الحضارة الإسلامية و " إلهيات اليونان " ، ورقة في الفلسفة والسياسة :

د.سيد آدم

:: عضو مثابر ::
(1) :
رغم كونها " ورقة " تبحث في " الموقف " الحضاري ، لنا نحن المسلمين ، من الفلسفة اليونانية ، إلا أن بها " شيئاً " من السياسة ؛ حيث هناك فريق " يكره " الإسلام العامل / السياسي تحديداً ، " كراهية العمى " متأثراً بما يظنه قد حدث ، ثقافياً ، من حضارة الإسلام ضد " الفكر " ، ما يعني ، بحسب المسكوت عنه ، أن " الإسلاميين " ليسوا جديرين بأن يكونوا أهل سياسة !!!.
وهذه بعض أقوال هذا الفريق :
- مرتاحون لإقصاء الإسلاميين عن الساحة السياسية .
- الفكر الإسلامي فكر " لاعقلاني " .
- الفكر الإسلامي لا يصلح لحل المشاكل المعاصرة .
- الإسلاميون يستخدمون أساليب الشحن العاطفي لكسب الأصوات
والوصول إلى السلطة .
- التاريخ يبين أن الإسلام كان ضد التفكير العقلاني .
- إذا تمكن الإسلاميون من الحكم مجدداً ، فلن يسمحوا بأي نقاش حر .
--
الورقة :
يعتمد هذا الفريق الرافض ، وربما الكاره ، لإسلام " السياسة " على قول ، أو كتابة ، لبعض الرموز المحسوبة على العقلانية . وجُل هذه الأقوال ، أو الكتابات ، يأخذ بالشائع : " إن تراثنا الفكري بعيدٌ عن العقلانية " مبرراً هكذا أخذ بما رُوي عن رفض " علماء السلف " للفلسفة وحمْلةِ هؤلاء ، ومن شايعهم ، على الفلسفة تعلماً وتعليماً وتأليفاً .
نعتقد أن " السلف " لم يكن ضد " الفلسفة " باعتبارها " نتاجاً عقلياً " ، بل قامت هذه " الضدية " بوجه " نوعٍ خاص " من التفلسف رأى هؤلاء أنه يتقاطع مع عقيدة ، أو أكثر ، مما جاء به الإسلام وألزمَ أتباعَه اعتقادَه ! وسوف نلاحظ ، عبر هذه الورقة ، أن نقد ، أو حتى نقض ، السلف للوافد الفلسفي الإغريقي قد قام على أسس عقلية قحة آخذاً بالمنهج الفلسفي نفسه لإجراء نقد ، أو حتى نقض ، هذا الوافد ! خاصة وأن حركة الترجمة بآخر عهد الأُمويين راحت تضخ ، في الأسواق والعقول العربية ، كماً لا يستهان به من مقولات ذات تعلق بتصورات إلهية غيبية لا يقر عليها ، أو على أغلبها ،
المعتقد الإسلامي .
درسَ السلفُ الوافدَ اليونانيَّ ، فمنهم من نقده بحد ذاته ، ومنهم من نقده لقول رؤسائه إنه " منهج " مضمون لـ العصمة من الزلل لكل العقول !!! . وقد قام نقد هذا الأخير على أسس عقلية يقبل بها أي عقل مستقيم وليس لمجرد أن " مقولات الإغريق ، ومن شايعهم ، تخالف عقائد المسلمين " .
كثير من الأحكام الواقفة " ضد " الإسلام أشاعها علمانيون لهم ، حتى عندنا ، قدر كبير من التجلة والتقدير ، ما يجعلنا نشدد على أن هؤلاء الجليلين
المقدرين ، حتى عندنا ، لم يصدروا عن " كذبٍ " ، حاشاهم ، بل عن أن أحكامهم ذات التعلق بتراثنا الفكري جاءت دون " بذل " الجهد المطلوب للتعرف إلى هذا التراث ، ونحسبه تراثاً مظلوماً بأيدي حتى أبنائه ، كذا صدر هؤلاء عن " أزمة " علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالفكر العقلاني في أوروبا العصور الوسطى !!! ... فظن القوم ، ثم أشاعوا بين متابعيهم ، أن " كل " الأديان لها نفس الموقف من التفكير العقلاني وما يلزم عنه .
يُتْبع ...
 
رد: الحضارة الإسلامية و " إلهيات اليونان " ، ورقة في الفلسفة والسياسة :

لك الشكر .

لربما الاسلاميون اليوم لم يحسنوا التعامل مع الواقع .
 
توقيع علي الفاضلي
رد: الحضارة الإسلامية و " إلهيات اليونان " ، ورقة في الفلسفة والسياسة :

لك الشكر .

لربما الاسلاميون اليوم لم يحسنوا التعامل مع الواقع .

صدقتَ أخي الكريم . لذلك سنأخذ على " علمانيينا " قياسهم الإسلام بحسب المسلمين ! وكان الصواب أن يقيسوا المسلمين على الإسلام .
الشكر غير المحدود للمرور الكريم .
 
