء والسخرية صمت الاثنان قليلاً، ثم انتفض المساعد، وقال بصوت زاعق:
- شايف البالوعة ؟ .. انبطح واشرب منها حتى ترتوي ... يالله ولا كلب!!
- لا ... ما راح اشرب.
وكأن مساً كهربائياً أصاب المساعد، وباستغراب صادق صرخ:
- شـو ..شـو ...شـو ؟؟!!! ما بتشرب!!!
عندها التفت إلى عناصر الشرطة العسكرية ولا زال وجهه ينطق بالدهشة:
- شربوه .... شربوه على طريقتكن و لا كلاب.... تحركوا لشوف.
العميد عارٍ إلا من السروال الداخلي، حافٍ، وبلحظات قليلة اصطبغ جسده بالخطوط الحمراء والزرقاء، أكثر من عشرة عناصر انقضوا عليه، تناوشوه، عصي غليظة، كوابل مجدولة، أقشطة مراوح الدبابات .... كلها تنهال عليه من جميع الجهات، من أول لحظة بدأ العميد يقاوم، يضرب بيديه العنصر الذي يراه أمامه، أصاب بعضهم بضربات يديه .... كان يلكم ... يصفع ... يحاول جاهداً أن يمسك بواحد منهم، ولكنهم كانوا يضربونه وبشدة على يديه اللتين يمدهما للإمساك بهم... تزداد ضراوتهم، خيوط الدم تسيل من مختلف أنحاء جسده .... تمزق السروال وانقطع المطاط، أضحى العميد عارياً تماماً، إليتاه أكثر بياضاً من سائر أنحاء جسده، خيوط الدم أكثر وضوحاً عليهما، ........ مع كل ضربة أو حركة، بعد قليل تدلت يداه الى جانبيه وأخذتا تتأرجحان أيضاً، سمعت صوتاً هامساً خلفي:
-تكسروا إيديه !! يا لطيف ... هالعميد يا رجال كتير .. يا مجنون!!
لم ألتفت إلى مصدر الكلام. كنت مأخوذاً بما يجري أمامي، مع الضرب بدأ العناصر يحاولون أن يبطحوه أرضاً، العميد يقاوم، يملص من بين أيديهم... تساعده دماؤه التي جعلت جسده لزجاً. تكاثروا عليه، كلما نجحوا في إحنائه قليلا ... ينتفض ويتملص من قبضاتهم وبعد كل حركة تزداد ضراوة الضرب ...
رأيت هراوة غليظة ترتفع من خلف العميد وتهوي بسرعة البرق !!.. سمعت صوت ارتطامها برأس العميد....! صوتأ لا يشبه أي صوت آخر....! حتى عناصر الشرطة العسكرية توقفوا عن الضرب، شُلوا لدى سماعهم الصوت لثوان....صاحب الهراوة تراجع خطوتين إلى الوراء .. جامدَ العينين ...!! العميد دار بجذعه ربع دورة وكأنه يريد أن يلتفت الى الخلف لرؤية ضاربه !! خطا خطوةً واحدة، وعندما هم برفع رجله الثانية .... انهار متكوماً على الإسفلت الخشن !!
الصمت صفحة بيضاء صقيلة تمتد في فضاءات الساحة الأولى ... شقها صوت المساعد القوي:
- يا لله ولا حمير ... اسحبوه وخلوه يشرب!!
سحب عناصر الشرطة العميد، واحد منهم التفت الى المساعد وقال:
- يا سيدي .. هذا غايب عن الوعي، شلون بدو يشرب؟!
- حطوا رأسه بالبالوعة .. بيصحى .. بعدين شربوه.
وضعوا رأس العميد بمياه البالوعة، ولكنه لم يصح.
- يا سيدي .. يمكن أعطاك عمره!
- الله لا يرحمه ... اسحبوه لنص الساحة وزتوه هونيك.
من يديه جروه على ظهره، رأسه يتأرجح، اختلطت الدماء بأشياء بيضاء وسوداء لزجة على وجهه!! مسار من خطوط حمراء قاتمة تمتد على الإسفلت الخشن من البالوعة الى منتصف الساحة حيث تمددت جثة العميد.
صاح المساعد وقد توترت وبرزت حبال رقبته:
- جيبولي .. هالكرّ الحقير ... الملازم لهون.
وبعد أن أصبح الملازم أمامه:
- شو يا حقير ؟ .. بدك تشرب ولا لأ؟
- حاضر سيدي .. حاضر .. بشرب.
انبطح الملازم على الإسفلت أمام البالوعة، غطس فكيه في مياه البالوعة، وضع المساعد حذاءه العسكري على رأس الملازم المنبطح وضغطه إلى الأسفل قائلاً:
- ما بيكفي هيك. لازم تشرب وتبلع!!
ثم تابع المساعد موجهاً حديثه للشرطة:
- وهلق .. خدوا هالكلب عا التشريفة ... بدي يكون الاستقبال تمام .!
الملازم الذي شرب وبلع المياه القذرة بما فيها من بصاق ومخاط وبول وقاذورات أخرى، ألقي على ظهره بسرعة مذهلة، ووضع اثنان من البلديات قدميه في حبل الفلقة، لفوا الحبل على كاحليه ورفعوا القدمين إلى أعلى.
القدمان مشرعتان في الهواء، ثلاثة عناصر من الشرطة توزعوا أمام القدمين وحولهما بطريقة مدروسة بحيث كانت كرابيجهم تهوي على القدمين بتناغم عجيب دون أن تعيق إحدى الكرابيج الأخرى، ارتفع صراخ الملازم عالياً، تلوى جسده يحاول خلاصاً، ولكن دون جدوى.
استفز صراخُ الملازم واستغاثاتًه العالية المساعد، مشى باتجاهه مسرعاً، وكلاعب كرة قدم وجه مقدمة بوطه إلى رأس الملازم وقذف الكرة.
صرخ الملازم صرخة حيوانية، صرخةً كالعواء... استُفز المساعد أكثر فأكثر، سحق فم الملازم بأسفل البوط، عناصر الشرطة يواصلون عملهم على قدمي الملازم، المساعد يواصل عمله سحقاً، الرأس، الصدر، البطن... رفسات على الخاصرة ... حركات هستيرية للمساعد وهو يصرخ صراخاً بالكاد يفهم:
- ولاك عرصات ... ولاك حقيرين .... عم تشتغلوا ضد الرئيس !!... ولاك سوّاك زلمة ... سواك ملازم بالجيش ... وبتشتغل ضده ؟!!... ولاك يا عملاء... يا جواسيس !.. ولاك الرئيس خلانا نشبع خبز... وهلق جايين أنتو يا كلاب تشتغلوا ضده ؟!... يا عملاء أمريكا.... يا عملاء اسرائيل ... يا ولاد ال.... ... هلق عم تترجوا ؟!!... بره كنتوا عاملين حالكن رجال ... يا جبناء ... هلق عم تصرخ ولاك حقير !!...
على إيقاع صرخات المساعد و"دبيكه" فوق الملازم، كانت ضربات الشرطة تزداد عنفاً وشراسةً، وصرخات واستغاثات الملازم تخفت شيئاً فشيئاً.
بعد قليل تمدد الملازم أول إلى جانب العميد !!. "لا أدري حتى الآن ماذا حل به ؟ هل مات أم لا ؟ ...هل كان لدى إدارة السجن أوامر بقتل الضباط أثناء الاستقبال أو التشريفة ؟".
والآن جاء دورنا. " إجاك الموت يا تارك الصلاة !" عبارة سمعتها فيما بعد من الإسلاميين حتى مللتها، ولكن فعلا جاء دورنا، حملة الشهادات الجامعية، ليسانس ، بكالوريوس ، دبلوم ، ماجستير .. دكتوراه ..
الأطباء شربوا وبلعوا البالوعة، المهندسون شربوا وبلعوا البالوعة، المحامون .. أساتذة الجامعات .. وحتى المخرج السينمائي .. شربت وبلعت البالوعة .. الطعم .. لا يمكن وصفه !! والغريب انه ولا واحد من بين كل الشاربين تقيأ !!.
وأصبح بين هؤلاء جميعاً شيئان مشتركان، الشهادة الجامعية، وشرب البالوعة !! .
ثم أكثر من ثلاثين، كل فلقة يحملها اثنان من البلديات، أمامها ثلاثة عناصر وثلاث كرابيج.... والكثير.. الكثير.. من القسوة، الألم، الصراخ.
الألم.. الضعف.. القهر.. القسوة.. الموت.. !!
قدماي متورمتان من آثار خيزرانة أيوب ، بالكاد أستطيع المشي. عندما مشيت في الساحة الأولى فوق الإسفلت الخشن ، كنت كمن يمشي على المسامير ، رفع البلديات قدمي الى الأعلى بالفلقة ، ثلاثة كرابيج تلسع قدمي المتورمتين .. موجة داخلية عارمة من الألم تتكوم وتتصاعد من البطن لتنفجر في الصدر... تنحبس الأنفاس عندما تهوي الكرابيج ... الرئتان تتشنجان ... تنغلقان على الهواء المحبوس وتتوقفان عن العمل ... ومع الموجة الثانية للألم وانفجاره في الصدر ... ينفجر الهواء المحبوس في الرئتين عن صرخة مؤلمة، أحسها تخرج من قحف الرأس ... من العينين ... أصرخ ... وأصرخ والقدمان مسمرتان في الهواء ... كل محاولاتي لتحريكهما ... لإزاحتهما ... فاشلة !! تنفصلان عني ... مصدر للألم فقط ... سلك يصل بينهما وبين أسفل البطن والصدر... موجات متلاطمة من الألم، تبدأ الموجة عندهما، تمتد وتتصاعد مرورا بأسفل البطن ... البطن ... الصدر ... ثم تتكسر عند الرأس، وصرخة ألم ورعب ومهانة ناثرةً الذهولَ وعدم الفهم والتصديق، أكثر من ثلاثين صرخة متوازية... متشابكة، لأكثر من ثلاثين رجلاً، تنتشر في فضاء الساحة الأولى.
في البداية استنجدت بالله ـ وأنا الذي كنت طوال عمري أتباهى بإلحادي ـ ، ولكن الله لم يستطع أن يفعل شيئا أمام جبروت الشرطة !!! فنقمت وتساءلت: ولكن أين الله، الساحة الأولى أكبر دليل على عدم وجود كائن اسمه الله!!
أكثر من ثلاثين صرخة ألم ... قهر ... تخرج من أفواه أكثر من ثلاثين رجلاً مثقفاً .. متعلماً !! أكثر من ثلاثين رأساً، كل منها يحوي الكثير من الطموح والأمل والأحلام، الكل كان يصرخ ... عواء ثلاثين ذئباً ... زئير أكثر من ثلاثين أسداً ... لن يكون أعلى من صراخ هؤلاء الرجال المتحضرين ... ولن يكون أكثر وحشية ... وحيوانية!!
يضيع صراخي وسط هذه الغابة من الصراخ وأصوات ارتطام الكرابيج بالأقدام ... وترتفع الأمواج.
أستنجد برئيس الدولة .. يشتد الضرب .. وأفهم منهم أن علي ألا أدنس اسم فخامته بفمي القذر. استنجد بنبيهم:
- من شان محمد!!!
لطمة على الرأس وصوت المساعد الراعد:
- إي .. بدي .......... على أم محمد!!! ليش في حدا خرب بيتنا غير محمد ؟!
رأيته يبتعد عني ببطء.. فصرخت:
- يا سيدي دخيلك .. دخيل أختك.. بس كلمة واحدة!!
موجات الألم تتصاعد أكثر فأكثر ... تتلاطم أشد فأشد ... المساعد يبتعد أبعد فأبعد ... وأصرخ بأعلى صوتي:
- يا سيدي ... أنا ماني مسلم ... أنا مسيحي ... أنا مسيحي ... يا سيدي دخيلك ... أبوس أيدك ... أبوس رجلك ... أنا مسيحي!!
وببطء شديد يقف المساعد. لقد ميّز صوتي ضمن كل هذه الأصوات، سمعه، يعود ببطء أشد، يصل قربي، يرفع يده اليمنى لعناصر الشرطة بإشارة "كفى".
} مصيري الآن كله مرتبط بكلمة من فم هذا المساعد الذي بالكاد يعرف القراءة. {
يزرر عينيه ويسألني:
-أنت مسيحي ولا ؟
- نعم سيدي نعم ... الله يخليك ويطول عمرك ..
- مسيحي... وصاير إخوان مسلمين؟!!
- لا ..لا سيدي لا ... أنا ماني إخوان مسلمين.
- لكن ليش جايبينك ؟ .. هيك !! .. لوجه الله !! ... يعني تبلّي ؟ ... آه يا كلب ..آه ، إذا كانوا هدول العرصات يستحقوا الموت مرة واحدة، إنت لازم تموت مرتين!! ... يا لله شباب زيدوا العيار لهالكلب ... مسيحي وصاير إخوان مسلمين!!
مضى، والعناصر الثلاثة يزيدون العيار على القدمين وعنصر رابع تنهال كرباجه على فخدي العاريتين.
تقلصات الألم تزداد، لحم الفخذين رقيق ويختلف عن لحم باطن القدمين، أختنق بصرخاتي أسكت لحظات لأتنفس وأعب الهواء الذي سأصرخه، غمامة حمراء تتأرجح أمام عيني، حد الألم لا يطاق.
بعد أن خذلني المساعد، أعود إلى الله، لم يبق من مخلص غيره، وساعات الضيق وانعدام الأمل يعود فيها الإنسان إلى الله. عدت إليه، راجياً "سرا" أن ينجيني من الأشرار، كنت في غاية التهذيب وأعمق درجات الأيمان والخشوع:
- يا رب خلصني ... أنت المخلص، نجني من بين أيديهم.
قلت هذا الكلام دون أن انطقه، طاف بذهني، ومنه خرج مسرعاً باتجاه السماء.
قواي تخور، قدرتي على الصراخ تخفت، يصبح الألم حاداً كنصل الشفرة، أرى الكرابيج ترتفع عالياً، أتوقعها، إذا نزلت هذه الكرابيج على جسدي فأنا حتماً سأموت !! لم يبق أي طاقة لتحمل المزيد من الألم !!.. الموت... أعود إلى الله:
-يا رب دعني أموت ... دعني أموت ... خلصني من هذا العذاب.
يصبح الموت أمنية!! أتمنى الموت صادقا ... حتى الموت لا أستطيع الحصول عليه!!.
الكرابيج ترتفع وتهوي ... الغمامة الحمراء، السماء وردية، يخف الألم... يخفت الصراخ ... موجة ضعيفة من الخدر والنمل تنزل من القدمين إلى باقي أنحاء الجسم!!.
الخدر يزداد ... موجة من الارتياح اللذيذ تغمرني ... الكرابيج ترتفع وتهوي ... الألم اللذيذ ... أشعر بالجسد المتوتر قد ارتخى ... ثم أغيب !!!!.

16 تشرين الثاني
منذ الصباح يعم ضجيج مكبرات الصوت. أرجاء السجن وما حوله تبث الأناشيد الوطنية والأناشيد التي تمجد رئيس الدولة وتسبغ عليه صفات الحكمة والشجاعة وتصفه بأوصاف عديدة، فهو المفدى، القائد العظيم، المعلم، المُلهِم... تذكر أفضاله العميمة على جميع أبناء الشعب ، فلولاه لما بزغت الشمس ،وهو الذي يمنحنا الهواء لنتنفس ، والماء لنشرب ...
نحن السجناء جميعاً نقف في الساحات في صفوف منتظمة، ولأول مرة منذ مجيئي الى هنا سمحوا لنا بالوقوف ضمن الساحة مفتوحي الأعين.
أعطوا واحداً من السجناء ورقة، ومما هو مكتوب عليها يهتف... فنهتف وراءه: بالروح...بالدم سنفدي رئيسنا المحبوب والمعبود !.

