الإصْلاَحُ النَّفْسِيُّ للفَرْدِ أساسُ استقامتِه وصلاحُ أمَّتِه

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

عبدالرحمن الأثري

:: عضو مثابر ::
الإصْلاَحُ النَّفْسِيُّ للفَرْدِ أساسُ استقامتِه وصلاحُ أمَّتِه
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاةوالسَّلام على مَنْ أرْسَلَهُ اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِه وإخوانه إلىيوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ أشدَّ ماتكون إليه حاجةُ الأُمَّةِ اليوم هو انْضِوَاءُ أفرادها تحت لوائها بحيث يمثِّلكلُّ فرد منهم لَبِنَةً قويَّةً صالحةً، تشيِّد بناءَ الأمَّةِ، وترسِّخ دعائمَه،وتُعلي صرحَه؛ لأنَّ فسادَ الأمَّةِ بفساد أفرادها، ومناطُ صلاحِ الأمَّة بصلاحأبنائها، وقد أَثْنَى اللهُ تعالى على خَيْرِ جِيلٍ عَرَفَتْهُ البشرية يحملُ صفاتٍلم تبلغها أمَّةٌ لم تَنْعَمْ بنعمة الإسلام، اتَّصَفَ باستيعاب «لاَ إلهَ إلاَّالله، محمَّدٌ رسولُ الله» على الوجه الّذي أراده الله، فلم تكن عندهم كلمةًعابرةً، وهم بعيدون عن مقتضاها وعن منهجها الشامل لكلِّ مناحي الحياة، ولا قضيَّةًخفيفةَ الوزن يقولونها بألسنتهم وقلوبُهم غافلةٌ عنها، وسلوكهم الواقعيُّ مخالفٌلها أتمَّ المخالفة، وإنَّما عرفوها حقَّ المعرفة وقَدَّرُوها حقَّ قَدْرِهَا، قالتعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكروتؤمنون بالله﴾[آل عمران:110]، فكانوا أفرادًامتجانِسِين أهلَ مُعْتَقَدٍ واحد، يسيرون على مسارٍ واحدٍ لا عِوَجَ فيه كما أمرهمربُّهم سبحانه: ﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكمعن سبيله﴾[الأنعام:153]، ويُؤَلِّفُونَمُجْتَمَعًا مؤمنًا له شخصيتُه الفَذَّةُ القويةُ، وهم متكتِّلون على كلمة التوحيدالخالص استيعابًا وسلوكًا، وبصدقٍ وأمانة.
فتَحَقَّقَتْ بعقيدةِ التوحيدِ أوَّلُوحدةٍ في تاريخ البشرية قائمة على تجريد العبادة لله وحده بجميع أنواعها، وتجريدِمتابعة رسول الهدى محمد ج، والاكتفاءِ به إمامًا وقدوةً، والعملِ بسنَّتِهوالدَّعوة إليها، وتحذيرِ النَّاس من الابتداع في دين الله تعالى، فكان أنْ وَرَّثَهذا التَّجريدُ وتلك المتابعة الصادقةثمراتٍ حسنةً ارتفعوا بها عن الحضيض، واستحقُّواالتمكينَ فيالأرض، فظهر على يدهم فتحٌ من الله لا مثيلَ له في التاريخ من قبلُ ولا من بعدُ؛حيث امتدَّ الإسلامُ ـ من خلال نصفِ قَرْنٍ من الزمان ـ من المحيطِ إلى ما وراءَالهند، قال تعالى: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهمفي الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم منبعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا﴾ [النور:55] ومن خلالِمُقَوِّمَاتِ هذا الجيل وثوابتِه الأصِيلةِ، تَبَلْوَرَتْ عنايةُ الإسلام بالعُنصرالنَّفسي للفرد؛ لأنَّ الإصلاحَ النَّفسي للفردِ هو القاعدة الأساسيَّةُ لصَلاحِهوصلاحِ أُمَّتِهِ، وهو الدِّعامة الأولى لاستقامتِه وسعادتِه في الدَّارينِ، إذْأنَّ نفسَ الفردِ مركَّبَةٌ من حيثُ القوَّةُ والغلبَةُ إلى:
ـ شقّفِطريٍّ إيجابيٍّ أصِيل،جُبِلَتْ فِطْرَتُه على محبَّةِ الحقِّ والخيرِ، ومستعدَّةٌ لإدراك معرفةالحقائق، وتَسْعَدُ بإدراكِها، وتَأْسَى على مخالفتِها، ولولاالمعارِضُ لبَقيت على حالتِها منَ السَّلامةِوالاستقامةِ،فهيَ مُقتضيةٌ لدينِالإسلامِ، ومُستلزمةٌ للإقرار بالخالقِ سبحانه ومحبَّته وإخلاصِالدِّين له،قال ابن تيمية ـرحمه اللهـ: «لقد أَوْدَعَ اللهُ عزَّ وجلَّ في قلوب العباد منالمعارفِ الفطريَّة الضروريَّة ما يفرِّقون به بين الحقِّ والباطل، وما يجعلهامستعدَّةً لإدراك الحقائق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من هذا الاستعدادوالتمَكُّنِ لما أفاد النَّظَرُ والاستدلالُ ولا البيانُ، كما أنَّه سبحانه جعلالأبدان مستعدَّةً للاغتذاء بالطَّعام والشَّراب، ولولا هذا الاستعدادُ لما أمكَنَتغذيتُها وتربيتُها، وكما أنَّ في الأبدان قوَّةً تفرِّق بين الغذاء الملائموالمنافي، ففي القلوبِ قوَّةٌ تفرِّق بين الحقِّ والباطل أعظم منذلك(1).«