رد: الحضارة الإسلامية و " إلهيات اليونان " ، ورقة في الفلسفة والسياسة :

(2) :
يقول أحد رموز العلمانية في مصر ... : " إن السبب الأكبر للتعارض بين الفلسفة والدين لم يكن نوع الأفكار التي ينادي بها كلا الطرفين ، وإنما طريقة التفكير لدى كل منهما ... لم يكن خلافاً في المحتوى والمضمون ، بل كان خلافاً في المنهج . ويتلخص هذا الخلاف في أن منهج التفكير الفلسفي نقدي ، في حين أن منهج التفكير الديني إيمانى . إن الفلسفة تناقش كافة المسلمات ، ولا تعترف إلا بما يصمد لاختبار المنطق الدقيق ، فعلي حين أن مبدأ التسليم ذاته أساسي في الإيمان الديني ، وأقصى غايات ذلك الإيمان هي أن يؤدي بالمرء إلى قبول المعتقد بلا مناقشة ، بل بغير أن تطرأ على باله ، أصلاً ، فكرة المناقشة " .
فالمسألة ، إذاً ، مسألة " منهج " ، أو هي مسألة " طريقة " تفكير .
وبحال قال المخالفون إن في تاريخنا مفكرين إسلاميين عقليين ، سيكون الرد ... : " إذا كان بعض المفكرين قد سعوا إلى دعم الإيمان ومعتقداته الأساسية على أساس براهين عقلية ومنطقية ، فكانوا أقرب إلى الفلاسفة منهم إلى رجال دين ، فضلاً عن ذلك ، فإن أمثال هذه البراهين لم تكن في الأغلب تسير في الطريق العقلي من بدايتها إلى نهايتها ، بل كانت ترتكز في مراحلها الحاسمة على قبول مسلمات دينية معينة ، ثم تكمل هذه المسلمات بالاستدلال العقلى " .
هنا نلاحظ أن النص تناول " علماء الدين " في عالمنا الإسلامي بنفس المصطلح المستخدَم في النصرانية / المسيحية عامة ، وفي الكاثوليكية خاصة ، وهو مصطلح " رجال الدين " ما يدل على صدق زعمنا أن هؤلاء صدروا ، في أحكامهم ، عن هاجس يسكنهم يدور حول " تعميم " تعامل " رجال الدين " المسيحي على كل دين وعلى كل " رجال " أي دين !!! .
هذه واحدة ، والثانية ، أن النص لم يقدم لنا مثالاً على " واحدة " من تلك التي أسماها " المراحل الحاسمة " وفيها لم يستطع العقل الديني اجتيازها بالبرهان العقلي ما اضطره إلى اللجوء إلى مسلمات دينية على أمل أن تساعده على تخطي هكذا مراحل حاسمة !!! ... هكذا موقف ، أو منهج ، يدلل على صدق زعمنا أن هؤلاء الدارسين لتراثنا ، ومن ثم الرفض ، ينقلون " نقد الفكر الديني " الذي قام به " فلاسفة غربيون " للأفكار المسيحية عندهم ، ثم يسحبونه ، دون تمحيص ، على الإسلام .
المنطق والعقيدة :
... : "فإن رجل الدين حين يصر على أن المنطق لا مكان له في عقيدته ، فإنه لا يفعل ذلك كراهية في المنطق ، بل إنه قد يقبل المنطق والتفكير المنطقي ويطبقهما في مجالات أخرى . وكل ما في الأمر أنه يتمسك بالمعنى الأصلي للإيمان من حيث هو تسليم وتصديق لا مجال فيه للتدقيق أو التمحيص " . ونحن ، صراحة ، لا نعرف ما المصدر الذي نقل عنه رجلنا هذا التعريف ، أو المعنى ، للإيمان عند جمهور المسلمين .
... : " رجل الدين ، حتى لو اعترف بمبدأ المناقشة ، فإنه لا يسمح بهذه المناقشة إلا في حدود معينة ، ويرفض أن تمتد حتى تشمل المعتقدات الأساسية " .
وسؤالنا : هل هذا في الإسلام ؟ !!! هل عند المسلمين ، سنةً وشيعةً ، معتقداتٌ أكثر أساسية من وجود الله وصدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ... إن هكذا فكرة عن " الألوهية " هي أكثر ما نتحمس ، نحن المسلمين ، لمناقشة أدلتها العقلية ، فما هذا الذي لا نقبل مناقشته عقلياً ؟ !!! .
ويسعى الفكر العلماني إلى التأكيد على أن الفكر الإسلامي نعمل على ... : " التشكيك في مبدأ التفكير المنطقي ذاته ، وهو المبدأ الذي يرتكز عليه كل منهج علمي ، على أساس أنه يؤدي إلى زعزعة العقيدة الدينية وتخلخل الإيمان إحياء للشعار القديم " من تمنطق فقد تزندق " .
ونحن نعرف أن المنطق أداة / طريقة لها أسسها في التفكير تقوم ، بالأساس ، على الحجة العقلية والاستدلال السليم ( = البرهان ) ما يفضى إلى الإقناع أو الاقتناع ، وذلك بعرض أن وسائل الإقناع ثلاث وسائل تتفاوت بتفاوت المخاطَبين : الخطابة ، ثم الجدل ، ثم البرهان . وقد أسس فقهاء الأمة هذه الوسائل على أساس من الأثر : " خاطبوا الناس على قدر عقولهم " .