قبل قليل انتهى الاحتفال. أعادونا الى المهجع.
أشعر الآن ان صحتي أصبحت جيدة، لقد مضى الآن أكثر من ستة اشهر ونصف على اللحظة التي أعدت فيها فتح عيني على رأس حليق "على الصفر"، ينحني الشخص ذو الراس الحليق فوقي وبيده مزقة قماش مبللة بالماء يحاول أن يمسح بها بعض جروح جسدي، لاحظ صحوتي فابتسم لي، قال:
- الحمد لله انك صحيت، أنا الدكتور زاهي ... لا تحكي ولا تتحرك .. والحمد لله على سلامتك، يا أخوي انكتب لك عمر جديد، احمد الله سبحانه وتعالى.
لم استطع لا الكلام ولا الحركة. لزمتني ثلاثة أيام أخرى بعد صحوتي الأولى لأتكلم، وأكثر من شهر حتى أستطيع الحركة. وطوال هذه الفترة لازمني الدكتور زاهي بعنايته الفائقة، وبلهجة المنطقة الشرقية المحببة كان يشرح لي بما يشبه التقرير الطبي أن وضعي كان خطراً لسببين: الأول أن أذية بالغة قد أصابت إحدى الكليتين وأنني بقيت فترة لابأس بها أتبول دماً. أما الثاني فهو أن مساحة الجلد المتهتك في جسدي قد اقتربت من حد الخطر. وإن تفاوتت النسبة حسب المنطقة. تهتك جلد الظهر بكامله تقريبا ، قسم من البطن ، الجهة الأمامية من الفخذين، القدمان من الجهتين العلوية والسفلية. أما جلد القدم اليسرى فقد انكشط من الجهة العلوية وبانت العظام.
أخبرني زاهي إنني بقيت ستة أيام غائباً عن الوعي ومعلقاً بين الحياة والموت، كان الملح هو المادة المعقمة الوحيدة المتوفرة، بالملح عالجني الشيخ زاهي، كما كان يحب أن ينادى متنازلا عن لقب دكتور بكل طيبة خاطر وكان يشربني الماء وقليلا من المربى المذاب والمخفف بالماء.
وكما شرح لي وضعي الصحي فإنه أخبرني عن المعلومات التي وصلتهم من المهاجع الأخرى والتي تقول إن عدد أفراد دفعتنا كان / 91 / شخصاً، قتل منهم ثلاثة في الساحة الأولى أثناء الاستقبال وهؤلاء لم يدخلوهم إلى المهاجع، وخلال فترة غيابي عن الوعي مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم وإصاباتهم البليغة، واثنان من الدفعة أصيبا بشلل دائم نتيجة أذى كبير بالعمود الفقري، واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه، وبعد أن انتهى زاهي من سرد هذه المعلومات قال:
- والحمد لله على سلامتك .. احمد الله يا أخوي احمده.. و رغم أن الصلاة ممنوعة بس أنت تقدر تصلي سراً ركعتين لوجه الله !.

الحلاقة
بعد تسعة أيام من صحوتي وقف رئيس المهجع في الصباح وقال مخاطباً الناس في المهجع:
- يا إخوان .. اليوم دورنا بالحلاقة، اصبروا وصابرو، سيعيننا الله .. احملوا المرضى ويللي ما بيحسن يمشي على البطانيات، كل بطانية يحملها أربعة فدائيين ... وقدر ما فيكم أسرعوا، السرعة أفضل.. و الله يقوينا!
فتح الباب، وقف الجميع، حملني أربعة أشخاص، قال لي أحدهم بحماس:
- لا تْخافْ يا أخي لا تخاف.. راح نحميك بأجسامنا.
صفان من الشرطة على جانبي الباب، بين الشرطي والآخر حوالي المترين، كل شرطي يحمل كرباجاً، ما أن يصل السجين إلى الباب حتى يبدأ الركض، تتلقاه كرابيج الصف اليميني للشرطة من الأمام، الكرابيج اليسارية تطارده من الخلف، من يتعثر أو يقع .. قد يموت فهو يكون قد كسر التناغم وإيقاع الضرب، يقف الصف من خلفه وتجتمع عليه الكرابيج جميعاً، فإذا كان ذا بنية قوية واستطاع النهوض رغم عشرات الكرابيج المنهالة عليه.. فقد نجا. أماالضعيف فستبقيه الكرابيج لصيقاً بالأرض إلى الأبد.
حوالي الثلاثمائة سجين من مهجعناركضوا بسرعة، تلقوا الضربات السريعة والكاوية، اصطفوا في الساحة ووجوههم إلى الحائط وأعينهم مغمضة، نحن المرضى وضعونا في منتصف الساحة، الكثير من عناصر الشرطة، الكثير من البلديات وفي أيديهم أمواس الحلاقة للذقن وماكينات حلاقة الشعر على الصفر.
اللؤم ....؟!!
كانت هذه هي التجربة الأولى للحلاقة، وسأجربها في القادم من الأيام كثيراً، ولكن منذ المرة الأولى ونتيجة لوضعي كمريض مرمي في وسط الساحة يستطيع أن يراقب كل ما يجري فيها رغم أن عينيه مغمضتان! طرقت ذهني تساؤلات إنسانية كثيرة:
البلديات سجناء مثلنا، مقهورون مثلنا، صحيح إنهم مجرمون، قتلة ولصوص ولوطيون، ولكنهم يعانون من قهر السجن مثلما نعاني، ولا تعني لهم السياسة شيئا... ولكن من أين تنبع هذه القسوة اللئيمة والضرب المبرح اللذان يكيلهما البلديات للسجناء أثناء الحلاقة؟!
وكنت دائما أتساءل بذهول: هل من المعقول أن يكون الإنسان لئيماً إلى هذه الدرجة ؟!! وهذا اللؤم المجاني ؟!!
حلاقة الذقن عملية تشريح أو حراثة للوجه مصحوبة بالبصاق والشتائم، وكان بعضهم يتلذذ بافتعال السعال قبل البصق على وجه السجين كي يكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلديات بالوجه ! ويمنع السجين من مسحها.
حلاقة الرأس .. مع كل سحبة ماكينة على الرأس، وبعد أن ينفض البلديات الشعر المحلوق، ضربة قوية بالماكينة نفسها على المكان المحلوق وهو يصر على أسنانه ويشتم:
- يا عرص يا ابن العرص .. منين جايب كل هالقمل؟!
- ولك يا ... شو عامل راسك مزرعة قمل؟!
ومع كل ضربة ماكينة، إما أن ينفر الدم، أو تظهر كرة صغيرة في الرأس مكان الضربة!!.
الكثير من السجناء عرف الكثير من البلديات، هم من نفس قراهم وبلداتهم ومدنهم وأحيائهم، وتبقى نفس الأسئلة مطروحة: ولكن لماذا؟ .. لماذا هو لئيم بهذا القدر؟.. ما هي دوافعه النفسية؟.. هل القسوة و السادية المتأصلة أو العارضة يمكن أن تنتقل بالعدوى؟ أم هي روح القطيع؟!.
" وددت لو تتاح لي فرصة محادثة احدهم ".
بعد أن انتهى أحد البلديات من حلاقتي بضربة قوية على رأسي الحليق، قال:
- ياكلب يا ابن الكلب .. كسرتلي ضهري!! .. عامل حالك ما بتحسن توقف!!.
أدخلونا جميعاً إلى المهجع بين صفي الشرطة والكرابيج تنهال أكثر ما تنهال على الرؤوس الحليقة!! استلقيت في الركن المخصص للمرضى. إمارات السرور والفرح بادية على كل المساجين:
" هاهي حلاقة أخرى .. تمر بسلام .. لا زلنا أحياء !! ".

المهجع
خلال استلقائي أكثر من شهر في هذا الركن أتيح لي أن أعاين وأفهم الكثير من الأشياء والأمور في هذا المهجع الكبير. يبلغ طول المهجع / 15 / خمسة عشر متراً، وعرضه حوالي ستة أمتار باب حديدي أسود، في أعلى الجدران نوافذ صغيرة ملاصقة للسقف و مسلحة بقضبان حديدية سميكة، لا يتجاوز عرض النافذة خمسين سنتمتراً وطولها حوالي المتر. أهم ما في المهجع هو الفتحة السقفية، وهي فتحة في منتصف السقف طولها أربعة أمتار وعرضها متران، مسلحة أيضا بقضبان حديدية متينة، هذه الفتحة ويسمونها " الشراقة " تتيح للحارس المسلح ببندقية والذي يقف على سطح المهجع أن يراقب ويعاين كل ما يجري داخل المهجع وعلى مدار ساعات الليل والنهار، فوق كل مهجع في السجن الصحراوي حارس مسلح من الشرطة العسكرية.
ساعات اليوم هنا جزءان لاثالث لهما، اثنتا عشر ساعة نوم إجباري، اثنتا عشرة ساعة جلوس إجباري، كل سجين يملك ثلاث بطانيات عسكرية فقط، يطوي واحدة ويمدها على الأرض فتصبح فراشاً ويتغطى باثنتين، من يملك ألبسة زائدة عن الثياب التي يرتديها يطويها ويجعلها وسادة أو يضع حذاءه كوسادة، ومن يكن مثلي لا يملك ثياباً أو حذاءً فإنه ينام بلا وسادة.
وعلى كل سجين أن يتقيد بالتعليمات، من السادسة مساءً إلى السادسة صباحاً يجب أن يكون نائماً لا يتحرك، من السادسة صباحاً إلى السادسة مساءً يجب أن يطوي البطانيات الثلاث ويجلس عليها لا يتحرك.
الذهاب إلى المرحاض يتم وفق نظام خاص، بحيث أن الشرطي الحارس في أي ساعة يخطر له أن ينظر داخل المهجع يجب ألا يرى أكثر من شخص واحد يمشي داخل المهجع، ورئيس المهجع وهو سجين أيضاً يجب أن ينظم كل هذا تحت طائلة المسؤولية.
لدى أي خلل../ إذا تحرك النائم حركة غير طبيعية مثلاً، إذا كان إثنان يتحدثان إلى بعضهما ليلاً، إذا كان هناك أكثر من شخص يمشي، إذا كان جالساً بطريقةً لاتعجب الحارس/ يصيح الحارس برئيس المهجع:
- رئيس المهجع .... ولا كرّ !!
- نعم سيدي.
- علمّ ...هالكلب.
وهكذا يكون قد تم تعليم السجين.
نوبة كل حارس ساعتان. وعدد الذين يتم تعليمهم تابع لمزاج كل حارس، وكل حارس يبلغ من يليه في الحراسة بعدد الذين علّمهم، وفي الصباح يكون المجموع عند الرقيب الذي يحضر إلى الساحة وبصحبته عدد كبير من عناصر الشرطة العسكرية والبلديات، ويصيح:
- ولا ... رئيس المهجع ياحقير ... عندك تلاتة وتلاتين معلِّمين .... طالعهن لبره لاشوف!.
ويخرج الفدائيون!.. جزاء وعقوبة التعليم أصبحت عرفاً: خمسمائة جلدة.

الطعام
ثلاث وجبات في اليوم، رغيفان من الخبز العسكري لكل سجين، الطعام يأتي في أوان بلاستيكية، العشاء على الأغلب شوربة عدس، الغداء برغل ومرق البطاطا، البطاطا تطبخ مع رب البندورة بدون أن تغسل أو تفرم، ولذلك دائماً هناك عدة سنتمترات من التراب الراقد في أسفل جاط المرق، الفطور لبنة أو زيتون وأحياناً بيض مسلوق.
يجلب البلديات جاطات الطعام، يضعونها أمام المهاجع ويذهبون، أكثر من ستمائة رغيف خبز، حوالي العشر جاطات بلاستيك مليئة بالبرغل ومثلها من المرقة، كلها تكوّم أمام المهجع.
ثلاث مرات في اليوم يفتح الباب الحديدي الأسود لإدخال الطعام، وفي كل مرة يكون الفدائيون واقفين خلف الباب، ما أن يفتح حتى يصبحوا جميعاً وبلمح البصر عند الطعام، وبسرعة البرق يحملونه، فدائي واحد لكل جاط برغل، جاط المرق يحمله اثنان، الخبز يكومونه على البطانيات وكل بطانية يحملها أربعة أشخاص، طوال الوقت الذي يستغرقه إدخال الطعام تكون كرابيج الشرطة قد فعلت فعلها، يتفنن عناصر الشرطة ويبتدعون أساليب جديدة:
أمام جاط شوربة العدس الغالي، أمسك الرقيب بالفدائي الذي هم بحمل الجاط. قال:
- أترك الجاط على الأرض ... ولا !
ترك السجين الجاط ووقف.
- وهلق ... غطس إيديك بالشوربة لشوف!
وخرجت اليدان من الشوربة مسلوختين. وأجبره بعدها أن يحمل الجاط بيديه المسلوختين إلى داخل المهجع.
كل بضعة أيام يقتل واحد أو أكثر أثناء إدخال الطعام إلى المهاجع.
 
القــوقعـة- مصطفى خليفة
(( يوميات متلصص ))
الجزء الثاني القسم الثاني
الفدائيون
يوجد هنا أناس من كل الأعمار، رجال في الثمانين من عمرهم، فتيان لم يتجاوزوا الخامسة عشر، يوجد مرضى، ضعفاء، ذوو عاهات سواء كانت في الأصل أو حدثت جراء التعذيب.
الفدائيون مجموعة من الشباب الأقوياء ذوي الأجساد المتينة، تطوعوا من تلقاء أنفسهم للقيام بالمهام الخطرة التي تحتاج إلى قوة تحمل أو سرعة، مثل إدخال الطعام إلى المهجع، أو إذا تم " تعليم " أحد المرضى أو الشيوخ من قبل الحراس، فإن أحد الفدائيين ينوب عن هذا المريض في تلقي الخمسمائة جلدة، لا يعرف أحد أي مهجع في السجن كان السباق إلى ابتداع هذه الفرقة الفدائية، ولكن في لحظة ما تبين أن لدى كل مهجع في السجن فرقة فدائية، "اكتشفت الشرطة في السنوات اللاحقة هذا الأمر، ففي أحد الأيام كان الحراس يتسلون بمراقبة أحد المهاجع وتعليم السجناء، وأصبح عدد الأشخاص الذين تم تعليمهم يفوق عدد أعضاء الفرقة الفدائية، وأصر بعض الفدائيين على الخروج مرة ثانية لتلقي خمسمائة جلدة أخرى، وفوراً اكتشف عناصر الشرطة آثار الضرب والكدمات الحديثة على أرجلهم ولكنهم رغم ذلك لم يفعلوا شيئا حيال الأمر".
سمعت أحد الفدائيين يقول إلى زميله:
- نحن مشروع شهادة.
وهم صادقون في سعيهم إلى الاستشهاد، وقد أنقذت الفرق الفدائية حياة الكثير، وعملهم يتسم بالإخلاص والاندفاع الشديدين النابعين عن إيمان عميق.
في مرة أخرى سمعت دعاء أحدهم بعد الصلاة التي أداها جالساً:
- اللهم انك قادر على كل شيء، باسمك الجليل هبني الشهادة، وخذني إلى جنتك حيث النبيّون والمؤمنون الأخيار.
بعضهم كان يقوم بعمله بتواضع شديد وصمت، وعلى بعضهم الآخر كنت ألاحظ نبرة زهو وتشوف في حديثه.