ـ وشقٌّسلبيٌّ عارضٌ على الفطرةالتيقد تَضْعُفُ ويَخْفُتُ نورُها فيَعْرِضُ لها ما يغيِّرُها ويحوِّلها إلى مِلَلِالكفر والشِّرك بسبب مؤثِّرات خارجيَّةٍ كالطَّبائع الشِّرِّيرة، والبيئةالسَّيِّئة الَّتي يتربَّى فيها الإنسان منذ صغَرِه، ففي الحديث: «كُلُّمَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِوَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَفِيهَا مِنْجَدْعَاءَ(2)«،أو بسبب نَزَغَاتٍ شيطانيةٍ طائشةٍ تميل به عن الجَادَّةِ وتنحرف به عن سَوَاءِالسَّبيلِ، وإلى هذا المعنى يشير النبيُّـصلى الله عليه وسلمـبقوله فيما يَرْوِي عن ربِّه تبارك وتعالى أنَّه قال: «إِنِّيخَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ،وَإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْعَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُلهمْ،وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِسُلْطَانًا(3)«،فارْتَبَطَ مصيرُ الإنسانِ في دنياه وآخرتِهبِرُجْحَانِ أحدِ الشِّقَّيْنِ: شقِّ الخير والتقوى، أو شقِّ الشَّرِّ والفجور؛ فمنطهَّر نفسَه بطاعة الله، وأصلحَها من الأخلاق الدَّنيئة والرَّذائل فقد أفلح وربِح،ومن أخملها ودسَّها حتى ركب المعاصي وترك طاعةَالله فقد خابَ وخَسِرَ، وأصلُ هذا المعنى قول الله تعالى: ﴿ونفسوما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب مندساها﴾[الشمس: 7-10].
لذلك أرسل اللهُالرسلَ لتذكِّرَ النفسَ بوجوب المحافظةِ على طهارة فِطْرَتِها المتجلّيةِ في معرفةِالله ومحبَّتِه والإخلاصِ له وإيثارِه على غيرِه، وتُنبِّهها عليه، مع التَّفصيلِوالبيانِ، وتعرِّفُها الأسبابَ المعارضةَ لموجبِ الفِطرةِ المانعةِ من اقتفَاءأثرِها، كما حذَّرتْ من الاستسلامِ للنَّزعاتِ الشّيطانيَّةِ والطبَّائعِالشِّرِّيرةِ الطَّارئةِ على النَّفس التي تُضْعِفُ من عَزْمِهَا، وتَرمي بها فيبُؤَرِ الضَّلال وساحاتِ الهوَى، وتَنحرفُ بها عن سَواء السَّبيل؛ فدَعَتْ إلىتخليصِ الفطرةِ من كلِّ ما قد يعكِّر صفاءَها ويَذهبُ بنقائِها ممَّا يُلابسُها منالشَّوائبِ والعوالقِ المدنِّسةِ، قال تعالى: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرتالله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون﴾[الروم:30]، قال ابنالقيم ـرحمه اللهـ: «وهكذا شأنُالشَّرائعِ الَّتي جاءت بها الرُّسلُ، فإنَّها أمرٌ بمعروفٍ، ونهيٌ عن منكرٍ،وإباحةُ طيِّبٍ، وتحريمُ خبيثٍ، وأمرٌ بِعَدْلٍ، ونهيٌ عن ظلمٍ، وهذا كلُّهمَرْكُوزٌ في الفطرة، وكمالُ تفصيلِهِ وتَبيينه موقوفٌ علىالرُّسل(4)«.
وعلى أساسِمعاييرِ الهدايةِ الَّتي جاءتْ بها الرُّسلُ تقوم دعوةُ المصلحين إلى توحيدِ اللهربِّ العالمين وعبادتِه ومحبَّتِه والإخلاصِ له، فهو أصل الدِّين، ودعوةُ جميعالأنبياءِ والمرسلينَ، وهو ركنُ الأعمال وشرطُ التَّمكين في الدُّنيا، والنجاةِ فيالآخرةِ، وبِهِ تَتَّحِدُ الأمَّةُ وتجتمع على إمَامِها وقدوَتِها محمَّدٍـصلى الله عليه وسلمـ، فلا وحدةَ بدونِ توحيدٍ، ولااجتماعَ بلا اتباعٍ.