وبالعودة إلى الشعار القائم بوجهنا تدليلاً على " إبطال " الفلسفة في العقلية الإسلامية ... وهو : " من تمنطق فقد تزندق " فإننا نلاحظ أن ما يؤدي ، بحسب الشعار ، إلى الزندقة " ليس مجموعة الآراء ، أو النظريات ، التي ينادي بها أهل الفلسفة الذين يستخدمون المنطق ، إنما هو منهج التفكير العقلي المنطقي الذي يسير هؤلاء وفقاً له " ، فكأن الشعار يقول ، في الواقع ، إنك إذا استخدمت عقلك ، وفكرّت تفكيراً متماسكاً أوصلك هذا إلى الزندقة !!! .
وهذا الطرح عبر النصوص الفائتة ليس بريئاً ؛ وربما فات صاحبه معرفة أن المنطق أحد العلوم التي تدرَّس بجامعات مصر ... بما في ذلك جامعة الأزهر ... وتحديداً بكليات أصول الدين التي يفترض أنها تقوم على أسس " عقدية " قحة !!! ذلك مع علمنا أن هذه المقولة ، وهي لابن الصلاح ، العدوِّ اللدودِ للمنطق ، يجب أن يذكر مقابلاً لها مقولة ، بل مقولات ، أبي حامد الغزالي في هذا الشأن ... : " هو القانون الذي نميز به بين صحيح الحد والقياس عن غيره ، ونميز العلوم اليقينية عن غير اليقينية ، لذلك فالمنطق هو الميزان والمعيار لكل العلوم " . كما يجب أن يذكر مقابلاً لمقولة ابن الصلاح هذه أن علماء الحضارة العربية / الإسلامية هم أول من تكلم في" المنطق " حيث لم يذكر أرسطو ، الواضعُ الأساس للمنطق ، لفظ منطق في أي من كتبه ، فتكلم علماؤنا ، وفي مقدمتهم ابن تيمية ، في اللفظ العربي " منطق " باعتباره مشتقاً من النطق ، أو الكلام ، فأبان هؤلاء أن لفظ المنطق مأخوذ من اللفظ اليوناني القديم logos ... ويعني " الكلمة " أو " العقل " أو " القانون " ، ما يعني أن اليونان لم يتكلموا في المنطق من حيث علاقته بالنطق والناطق والمنطوق !!! بينما درس هؤلاء لفظ المنطق باعتباره مشتقاً من النطق ، أو الكلام ، ... وقد أسسوا " المنطق " على أساسين ، ينتج عنهما ثالث لا مجالة :
فالأساس الأول ، هو " اللفظ " / " اللغة " / الكلام " . وهنا ضرورة الإلمام بقواعد اللغة ليحسن استعمال اللفظ .
والأساس الثاني ، هو " إدراك الكليات " ... وهي القوانين العامة التي تفسّر ظاهرة من الظواهر ، سواء كانت ظاهرة طبيعية ، أم كانت ظاهرة اجتماعية .
والأساس الثالث ، هو " النفس الناطقة " التي يحوزها الإنسان حال أتقن اللغة وأتقن استعمال الأدلة العقلية للوصول إلى القوانين الكلية . والنفس الكلية هي ما يميز الإنسان عن غيره من الأحياء ... : " سُمّي المنطق بهذا الاسم ، لأن النطق يُطلق على اللفظ ، وعلى إدراك الكليات ، وعلى النفس الناطقة . ولما كان هذا الفن يقوى بالأول ، ويسلك بالثاني مسلك السداد ، ويحصل بسببه كمالات الثالث ، اشتُق له اسم منه ... وهو المنطق " ) .
وسمى علماؤنا المنطق قانوناً لأن مسائله قوانين بمعنى قواعد كلية تنطبق على جزئياتها . وهذه القوانين ، في الحقيقة ، هي عبارة عن الإدراكات الكلية للنفس ، وهي ما نسميه نطقاً ، أو منطقاً ، عند الحديث عن اسم هذا العلم .
ودارس تاريخ العلم ينتهي إلى أن فقهاءنا ، وفي مقدمتهم ابن تيمية ، لم يرفضوا المنطق الصوري كما جاءنا عن اليونان بسبب " الزندقة " المدّعاة ، بل لأنهم رأوا فيه " أداة عاجزة سخيفة " ، وفي الوقت نفسه استخدم هؤلاء " الدليل العقلي " فأنتجوا فكراً عقلياً بحسب مقتضيات تخصهم كـ العقيدة اللغة والقيم .
ونلاحظ أن أستاذ التجريب في أوروبا العصور الوسطى فرنسيس بيكون فعل نفس ما فعله ابن تيمية فيما له تعلق بالاعتماد على المنطق الصوري كما وصلنا عن أرسطو عبر شراحه .
لا نريد أن نغادر هذه الإشكالية قبل أن نبين موقف " فقهائنا " من الفكر الإغريقي عامة ، والمنطق الأرسطي خاصة .
تمثل موقف الفقهاء في ثلاث نقاط : مانعون ، وموجبون ، وواقفون بين بين .
يُتْبع ...
 
