العمدة العراقي
:: عضو مُتميز ::
- إنضم
- 17 أوت 2008
- المشاركات
- 800
- نقاط التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
- العمر
- 35
المقامه البغدديه
من لم يدخل بغداد لم يدخل الدنيا
لِبغداد العراقِ دموعُ صَبٍّ======على عَرَصاتها دنـيا غَرامَا
تُذكِّــركَ الرُّبوع حياةَ قـومٍ======هُمُ كانــوا لدنيــانا قَـــوامــا
اجتمع أربعة أدباء , نجباء , خطباء , فتعاهدوا , و تعاقدوا , و تواعدوا , على أن يصفوا بغداد
دار الأمجاد , و بيت الأجواد , و كوكبة البلاد .
فالأول: وصف علماءها , و فقهاءها .
و الثاني : وصف خلفاءها , و أمراءها .
و الثالث : وصف شعراءها , و أدباءها .
و الرابع : وصف أرضها , و سماءها , و ماءها , و هواءها , و بهاءها .
فبدأ الأول و يدعى أبا قتادة , و هو صاحب ذكاء و إجادة , و علم و إفادة .
فقال : والله لو كتبت بدمع العيون , على صفحات الجفون , ما أنصفت بغداد على امتداد القرون ,
لكن سأصف ما كان فيها من علم و علماء , بلغ مجدهم الجوزاء :
ما الـدَّارُ بـعـدك يا بغدادُ بالــــــدَّار ****** تفـنى عليك صَبَاباتي و أشعاري
أنت المُنَى و حديثُ الشوق يقتلني ****** من أين أبدأ يا بغداد أخبـــــــاري
و لكن أقول , بعد الصلاة و السلام على الرسول : اعلم أن من بغداد أشرقت شمس الرواية , و بزغ فجر الدراية ,
كانت في العلوم آية , و في الفنون غاية , فكان بها أهل الحديث , و لم يكن بها أي خبيث .
و لك أن تتخيل مجلس أحمد بن حنبل , عمائم بيضاء ,و همة قعساء , و سكينة و حياء.
إذا قال أحمد : حدثنا أو أخبرنا , أطرقت الرؤوس , و خشعت النفوس , و تفتحت أبواب السماوات , و تنزلت الرحمات .
سَقَوني و قَالُوا لا تُغنِّ و لو سَقَوا ****** جبــالَ سُلَيمَى مــا سُقِيتُ لَغَنَّــتِ
ثم تذهب إلى مجلس فيه طائفة من الخاشعين , فتجد وسطهم يحيى بن معين ,يحدث عن رسول رب العالمين ,
يجرح و يعدل , و يجمل و يفصل , كأنه ميزان منزل .
لَوْ حَلَّ خَاطِرُهُ في مُقْعَدٍ لَمَشَى ****** أو مَيِّتٍ لصَحَا أو أخرَسٍ خَطَبَا
و لله كم من ذكريات تشجيني , إذا ذكرت علي بن المديني , ذاك البطل , إمام العلل , السليم من الزلل , فتراه يفتش
الأسانيد , وينخل المسانيد , بفهم دقيق , وعلم و تحقيق , يعرف العلة في المسند المستقيم , كما يعرف الطبيب السقيم .
بِرَأي مثل ضوءِ الفجرِ ضَاف ****** كأنَّ بريـــقَهُ حَـدُّ الحُــسَـــــامِ
و لا تنس البخاري , الضياء الساري , و النهر الجاري , قيَّد الألفاظ , و أفحم الحُفَّاظ , إن شك في حديث علقه , و إن
طال متنه فرقه , و إن لقي كاذبا مزقه , هو السيف الحاسم , لسنة أبي القاسم , اقرأ تبويبه , و افهم ترتيبه , لترى كل عجيبة.
من كالبخاري إذا قال حــــــدَّثنا ****** أو بَوَّب البابَ أو شدَّ الأســـانيـدا
كأنــــما هـــو إلـــهــامٌ يُعَــلَّـــمُهُ ****** أو أنه قــبسٌ يُـعــطــَاهُ تأيـــيـــدا
بغداد تشرّفت بالسّفيانين الثوري و ابن عيينة , و أصبحت بالعلماء أجمل مدينة , و هي مدينة الكرخي معروف ,
و الإمام الشافعي المعروف .
من بغداد أصحاب الصحاح و السنن , و أهل الذكاء و الفطن , و هي للحديث دار الضرب و الصلب , بها تضرب
الموضوعات للوضاعين , و لكن تصلُب الكذابين على خشب السلطان المتين , قال بعضهم : من لم يدخل بغداد لم
يدخل الحياة الدنيا , و من لم يشاهد حسنها ما شاهد النجوم العليا .