الحمّام
نحن في المهجع ستة مرضى لا نذهب إلى الحمام، أنا وزميلي في الدفعة الذي بقي غائباً عن الوعي طوال الفترة التي كنت لا أستطيع الحركة فيها، "وكان قد دخل إلى هذا المهجع من دفعتنا ثلاثة، واحد مات بعد يومين، أنا صحوت بعد ستة أيام، أما الثالث فقد بقي شهرين يتأرجح بين الموت والحياة، صحا بعدها وشفي" وأربعة مشلولون، اثنان منهم بالأصل شلل أطفال ، الثالث أثناء الاستقبال، أما الرابع فقد شل نتيجة التعذيب بـ " المظلة ".
الحمام إجباري للجميع إلا الذين لا يستطيعون الحركة، خاصة وقد كتب على بابه إن النظافة من الإيمان، ذهب المهجع إلى الحمام مرتين خلال فترة الشهر التي بقيت فيها لا أستطيع الحركة، يخلعون كل ثيابهم يبقون فقط بالسراويل الداخلية.
بعد شفائي نسبياً وقدرتي على الحركة ذهبت مع المهجع إلى الحمّام!.
الكيلوت الذي كنت ارتديه عند مجيئي إما أنه تقطع أثناء الاستقبال أو أنه ضاع، صحوت بعد ستة أيام فوجدت نفسي مرتدياً سروالاً داخلياً يصل إلى الركبتين وثيابي مكومة إلى جانبي، وبهذا السروال وقفت بالصف داخل المهجع بانتظار الذهاب إلى الحمّام. الكل متوجس، الكل خائف، نقف خلف الباب الأسود تحيط بنا الأدعية والابتهالات إلى الله، خلفي اثنان يتحادثان حول أبواب السجن، كلها حديدية وكلها سوداء، أحدهم يروي للآخر عن سجينة اسمها "ترفة" كانت قد قطعت عهداً على نفسها نتيجة لكثرة الاستفزازات التي كانت تشكلها الأبواب السوداء لها بأنها بعد خروجها من السجن ستحضر نجاراً يخلع لها كل أبواب بيتها، هي لا تريد أبواباً مغلقةً أبداً.
فتح الباب ... خرجنا ركضاً، اثنين اثنين، حولنا من الجانبين الشرطة يحملون الكرابيج التي ترتفع عالياً وتهوي على من تصادفه، الكل حفاة " كانت قدماي لما تشفى جيدا بعد "، من الساحة السادسة عبرنا ثلاث ساحات أخرى حتى وصلنا الحمام، بناء مستطيل يحوي العديد من المقاصير، وهو من مخلفات الحقبة الفرنسية، أدخلونا كل اثنين إلى مقصورة بلا باب، وزعوا الصابون العسكري ضرباً على الرأس، لكل واحدا لوح من الصابون .. صياح ... شتائم ... تركيز شديد في هذا الصياح وهذه الشتائم حول موضوع ألا نستغل فرصة وجودنا في الحمام ونلوط بعضنا بعضا !!، وأنهم يعرفون أننا كلنا لوطيون وأننا نفعل كذا وكذا ببعضنا.
الماء النازل من "الدوش" يغلي، البخار يتصاعد، تعديل حرارة الماء غير ممكنة، بالكاد دهنّا أجسادنا بالماء، دقيقة واحدة قد تزيد أو تنقص بضع ثوان، نخرج بعدها تحت وقع الكرابيج، الضرب على الأجساد المبللة ذو وقع مختلف، يلسع لسعاً، نعود إلى المهجع ركضاً نحمل آثار الضرب فقط.
" سوف يلغى الحمّام بعد فترة نتيجة اكتظاظ السجن وسيتم تحويله إلى مهجع يوضع فيه المعتقلون الشيوعيون ."
تابع الدكتور زاهي العناية بي وبالمرضى الآخرين، جروحي كلها على وشك الشفاء عدا الجرح على وجه القدم اليسرى، و نتيجة لأن عظام مشط القدم قد بانت بعد انكشاط الجلد عنها فقد خشي الدكتور زاهي من مضاعفات أخرى، حضر مرة ومعه شخص آخر وعرف به على أنه طبيب أخصائي جلدية، وقد أخبرني هذا الطبيب أن بمهجعنا فقط يوجد ثلاثة وعشرون طبيباً من مختلف الاختصاصات.
 
القــوقعـة- مصطفى خليفة
(( يوميات متلصص ))
الجزء الثالث
مضى أسبوع دون حوادث تذكر، وذات يوم خرجت من المرحاض وأنا أعرج، أحاط بي فورا حوالي عشرة أشخاص كلهم شباب في بداية العشرينات من عمرهم... صرّت كلمات من بين أسنان أحدهم:
- وقف ولك ... يا نجس .. يا كافر ... هذي هي نهايتك يا كلب.
تجمدت مكاني، ذهلت... لأجزاء من الثانية نظرت إلى العيون المحدقة بي، فائض من الحقد والكراهية ينفجر من هذه العيون، العزم.. الإصرار..!.
تضيق الدائرة حولي ... استسلام كلي، بل شلل بالتفكير.
طوال الفترة الماضية لم أكف عن الخوف، الخوف من المخابرات، الخوف من الشرطة العسكرية، الخوف لدى قرقعة المفتاح في باب المهجع، الخوف من الضرب والألم والموت ... أما الآن .. إنني أرى الموت يحدق بي من خلال الأعين المحيطة بي ..! هل خفت ؟ ... لا أدري، لقد كنت حجراً... قطعة خشب مجردة من الأحاسيس والمشاعر، لا تفكير.. لا رد فعل... جمود كلي... واستسلام تام...!!.
صمت رصاصي ثقيل يخيم على الفسحة الصغيرة أمام المرحاض، وهي مكان لا يستطيع الحارس على السطح أن يراه من شراقة السقف، كان اقترابهم مني بطيئاً، خطواتهم صغيرة جداً نحو مركز الدائرة الذي هو أنا، هل تعمدوا تعذيبي عبر إطالة عمرخوفي وفزعي؟!.. هل كانوا خائفين من ردود فعلي؟!.. هل هم لم يحزموا أمر موتي بعد؟!.. لست أدري!.
فجأة كُسر الصمت... وكُسر محيط الدائرة البشري حولي، قفز شخص كبير السن وأحاطني بيديه، التفت إلى المحيطين بي وبصوت هادىء أجش قال:
- من يعتدي على هذا الشخص فقد اعتدى علي!.
قالها بالفصحى. بوغت المهاجمون... توقفوا، قال أحدهم:
- يا شيخ محمود ... يا شيخ محمود، نحن نحترمك ، لكن ... ما الك علاقة بهذا الأمر!.. أنت شيخ دين، ولازم تكون معنا في القضاء على الكفر والكفار!.
- لا... لست معكم! قال الله تعالى: "لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق".
- لكن... هذا الشخص كافر يا شيخ محمود!.
- الله وحده يعلم ما في النفوس وسرائر القلوب.
- لكنه نصراني... وجاسوس!
- وجادلهم بالتي هي أحسن، ولا تأخذوا الناس بالشبهات.
كل الناس بالمهجع يراقبون ما يحدث، ولكن لم يتجمع حولنا إلا عدد قليل، خمنت أن أكثرهم من أنصار الشيخ محمود، فجأة رأيت الدكتور زاهي إلى جانبي، التفت إليه الشيخ محمود وقال آمراً:
- يا زاهي ... خود هالشخص لمكانه.
سحبني الدكتور زاهي أو جرني من كتفي، انفتحت الدائرة حولنا دون أية ممانعة، أوصلني إلى فراشي وقال لي:
- اجلس مكانك ولا تحكي أية كلمة!.

مكان رئيس المهجع إلى جانب الباب حيث يكون جاهزاً دوماً عند فتح الباب لمخاطبة الشرطة، وعلى الطرف الآخر من الباب وضعوا فراشي بدلاً من الشخص الذي كان يحتله. يبدوا أنهم رفضوا أن أكون بينهم، الباب على يساري، الشخص الذي على يميني وهو الجار الوحيد لي أبعد فراشه عن فراشي أكثر من ربع متر رغم الاكتظاظ والازدحام، ولم يحتج أحد.
أضحت مقاطعتهم لي تامة، التهديد لا زال مسلطاً، جلست على فراشي ساهماً أتحاشى النظر إلى أي اتجاه محدد.
مع الأيام بدأت تنمو حولي قوقعة بجدارين:
ـ جدار صاغه كرهم لي. كنت أسبح في بحر من الكراهية والحقد والاشمئزاز، وحاولت جاهداً ألا أغرق في هذا البحر.
ـ والجدار الثاني صاغه خوفي منهم!
وفتحت نافذة في جدار القوقعة القاسي وبدأت أتلصص على المهجع من الداخل، وهو الأمر الوحيد الذي استطعته.
31 كانون الأول
اليوم عيد رأس السنة، ترى أين تسهر سوزان اليوم ؟! "لم أكن منتبهاً الى مسألة التواريخ هذه، الأيام هنا كلها متشابهة، ولكني سمعت رئيس المهجع يقول ملاحظة إلى بعض السجناء بأن اليوم هو رأس السنة الميلادية وأن غداً هو يوم الخميس، ومن حسن الحظ أن هؤلاء الظالمين يسهرون ويعربدون ويفسقون في هذا اليوم حتى الصباح، بعدها ينامون، ومعنى ذلك ان الهليوكوبتر لن تأتي غداً، لا محاكمات ... لا إعدامات".
بعدها أصغيت للأصوات خارج المهجع، يبدو أن بعض عناصر الشرطة يحتفلون برأس السنة في غرفهم، "حفل في الجحيم" خطر بذهني هذا العنوان، هل هو عنوان فيلم ؟! عنوان رواية ؟... أو مسرحية ؟ لا يهم.
سوزان، خلال الشهور الثمانية الماضية كان حنيني إليها يكاد يكون وحشياً!.
أهلي، أين هم الآن؟ ماذا يفعلون؟ بماذا يفسرون غيابي طوال هذه الفترة؟ ماذا فعلوا ليعرفوا أين أنا ؟... وأين ولماذا اختفيت ؟... أبي وأمي يعيشان هنا وكانا ينتظران وصولي... أنا لم أصل إلى البيت، إذاً أين أنا؟؟ يجب أن يكون هذا تساؤلهما الرئيسي!.
أبي ضابط متقاعد وله معارفه، وكذلك خالي فهو يملك بعض النفوذ، وبعض الأقرباء الآخرين، لماذا لم يتحركوا حتى الآن لانتشالي من هذا الجحيم؟... ولكن ما أدراني!! قطعا إن جميعهم الآن يتحركون ويسعون.
هذه الأفكار أشعرتني ببعض الأمل!.
أحتاج إلى شخص أحادثه عن كل هذه الأمور، أسأله، أبثه همومي. أنظر حولي فتصدمني الوجوه المغلقة، أكثر من نصف عام مرّ على مقاطعتهم لي، فقط بضع كلمات من رئيس المهجع عند الضرورة، وبضع كلمات من زاهي خلسة. فمي مطبق لا يفتح إلا أثناء إدخال الطعام. أحس أن لساني قد بدأ يصدأ. هل يمكن للإنسان أن ينسى عادة الكلام إذا لم يتكلم لفترة طويلة؟. يجب أن أتكلم حتى لو مع نفسي وليقولوا أنني مجنون!!.
لا أستطيع أن ألمس شيئاً من أشيائهم، أجسادَهم. مرةً كنت ماشياً باتجاه المغاسل فاصطدمت يدي بيد واحد منهم كان عائداً من المغاسل، رجع واغتسل ليتطهر. إذا استخدمت حنفية الماء فإن من يأتي بعدي يغسلها بالصابون سبع مرات، لأنني ببساطة "نجس". مرةً سمعت واحداً يقول للآخر بأنه لا يكفي أن يغسل الحنفية بالصابون سبع مرات، إنما يجب أن يكون لدينا بعض التراب... لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
"إذا ولغ كلب في إناء ، فاغسلوه سبع مرات إحداها بالتراب."
من يقوم بتوزيع الطعام يضع الطعام لي أمام فراشي ويتحاشى أن يلمس بطانيتي أو ينظر إلي، كانوا يتكتمون أمامي! ولكن رغم ذلك استطعت أن أعرف الكثير عن حياتهم الداخلية ووسائل عيشهم وأساليبهم داخل السجن.

الصلاة
الصلاة ممنوعة منعاً باتاً بأوامر مدير السجن. عقوبة من يقبض عليه متلبسا بجرم الصلاة هي " الموت "، رغم ذلك فإنهم لم يكونوا يفوتون ولا صلاة واحدة. صلاة الخوف، يوجد شيء من هذا في الإسلام، ولكن هنا طوروها بحيث أن الإنسان يصلي وهو جالس في مكانه أو في أي وضعية أخرى، دون ركوع أو سجود. إدارة السجن عرفت هذا أيضاً، ويتناقلون حديثاً لمدير السجن قاله أمام السجناء الشيوعيين، ودائماً حديث مدير السجن أشبه ما يكون بالمحاضرات أو الخطب، خاطب الشيوعيين قائلاً:
- هؤلاء الكلاب ... الإخوان المسلمون، البارحة فقط أمضيت أكثر من نصف ساعة وأنا أشرح لهم وأفهمهم أن القومية أهم من الدين، ولكن هل تتصورون أنهم اليوم عادوا يصلون !!! عجيب أمر هؤلاء الناس !! لماذا ذهنهم مغلق إلى هذه الدرجة ؟!.