رد: الحضارة الإسلامية و " إلهيات اليونان " ، ورقة في الفلسفة والسياسة :

(3) :
المانعون :
من القائلين بالمنع مَن يؤسس موقفه على قول منسوب للشافعي ذي تعلق بهذا الشأن ... : " ما جهل الناس ، ولا اختلفوا ، إلا لترْكِهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس " . مع الإشارة إلى أن هذا النص المنسوب للشافعي لا يقبله الذهبي في " سير النبلاء " ... ؛ فهو يستنكر نسبة هذا القول للشافعي ، ثم يقول ... : " هذه حكاية نافعةٌ ، لكنها منكَرة ، ما أعتقدُ أن الإمام تفوّه بها ، ولا كانت أوضاع أرسطو عُرّبتْ بعد البتة " .
ويمنع ابن قتيبةَ ، أبو محمد عبد الله بن مسلم ، تعلُّمَ المنطق وتعليمه ، لأنه ، برأيه ، يُشعِر من يتعلمه بالتميز والاستعلاء على سائر الناس !!! .
مما نلاحظه ، هنا ، أن ابن قتيبة حرّم المنطق لا لشبهةٍ فيه ، بل لجانب " أخلاقي " تمثّل في أن صاحب المنطق يأتيه شعور بالتميز عن الآخرين ، ممن لم يدرس المنطق ، والاستعلاء عليهم . ما يعني أنه حال خلّص الدارسُ للمنطق نفسَه من هذين العيبين الأخلاقيين ، لم تعد دراسة المنطق محرّمةً !!! .
ويصح أن نُدخل ضمن من قال بالمنع كلاً من الإمامين : النووي وابن الصلاح .
ب_ الموجبون :
من أوائل هؤلاء ابن حزم ، أبو محمد علي بن حزم الأندلسي ، حيث يرى أن المؤلفات المنطقية فيها البرُّ الكثير ، ما يؤهل أصحابها لطلب الثواب والأجر من الله تعالى ... ثم إن الرجل يقسّم الناس ، بشأن النظر إلى المنطق والتأليف فيه ، أربعة أصناف :
الصنف الأول : من نظر إلى المنطق ، تعلماً وتعليماً وتأليفاً ، وانتهى إلى أن هذا العلم به ما يعد سبيلاً إلى الإلحاد والزندقة !!! .
ويقول ابن حزم عن هذا الصنف " إنهم حكموا دون معرفة ولا دليل ، ولا بد من إزالة الباطل من نفوسهم " .
الصنف الثاني : من نظر إلى المنطق ، واعتبره نوعاً من الهذيان والهذر الذي لا فائدةَ تُرجى من ورائه !!! .
ويرى ابن حزم أن هذا الصنف " حكموا على المنطق بهذا الحكم لجهلهم يه ، والناس أعداء ما جهلوا ، ولا بد من إزالة هذا الجهل من نفوسهم " .
الصنف الثالث : من نظر إلى المنطق بأحكام مُسْبقة عبر الأهواء والنظر غير السليم والتحيز الأعمى !!! .
ويرى ابن حزم أن علاج أمر هؤلاء إنما يكون عبْر بيان المنطق شرحاً وتوضيحاً ... " لعل الله ، تعالى ، أن يكتب لهم الهداية بمنه وكرمه " .
الصنف الرابع : من نظر إلى المنطق بعقلية منفتحة وذهن سليم وعقل سديد ، وهؤلاء قد انتهوا إلى أن هذا العلم " كالرفيق الصالح ، والخدين الناصح ، والصديق المخلص الذي لا يسْلمك عند شدة ، فهو يفتح كل مستغلق ، ويوضح كل غامض في جميع العلوم " .
ويرى ابن حزم أن سبب الرأي السيئ في المنطق ، بالنسبة للأصناف الثلاثة ألأولى ، إنما يكمن في تعقيد العبارة وعمق الأسلوب ، وليس كل فهم تصلح له كل عبارة ، حيث ملكات البشر العقلية تتفاوت من إنسان إلى آخر . لذا رأى ابن حزم أن يكتب في المنطق بلغة سهلة وأسلوب واضح ليتسنى للناس ، ككل ، معرفة قيمة هذا العلم ، فكان أن كتب كتابه " التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية " ، وانتهى فيه إلى نفع المنطق في كل العلوم ابتداءً بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، كذا في الفتيا وتبين الحلال والحرام ، وانتهاءً بكتب النحو واللغة والطب والهندسة ، مروراً بعلوم العقيدة والملل والمذاهب .
ويدخل ضمن القائلين بالوجوب أبو حامد الغزالي ، حيث يرى أن المنطق واقع بين أمرين : إما الوجوب ، وإما الاستحباب ! حتى قال في " المستصفى " " من لا معرفة له بالمنطق ، لا يوثق في علمه " !!! وأسماه " معيار العلم " .
الواقفون بين بين / القائلون بالمنع في حالٍ دون حال :
من أشهر هؤلاء تاج الدين عبد الوهّاب السبكي ( ت 771 هـ ) حيث يرى أن تعلم المنطق " حرام ، ولا يحلّ إلا للعلماء الراسخين " !!! ويعلل القصْر هنا " للرد على أهل الزيغ " !!! ، ثم هو يضع شرطين لمن أراد تعلمّ المنطق : " أن يثق من نفسه أنه وصل إلى درجة لا تزعزعها رياح الأباطيل " و " ألا يمزج كلامهم بكلام علماء الإسلام " !!! ... وهنا جاء قوله : " وأما المنطق ، فالذي نقوله إنه حرام على من لم ترسخْ قواعد الشريعة في قلبه ، ويمتلئ جوفه من عظمة هذا النبي الكريم وشريعته ، ويحفظ الكتاب العزيز وشيئاً كثيراً جداً من حديث النبي ، صلى الله عليه وسلم ، على طريقة المحدّثين ، ويعرف من فروع الفقه ما يسمى به فقيهاً مفتياً مشاراً إليه من أهل مذهبه . فمن وصل إلى هذا المقام فله النظر فيها ( = المؤلفات المنطقية والفلسفية ) للرد على أهلها ولكن بشرطين : أحدهما ، أن يثق من نفسه بأنه وصل إلى درجة لا تزعزعها رياح الأباطيل وشبه الأضاليل وأهواء الملاحدة " .
وهذا معناه ، عند السبكي ، جواز دراسة المنطق " لذكي القلب المتمسك بالكتاب والسنة " .
ويطالبنا نص آخر بأن " نحصّن " الفيلسوف ... : " وكل ما هو مطلوب لتحقيق هذا المزج الخصب بين الفكر الفلسفي والفكر الديني هو أن يشعر الفيلسوف بأنه لا يتعرض لتخويف ، أو إرهاب ، أو اتهام بالخروج على الدين " !!! .
وهنا موضع الدهش ؛ فمن ذا الذي منع الفيلسوف ، على وجه التحديد ، من المناقشة ؟ ! لكن بحال قال الفيلسوف كلاماً خارجاً ضد الدين – أو رآه البعض كذلك – فهل الفيلسوف ، على وجه التحديد ، يملك حصانة تمنع الآخرين من مواجهته برأيهم في كلامه ؟ ! بينما هو يملك ، ودائماً ، إثبات أنه لا يخرج عن الدين إذا استطاع إقامة أي دليل على ذلك !!! ، ولكن إذا أراد الفيلسوف إهدار " حجية " الكتاب ، أو حجية السنة ، متجاهلاً كل الأدلة التي يقدمها الفقهاء المسلمون لإثبات هذه الحجية ، لمجرد أن " عقله " لا يقبل ما قُدّم له ، فللآخرين أن يروا في هذا الموقف كمن لا يريد الاعتراف بحركة الأرض لأن عقله لا يتصور ذلك ، ثم هو حر بعدها ، فنحن نؤمن ، بصدق ، أنه لا إكراه فى الدين ، لكن يجب أن تسمى الأشياء بأسمائها .
يُتْبع ...
 