فقام الثاني يصف الخلفاء و الأمراء , الذين ملؤوا الدنيا بالعطاء و السخاء . فقال : هذه مدينة السفاح , الذي خضب
السيوف و الرماح , و كان لكل مجرم بطاح , و لكل عدو نطاح .
هذه مدينة المنصور , صاحب الدور و القصور , الداهية الجسور , و الأسد الهصور.
هذه مدينة الرشيد , صاحب القصر المشيد , و المجد الفريد , و الصيت البعيد .
هذه مدينة المأمون , صاحب الفنون , و جامع المتون , و لكنه بالفلسفة مفتون .
هذه مدينة المعتصم المغوار , الذي أوطأ الخيل أرض الكفار , و أورد نحورهم كل بتار .
بغدادُ أنت حديثُ الدهر و الأممِ ****** إذا مَدحْتُكِ سال السحرُ من قلمـي
أنت المنى أنت للتاريخ مـلحـمـةٌ ****** كم من رشيدٍ و مأمونٍ و معتصمِ
ثم قام الثالث يصف الأدباء , و يثني على الخطباء .
فقال : في بغداد أكبرناد , للشعراء الأجواد , إذا شرب الشاعر من ماء الفرات , أتى بالمعجزات ,
و خلب الألباب بالأبيات , سمّ لي شاعرا ما دخل بغداد , اذكر لي أديبا ما تشرف بتلك البلاد .
بغداد يا فتنة الشــرق التي خلبت ****** بسحرها العقل و الأقلام و الأدبا
مــاذا أردد يا بغداد من حزنــــي ****** إذا ذكرتك بــعــت الهم و الـنصـبا
من بغداد أبو تمام , و البحتري الهمام , و ترنح بها المتنبي بعض عام .
سجل بها ابن الرومي رواياته , و أبدع إلياذاته , و أروع أبياته .
و في بغداد أبو العتاهية , الشاعر الداهية , منذر القلوب اللاهية , و صاحب الرسائل الباهية , الآمرة الناهية ,
و هي أرض بشار , ناسج أجمل الأشعار , و المفتون بعبادة النار .
من بغداد انطلقت في البحار و البراري , رائعة ابن الأنباري : علو في الحياة و في الممات . من بغداد
استمع الدهر في عجب , لدويّ : السيف أصدق أنباء من الكتب .
بغداد مهرجان أدبي كبير , لكل أديب نحرير , فيها شعر و نثر , و حصباء و در , و صديق و زنديق , و حر و رقيق ,
و موحد و ملحد , و حانوت و مسجد , وبارة و معبد , و مقبرة و مشهد , جد و هزل و حب و غزل , كأن التاريخ كله
في بغداد اجتمع , و كأن الدهر لصوتها استمع , و كأن ضوء الشمس من بغداد يرتفع .
فقام الرابع فقال : كأن الأرض أخذت من بغداد جمالها , أفدي بنفسي سهلها و جبالها , دجلة له خرير , و الفرات له هدير , و النسيم فيها له زئير , كأن الهواء
سرق من المسك أريجه , و كان الماء أخذ من العاشق نشيجه .
تغار من زهر بغداد الزهراء , و تحمر خجلا من حسن بغداد وجنتي الحمراء .
كأن السحاب في سماء بغداد مع الشفق خضاب , و كأن بريق الفجر في مشارف بغداد ذهب مذاب , كان وجه
بغداد مشرقا , فلما دخلها الرفاق , كتب على بغداد الشقاء و الإخفاق .
لله يا بغــداد أنـــت نــشـــــيــــــدة ****** غنت بك الأعصار و الأمصـــار
من لم يــشـــاهــد ذا الجمــال فإنه ****** ضاعت عليه مع المدى الأشــعار
أظن بغداد أصابها عين أو دخلها لعين , ما لها قتلت المبدعين , و طردت اللامعين ؟
من ذا أصابك يا بغداد بالعين ****** ألم تكـــوني زمــاناً قرَّةَ العينِ ؟
و أنا عاتب على بغداد , و العتاب لا يغير الوداد ,لأنه جلد بها أحمد , و قتل بها أحمد , و أكرم بها أحمد .
فجلد بها أحمد بن حنبل , الإمام المبجل , و قتل بها أحمد بن نصر الخزاعي , الإمام الواعي ,
و هو إلى الحق داعٍ , و إلى البر ساعٍ ,و أكرم بها أحمد بن أبي دؤاد , داعية البدعة و العناد , و الفتنة و الفساد .
لكن بغداد لها حسنات يذهبن السيئات , و نهر الفرات و دجلة يطِّران من الحدث ,
و إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
منقول من كتاب مقامات عائض القرني
للدكتور الأديب عائض القرني...مع رجائي بأن تعجبكم.