الاتصال
جميع المهاجع ملتصقة ببعضها، كل مهجع ملتصق بمهجعين آخرين من اليمين واليسار، وأحياناً من الخلف أيضاً، وهذا الأمر سهّل الاتصال بين السجناء كثيرا، ويكون ذلك بالدق على الحائط حسب طريقة مورس، دقة على الحائط ... دقتان ... دقة قوية ودقة ضعيفة... نفس رموز البرقيات التي ترسل وفق طريقة مورس.
كل ما يجري داخل السجن، الدفعات الجديدة، من مات، عدد الذين اعدموا وأسماؤهم، الأخبار خارج السجن والتي ينقلها السجناء الذين جاؤوا حديثاً، كل هذه الأشياء كانت تنتقل عبر المهاجع وفق رموز المورس، وفي كل مهجع مجموعة مخصصة لتلقي وإرسال تلك الرموز، تقف خلفهم مجموعة الحفظة.
بدأ الحفظ منذ بداية "المحنة " كما يسميها الإسلاميون، كان الشيوخ الكبار يجلسون ويتلون سورَ وآياتِ القرآن على مجموعة من الشباب، وهؤلاء يظلون يكررونها حتى يحفظوها، وهكذا تولدت آلية الحفظ هذه، لم يبق أحد في المهجع إلا وحفظ القرآن من أول حرف إلى آخر حرف، ومع كل دفعة جديدة كانت تبدأ دورة جديدة، ولاحقاً تطور الأمر باتجاه آخر، يتم انتقاء مجموعة من الشباب صغار السن يحفظون إضافة الى القرآن وأحاديث النبي محمد ... ما يمكن تسميته بسجل السجن، أسماء كل من دخل هذا السجن من الحركات الإسلامية. "في مهجعنا شاب لم يبلغ العشرين من عمره، يحفظ أكثر من ثلاثة آلاف اسم، اسم السجين، اسم مدينته أو بلدته، قريته، تاريخ دخوله السجن ... مصيره!!." بعضهم متخصص بالإعدامات والقتل، وهم يسمون كل من يقتل أو يعدم في السجن شهيداً، وهذا سجل الشهداء. أيضا يحفظون الاسم، عنوان الأهل، تاريخ الإعدام أو القتل.
أعجبت بهذه الطريقة وأخذت أدرب نفسي عليها، وبعد أن امتلكت القدرة الكافية قررت كتابة هذه اليوميات، أكتب الجملة ذهنيا، أكررها... أحفظها، أكتب الثانية... أحفظها، في آخر اليوم أكون قد كتبت وحفظت أهم أحداث اليوم، واكتشفت أنها طريقة جيدة لشحذ الذهن وتمضية الوقت الطويل في السجن، وفي صباح اليوم التالي أتلو كل ما حفظته البارحة.
عرفت لاحقا أن ما حفظ حياتي هو أنهم ليسوا مجموعة واحدة، فبالإضافة للمتشددين الذين حكموا علي بالموت، يوجد التنظيم السياسي وهو تنظيم لم يحمل السلاح ولم يشارك بالعمليات العسكرية، وهناك جماعة التحرير الإسلامي وهم جماعة مسالمة ومنهم الشيخ محمود وزاهي اللذان أنقذا حياتي، وكذلك جماعات الصوفية وهي كثيرة ومتشعبة... وغيرهم.
هذه المجموعات بقدر ما كانت تبدو متماثلة ومتشابهة، يختلف بعضها عن بعضها الآخر إلى درجة أن هذه الخلافات كانت تصل إلى حد التكفير، إلى حد الاصطدام والاشتباك بالأيدي والضرب المبرح دون رحمة أو شفقة.
هم قساة إلى درجة أن بعض أعضاء الجماعة المتشددة كانوا يروون كيف أنهم أنهوا تدريبهم العسكري ببيان عملي قتلوا خلاله بعض "الزبالين" في الصباح الباكر أثناء قيام هؤلاء بتنظيف الشوراع، وكان هذا مجرد تدريب أو "عمادة بالدم". هؤلاء أنفسهم يتحولون إلى كائنات في منتهى الرقة و يبكون عندما يروي قادم جديد أن أجهزة المخابرات كانت تعذب طفلاً صغيراً أمام والده أو والدته لإجبارهم على الاعتراف، أو كيف تم اغتصاب إحدى الفتيات أمام والدها لإهانته وإذلاله وإجباره على الإدلاء بما يملك من معلومات.
شجاعتهم أسطورية في مواجهة التعذيب والموت، وخاصةً لدى فرق الفدائيين، وقد رأيت أناساً منهم كانوا يفرحون فرحاً حقيقياً وهم ذاهبون للإعدام. لاأعتقد أن مثل هذه الشجاعة يمكن أن توجد في مكان أخر أو لدى مجموعة بشرية أخرى.
هناك الكثير من الجبن أيضاً، ولكن الجبن لا يلفت النظر بقدر الشجاعة. ففي ظل هذا الوضع يبدو الجبن والخوف طبيعيين والشجاعة استثنائية. ولكن هنا عندما يكون الجبن مبالغاً فيه يعزى إلى قلة الإيمان بالله.
" كسلحفاةً أحست بالخطر وانسحبت داخل قوقعتها، أجلس داخل قوقعتي.... أتلصص، أراقب، أسجل، وأنتظر فرجاً".
31 أب
صيفان وشتاء واحد مروا وأنا هنا وسط هذه الصحراء المترامية، هنا لا توجد فصول أربعة، فقط فصلان، صيف وشتاء، ولا ندري أيهما أشد قسوة من الآخر، في الصيف يبدو الشتاء رحيماً، وأثناء الشتاء نحس العكس.
نحن الآن في عز الصيف. الجو لاهب، لا يوجد هواء لنتنفسه، الهواء ثقيل جدا بحيث نحتاج إلى جهد كبير لشفطه إلى داخل الرئتين، وهذا يجعل عرَقنا يسيل سيلاً، سمعت بعضهم ممن يعرف المنطقة سابقاً يقول إن درجة الحرارة قد تصل الخمسين أو حتى ستين درجة مئوية في الخارج، وفي الظل داخل المهجع لا تقل عن الخمسة وأربعين درجة مئوية، تأفف أحدهم:
- العمى ... شو نحن مسجونين بفرن !!.
بعض كبار السن قضوا اختناقا، رئيس المهجع يدق الباب ويخبر الشرطة بموت أحدهم، يفتحون الباب، ويبدو صوت الشرطي سائلاً من شدة الحرارة:
- وين هادا الفطسان ؟... يالله ... زتوه لبره.
يحتال رئيس المهجع لإبقاء بعض أواني الطعام البلاستيكية داخل المهجع ومنذ الصباح الباكر وقبل استيقاظ الناس تقوم الخدمة اليومية بملء الأواني بالماء، جميع السجناء بالسراويل الداخلية التي تغطي " العورة " فقط، من السرة إلى الركبة، يدخل أربعة سجناء إلى الفسحة الصغيرة أمام المراحيض، يقوم أربعة من عناصر الخدمة اليومية "وهذه الخدمة منظمة دورياً من السجناء أنفسهم، أنا معفى من كل أنواع الخدمة !" بصب الماء على رؤوس وأجساد الأربعة، ويخرج هؤلاء سريعاً والماء يقطر منهم، يدخل أربعة غيرهم ... وهكذا.
ستة بطانيات مبللة بالماء، كل بطانية يمسكها اثنان من الخدمة، يقفون على مسافات متساوية داخل المهجع، يهزون البطانيات جاعليها كمراوح لتحريك الهواء وترطيب الجو، هذا هو اليوم الصيفي العادي.
أما اليوم الشتائي فهو يوم منكمش، ثياب الجميع قد تهرأت ولا يمكن أن تقي من البرد الصحراوي الحاد الذي ينخر العظام ويجمد المفاصل، ثلاثة بطانيات تعاقبت عليها الأيام واستخدمها قبلي مئات السجناء، ألبس بذلتي الباريسية الأنيقة، السترة والبنطال وكان الشرطة قد صادروا "الكرافات"، سترة البذلة لا زالت بحالة جيدة، أما البنطال فقد اهترأ عند الركبتين وفي المؤخرة، السحاب قد خرب وتقطعت الأزرار، ألبسه ليلاً نهاراً وعلى مدار الأيام، وقد نَسلت بعض الخيوط من البطانية وجدلتها وجعلتها حزاما أثبت فيه البنطال بدلاً من الأزرار والسحاب، "شاهدت غيري يفعل هذا ففعلت". هنا لا يوجد خيطان أو إبر خياطة، أصبح لدي سروالان داخليان، أحد القادمين الجدد إلى المهجع كان أهله أغنياء جدا، وقد استطاعوا زيارته أثناء وجوده في فرع المخابرات بعد أن دفعوا ما يوازي ثروة صغيرة كرشوة إلى الضابط المسؤول، وهناك من نصحهم بأن يأخذوا لابنهم الكثير من الثياب. "جلب معه أكثر من مائة غيار داخلي، كان نصيبي منها سروالاً داخلياً، أعطاني إياه رئيس المهجع:
- خود هذا .... مشان يكون عندك بدل!
البرد الصحراوي أقسى من أي برد آخر، عشت أياماً باردة جدا في فرنسا كانت الحرارة تصل الى تحت الصفر ، ولكن ذلك البرد يبدو برداً مهذباً، بينما البرد هنا وقح صفيق!
أما مشكلة القمل فتكون أصعب في اليوم الشتائي، فلا حل للقمل المنتشر بكثافة في جميع المهاجع إلا أن تجلس وتخلع كل ثيابك وتبدأ بالتفتيش عنه في ثنايا الثياب، الجميع هنا يفعل ذلك وفعلت مثلهم بعد أن هرش جلدي، ولكنني لم استطع أن أخرج الصوت الذي يخرجونه من بين أسنانهم "تسه" كلما فقسوا قملة بين اظفري الإبهامين!!
كل يوم بعد وجبة الإفطار يخلع الجميع ثيابهم ويبدؤون تفليتها بحثا عن القمل، وأنا أيضاً أمسك القملة وأهرسها بين الأظفرين، كان وجود القمل بهذه الكثافة محيراً، تساءل أحدهم بغضب:
- العمى منين عم يجي كل هالقمل ؟!.. كل يوم ننظف ثيابنا منه، كل يوم نتوضأ خمس مرات، على الأغلب نغسل كل يوم جسمنا بالماء البارد والصابون، نغسل ثيابنا، نغسل بطانياتنا، وباليوم الثاني نشوف القمل أكثر ... وأكثر !!.. العمى... في حدا عم يرش المهاجع بالقمل؟!!
10 أيلول
لأول مرة يدور في المهجع نقاش خارج عما هو موجود في القرآن أو السنة النبوية ، نقاش طويل شارك فيه أكثر من عشرة أشخاص بينهم اثنان من المشلولين، " كل النقاشات، الحوارات، حتى الشجارات ... تتم بصوت منخفض خشية أن تسمع الشرطة". وكان موضوع الحوار هو الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، بدأ هذا النقاش طبيب دارس في أوربا بملاحظة سريعة أبداها حول الحرية ومُثل الديمقراطية الغربية، استمر النقاش طويلا وانتهى بقول أحد المشلولين:
- تقول الحضارة الغربية !... انظر يا أخي حولك، أنا مشلول بالكرسي الألماني، وهذا محمد علي مشلول أيضا برصاصة استقرت بعموده الفقري مصنوعة في روسيا، هذا السجن بنته فرنسا، القيود التي كبلوا بها يديّ مكتوب عليها "صنع في أسبانيا"، الضابط الذي اعتقلني يحمل مسدساً بلجيكيا، الضباط الذين يشرفون على التحقيق والتعذيب تدربوا في أمريكا وبريطانيا وروسيا ... هذه منتجات الحضارة الغربية، وإذا أضفت إلى كل هذا الكثير من الفسق والفجور والانحلال الأخلاقي تكون الحضارة الغربية مجسدة أمامك.
بصوت تعب وبلهجة من يود إنهاء نقاش لا طائل تحته، لكنه لا يريد التسليم بحجج الخصم، رد الطبيب:
- إن في هذا الكثير من التجني والاجتزاء، أنا لا أقول أن نقلد الغرب أو نأخذ سلبياتهم، في الغرب أيضاً العلوم والطب وتطور الزراعة والصناعة ... وفوق كل هذا وأهم من كل شيء ... هو أن لديهم إنساناً حراً ومحترماً، إذا أردنا أن نتقدم علينا أن نتعلم منهم الكثير وخاصة احترام الإنسان واحترام حريته، وهذا ليس عيباً.
25 كانون الأول

جافاني النوم. الساعة السادسة مددت البطانية كالعادة وتمددت. الواحدة بعد منتصف الليل مللت الاضطجاع بعد أن آلمتني أجنابي، جلست ولففت نفسي بالبطانيات، خمس دقائق وصوت الحارس من خلال الشراقة:
- يا رئيس المهجع .. يا حمار.
- نعم سيدي.
- علملي هالتيس القاعد جنبك.
- حاضر سيدي.
لقد علمني. تمددت فورا، غداً صباحاً سيكون فطوري خمسمائة جلدة بقشاط مروحة الدبابة على قدمي! إن قدمي التي أصيبت شفيت تماما مع ندب طويل ولكنها كانت تؤلمني دائماً في أيام البرد فألفّها أكثر من غيرها، كنت احلم بزوج من الجوارب الصوفية! احد أحلامي الصغيرة. ماذا سيكون مصير هذه القدم المسكينة عندما تتلقى خمسمائة جلدة؟ لم أستطع النوم حتى الصباح. وعندما فتح الباب وصاح الشرطي برئيس المهجع ليخرج الأشخاص الذين تم تعليمهم، قفزت واقفاً، ولكن رئيس المهجع وبسرعة قال:
- مكانك، لا تتحرك، واحد من الشباب طلع بدلا منك.
ذهلت، واحد من الفدائيين، واحد من المتشددين الذين حاولوا قتلي لأنني كافر يفديني الآن بنفسه ويتلقى عني خمسمائة جلدة!!
منذ سنة ونصف تقريبا لم أنطق ولا كلمة، جلست مكاني وأنا أنظر إلى رئيس المهجع بذهول، خرجت كلمتان من فمي لا إرادياً:
- لكن ... ليش ؟
لم يجب رئيس المهجع بشيء، أشار بيده لي أن اسكت، إشارة فيها الكثير من الاحتقار و الاشمئزاز!!.
عاد الأشخاص الذين جلدوا، بعد وجبة الجلد يعودون ركضا على الإسفلت الخشن وهم حفاة، أكثر من واحد منهم رمقني بطرف عينه بنظرة ازدراء وحقد!!
إذاً لماذا؟؟
"لزمني زمن طويل حتى استطعت التوصل إلى تخمين:
بما أنني جاسوس فإنهم كانوا حريصين جداً ألا أحتك بعناصر الشرطة كي لا أمارس جاسوسيتي !!."
في اليوم نفسه كان دور مهجعنا بالتنفس .

التنفس
في السجون الأخرى التنفس هو حيز زمني يخرج فيه السجين من مهجعه إلى ساحة هواؤها نقي، بها بعض الملاعب فيتريض، معرضة للشمس فيتشمس... يأخذ حاجته من الهواء والشمس والحركة.
هنا ... قبل التنفس يكون السجناء في المهجع قد انتظموا في طابور متلوٍ بعضهم خلف بعض، تفتح الشرطة الباب، يخرج الطابور بخطوات بطيئة، الرؤوس منكسة إلى الأسفل، العيون مغمضة، كل سجين يمسك بثياب الذي أمامه، عناصر الشرطة والبلديات يحيطون بالساحة وينتشرون بها بكثافة، يسير الطابور سيراً بطيئاً أو سريعاً حسب مزاج وإرادة الرقيب.

الاثنين والخميس يومان مختلفان عن بقية أيام الأسبوع هنا. في هذين اليومين تتم الإعدامات، لذلك عندما نخرج للتنفس في هذين اليومين تكون كمية التعذيب والضرب أكثر من غيرهما من الأيام، وفي التنفس يكون الضرب غالباً على الرأس:
- ولا كلب... ليش عم ترفع راسك؟!
ويهوي الكرباج على الرأس.
- ولك ابن ا.... !!.. ليش عم تفتح عيونك من تحت لتحت ؟!!
ويهوي الكرباج على الرأس.
في الصيف يكون التعذيب أقل. حرارة الشمس التي تثقب رؤوسنا تجعل عناصر الشرطة في حالة تكاسل وعدم ميل للحركة، في الشتاء يشتدّ التعذيب.
أحياناً وبينما الطابور يدور يتجمع بعض عناصر الشرطة حول الرقباء، تدور بينهم أحاديث لا نسمعها، يصبح مزاجهم فجأة أميل للتسلي بنا، يصرخ الرقيب:
- ولا حقير... أنت أنت يا طويل... أطول واحد بالصف، تعال هون...
يركض أحد البلديات ويجر أطول واحد بيننا، طوله أكثر من مترين، الرقيب جالس على كتلة إسمنتية أشبه بالكرسي، يضع رجلاً على رجل، يشد صدره يرجع رأسه إلى الوراء والأعلى، يقول:
- ولا حقير .. أنت بني آدم ولا زرافة؟
يضحك المتجمعون حوله بصخب، يتابع الرقيب:
- وهلق ... اركض حول الساحة خمس دورات وطالع صوت متل صوت الزرافة ... يالله بسرعة.
يركض السجين ويصدر أصواتاً، لا أحد يعرف كيف هو صوت الزرافة، أعتقد حتى ولا الرقيب نفسه، يدور السجين خمس مرات، يتوقف، يقول الرقيب:
- ولا حقير ... هلق بدك تنهق متل الحمار!
ينهق السجين الطويل. تضحك الشرطة.
- ولا حقير... هلق بدك تعوي متل الكلب!
يعوي السجين الطويل. تضحك الشرطة. يضحك الرقيب وهو يهتز، يقول:
- ولا حقير... إي ... إي ... هاي ناجحة وكويسه ... أنت متل الكلب فعلا.
ثم يلتفت إلى رتل السجناء الذي يسير منكس الرؤوس ومغمض العينين، يصيح:
- ولا حقير... أنت أنت... أقصر واحد بالصف ، تعال هون.
يركض أحد البلديات، يجر أقصر واحد بالرتل. شاب صغير لا يتجاوز الخامسة عشر، طوله أكثر قليلا من المتر والنصف، يقف أمام الرقيب الذي يضحك ويقول:
- ولا حقير... يا زْمِكّ ... وقف قدام هالكلب الطويل.
يقف السجين القصير أمام السجين الطويل، يصرخ الرقيب:
- ولا حقير ... يا طويل ... هلق بدك تعوي وتعض هالكلب يللي قدامك وبدك تشيل قطعة من كتفه ، وإذا ما شلت هـ القطعة ... ألف كرباج.
يعوي الطويل ثلاث أو أربع مرات متواصلة، يتقدم من القصير وينحني مطبقا بفكيه على كتف القصير الذي يصرخ ألماً ويتملص من العضة.
- ولا حقير... يا طويل... وين قطعة اللحم ؟ يا شرطة ... ناولوه.
ينهال رجال الشرطة بكرابيجهم ضرباً على الطويل، يسقط على ركبتيه، يتساوى بالطول مع القصير وهو جاثٍ ... يترنح ... يصرخ الرقيب:
- بس ... " تتوقف الشرطة عن الضرب " ... ولا حقير ... طويل ... قوم وقف.
يقف الطويل.
- ولا حقير... قصير... وقف وراءه.
يرجع القصير إلى خلف الطويل.
- وهلق ... انتوا الاثنين اشلحوا تيابكم.
يخلع الاثنان ثيابهما ويبقيان بالسراويل.
- ولا حقير قصير... نزل سرواله.
ينزل القصير سروال الطويل الى حد الركبتين.
- ونزل سروالك كمان.
ينزل القصير سرواله أيضا.
- وهلق ... قرب ... اعمل فيه متل ما بتعملوا ببعضكم كل ليلة يا منايك ... يا الله قرب .
يتلكأ القصير، تشتد إليتا الطويل وتتشنج، يشير الرقيب إلى أحد عناصر الشرطة، يقترب هذا ويهوي بالكرباج على ظهر القصير ... يلتصق القصير بالطويل من الخلف، يهتز الطويل، عضو القصير المتدلي بالكاد يصل فوق ركبتي الطويل، يضحك الرقيب وباقي عناصر الشرطة.
الرتل يسير. الرؤوس منكسة، العيون مغمضة، رغم ذلك، الكل يرى، الكل يسمع.... وترتفع بيادر الحقد والذل.
يطلب الرقيب تبديل المواقع، يصبح الطويل خلف القصير، عضوه المرتخي والمنكمش في منصف ظهر القصير... يستمر الضحك ...
الرتل يسير، الرؤوس منكسة، العيون مغمضة.