رد: الحضارة الإسلامية و " إلهيات اليونان " ، ورقة في الفلسفة والسياسة :

(4) :
حضارتنا والتفكير العقلي :
سؤالنا : تُرى من أين جاء مناهضو " عقلانية حضارتنا " بفكرة أن العقل المنهجي المنظَّم لا شك واجدٌ نفسه غريباً في " الفكر الإسلامي " ؟ !!! ... هذا رغم أن المتصفح للقرآن الكريم له أن يلاحظ أن الأوامر والنداءات المشتقة من أفعال القراءة والتفكير والتعقل والتفقه والتدبر والاعتبار منبثةٌ في الكتاب الكريم ككل من أوله إلى آخره ، سواء في آيات المدني أو في آيات المكي ، وتتكرر فيه الآيات التي تقدم للمخالِف – بل وتطالبه - بالبرهان والحجة والجدال بالتي هي أحسن ، وتعتمد أسلوب الاستقراء والمقابلة بغرض استخراج النتائج المطلوبة ، فالقرآن الكريم لم يطرح العقائد ، أبداً ، كقضايا " واجبة " التسليم مجردةً عن الدليل ليلزمَ الناس باعتناقها بسلطةِ النص المقدس ، بل هو يقدمها ، ودائماً ، مشفوعةً بالبراهين المؤيدة لها .
ترى هل تكون المشكلة - إن كانت للعقل معنا أية مشكلة - في الطريقة التي تعامل بها علماؤنا مع هذه النصوص ؟ !!! .
إن علماء الكلام ( هذا علم إسلامي يُعنى ، بالأساس بالأصول ... أصول الدين والبرهنة عليها بالأدلة العقلية ثم النقلية ) عندما صنفوا كتبهم في " علم
التوحيد " قدموا ذلك عبْر " الأدلة العقلية " الدالة على وجود الله ... ثم ذكروا " الآيات القرآنية " كأدلة " نقلية " داعمة لـ " أدلتهم العقلية " : فهناك آيات لدليل الحدوث ، وآيات أخرى لدليل الوجوب ، وثالثة لدليل العلة الكافية ، ورابعة لدليل العناية والاختراع ، وخامسة لدليل التمانع ... إلى آخر الآيات ذات التعلق بالأدلة التي قدمها علماء الكلام على قضية أو أخرى .
ما قدمه هؤلاء ألحقوا به آياتٍ توضح هذه الأدلةَ بأسلوب معجز يُرضي " عقلَ المفكر " ، كما يُرضي " ذوقَ الأديب " ، كما يُرضي " وجدانَ الفنان " .
كذلك الأمر بالنسبة لـ الفقهاء ، فهم ، عندما بدءوا فى استنباط الأحكام
الفقهية عن أدلتها الشرعية ، ألزموا أنفسهم ( !!! ) أن يقدم الواحد منهم أدلتَه العقليةَ لما قدّمه من الأحكام العملية ، ذلك لأنهم " اعتبروا أن الأحكام العملية كلها معللةٌ بأسبابها " ، كذلك اعتبروا أن الأحكام " تدور مع عِللِها وجوداً وعدماً " .
ويبين لنا تاريخُ التشريع في الإسلام كيف وضع فقهاؤنا القواعدَ العقلية التي سيقيمون عليها الاستنباط الفقهي ، وذلك مذكور في علم أصول الفقه . وهذا ، لعمرُك ، منهج عقلي جد صارم يجب أن يكون محل فخار في ثقافتنا بوجه عام .
إن مشكلة العلاقة بين التفكير الديني والتفكير العقلي لم تكن موجودةً عند المسلمين الأوائل ، لكن لأن مثقفينا " المتغربين " يظنون أنهم يعرفون كيف يحلونها ، فقد عملوا على " إيجادها " !!! ليقولوا لنا ها نحن حللنا هذه " الإشكالية " .