من لم يدخل بغداد لم يدخل الدنيا
لِبغداد العراقِ دموعُ صَبٍّ======على عَرَصاتها دنـيا غَرامَا
تُذكِّــركَ الرُّبوع حياةَ قـومٍ======هُمُ كانــوا لدنيــانا قَـــوامــا
اجتمع أربعة أدباء , نجباء , خطباء , فتعاهدوا , و تعاقدوا , و تواعدوا , على أن يصفوا بغداد
دار الأمجاد , و بيت الأجواد , و كوكبة البلاد .
فالأول: وصف علماءها , و فقهاءها .
و الثاني : وصف خلفاءها , و أمراءها .
و الثالث : وصف شعراءها , و أدباءها .
و الرابع : وصف أرضها , و سماءها , و ماءها , و هواءها , و بهاءها .
فبدأ الأول و يدعى أبا قتادة , و هو صاحب ذكاء و إجادة , و علم و إفادة .
فقال : والله لو كتبت بدمع العيون , على صفحات الجفون , ما أنصفت بغداد على امتداد القرون ,
لكن سأصف ما كان فيها من علم و علماء , بلغ مجدهم الجوزاء :
ما الـدَّارُ بـعـدك يا بغدادُ بالــــــدَّار ****** تفـنى عليك صَبَاباتي و أشعاري
أنت المُنَى و حديثُ الشوق يقتلني ****** من أين أبدأ يا بغداد أخبـــــــاري
و لكن أقول , بعد الصلاة و السلام على الرسول : اعلم أن من بغداد أشرقت شمس الرواية , و بزغ فجر الدراية ,
كانت في العلوم آية , و في الفنون غاية , فكان بها أهل الحديث , و لم يكن بها أي خبيث .
و لك أن تتخيل مجلس أحمد بن حنبل , عمائم بيضاء ,و همة قعساء , و سكينة و حياء.
إذا قال أحمد : حدثنا أو أخبرنا , أطرقت الرؤوس , و خشعت النفوس , و تفتحت أبواب السماوات , و تنزلت الرحمات .
سَقَوني و قَالُوا لا تُغنِّ و لو سَقَوا ****** جبــالَ سُلَيمَى مــا سُقِيتُ لَغَنَّــتِ
ثم تذهب إلى مجلس فيه طائفة من الخاشعين , فتجد وسطهم يحيى بن معين ,يحدث عن رسول رب العالمين ,
يجرح و يعدل , و يجمل و يفصل , كأنه ميزان منزل .
لَوْ حَلَّ خَاطِرُهُ في مُقْعَدٍ لَمَشَى ****** أو مَيِّتٍ لصَحَا أو أخرَسٍ خَطَبَا
و لله كم من ذكريات تشجيني , إذا ذكرت علي بن المديني , ذاك البطل , إمام العلل , السليم من الزلل , فتراه يفتش
الأسانيد , وينخل المسانيد , بفهم دقيق , وعلم و تحقيق , يعرف العلة في المسند المستقيم , كما يعرف الطبيب السقيم .
بِرَأي مثل ضوءِ الفجرِ ضَاف ****** كأنَّ بريـــقَهُ حَـدُّ الحُــسَـــــامِ
و لا تنس البخاري , الضياء الساري , و النهر الجاري , قيَّد الألفاظ , و أفحم الحُفَّاظ , إن شك في حديث علقه , و إن
طال متنه فرقه , و إن لقي كاذبا مزقه , هو السيف الحاسم , لسنة أبي القاسم , اقرأ تبويبه , و افهم ترتيبه , لترى كل عجيبة.
من كالبخاري إذا قال حــــــدَّثنا ****** أو بَوَّب البابَ أو شدَّ الأســـانيـدا
كأنــــما هـــو إلـــهــامٌ يُعَــلَّـــمُهُ ****** أو أنه قــبسٌ يُـعــطــَاهُ تأيـــيـــدا
بغداد تشرّفت بالسّفيانين الثوري و ابن عيينة , و أصبحت بالعلماء أجمل مدينة , و هي مدينة الكرخي معروف ,
و الإمام الشافعي المعروف .
من بغداد أصحاب الصحاح و السنن , و أهل الذكاء و الفطن , و هي للحديث دار الضرب و الصلب , بها تضرب
الموضوعات للوضاعين , و لكن تصلُب الكذابين على خشب السلطان المتين , قال بعضهم : من لم يدخل بغداد لم
يدخل الحياة الدنيا , و من لم يشاهد حسنها ما شاهد النجوم العليا .