تنفس آخر، يوم آخر، رقيب آخر، شرطة آخرون، بلديات آخرون، السجناء أنفسهم، زادوا قليلا، نقصوا قليلا.

يجلس الرقيب على الكتلة الاسمنتية ذاتها، يضع رجلاً على رجل، يصيح وهو ينظر إلى الرتل الذي يسير برؤوس منكسة وعيون مغمضة:
- جيبوا لي هـ البغل ... السمين.
يأتون برجل أربعيني بدين، يعرف الرقيب منه اسمه واسم مدينته، كم أمضى في السجن ... وتفاصيل أخرى، ثم يسأله:
- أنت متزوج ولاّ أعزب؟
- متزوج سيدي.
- أنت بتعرف شو عم تساوي زوجتك هلق ... ولا ... أنا بقلك، أكيد عم ...، أنت صار لك ثلاث سنين في السجن .... وهي كل يوم مع واحد جديد.
السجين ساكت، منكس الرأس مغمض العينين، يتابع الرقيب:
- ليش ساكت ؟! ... احكي ... وإلا خجلان تقول قدام الشباب انك متجوز واحدة ...... ؟!... شو العرصات كمان بيخجلوا؟!

تمضي الأيام، يتبدل الرقباء، لكن الأساليب تبقى نفسها ... الزوجة ...... إذا لم يكن السجين متزوجا تصبح ... الأخت ا......أو حتى الأم ........ البنت ...... إذا كان للسجين بنات.
" كنت أتساءل : هل هي تسلية فقط أم أنها نهج ؟! ... الدافع للتركيز على هذا الموضوع هل هو عقد الجنس والكبت الشرقية لدى الرقباء يفرغونها من خلال السلطة التي يملكونها على السجناء؟! ... أم هو نهج مدروس الغاية منه تحطيم الإنسان وإذلاله من خلال المرأة باعتبارها أعلى قيم الشرف لدى المسلمين سواء كانت زوجة أو أختاً أو أماً أو أية قريبة أخرى ؟!... وشرف المرأة لدى الشرقيين بالعام هو أن لا تمارس الجنس خارج نطاق الزوجية، وأي سلوك لها في هذا الاتجاه قد يدمر العائلة بالكامل ويلحق بها العار."
لم يكن ممكناً معرفة أسماء الشرطة أو الرقباء، ولكن السجناء أطلقوا عليهم أسماء من عندهم. وهذه الأسماء كانت تعتمد إما على علامة فارقة تميز هذا العنصر، من مثل: الأحول، أو "الأربع شقف" وكان هذا الرقيب يهتز ويتخلع في مشيته بحيث يبدو إن قطع جسده تتحرك كل منها باتجاه. أو أن تستند التسمية على لباس ما، مثل الرقيب "أبو شحاطة" وهذا كان دائما يأتي منتعلاً الشحاطة، وعلى الأغلب تستند التسمية على عبارة يرددها الرقيب دائماً. فكان هناك الرقيب "ولا حقير"، والرقيب "ابن ال....."، والرقيب "يا كرّ" ... إلى آخره.
يسأل السجين صديقه العائد من العقوبة:
- مين اليوم في الساحة؟
- ابن ال.....
يقصد الرقيب الذي يظل يكرر عبارة: ابن ال......
22 شباط

في الصباح الباكر وقبل إدخال الطعام، فتح الشرطة باب المهجع ودخلوا بطريقة وكأن مائة ثور هائج قد دخل هذا المكان، الصياح، الضرب بالكرابيج، الشتم، وبين شتيمة ولسعة كرباج يصرخون:
- وجهك عـ الحيط .. وجهك عـ الحيط ..
منذ دخول أول شرطي بهذه الطريقة قفز السجناء وأداروا وجههم إلى الحائط، وقفت لا أدري ما افعل.. صحوت على الكرباج يهوي على خدي ويلتف على رقبتي من الخلف والشرطي يصيح:
- وجهك عـ الحيط !
أدرت وجهي، تخشبت وسيخ الألم يمتد من وجهي إلى رقبتي، بعدما ما يقرب الخمس دقائق خيم الصمت، ثم صوت احد الشرطة يصيح بصوت عال:
- انتبــــه .. مكانك تهيأ.
خبط جميع عناصر الشرطة أقدامهم بالأرض، وقدم الصف بصوت اعلى:
- المهجع جاهز سيدي المقدم.
انه مدير السجن. أخد يتمشى من أول المهجع إلى آخره بين صفين من عناصر الشرطة الواقفين وقفة استعداد عسكرية.
ركبني الفضول وبسلوك عفوي أكثر من أن يكون مقصوداً، نظرت بزاوية عيني خلسة إلى المقدم. رأيته، شاب ثلاثيني أشقر الشعر، مشيته فيها الكثير من التوتر، وكذلك كلامه، يتكلم وكأنه يحادث نفسه بعبارات لم أستطع فهمها أو الربط بينها:
- أنا.. أنا أتهدد!! .. سأحولها إلى جهنم ... شعرة واحدة يروح ألف مجرم مقابلها ..
ثم صاح بصوت شديد الاحتقان:
- ولا كلاب.. مجرمين.. انتو لسا ما بتعرفوني منيح .. والله لادبحكن دبح الغنم.
بعدها صاح بمجموعة من الشرطة واقفة بينه وبين السجناء:
- زيحوا هيك ولا..
صوت طلقات مسدس متتابعة، انكمشت على نفسي لدى سماعها وخبأت رأسي أمام صدري، وبسرعة فائقة خرج المقدم يسحب وراءه رتلاً من عناصر الشرطة وأغلق الباب.
أربعة عشر قتيلاً بأربع عشرة طلقة هي كل مايحويها مخزن مسدس المقدم على ما يبدو. ركض الأطباء وبينهم زاهي إلى زاوية المهجع حيث القتلى، فحصوهم جميعاً، الكل ماتوا فوراً، ومكان دخول الرصاصة واحد لدى الجميع في الرأس من الخلف، سحبوهم إلى وسط المهجع، تجمعت بركة من الدماء الطازجة وجلس البعض حولها يبكون، الأغلبية جامدة مذهولة، الأطباء في حالة حيرة لايعرفون ما يفعلون، وقف واحد من فرقة الفدائيين، قال:
- لاحول ولاقوة الا بالله ... انّا لله وإنّا اليه راجعون، عليهم رحمة الله، هم السابقون ونحن اللاحقون، اللهم اسكنهم فسيح جنانك، اللهم هؤلاء شهداء في سبيل إعلاء كلمتك، كلمة الحق، فارحمهم أنت الرحيم الغفور.
سكت قليلاً .. ثم أردف موجهاً حديثه للجميع:
- يالله يا إخوان .. خلينا نقوم بواجبنا.
انتظروا حتى توقف نزيف الجثث، نقلوها ووضعوها قرب الباب أمامي وأمام رئيس المهجع، بين القتلى الشيخ محمود الذي أنقذ حياتي، صليت عليه سراً، حزنت على الجميع فوجوههم أصبحت مألوفة لي، وكان حزني كبيراً على الشيخ محمود.
نظفوا الأرض من الدماء، كل البطانيات الملوثة بالدماء نظفوها، دار نقاش بين مجموعتين عند رئيس المهجع، مجموعة تقول إنه يجب ان نأخذ جميع ملابسهم، لأن الحي أفضل من الميت، وجماعة تعارض ذلك وترى أن هذا معيب. أخيرا انتصر الرأي القائل بأن الأحياء الباقين بحاجة إلى الملابس، وتكفلت مجموعة خلع الملابس وتنظيفها، خرجت الجثث ليلاً من المهجع وهي عارية لا تلبس إلا السروال الداخلي فقط.
" بعد ثلاث سنوات سيروي احد القادمين الجدد أن السبب في هذه المجزرة هوان التنظيم المسلح قد أرسل تهديداً بالقتل للمقدم إذا لم يحسن من معاملة السجناء الإسلاميين، وجد المقدم هذا التهديد تحت ماسحة زجاج سيارته وهو ذاهب إلى الدوام صباحاً ، فقام بقتل هؤلاء وسرب الخبر ليسمع به التنظيم مصحوباً بتهديد معاكس:
- مقابل ورقة مكتوبة قتلت أربعة عشر واحداً! إذا مست شعرة من رأسي أو رأس شخص يخصني سيكون المقابل مائة، إذا حصل أذى أو مات احد من أقربائي فإنني لن أبقي على أحد حياً!!."
ولم يرد بعدها أي تهديد.

مهجعنا قريب من الباب الخلفي من السجن، من هذا الباب يأتي الطعام، تصف الشاحنة الروسية خلفاً ويقوم البلديات بإنزال قدور الطعام الكبيرة، ومن هذا الباب وفي نفس السيارة تنقل الجثث يومياً بعيد منتصف الليل، من خلال سماعنا لارتطام الجثث في أرضية السيارة كنا نعرف عدد الذين ماتوا في هذا اليوم، وفي يوم زيارة المقدم أحصى الساهرون ثلاثة وعشرين خبطة جثة، وعن طريق مجموعة المورس ذهاباً وإيابا تم معرفة الجميع وحفظت هذه المعلومات في الأذهان.
24 آذار
نسير..ندور.
أمشي في الرتل الدائر حول الساحة، منكس الرأس، مغمض العينين، ممسكاً مطاط بيجاما من يتقدمني، يجرني خلفه. الرجل الذي خلفي يمسك مطاط بيجامتي ويشدني إلى الخلف، نسير..ندور. أتساءل أحياناً:
أي كائن أنا؟! هل أنا إنسان؟! حيوان؟! شيء؟!.

كان لي صديق من بلدي يدرس في فرنسا، يصله من أهله بداية كل شهر مبلغ من المال يكفيه حتى كفاية الشهر. هذا الصديق بدلاً من أن يبرمج مصروفه ويقسمه على ثلاثين يوماً كان يدعوني إلى سهرة واحدة فخم أو مطعم مشهور.
هذه السهرة كانت تكلفه حوالي نصف مصروفه، لذلك كان في الأيام العشرة الأخيرة من الشهر يستدين مني ومن الأصدقاء حتى يأكل.سألته مرةً:
- لماذا تصرف كل هذه النقود على سهرة واحدة ولايبقى معك في الثلث الأخير من الشهر فلس واحد؟
أجاب:
- إنني في هذه السهرة التي أقيمها مرة في الشهر أشعر أنني إنسان! إن هؤلاء الذين يعملون في هكذا فنادق أو مطاعم مدربون جيداً كي يشعروك بأنك إنسان " كلامهم..طريقة خدمتهم لك..هيئتهم" كل هذه الأشياء تجعلك تحس بأنك إنسان محترم، أنا ياصديقي في جوع حقيقي كي أشعر يحترمني الآخرون، لايهم أن أجوع بضعة أيام كل شهر، لكن الشعور بأنني إنسان يكفيني لمدة شهر.
لقد راقبت هذا الصديق في كل المرات التي دعاني فيها إلى السهرة عند استلامه النقود المرسلة من أهله، وفي كل مرة كنت أشاهد إنساناً معتزاً بنفسه، واثقاً، يمشي إلى جانبي في خيلاء.
راقبته كذلك في المرات الثلاث التي كان مجبراً فيها على مراجعة سفارتنا في باريس، وفي كل مرة كان يستعطفني ويرجوني بحرارة أن أرافقه، رغم أنه كان يحاول تأجيل الذهاب بأعذار وحجج واهية حتى اللحظة الأخيرة.
يصل السفارة وقد تغير، يدخل متردداً، يلقي نظرة خاطفة إلى الوراء (عله يريد التأكد من وجودي)، أقرأ في نظرته هذه معاني الخوف والقلق.. وطلب الغوث.
يخرج مكفهراً..صامتاً.. مسرعاً..يشير لي بيده أن أمشي بسرعة، أمشي إلى جانبه صامتاً.
في المرة الأولى والثاني اكتفى بأن يبصق بصوت مدوّ حالما ابتعدنا عن السفارة.
في المرة الثالثة، تكلم:
-الكلاب.. يريدون أن يجعلوا مني جاسوساً!.. جاسوساً! وعلى من؟! يريدون مني أن أتجسس على يوسف!! هددوني بالاعتقال والترحيل.. قالوا إن لديهم خمس زنازين في مبنى السفارة، كلاب..تفو..تفو!.

نسير..ندور حول الساحة.
إغماض العينين يجعل مئات الصور تتقافز في الذهن.
في بدايات حياتي أولعت بالمطالعة كثيراً، صار اسمي في البيت "فأر الكتب". التهمت كل ماوقع تحت يدي من قصص وروايات، كنت وقتها عندما أغمض عينيّ أحس أن هناك آلاف الأحرف والكلمات تتقافز في الذهن.. تتصادم.. ترتطم بجدران الرأس.. تقع أرضاً ليقفز غيرها. أجلس ملتفاً برطوبة قبو منزلنا الظليل- والذي كنت قد نظفته ورتبتع وجعلت منه مكاني المفضل بعيداً عن الأهل وضجيجهم- تعباً من القراءة، مغمض العينين، أمارس لعبة الأحرف والكلمات المتقافزة "يحرقني الحنين إلىجلسة صغيرة في ذلك الركن".
في المراهقة والشباب الأول، أصبت بلوثة السينما، أخرج من صالة لأدخل أخرى، كنت أشاهد أحياناً ثلاثة أفلام في يوم واحد، أصبح اسمي "فأر السينما"، عرفت كل صالات العاصمة جيداً، كنت أحفظ عن ظهر قلب برامج الصالات للأسابيع المقبلة.
نسير..ندور.. تحت لسع الكرابيج، منكسي الرؤوس، عيوننا مغمضة، يمسك أحدنا ذيل الآخر.. وندور.
فأر كتب، فأر سينما، الآن.. أحس أنني بغل.
في الكثير من الأرياف وقبل انتشار محركات ضخ المياه من الآبار، كانم انتشال المياه من هذه الآبار بواسطة قوة محركة هي البغال (في بعض البلاد يسمونها "الدولاب" ويسمونها في أخرى "الغرّاف"). يربطون البغل إلى عمودٍ، يغطون عينيه " للآن لم أعرف لماذا يغطون عينيّ البغل" ويظل يدور..يسير.. ويدور حول البئر من الصباح إلى المساء، هذا الدوران العبثي بالنسبة للبغل!.. ونظل ندور!.
فيلم غربي يصور حياة راهبة في الخامسة والعشرين من عمرها، كان أهلها قد نذروها لحياة الرهبنة. فتاة ذات نفس نقية، قانعة بحياة الرهبنة ومستمتعة بها، طاهرة كالثلج، تعيش في دير يقع في جزيرة نائية. تدور أحداث الفيلم ويهاجم القراصنة هذه الجزيرة، هذه الراهبة البتول تقع بين أيدي قرصان مجرم فاسق، يلقيها أرضاً ويغتصبها.
مشهد: يقف القرصان بجسده الضخم ويبتعد مهمهماً.. لراهبة ملقاة أرضاً..مكشوفة الساقين..- تقترب الكاميرا- خيوط من دم العذرية تسيل على الفخذين.. هي غائبة عن الوعي.