أصل الإشكالية ليس عندنا ، بل هو " نبْتٌ " أوروبي لحمُه وسداه ، بدأ ظهوره ببدايات عصر النهضة هناك في أوروبا العصور الوسطى . ذلك عندما بدأ الناس ، هناك ، فى القيام بالبحث العلمي المنهجي في مسائل الطبيعة ، فكان أن توصل بعضهم ، كـ برونو أو نيق أو كبلر أو هيباشيا ، إلى اكتشافات تخالف العديد مما كانت تتبناه الكنيسة على أنه ليس حقائق علمية ، بل معتقدات دينية منزّلة كـ مركزية الأرض التي قال بها أرسطو ، وأصبح الخروج عليها كفراً يعاقَب صاحبُه بإجراءات صارت " أشهر من نار على العلم " حتى قرءنا أن الكنيسة " مسّحتْ أرسطو " !!! هنا بدأ العقل العلمي لدى القوم يفكّر في " كل " ما تقوله ، وتطرحه " الكنيسة " ، فانتهى إلى استحالة قبول الكثير من ، إن لم يكن كل ، تصورات الكنيسة عن الوجود والحياة والإنسان ، هنا ، وبطريقة " اللف والدوران " التي تعبر عن " الخوف " من الكنيسة ورجالها ، طرح مفكرو أوروبا مقولة الحقيقتين : الحقيقة الروحية ، والحقيقة العقلية / الفلسفية ، فقالوا إنهما حقيقتان ولكنهما مختلفتان ( !!! ) ، وكل منهما صحيحة ( !!! !!! !!! ) ، ما يجعل المسألةَ دليلاً على " المراوغة " وكأنها محاولة شكلية للفصل بين ما هو " إيماني " وما هو " عقلاني " بأن نجعل لكل منهما " مجالاً " بحيث لا يقوم بينهما أي اتصال !!! .
وواضح أن الهدف كان برأس مفكري الغرب وقتها أن يتمكنوا من إعلان " أفكار " و " وتصورات " مختلفة عن ، وبل ومتقاطعة مع ، أفكار وتصورات الكنيسة ضامنين ألا يقع بين الاثنين أي نوع من الصدام ... ذلك لأنه ثابت عجز الكنيسة عن إعطاء تبرير عقلي لأغلب ، بل قل لكل ، عقائدها !!! ما اضطرها ،الكنيسة ، لقبول هكذا وضع ، ولم تكن هي من فرَضَه ، وكان هناك ما هو أهم من " العقائد " ، فتلك يمكن ، على الأقل ، التغاضي عن البرهنة على صحتها بحجة أنها " غير خاضعة للملاحظة والتجريب " كما أنها لا تصلح أن تخضع لـ البحث والتحليل ، فتبقى " دعاوَى الكنيسة " في المسائل المادية الطبيعية ، كـ القول بأن الأرض هي مركز الكون ، وإن الشمس ، وكل الأجرام السماوية ، تدور حولها ، واعتبار أن القول بغير ذلك " مخالفة " للدين .
والشاهد أن الكنيسة حاولت ، أولاً ، التضييقَ على المفكرين والعلماء في محاولةٍ منها لستر عجزها أمام ما يقدمه هؤلاء المفكرون ، والعلماء ، من اكتشافات علمية لا توجد ، بالضرورة ، في الكتاب المقدس ، لكن ، ومع تنامي البحث العلمي أدواتٍ ونتائجَ ، كذا اشتداد عُود التيار العقلاني ، ثم تتابع مكتشفات العلم الطبيعي التي تناقض حكاياتٍ عديدةً في الكتاب المقدس ، اضطرت الكنيسة ، أخيراً ، إلى الاعتراف بحق الناس في استخدام عقولهم ، لكن ، وكـ حلاوة روح ، اشترطت الكنيسة : ألا يكون ذلك في الدين !!! بدعوى أن العقل لا يستطيع أن يصل إلى معرفة الله ، وأن الوصول إلى الله يكون بواسطة القلب والحب ، أو بنور يقذفه الله في قلب الإنسان فيحس به ويؤمن .
إذاً ، مثّلَ القولُ بالحقيقتين ، عند مفكري أوروبا العصور الوسطى ، وسيلةً لتمرير أفكارِهم حتى لا يقعوا تحت عقاب رجال الدين المسيحي ... فما الحقيقتان عندنا نحن المسلمين ؟ .
يُتْبع ...
 