وميدانُ الإصلاحِيدعُو القائمينَ به إلى تطهيرِ الفطرةِ من الأَخْلاَطِ والشَّوائبِ ممَّا يُضَادُّالتوحيدَ الخالصَ، والتَّحذيرِ من دعاوَى الجاهليَّة ومظاهرِ الشِّركِ وأشكالِالخُرَافَةِ وأنماط البدَعِ، ومحاربةِ كلِّ أسبابِ الانحرافِ عن دينِ الفطرةِبإظهارِ الحقِّ، والأمرِ بالمعروف والنَّهيِ عن المنكرِ بوسيلةِ العلمِ الشَّرعيِّالصَّحيحِ الَّذي هو مادَّةُ الإسلام وموضوعُه، وبمنهجٍ مُستمَدٍّ من الكتابِوالسُّنَّةِ وما عليه سلفُ الأمَّة.
كما أنّ ميدانَالإصلاح يُنادي أصحابَه إلى رَبْطِ النُّفوسِ بشريعة الله الشَّاملةِ لجميع ميادينالحياةِ فيما يحتاجُه النَّاسُ لصَلاح دنيَاهُم وآخرتِهم، وغرسِ الأخلاقِ الفاضلةِومبادئ البِرِّ والإحسانوالتَّعاون علىالحقِّ والخير بالأسلوب الدَّعويِّ المنْبَثِقِ من قوله تعالى: ﴿ادع إلىسبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هيأحسن﴾[العنكبوت:125].
كما أنَّ ميدانَالإصلاح يَتَطَلَّبُ من القائمين عليه من دعاةِ الحقِّ أن يكونوا على بصيرةٍبالمجال الدَّعوي: مِنْ علمٍ دقيقٍ بالشَّرع ومقاصدِه العُلْيَا، ومَرَامِيهِالنَّبيلةِ مع الصِّلة الوثيقة بالله تعالى: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى اللهعلى بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين﴾[يوسف: 108]، وأنْ يَبْتَعِدُوا فيمسيرتهم الدَّعويَّة عن الجَفْوَةِ والغِلْظَةِ وسُوءِ الأدَبِ والمنْقَلَبِ،فالرِّفقُ في الأسلوب من أبرزِ خصائصِ دعوةِ الحقِّ، وأنْ يَتَنَزَّهُوا عنالأغراضِ الدَّنيئةِ والاغترارِ بالدُّنيا؛ لأنَّ الانشغالَ بها والتَّلَهِّي عنالآخرةِ أوَّلُ طريق الضَّيَاع، قال تعالى: ﴿يا أيها اللذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر اللهومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون﴾[المنافقون: 9]، وأن يلتزموا التوكُّلَ على الله والتحلِّيبالصَّبر على دعوتهم إلى الخير والرُّشد والسُّؤْددِ، ويعتبروا بما واجهَ النبيُّـصلى الله عليه وسلمـمن كلِّ أشكال الصُّدُودِوالفُجُورِ، وكلِّ ألوان الكُنُودِ والجُحُودِ، فَصَبَرَ عليها وصَابَرَ ورَابَطَحتَّى أتمَّ اللهُ دعوتَه، وانتشرتْ في الآفاقِ.
إنَّ صبرَ الدُّعاةِ المصلحينَ على ما يُصيبُهم هو منعَزَائِمِ الأمور؛ لأنَّه صبرٌ على استكبارِ الجاحدِين،وجَفْوَةِ العُصاةِ، وعَنَتِالمدْعُوِّينَ، وهو من علاماتأهلِالصَّلاح المتَّقين، قال تعالى: ﴿وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هداناسبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون﴾[إبراهيم: 12]، كما هو من صفاتِالأئمَّةِ المقتدَى بهم، قال تعالى: ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لماصبروا وكانو بآياتنا يوقنون﴾[السجدة: 24].
هذا، وإذاتحقَّقتِ الدِّعامةُ الأولى لصَلاح الفردِ بإصلاح نفسِه، فقد استقامَت لَبِنَةٌلمجتمعه المسلم، تنتظِمُ إلى جانبها لَبِنَاتٌ قويَّةٌ صالحةٌ يُشيَّدُ بها صَرْحُأمَّة الإسلامِ كالبنيانِ المرصوصِ يشدُّ بعضُه بعضًا، تَقرُّ بها أعينُ الموحِّدينفي تماسُكها وعزَّتِها وتَمْكِينِها وهَيْمَنَتِهَا، وتحتلُّ صدارةَ المجتمعات علىمدى الزَّمانِ وفي كلِّ الأحوالِ، قال تعالى: ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأناربكم فاعبدون﴾[الأنبياء: 92].
لفيلة الشيخ محمد على فركوس

 
بسم الله الرحمن الرحيم

جزيت خيراً أخي ^^

فعلاً أساس المجتمع هو الفرد

وأساس صلاح هذا المجتمع هو صلاح الفرد الذي يكون المجموعة

جعله الله في ميزان حسناتك

دمت بود ^^
 
وفيكما بارك الله اخوتي وجزاكم الله خيرا
ونسال الله ان يتقبل منا ومنكم صالح الاعمالوان يهدينا الى الطريق المستقيم
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
العودة
Top Bottom