نسير..وندور حول الساحة، مشدودي الأعصاب، نتوقع في كل لحظة صفعةً أو ركلةً..أو كرباجاً، رغم ذلك ننسى أحياناً، تأخذنا الأفكار في جميع الاتجاهات، نحلم بيوم لانسمع فيه كلمة "تنفس"، يومٍ لانسير ولاندور فيه، تحضر الذكريات.. تتغلب على كل الشد العصبي وتحضر، تداعبني وجوه الأهل والأصدقاء، المرأة بشكل خاص، أمي.. أختي.. سوزان، تحضر كل نساء"ي"، وأحياناً قد ترسم ذكرى ما ظلَّ ابتسامة على شفاهي.
 
القــوقعـة- مصطفى خليفة
(( يوميات متلصص ))
الجزء الرابع
30 آذار
صح ما توقعه الدكتور زاهي .
حوالي سنتين مضتا على وجودي هنا. معزول ومجبور على الجلوس في مكاني لا أغادره إلا إلى التنفس أو المرحاض، لا أستطيع النظر إلى أي واحد بشكل مباشر رغم أنني لا أعتقد أن الجميع راغب بقتلي "أو كان راغباً"، ولكنني لا أستطيع أن أميز بين من يرغب أو لا يرغب، والمهم في هذا أن الجميع يقاطعني ولا يرغب بوجودي بينهم هنا، " وأنا أيضا لا أرغب بوجودي هنا "، طوال هذه الفترة كنت أتوق إلى من أحادثه، أن أجرب قدرتي على الكلام من جديد، لكن قوة الكراهية كانت تلصقني بالبطانية وتلصق البطانية بالأرض.
الآن بعد أن صحت توقعات الدكتور زاهي أصبحت اجلس في مكاني بإرادتي، لا أريد الاحتكاك بأحد، لا أريد محادثة احد.
إنه التهاب السحايا. وتحول الأمر إلى وباء بسرعة مذهلة، بدأ الأمر منذ شهر تقريباً، أولاً شخص واحد، ثم آخر .. ثم آخر، اجتمع الأطباء السجناء، تدارسوا الأمر، وعندما وصلوا إلى قرار موحد كان العدد قد جاوز عشرة مصابين. الاتصال الداخلي بين المهاجع "المورس" اخبر واستفهم، تبين ان الحالة عامة في كل المهاجع.
عندما وصل عدد المصابين إلى عشرين "مات منهم اثنان وفقد البصر اثنان ولا يزال الباقون يتأرجحون"، طلب الأطباء أن يجري نقاش عام في المهجع، تكلموا وشرحوا الأمر بدقة وواقعية، ثم طلبوا من رئيس المهجع أن يدق الباب ويطلب المساعد ويضعه في صورة الأمر، رفض رئيس المهجع هذا الطلب وقال إن هذا مستحيل، رد عليه احد الأطباء بأنه خلال أيام قليلة وإذا لم يتوافر الدواء فإن كل الناس في هذا المهجع، وعلى الأغلب في السجن كله سيصابون. والإصابة في ظل هذه الأوضاع الصحية وانعدام الدواء انعداماً كلياًُ، يعني حتماً إما الموت أو ما يشبه الموت، وطالما أننا سنموت في كل الأحوال فلنطلب المساعد ونضعه في صورة الأمر ولو كانت نسبة الأمل واحداً على مليون.
- يا دكتور .. يا دكتور عندك شك إنه هدول يريدون موتنا؟ وأنت تتوقع من يللي يريد قتلك انه يعالجك؟ نحن هون من سنوات .. شفت شي طبيب عالج مريض بهالسجن؟ أنت تتصور إنه هدول عندهم ذرة واحدة من الرحمة أو الإنسانية؟ أو اإنه يخافوا الله؟ خلينا نموت تحت رحمة الله .. ولا نطلب الرحمة من هدول الوحوش، والموت حق على كل مسلم ومسلمة، والموت بهذا الظرف رحمة من الله.
كنت اسمع كل النقاش هلعاً. "رئيس المهجع من أكثر الرجال الذين شاهدتهم في حياتي قوة شخصية، وهو ضابط في الجيش، قوي، صارم، رزين".
لم يستسلم الأطباء، توجه احدهم إلى رئيس المهجع قائلاً:
- نعم .. الموت حق، كلنا راح نموت بأجلنا، لكن الدين يأمرنا بألا نرمي بأنفسنا إلى التهلكة، وطلبك المساعد قد يساعد على إنقاذ الكثير من أرواح المسلمين وهذا واجب عليك وعلينا.
وفي عبارة القصد منها الإحراج أردف الطبيب:
- إذا كنت أنت لا تستطيع أن تطلب المساعد، اترك واحداً منا يطلبه بدلاً عنك.
انتفض رئيس المهجع ، "واضح انه استُفز"، قال:
- طيب يا جماعة أعطوني مهلة ساعتين حتى أفكر بشي طريقة.
انفض الاجتماع، وأعطى الأطباء مجموعة من النصائح الطبية للجميع. سارعت أنا إلى سترة بذلتي فنزعت أحد جيوبها الداخلية، نسلت خيطاً من البطانية، صنعت كمامة وضعتها على فمي وانفي، نظر الجميع إليّ باحتقار، ولكن خلال يومين كان لدى الجميع كمامات.
بعد حوالي ربع الساعة وقف رئيس المهجع بحركة مفاجئة، نظرت إليه، كانت عيناه محتقنتين باللون الأحمر، واضح انه أدرك حجم الإهانة التي وجهها إليه الطبيب ، وقف أمام الباب بعزم، وبجماع يده طرقه طرقات قوية.
سأل صوت الرقيب المناوب من الساحة:
- شو بدك ولا حقير؟
- بدي المساعد .. الأمر ضروري جداً.
- شو ..! شو..! شو..! المساعد دفعة وحدة ؟! ولا حقير.. شو بدك من المساعد؟ .
اغتاظ رئيس المهجع ، وبدأ يتمتم:
- العمى .. شو أنا عم اطلب رئيس الجمهورية ؟!.. هوي شقفة مساعد لا راح ولا أجا .. الله يلعن هـ الزمان .
بعدها صاح بصوت عال :
- الأمر خطير جداً .. جداً ، ولازم يجي المساعد هلق ، لمصلحتكم مولمصلحتنا .
بعد ربع ساعة فتح الباب وطلب المساعد إخراج الجحش رئيس المهجع ، شرح له رئيس المهجع أبعاد المرض كما سمعها من الأطباء ، وختم حديثه بقوله :
- يا سيدي .. العدوى بهادا المرض شديدة جداً ، ممكن الشرطة ينعدوا من المساجين ، ممكن – لاسمح الله – سيادتكم تنعدوا ، نحن واجبنا نخبركن ، وإذا حبيتوا تسمعوا أكثر بنادي الدكتور سمير .
نادوا الدكتور سمير وشرح للمساعد بالتفصيل مؤيداً كلام رئيس المهجع أن العدوى ممكن أن تنتقل إلى الشرطة .
أغلقوا الباب بعد إدخال الدكتور سمير ورئيس المهجع دون عقوبة! وبعد ربع ساعة أعادوا فتحه، وقف المساعد وجميع الشرطة خارج المهجع ودخل ضابط برتبة ملازم ثان، طبيب السجن العسكري، عرفنا وقتها أن في السجن طبيباَ!!.
وقف عند الباب إلى جانبي، طلب من الجميع الجلوس في أماكنهم وفتح عيونهم، " لم نعتد هكذا لهجة !" بعدها طلب من جميع الأطباء الوقوف ، بانت دهشة حاول إخفاءَها عندما رأى عدد الأطباء ، سألهم عن أسباب تشخيصهم فعددوا له الأسباب، دخل إلى زاوية المرضى وألقى عليهم نظرة سريعة، ثم قفل راجعاً إلى الباب، توقف والتفت، أشار إلى اثنين من الأطباء الشباب طالباً منهم المجئ إليه، وعندما جاؤوا سألهما دون أن يستدير:
- عرفتوني؟
- نعم.
- هم م م..
خرج الطبيب وأغلق الشرطة الباب، اقترب بضعة أشخاص من الطبيبين، قال أحدهما:
- هذا الطبيب زميل دراستنا وتخرجنا مع بعضنا، هو من الساحل من طائفة الرئيس وعشيرته، بعد التخرج ما عاد شفناه، راح على ضيعته.
بعد أقل من أربع وعشرين ساعة عاد الطبيب مرة أخرى، معه المساعد والشرطة والبلديات، نادى الدكتور سمير قال له:
- أنت بدك تعالج كل المرضى في السجن هادا هو الدواء اللازم، في عندنا كميات كبيرة منه، راح يكون معك رقيب وعناصر من الشرطة، لازم يشوفوا كل حبة دواء تستهلك، كل "سيرنغ" تستخدمه لازم تسلمه للشرطة، كل علبة كرتون .. أنت مستعد؟.
- نعم مستعد.
وبدأ الدكتور سمير جولاته على المهاجع، الشرطة ترافقه، البلديات يحملون علب الدواء، كرتونة كبيرة لكل ما هو مستهلك، يخرج صباحاً ليعود مساءً تعباً منهكاً، ورغم ذلك استمر المصابون بالازدياد، لكن حالات الموت انحسرت وتضاءلت اليوم انضم إلى المصابين بالمرض أول طبيب، الدكتور زاهي .
1 أيار
مات زاهي .
ليس لأنني أدين بحياتي له مرتين، مرة لعنايته الطبية بي عندما كنت مشرفاً على الموت بعد الاستقبال، ومرة عندما أوعز للشيخ محمود بانتشالي من بين أيدي المتشددين.
لكن لأنني أحببت هذا الرجل الذي لم يفقد ابتسامته في أحلك الظروف، لهجته لهجة المنطقة الشرقية المحببة، تراه موجوداً في كل مكان يمكن فيه أن يقدم فيه يد المساعدة، سعةَ أفق وسعةَ ثقافة نادرتين في هذا المكان، كنت أحس أنه موجود في الموقع الخطأ حيث يسود التعصب والتشدد وضيق الأفق والضحالة الثقافية.
شعرت بحزن عميق لم أشعر به طوال حياتي، حزنٍ أنساني حذري المضاعف، أخرجني من قوقعتي فور سماع الخبر، نسيت حذري منهم وحذري من المرض.
مشيت كالمسرنم إلى حيث يرقد زاهي، ركعت إلى جانبه ورفعت يده إلى جبيني وأجهشت بالبكاء بصوت عال، بكيت بكاءً مريراً، هل تفجر حزني على زاهي هكذا؟ أم هو تفجر بسيط للقهر المتراكم منذ عودتي إلى بلدي؟!.
بموته أحسست أنني قد فقدت آخر سند لي هناك، أصبحت عارياً، زاهي هو الوحيد الذي أستطيع النظر إلى عينه مباشرة، وغالباً كنا نختلس النظرات خفيةً، كنت اشعر أن هناك تفاهماً خفيّاً بيني وبينه، وطالما قرأت في عينه أنه لن يتخلى عني.
زاهي .. كان إنساناً .. إنساناً كبيراً.
بكيت وبكيت.
لكزني أحدهم بقدمه، رفعت رأسي ومن خلال الدموع رأيت "أحدهم"، صر على أسنانه وقال:
- قوم ولاك .. لا تنجس الشهداء.
قمت، رجعت إلى مكاني، دخلت قوقعتي، مسحت دموعي من الخارج، تركتها تسيل إلى الداخل.
3 أيار .
يجب أن لا أجن. كان هذا قراري منذ البداية، رغم ذلك كنت أحس أحيانا أنني على حافة الجنون، عندها كنت أغني.. لكن بصمت، أغني بذهني ودائماً أغان فرنسية، لم أغن أية أغنية عربية.
لا أفتح فمي مطلقاً، لا أتلفظ بأي حرف، أجلس طوال اليوم في مكان واحد، أغادره باتجاه المغاسل والمراحيض أربع أو خمس مرات في اليوم، أتحرك فقط في اليوم الذي يكون لدينا فيه تنفس.
اجلس .. أفكر وأفكر. "فكرت مرة: هل يمكن لإنسان ما أن يوقف التفكير؟!".
استعرضت الماضي عشرات المرات، أدق التفاصيل، تفاصيل كان لا يمكن أن أتذكرها ولو عشت عشر حيوات خارج هذا المكان، أستعيد كل ما هو سعيد ومبهج، كل ما هو جميل في الخارج.
أنا الآن في الثلاثين من عمري، كنت قد تركت الدراسة بعد نيلي الثانوية تحت إغراءات العمل التجاري والثراء السريع مع صديق لي، أربع سنوات من العمل التجاري الفاشل، تحمل الأهل مسؤولية تسوية الأوضاع، بعدها إلى فرنسا والدراسة هناك، ست سنوات في فرنسا، والآن هنا.
استعرض الماضي وأحلم بالمستقبل، تحول الأمر إلى عادة، أحلام اليقظة، استمتع بها استمتاعاً كبيراً، أصبحت مدمن أحلام يقظة، أبني الحلم شيئاً فشيئاً، أضع التفاصيل الصغيرة والدقيقة، أرسمها، أصحح، أغوص ساعات طويلة، جالساً أو مستلقياً، أغيب عن هذا الواقع لأعيش واقعاً جميلاً كل ما فيه حلو وسهل وميسر، وفي كل حلم يقظة تكون المرأة حاضرة دوماً، تشتعل خلايا الجسد، كل النساء اللواتي مررت بهن أو مررن بي، أخلط الماضي بالمستقبل، أكثر اللحظات حميمية أستعيدها، أعيد تركيبها، أبتدع مشاهد جديدة أتقلب ويجفوني النوم ، أنتظر حتى آخر الليل واذهب إلى المرحاض للاستمناء، هو الحل الوحيد لكي أستطيع النوم .
لحظتها لو سألني احدهم أن ألخص السجن بكلمة واحدة لقلت:
- إن السجن هو المرأة!. غيابها الحارق.
أنظر حولي متلصصاً، كيف يحل هؤلاء هذه المسألة، وبعضهم لم ير في حياته كاحل امرأة غير أمه ؟ بماذا يفكرون ؟ ماهي أحلامهم ؟ بعضهم مراهقون بكل جموح وتوثب خيالات المراهقة. كانت احتلامات النوم لديهم غزيرة ، عرفت هذا من خلال تلصصي الليلي الدائم ، يكون الواحد منهم نائماً، فجأةً يختلج أو يصدر صوتاً خافتاً، بعدها يستيقظ، أغلبهم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يقوم للاغتسال، لأن لديهم تعاليمَ مشددةً بشأن النظافة، فهو لا يستطيع أن يأكل أو يشرب أو يصلي إن لم يكن طاهراً نظيفاً تماماً، والقذف بأي طريقة كانت سواءً بالاتصال الجسدي أو بالاحتلام، يوجب غسل الجسد كاملاً.
أنا شبه متأكد أن كل ما يقوله عناصر الشرطة أو يشيعونه بأنهم يمارسون الشذوذ الجنسي هو محض افتراء أو كذب، حتى على المستوى الواقعي هذا مستحيل.
أعود لأحلامي أتقلب .. لا أعرف كم يطول هذا، أسمع حركة استيقاظ الناس في المهجع .. ألح على النوم فلا يأتي .. أسمع صوت طائرة الهليوكوبتر.