رد: الحضارة الإسلامية و " إلهيات اليونان " ، ورقة في الفلسفة والسياسة :

فما الحقيقتان عندنا نحن المسلمين ؟ .
(5) :
إذا اعتبرنا أن طرح فكرة " الحقيقتين " محاولةٌ لإجازة " فكر " علمي في وقت كانت الحرب " المقدّسة " على أشدها ضد هكذا فكر ورجالِه ، فإن الأمر في حضارتنا كان تدليلاً على " اتصال " بين الحقيقتين ، بينما كان عند مفكري أوروبا العصور الوسطى كلاماً في " انفصال " كل حقيقة ، ونتائجها ، عن الأخرى .
هذا الطرح لدى مفكرينا المسلمين كان أقرب إلى الكلام في إشكالية " التأويل " منه إلى الكلام في " علاقة " قائمة بين ما هو " نقلي " ( = شرعي ) وما هو " عقلي " ( = فلسفي ) بالنظر إلى أن هذه العلاقة مما هو مفروغ منه في الذهنية الإسلامية .
ثابتٌ تاريخياً أن جهوداً كبيرة بُذلتْ على أيدي ، وقرائح ، مفكرينا بغيةَ وضع " قانون كُلّي " يحكم العلاقة بين العقل والنقل ؛ فعلى صعيد الكلام والأصول ، بدأ الأمرَ رجالُ الاعتزال ... فظهر " المغني " لقاضي القضاة ، ثم تلاهم الأشاعرة الذين هم ، في الأصل ، ذوو أصول / جذور اعتزالية ... فظهر " الإرشاد " للجويني الذي كتب في " القول في السمعيات " ، ثم ظهر " قانون التأويل " لأبي حامد الغزالي ، ثم جاء الرازي كممهد لابن تيمية ومشروعه البادي في " درء تعارض العقل والنقل " ، كذا في " الرد على المنطقيين " .
وعلى صعيد الفلسفة ، فقد ظهرت " رسالة إلى المعتصم " من وضْعِ الكندي ، وظهرت " رسالة أضحوية " من وضْعِ ابن سينا ، ثم ظهر " فصل المقال " من وضع ابن رشد أبي الوليد الحفيد كتنظير للفكرة ، وألحق به " الكشف عن مناهج الأدلة " و " تهافت التهافت " كتطبيق عملي لهكذا إشكالية عقدية فلسفية معاً .
إذاً ، نحن أمام قولين :
أحدهما منسوبٌ ، أو نتاجٌ ، للعقل / الفلسفة / الحكمة .
وآخر منسوب ، أو نتاج للنقل / الدين / الشرع .
الإشكالية ، عندنا نحن المسلمين ، أنه لا إشكالية بالمرّة ؛ فإنه إذا أقررنا أن مصدر كلٍّ من " الحقيقتين " مختلفٌ عن الآخر ، وهذا " الاختلاف " سيكون أمراً " منطقياً " بالنظر إلى " اختلاف " الأدوات والوسائل في كلٍّ . فهنا سنجد ابن رشد وهو يؤسس بُعداً جديداً ، حيث يخرج من هكذا " اختلاف " إلى أن الحقيقتين مختلفتان متغايرتان ، لكنهما ليستا ، كما ذهب الفكر الأوروبي ، متناقضتين ، ذلك لأن لكل من الحقيقتين مجالاً خاصاً بما لا يوجب " التناقض " الذي يفصل في " الجنس " ، بل القائم بين الحقيقتين ليس أكثر من " فصل " .
أسس ابن رشد الدعوةَ إلى بيان أن للآيات " ظاهراً " و " باطناً " ، ثم ، ونتيجة لتقسيم المتلقي إلى : عوام وعلماء ، يوجب الرجل على العلماء تجاوزَ الوقوف عند الظاهر كي ينفوا ، عند العامة ، ظنَّ وجودِ تعارض بين الدين والعقل ... وهذا التجاوز هو ، فقط ، لـ الخاصة ، أما العامة فلهم أن يقِفوا على ظاهر النص ، من حيث إن التأويل " يضرهم " . والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن " هو اختلافُ فِطرِ الناس وتباينُ قرائحِهم في التصديق " .
ويبقى أن نشير إلى أن الظاهر هو تلك " الأمثال " المضروبة لتلك " المعاني " ، والباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان ! ولهذا السبب نجد الرجل قد " حرّم " التصريح بالتأويل اليقيني لأهل الجدل ... فضلاً عن الجمهور .