فقام الثاني يصف الخلفاء و الأمراء , الذين ملؤوا الدنيا بالعطاء و السخاء . فقال : هذه مدينة السفاح , الذي خضب
السيوف و الرماح , و كان لكل مجرم بطاح , و لكل عدو نطاح .
هذه مدينة المنصور , صاحب الدور و القصور , الداهية الجسور , و الأسد الهصور.
هذه مدينة الرشيد , صاحب القصر المشيد , و المجد الفريد , و الصيت البعيد .
هذه مدينة المأمون , صاحب الفنون , و جامع المتون , و لكنه بالفلسفة مفتون .
هذه مدينة المعتصم المغوار , الذي أوطأ الخيل أرض الكفار , و أورد نحورهم كل بتار .
بغدادُ أنت حديثُ الدهر و الأممِ ****** إذا مَدحْتُكِ سال السحرُ من قلمـي
أنت المنى أنت للتاريخ مـلحـمـةٌ ****** كم من رشيدٍ و مأمونٍ و معتصمِ
ثم قام الثالث يصف الأدباء , و يثني على الخطباء .
فقال : في بغداد أكبرناد , للشعراء الأجواد , إذا شرب الشاعر من ماء الفرات , أتى بالمعجزات ,
و خلب الألباب بالأبيات , سمّ لي شاعرا ما دخل بغداد , اذكر لي أديبا ما تشرف بتلك البلاد .
بغداد يا فتنة الشــرق التي خلبت ****** بسحرها العقل و الأقلام و الأدبا
مــاذا أردد يا بغداد من حزنــــي ****** إذا ذكرتك بــعــت الهم و الـنصـبا
من بغداد أبو تمام , و البحتري الهمام , و ترنح بها المتنبي بعض عام .
سجل بها ابن الرومي رواياته , و أبدع إلياذاته , و أروع أبياته .
و في بغداد أبو العتاهية , الشاعر الداهية , منذر القلوب اللاهية , و صاحب الرسائل الباهية , الآمرة الناهية ,
و هي أرض بشار , ناسج أجمل الأشعار , و المفتون بعبادة النار .
من بغداد انطلقت في البحار و البراري , رائعة ابن الأنباري : علو في الحياة و في الممات . من بغداد
استمع الدهر في عجب , لدويّ : السيف أصدق أنباء من الكتب .
بغداد مهرجان أدبي كبير , لكل أديب نحرير , فيها شعر و نثر , و حصباء و در , و صديق و زنديق , و حر و رقيق ,
و موحد و ملحد , و حانوت و مسجد , وبارة و معبد , و مقبرة و مشهد , جد و هزل و حب و غزل , كأن التاريخ كله
في بغداد اجتمع , و كأن الدهر لصوتها استمع , و كأن ضوء الشمس من بغداد يرتفع .
فقام الرابع فقال : كأن الأرض أخذت من بغداد جمالها , أفدي بنفسي سهلها و جبالها , دجلة له خرير , و الفرات له هدير , و النسيم فيها له زئير , كأن الهواء
سرق من المسك أريجه , و كان الماء أخذ من العاشق نشيجه .
تغار من زهر بغداد الزهراء , و تحمر خجلا من حسن بغداد وجنتي الحمراء .
كأن السحاب في سماء بغداد مع الشفق خضاب , و كأن بريق الفجر في مشارف بغداد ذهب مذاب , كان وجه
بغداد مشرقا , فلما دخلها الرفاق , كتب على بغداد الشقاء و الإخفاق .
لله يا بغــداد أنـــت نــشـــــيــــــدة ****** غنت بك الأعصار و الأمصـــار
من لم يــشـــاهــد ذا الجمــال فإنه ****** ضاعت عليه مع المدى الأشــعار
أظن بغداد أصابها عين أو دخلها لعين , ما لها قتلت المبدعين , و طردت اللامعين ؟
من ذا أصابك يا بغداد بالعين ****** ألم تكـــوني زمــاناً قرَّةَ العينِ ؟
و أنا عاتب على بغداد , و العتاب لا يغير الوداد ,لأنه جلد بها أحمد , و قتل بها أحمد , و أكرم بها أحمد .
فجلد بها أحمد بن حنبل , الإمام المبجل , و قتل بها أحمد بن نصر الخزاعي , الإمام الواعي ,
و هو إلى الحق داعٍ , و إلى البر ساعٍ ,و أكرم بها أحمد بن أبي دؤاد , داعية البدعة و العناد , و الفتنة و الفساد .
لكن بغداد لها حسنات يذهبن السيئات , و نهر الفرات و دجلة يطِّران من الحدث ,
و إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
منقول من كتاب مقامات عائض القرني
للدكتور الأديب عائض القرني...مع رجائي بأن تعجبكم.