طائرة الهليوكوبتر.
عندما نسمع صوت الهليوكوبتر يرتجف أو يتوتر كل من في السجن، حتى الشرطة والبلديات يتوترون، البعض يسميها طائرة الموت، أو ملاك الموت الهابط من السماء، أحد السجناء قال إن عزرائيل يجلس في المقعد الأمامي للطائرة لاًن هؤلاء متعاقدون معه.
السجن يبعد عن العاصمة عدة مئات من الكيلومترات، لذلك فهيئة المحكمة الميدانية تأتي بالطائرة على الأغلب مرتين في الأسبوع، الاثنين والخميس ، وهيئة المحكمة هذه قد تكون ثلاثة ضباط وقد تكون ضابطاً واحداً، يعطون إدارة السجن بعد أن يدخلوا الغرفة المخصصة لهم لائحتين اسميتين:
اللائحة الأولى : تضم أسماء الذين سيحاكمون في هذا اليوم، تأخذ الشرطة هذه اللائحة وتدور على كل المهاجع منادية على الأسماء، ثم يبدأ التجميع من آخر مهجع في الساحة السابعة مع الصياح والشتم والكرابيج، الرؤوس المنكسة والأعين المغمضة، يسوقونهم سوقاً إلى الساحة صفر حيث يُجلسونهم على الأرض أيديهم فوق رؤوسهم ورؤوسهم بين ركبهم.
يدخل إلى غرفة المحكمة أول اسم نادوا عليه بصفعة قوية على الرقبة عند باب الغرفة، يسأله الضابط:
- أنت فلان ابن فلان؟
- نعم سيدي.
- طالعوه لبره.
وهكذا تكون قد انتهت محاكمته، ثم يدخل الثاني والثالث .. وهكذا خلال ساعتين أو ثلاثة قد تتم محاكمة أكثر من مئة شخص، أحياناً تتعطل إجراءات المحاكمة، فالضابط يسأل السجين:
- أنت فلان ابن فلان؟
- نعم سيدي.
- ولاك ابن الكلب .. أنت شاركت بتفجير المجمع الاستهلاكي؟
- لا والله يا سيدي .. أنا مالي علاقة بأي شي.
- ولا كلب .. عم تنكر كمان !! .. يا شرطة.
يدخل عناصر الشرطة إلى الغرفة.
- حطوه بالدولاب حتى يعترف.
تبدأ حفلة التعذيب أمام غرفة المحكمة، يبدأ الضرب والصراخ الأمر الذي يشوش على هيئة المحكمة، يتوقف العمل، تشرب هيئة المحكمة القهوة العربية، بعد قليل يهدأ كل شيء ويدخل الشرطة والسجين معهم يترنح:
- شو .. لساتوا ميبس راسه؟!
- لا سيدي .. اعترف بكل شي.
- إعدام .. طالعوه لبرّه.
أغلب السجناء لا تستغرق محاكمة أي منهم لدى المحكمة الميدانية أكثر من دقيقة واحدة، أغلب السجناء لا يرون القاضي "الضابط"، أغلب السجناء لا يعرفون الأحكام التي صدرت بحقهم وقررت مصيرهم.
هذه المحكمة ذات نوعين من الصلاحيات، فهي تملك الحق في أن تصدر أحكاماً بالإعدام وتنفذها بالقدر الذي تشاء، وتسجن من تشاء المدة التي تشاء. لكنها لاتملك الحق في إخلاء سبيل أي بريء "معروف هنا أن المهجعين الأول والثاني يسميان حتى لدى الشرطة بـ مهجع البراءة، المحكمة ذاتها وخلال عدة سنوات كانت قد أصدرت أحكاما بالبراءة على سجناء هم في الحقيقة أطفال أعمارهم بين / 11 – 15 / عاماً قبض عليهم خطأ ولكنهم بقوا في السجن ولم يطلق سراح أي منهم، وقد قضى سجناء مهجع البراءة في السجن مدداً تتراوح بين / 10 – 15 / سنة، هؤلاء الأطفال خرجوا من السجن لاحقاً رجالاً".
اللائحة الثانية:
اللائحة الاسمية الثانية هي لائحة الذين سينفذ فيهم حكم الإعدام شنقاً في اليوم نفسه، أيضا يدور الشرطة بهذه اللائحة على جميع المهاجع طالبين من الأشخاص المدرجة أسماؤهم في اللائحة الاستعداد.

اليوم هناك أربعة أشخاص من مهجعنا سيتم تنفيذ حكم الاعدام بهم، بعد أن ابلغوهم، قام هؤلاء الأشخاص الأربعة بالذهاب الى المغاسل، تطهروا، توضؤوا، صلّى كل واحد منهم صلاة عادية، أي صلاة علنية مكشوفة للجميع فيها سجود وركوع، صلاةً لا خوف فيها، "وهل بعد الموت خوف؟!" بعدها طافوا المهجع ودعوا الجميع مصافحةً وتقبيلاً:
- سامحونا يا جماعة... نرجوا أن تغفروا لنا أخطاءنا، ادعوا لنا عند الله ان يأخذنا بواسع رحمته وأن يحسن ختامنا.
الأشخاص الأربعة أعرفهم جيداً، هم كلهم شباب في مثل سني أو أكبر، "النسبة الغالبة من الذين أعدموا هم من الشباب، وقلة منهم تكون قد تجاوزت الأربعين".
الهدوء، ابتسامة خفيفة، أراقبهم جيداً، أتلصص، هل هدوؤهم حقيقي أم مصطنع ؟ أرقب اليدين ، زوايا الشفتين، العيون، لا ألمح شيئا يدل على الخوف أو الهلع.
يودعون ويصافحون الجميع عداي، يقفون الى جانب رئيس المهجع ، يخلعون كل الثياب التي لا زالت بحالة جيدة وتصلح لاستخدامها من قبل الأحياء من بعدهم ، يلبسون بدلاً منها ثيابا مهترئة لا تصلح لشيء، يسلمون الثياب الجيدة الى رئيس المهجع لتوزع بمعرفته، يقفون خلف الباب الذي لا يلبث أن يفتح ... ويخرجون.
الإعدام يتم قبالة مهجعنا، وقد رأينا المشانق عدة مرات أثناء خروجنا أو دخولنا من التنفس، وهناك يتم تجميع الذين سيتم تنفيذ حكم الإعدام بهم.
بين الفينة والأخرى نسمع صوت التكبير ينطلق من حناجر عدة أشخاص معاً، يبدو أنها الدفعة التي يأتي دورها بالتنفيذ:
- الله أكبر ... الله أكب.
خلال الفترة الماضية كلها كان شعر جسدي يقف منتصباً كلما سمعت هذا الصوت ينطلق قبالة مهجعنا .
في الليل يطابق الساهرون بين العدد الذي ورد عبر الاتصال "المورس" وبين عدد ارتطامات الجثث على ارضية السيارة.
- صحيح ... خمسة وأربعون شهيداً.
في اليومين التاليين ينهمك الحفظة بحفظ اسمائهم وعناوينهم.
15 تموز
الآن أصبح هناك من أحادثه.
في لحظة كان فيها الحارس على السطح قريباً من الشراقة ، وقف أحد السجناء وسط المهجع ، وضع يده على خده كمن يمسك بسماعة هاتف، صاح:
- الو ... الو ... أعطوني القائد.
"القائد هو لقب شقيق رئيس الدولة، ويقود واحدة من أقوى وحدات الجيش، ويعتبر خليفة للرئيس" .
سكت الجميع ، عيونهم موزعة بين الحارس والسجين الذي استمر يطلب القائد، وأحيانا يطلبه باسمه الأول ، ثوان قليلة وهجم عليه أربعة أشخاص سحبوه من وسط المهجع وقد كموا فمه الى حيث المغاسل وهو المكان الذي لا يستطيع أن يراه الحارس فيه ، عاد واحدٌ منهم وقال لرئيس المهجع مبتسماً :
- يبدو ان الأخ فقس !
- لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم ثبت عقولنا، العقل زينة الإنسان !.
جنونه كان لطيفا، لا أذى، لا هياج، فقط يريد أن يكلم القائد.
- ماذا تريد من القائد؟
- هناك موعد بيني وبينه ، لم يأت ... لقد أخلف الموعد !.
تخاله طبيعياً، أكثر جمله وأحاديثه مترابطة، ولكنه خرق النظام العام للمهجع في أكثر الأمور أهمية وحساسيةً:
لم يعد يصلي ، لم يعد يغتسل ، وبعد عدة أيام من جنونه فاجأ الجميع وفاجأني ، جلس قبالتي على فراشي ، حياني قائلا :
- السلام عليكم ... انت شو اسمك؟
ارتجَّ كياني كله، لم استطع أن أرد تحيته. فقط كنت انظر اليه، إلى عينيه الباسمتين مباشرة، منذ أكثر من سنتين لم أنظر في عيني انسان بهذا القرب، أحسست بالدفء.
سكت جميع من في المهجع، شيء غير مألوف يحدث امامهم !، جميع العيون منصبة على فراشي وعلى الكائنين الجالسين عليه، دهشة من نوع خاص تكسو جميع الوجوه، يبدو أن الجميع كان قد نسيني، ففي غمرة الأحداث وضمن شلال الموت المتدفق سكنت مشاعر العداء المتأججة نحوي ، أو بالأحرى غطاها الرماد، بقيت مثل الجمر تحت الرماد.
لقد تعودوا على وجودي الى جانب الباب ولم يعد هذا الوجود يطرح اسئلة عليهم، لون الباب أسود بشع، في البداية يستفز لون الباب الجميع، ولكن مع توالي الأيام يألفونه ثم ينسونه، وكذلك وجودي الى جانبه.
والآن يوسف "مجنون القائد كما اصبح اسمه"، يعيد تذكيرهم بكل شيء، دهشوا، تفحصوا وجهي، كنت مهملاً والآن بفضل مجنون القائد أعود الى دائرة الأضواء!.

العجزة في المهجع كثر، المشلولون والمجانيين، ثلاثة عميان، أخرس واحد.
أميز حالة بين المجانين إضافة الى يوسف هي حالة دكتور الجيولوجيا ـ لا أعرف هل هو جنون أم شيء آخر ؟ ـ رجل في الخمسين من عمره، ذهب الى امريكا لدراسة الجيولوجيا، نجح في دراسته وحاز على الدكتوراه بدرجة امتياز، عاد الى البلد وبعد عودته ببضع سنوات تسلم ادارة واحدة من أهم المؤسسات العلمية، كان ميالا الى التدين، يؤدي فرائض الدين بأوقاتها، يصوم ويصلي، ذهب الى مكة للحج ، وإبان احتدام الصراع بين الإسلاميين والسلطة كانت هذه الصفات تهمة بحد ذاتها، عند فجر أحد الأيام سحبه رجال المخابرات من وسط عائلته، وماذا جرى بعد ذلك لا يعرف أحد.
يجلس دكتور الجيولوجيا على الأرض متربعاً ووجهه الى الحائط ثم يغطي نفسه كاملاً بالبطانية، ليلاً ونهاراً ، صيفاً وشتاءً، حاول كثيرون أن يسألوه، يحادثوه، سنواتٍ ... لم يلفظ حرفاً ... لم يفتح عيناً.
يرفع أحدهم بطانيته من الأمام قليلاً ويضع له الطعام في حجره، يأكل وهو مغطى بالبطانية، يذهب الى المرحاض وهو مغطى بالبطانية، كل بضعة أيام يقوده اثنان من تحت إبطيه ـ وهو مطيع جداً ـ الى المغاسل، يخلعون ثيابه، يغسلون جسده، يعيدونه وهو مغطى، مكان دكتور الجيولوجيا قبالتي تماماً.
************
نحن الآن جائعون ... وجائعون بشدة، منذ ثلاثة أشهر هبطت كميات الطعام التي تقدمها لنا إدارة السجن هبوطاً حاداً.
كان لكل سجين يومياً رغيفان من الخبز العسكري ، الآن رغيف واحد لكل أربعة سجناء ، حصتي اليومية ربع رغيف لثلاث وجبات ، اليوم فطوري كان ثلاث حبات زيتون هي كامل حصتي ، ملعقة صغيرة من المربى على العشاء ، إذا كان الأفطاربيضاً فلكل ثلاثة سجناء بيضة مسلوقة ، "نصح الأطباء الجميع بعدم رمي قشر البيض، يسحقونه ويأكلونه للتعويض عن الكلس".
بعد ثلاثة أشهر من الجوع، الهزال واصفرار الوجوه باد على الجميع، قلّت حركة الجميع، من كان يقوم بالرياضة سراً أقلع عنها.
الشرطة تراقب ... وتواصل عملها كالمعتاد.
جلس يوسف قبالتي على الفراش، في يده اليمنى قطعة خبز صغيرة فوقها قليل من مربى المشمش، ناولني إياها:
- خود ... هاي الك.
- شكراً يا يوسف... هادا عشاك ولازم تاكله.
- لا أنا شبعان ... وإنت زلمه بدك تتجوز بكره، لازم تاكل عسل، قال الدكتور إن العسل مفيد.
ثم تابع الحديث دون أن يتيح لي فرصة الكلام:
- هلق انت شو بتتمنى؟
- اتمنى أن أطلع من هون.
- شوف ... هون كويس ... انت تعرف انه عندي فرس اصيلة لونها احمر، وعندي تياب كلها بيضا، ابيض بأبيض ... استنى شي كم يوم بتشوف أخوك يوسف لابس أبيض بأبيض ... وراكب عالفرس الحمرا، وواقف بنصّ موسكو .. بالساحة الحمراء...
سكت قليلا ثم أردف بصوت أحد قليلا :
- والله ... والله بدنا ندك اسوار موسكو !..بدنا نمسح الكفر والكفار! .
15 أيلول

أنا جائع، أكثر من خمسة شهور مرت على بداية الجوع، غريزة البقاء، بدأت تحدث بعض المشاجرات بين السجناء بسبب توزيع الطعام، عهدوا بهذا الأمر الى أكثر الأشخاص احتراماً و مهابةً، تطرح هنا تساؤلات كثيرة حول سبب نقص الطعام:
- هم يريدوننا أن نموت جوعاً!.
- قد يكون لدى السلطة النية بإخلاء سبيلنا، لكنها لا تريدنا أن نكون أقوياء في الخارج، يجب ان نكون مرضى كي لا نستطيع القيام بشيء خارجاً.
الكثير من التخمينات ، الكثير من التحليلات، ولكن الشرطة كانت تراقب.
فتح اليوم عناصر الشرطة الباب وطلبوا إدخال الطعام، ركض الفدائيون وقاموا بإدخال كميات الطعام الهزيلة، ولأول مرة لم يكن هناك ضرب وكرابيج، برز بعدها المساعد ووقف على باب المهجع، بيده بطيخة حمراء تزن حوالي ثلاثة كيلو غرام، صاح برئيس المهجع:
- تعال لهون.
ذهب رئيس المهجع اليه مسرعاً.
- خود هالبطيخة، حصة المهجع!.
سكت قليلا وبعد ان تناول رئيس المهجع البطيخة، قال المساعد:
- بدي شوف ... كيف بدك توزع هالبطيخة على المساجين!.
تردد رئيس المهجع قليلا، في البداية ظهرت على وجهه علائم الحيرة ثم امارات التحدي والاستفزاز، "أصبحت أعرفه جيدا بحكم قربي منه"، أطرق برأسه قليلاً ثم التفت الى داخل المهجع وصاح بصوت عال:
- يا مرضانين ... هاي البطيخة الكم.
وناولها الى أحد السجناء.
نظر اليه المساعد لثانيتين بتمعن شديد، رجع خطوتين الى الوراء وصفق الباب بوجه رئيس المهجع بقوة.
جلس جميع السجناء، شعور الفخر يغمر الجميع، حتى أنا، لقد هزم رئيسُ المهجع المساعد، يكفي انه أغاظه.
فيما الجميع منهمكون بالحدث حانت مني التفاتة الى اليسار وإذا بي ارىالساحة تلوح امامي، ساحة الإعدام ... الساحة السادسة، هناك الى جانب، كشف الباب، فجأة وجدت ثقباً غير منتظم أكبر قليلاً من حجم جوزة ، هذا الثقب حدث الآن! نظرت حولي فوجدت كتلة اسمنتية على طرف فراشي، حملتها وسددت الثقب بها فركبت تماما وسدّته، الثقب على مستوى رأسي وأنا جالس.
عندما صفق المساعد الباب ومن قوة الضربة سقطت هذه الكتلة الاسمنتية والتي يبدو أنها بالأساس متشققة وأحدثت هذا الثقب.
الآن استطيع أن أرى كل ما يدور في الساحة متى أشاء ذلك، استطيع ان أتلصص على الخارج كما أتلصص من ثقب قوقعتي على الداخل.
يوسف "مجنون القائد" انقطع عن زيارتي، أو لم يعودوا يسمحوا له بزيارتي، انتبهوا لي مجدداً بعد زياراته، مجموعة من الأشخاص أخذت على عاتقها أمر الحيلولة بينه وبين زيارتي، يراقبونه وهم جالسون حتى إذا رأوه متجها نحوي ناداه أحدهم أو وقف في طريقه يمازحه:
- شو يوسف ... ما بدك تخبر القائد؟
- أي .. بدي خبرو ... بس تلفوني مقطوع.
- تعال لهون ... أنا عندي تلفون.
يأخذه الى مكانه، يحادثه الى أن ينسى يوسف أنه كان قادماً لعندي.
} الجوع يقرص معدتي.{
20 أيلول

ثلاثة أيام بعد اكتشاف الثقب، ثلاثة أيام لم استطع أن أنظر من خلاله، قلبي ينبض بشدة كلما فكرت في الأمر.
طوال اليوم وأنا أفكر كيف أتغلب على خوفي من الشرطة، والأهم خوفي من السجناء، ماذا سيفعل السجناء إذا رأوني وأنا انظر عبر الثقب؟!.
هبط علي الوحي عندما نظرت أمامي، الى دكتور الجيولوجيا، لماذا لا أفعل مثله ؟!! أدير وجهي قبالة الحائط وأغطي نفسي بالبطانية، بحيث تغطي البطانية الثقب أيضاً، وهكذا أنظر بحرية دون أن يلاحظ أحد، وهذا يخلصني في الوقت نفسه من النظرات العدائية التي ازدادت مؤخراً.
ولكن يجب أن أجرب التغطية لمدة يومين أو ثلاثة قبل أن أغامر وأفتح الثقب وأنظر من خلاله.
القمل يهرش جسدي، لم استطع الاعتياد عليه والتعايش معه بعد.
}الجوع يشتد ويتراكم. {
30 أيلول

نجحت في أن أجعلهم يعتادون على رؤيتي مغطى بالبطانية، منذ يومين مرّ أحد السجناء من خلفي وأنا مغطى، سمعته يقول لرئيس المهجع:
- شو يا أبو محمد ؟.. كنا بواحد صرنا باثنين .. شو القصة ؟ ... كمان الاستاذ أجّر الطابق الفوقاني ؟! .
- خليها على الله... اللهم نسألك حسن الختام.
لم أستطع ان أنظر من خلال الثقب ولا مرة، لأن الشرطة كانت في حالة هياج شديد، فقد كانت تمر فترات نشعر فيها أن قبضة رجال الشرطة قد تراخت قليلا، وفجأة تعود هذه القبضة لتصبح من حديد ونار، عندها يخمن البعض هنا أن هناك احداثاً هامة تدور في الخارج، وأن السلطة قد منيت بخسائر جسيمة وأن وضعها حرج وقد تكون آيلة للسقوط، ونتيجة لعجزها عن مواجهة ما يدور في الخارج فانها تحاول ن تعوض هنا وتنتقم من المساجين المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة .
6 تشرين الأول

اليوم كان مليئاً.
منذ الصباح تعج الساحة بالأصوات والضرب والصياح والصراخ. فتح باب مهجعنا وخرج الفدائيون لإدخال الطعام تحت ضرب الكرابيج والعصي، أحد الفدائيين تلقى ضربة عصا سقط على إثرها ارضاً وكانت هذه آخر سقطة له، بقي في الخارج وحيداً بين أيدي عناصر الشرطة، وبعد قليل صاح الرقيب:
- ولا كلاب ... تعوا دخلوه.
عاد الى المهجع محمولاً بدلا من أن يكون حاملاً.
تلقفه الأطباء في المهجع، بعد أكثر من ساعة لفظ أنفاسه وأسلم الروح بعد ان أوصى صديقه بصوت متهدج:
- سلم على ابوي ... إذا الله فرج عنك ... احكيلوا عني ... وقل له يرفع رأسه بابنه ...
واحد من الأطباء أتى الى عند رئيس المهجع والحزن باد عليه:
- البفية بحياتك يا أبو محمد ...يوم جديد وشهيد جديد... الله يرحمه ما خلوا محل بجسمه الا وضاربينه ...عدة إصابات ... حتى الخصيتين مهروسات هرس.
- عليه رحمة الله، خلي الشباب يجهزوه مشان ندق الباب ونطالعه.
انغمس المهجع بتجهيز الشهيد، الحديث عن الشهيد، مآثره، وصيته الأخيرة، ثم صلوا عليه سرا وأحضروه قرب الباب، وضعوه في الفسحة الفاصلة بيني وبين أبو محمد رئيس المهجع، علق واحد:
- العمى شو هالحالة ؟! عم نموت واحد ورا واحد متل الخرفان !!.
لم يرد عيه أحد.
وقف أبومحمد ودق الباب بجماع يده، وجاء الصوت من الخارج:
- شو بدك يا ابن ال... ؟... ليش عم تدق الباب ؟.
- يا سيدي ... في عنا واحد شهيد !!! ... عفوا عفوا ...
واحد ميت.
نسي أبو محمد حذره من كثرة ترداد كلمة شهيد في المهجع، انتبه واستدرك ولكن هذا الاستدراك جاء متأخراً.
فتحت الطاقة الصغيرة في الباب الحديدي وظهر رأس الرقيب، وبمنتهى الهدوء توجه بالسؤال الى أبو محمد الذي كان واقفاً:
- مين يللي قال شهيد ... يا رئيس المهجع ؟.
- أنا سيدي.
أغلق الرقيب الطاقة وصاح بالشرطة أن يفتحوا الباب.
في الثواني القليلة التي استغرقها فتح الباب، التفت أبو محمد الى الناس وقال:
- يا شباب سامحوني ... إدعوا لي ... ويللي يضل طيب منكم خليه يروح لعند ولادي ويحكيلهم كيف مات أبوهم!
فُتح الباب. جمهرة من الشرطة أمامه تنظرالى الداخل، جمهرة من المساجين وفي المقدمة أبو محمد ينظرون إلى الخارج، صاح الرقيب:
- ولا ابن ال.. ... اطلع لبره.
قذف أبو محمد نفسه بينهم، صاح الرقيب بالشرطة أن يغلقوا الباب، كل السجناء واقفون إلا العجزة ودكتور الجيولوجيا، جلست أنا ايضا وغطيت نفسي بالبطانية، وبسرعة وبهدوء نزعت الكتلة الاسمنتية قليلاً... قليلاً.
لم أكن أعي أو أدرك ما أفعل، فالشرطة أمام مهجعنا تماماً والثقب كبير يمكن لأي شرطي أن يلاحظه، ولكني فتحت الثقب ونظرت.
أبو محمد كان ضابطاً سابقاً، وكان رجلاً حقيقياً. منذ فترة وعندما حدثت بعض المشاحنات في المهجع بسبب توزيع الطعام القليل أصلاً، أحس انه قد مُسَّ من قبل شخص ما، بقي على أثرها سبعة أيام لم يتناول خلالها ولا ذرة طعام، سبعة أيام بدون طعام بعد أشهر من الجوع.
اتى لعنده مجموعة من كبار المشايخ والناس الأكثر احتراماً في المهجع يطيبون خاطره ويعتذرون نيابة عن كل الناس، ورجاءً خالصاً ان ينسى كل شيء، وانهم لن يذهبوا من عنده قبل ان يأكل، وكان مما قاله ابو محمد رداً عليهم:
- ابو محمد لا يمكن ان يسمح لـ" لقمة أكل " ان تذله ... واذا كان هناك من تصرف او سيتصرف بدناءة، فهذا الشخص لن يكون ابو محمد، الموت ولا الذل.
بعد ان فتحت الثقب كان اول من رأيت هو ابو محمد، بيده عصا غليظة من المؤكد أنه انتزعها من أحد عناصر الشرطة بعد أن فاجأهم بطريقة خروجه، يضرب بها ذات اليمين وذات الشمال، تحيط به دائرة من عناصر الشرطة والبلديات، ثم رأيت واحداً من الشرطة ممدداً على الأرض.
تضيق الدائرة حوله وتنهال عليه بعض الضربات من الجانبين ومن الخلف، يتألم يلتفت ويهجم، تتسع الدائرة، معركة حقيقية ولكنها غير متكافئة عددياً، من طرف رجل يعرف انه سيموت في كل الأحوال، وقرر ألا يموت موتاً سهلاً ورخيصاً، ومن الطرف الاخر مجموعة كبيرة من الأشخاص اعتادوا ان يكون قتلهم للآخرين سهلاً.
والكثرة غلبت الشجاعة. سقط أبو محمد ارضاً بعد زمن قدرته بحوالي ربع الساعة، حضر اثناءها المساعد والطبيب ومدير السجن، على الأرض اربعة اشخاص ممددين، ثلاثة من الشرطة بينهم الرقيب " ابن ال....... "، لقد رأيت كيف تقصد ابو محمد أن يهاجمه هو رغم أنه كان بعيداً عنه، وكيف نزلت عصا ابو محمد على رأسه.
فحص الطبيب الجميع، أسعفوا أحد العناصر بسرعة، الرقيب والعنصر الآخر ماتا، ابو محمد مات، قدم الطبيب هذا الشرح لمدير السجن الذي التفت الى المساعد طالباً منه أن يجمع كل من في السجن من عناصر الشرطة والبلديات وأن يقف جميع الحراس المسلحين الموجودين على الاسطحة فوق مهاجع الساحة السادسة.
عرفت ان المشهد لما ينته بعد، أغلقت الثقب جيداً وأزحت البطانية.
( من الاشياء التي لا يمكن أن أنساها ابداً، شجاعة العميد في الساحة الاولى وشجاعة ابو محمد في الساحة السادسة، وفكرت كما يفكر الجميع هنا، تساءلت : كيف يحدث، او لماذا يحدث، ان يوجد هكذا ضباط في السجن، يُقتلون فيه والكل يعرف اننا في حالة حرب؟
ولكن فوراً قمعت هذا التفكير، محوته من ذهني ) .
اعتبر المقدم مدير السجن أن ما حدث كان تمرداً وسابقة خطيرة يجب أن تجابه بكل قوة، بمنتهى القسوة والعنف كي تكون درساً للجميع.
حوالي الثلاثمائة سجين، يحيط بهم على محيط الساحة أكثر من هذا العدد بكثير من عناصر الشرطة والبلديات، عشرات الحراس المسلحين على الأسطحة.
- لا تتركوا أحداً في المهجع.
جمعونا وسط الساحة، في آخر الصف قريباً من المهجع وضعوا العجزة، القى مدير السجن محاضرة نصفها شتائم، والنصف الآخر تهديد ووعيد، وقد نفذ تهديده، قال للمساعد:
- مابدي حدا يفوت على المهجع وهو ماشي، السليم منهم لازم يفوت زحف على بطنه.
"بعض السجناء سيسمي هذا اليوم لاحقاً بـ / يوم التنكيل / وبعضهم الآخر سيسميه / يوم أبو محمد/". .
استمر التنكيل من قبيل الظهر إلى ما بعد حلول الظلام، وكان أكثر ما يؤلم مشهد المشلولين وهم يُضربون، يحاولون الحركة، يحاولون تفادي الضرب .. ويظلون مكانهم.
دخلنا زحفاً وجرجرةً، من لم يستطع ان يجرجر نفسه أوغيره، تكفل البلديات بـ " قذفه" داخل المهجع، اخذنا نضمد جراحنا، نغسلها، نبحث عن مزقة قماش نلف بها جرحاً ما.
الجوع يعضنا، رغم ذلك نمنا.
7 تشرين اول

في الصباح الجميع ينظر الى الجميع، كل من لديه القدرة يحاول أن يطمئن على جاره، الحصيلة ثلاثة قتلى ماتوا ليلاً، جراحي خفيفة ولا تشكل أي خطر.
أتى المساعد ومعه الشرطة، كل من يستطيع الوقوف وقف، "اكتشفت أن ابو حسين وهو الشخص الذي يوزع الطعام ويرضي الجميع كان قد نقل فراشه ليلاً الى مكان ابو محمد".
تقدم المساعد خطوتين، شمل المهجع بنظرته، ابتسامة على زاوية الفم، نظر إلى ابو حسين، نظر إليّ، أشار إليّ قائلاً:
- إنت بتصير رئيس مهجع.
سكتّ ولم اجب، سكت المساعد وتراجع يريد الانصراف، تحرك ابو حسين مصطنعاً الخوف، رفع يده عالياً وقال:
- يا سيدي اسمحلي بكلمة.
- قول ولا.. كرّ.
- يا سيدي هادا يللي عينتوا رئيس مهجع .. يا سيدي، مجنون!.
التفت المساعد إليّ، سألني:
- انت مجنون .. ولا؟
لم إجب. لم أعرف بماذا أجيب. قال المساعد:
- طيب .. أصبح انت بدك تصير رئيس مهجع.
- متل ما بدك سيدي .. بس في عندنا ثلاثة ميتين.
- ميتين؟.. ولا شهداء؟
- ميتين سيدي.. ميتين.
- قول نفقوا.. ولا جحش.
- نفقوا سيدي.. نفقوا.
- يالله .. طالعوهم لبره.
وأغلق الباب. أصبح ابو حسين رئيس مهجع، اقترب مني بهدوء وقال:
- انا بعرف إنك مانك جاسوس .. وساويتك مجنون لأنه للضرورة أحكام.
" هاهو واحد اخر منهم يشعرني بالأمان الى جانبه ".
24 شباط
البرد يجمدنا، الجوع يضنينا.
أكثر من عشرة اشهر مرت ونحن جائعون، ربع رغيف أقسمه ثلاثة أقسام، وأقاوم، أقاوم الرغبة بالتهامه كله دفعة واحدة، عشرة شهور لم يصل فيها أحد السجناء الى الشعور بالشبع، الهزال بدا شديداً على الجميع، الوجوه مصفرة وآثار سوء التغذية جلية واضحة.
في البداية تعامل الجميع مع المسألة بأنفة وعزة نفس، شيئاً فشيئاً ومع استمرار الوضع بدأت التصرفات الغريزية تطل برأسها، فالسجن أساساً هو عالم الاشياء الصغيرة، عالم الصغائر، اثنان من اساتذة الجامعة، شخصان محترمان جداً، كبيران في السن .. يتشاجران، يتشاتمان، ينتهي الأمر بالمقاطعة، والمسألة برمتها تكون قد بدأت على الشكل التالي:
- يا اخي كم مرة قلت لك لا تلبس شحاطتي؟!
- ايه ... شو فيها إذا لبسناها؟ .. رح ينقص من قيمتها يعني؟!
- بينقص ما بينقص ... لا تلبسها وبس... صار ميت مرة حكينا ... وإلا انت ما بتفهم حكي؟!
- انا ما بفهم!!... شو شايفني حمار متلك
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top