... : " وإذا تقرّر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها ، وكان الاعتبارُ ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه ... وهذا هو القياس ، أو بالقياس ، فواجبٌ أن نجعل نظرَنا في الموجودات بالقياس العقلي . وبيِّنٌ أنّ هذا النحو من النظر هو أتمّ أنواع النظر بأنواع القياس - وهو المسمى برهاناً - وإذا كان الشرع قد حث على معرفة الله تعالى وموجوداته بالبرهان ، كان من الأفضل - أو الأمر الضروري - لمن أراد أن يعلم ... أن يتقدم أولاً فيعلم أنواع البراهين وشروطها " .
‏و ... : " نحن نقطع قطعاً أن كل ما أدّى إليه البرهان وخالفه ظاهرُ الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي . وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ، ولا يرتاب بها مؤمن . وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجرّبه ، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول " .
و ... : " وإذا كانت هذه الشريعة حقاً وداعيةً إلى النظر المؤدي إلى المعرفة الحق ، فإننا ، معشر المسلمين ، نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلَى مخالفة ما ورد به الشرع ؛ فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له " .
إذاً :
الشريعة توجب التفلسف .
الشريعة لها معان ظاهرة للعامة وأخرى باطنة للخاصة . وهذا يوجب التأويل أحياناً ، ولبعض الطبقات من الناس .
ضرورة وضع قواعد خاصة بتأويل النصوص .
تحديد مدى قدرة العقل والصلة بينه وبين الوحي .
وانتهى الرجل إلى أن الحكمة والشريعة ، أَو الدين والفلسفة ، : " أختان رضعتا لباناً واحداً " . و ... : " الحكمة هي صاحبة الشّريعة ، والأخت الرّضيعة لها ، وهما المصطحبتان بالطّبع ، المتحابّتان بالجوهر والغريزة " .
الشاهد أنه لم يقم ، في الفكر الإسلامي ككل ، " إشكال " أحقيقةٌ واحدة أم حقيقتان ! إنْ على صعيد الفلاسفة ، أو حتى على صعيد " علماء " الدين .
فمن القديم ... : " الشرعُ عقلٌ من خارج ، والعقلُ شرعٌ من داخل ، وهما متعاضدان ، بل متحدان "1 ، و ... : " النتائج اليقينية التي نستدلها من مقدمات يقينية ، إذا قيل لك خلافَها حكايةٌ عن أعظم خلق الله مرتبةً وأجلهم فى النظر والعقليات درجةً ، بل لو نُقل عن نبي صادق ، نقيضه ، فينبغي أن تقطع بكذب الناقل أو بتأويل اللفظ المسموع عنه . ولا يخطر ببالك إمكان الصدق ... إن كان ما عقلتَه يقينيا "2 .
ومن الحديث عند علمائنا المحسوبين ، عند علمانيينا ومتغربينا ، متشددين ... : " ليس مدار الانتفاع من هذا الكتاب ( = القرآن الكريم ) ، والبقاء على الصراط المستقيم ، واجتناب الضلالات في العقيدة والعمل ، إلا على نفس ذلك الشيء الذي أقيم عليه الدين من أول يوم ، أي : العلم والعقل "3 .
وهذا يعني ، في نهاية المطاف ، أنه ليس في الإسلام إلا " حقيقة واحدة " خلقها " الإله الواحد " ... فما يُحَس بالحواس ، أو يُعقل بالعقول ، أو يُتوصل إليه بطريق الوحي ، كل هذا يصدق بعضه بعضاً من حيث هو " حقيقة واحدة " .
---
1- معارج القدس للغزالي . وكلام الرجل ، هنا ، واضح في أن أصول الإسلام واضحةٌ بشأن استحالة أن يوحي الله ، عز وجل ، إلينا كلاماً يخالف يقينيات العقل الذي هو موهوب منه ، سبحانه ، إلينا .
2- نفسه .
3- الإسلام في مواجهة التحديات الحضارية للمودودي .
يُتْبع ...
 
رد: الحضارة الإسلامية و " إلهيات اليونان " ، ورقة في الفلسفة والسياسة :

(6) :
قصة الصراع :
من ذا الذي يُنكِر قيام " صراع " بين الفقهاء ( = علماء الشريعة ) وبين الفلاسفة ؟ !!! ، لكن ، وبما أن الفلسفة ، عند مثقفينا المتغربين ، هي مرادفٌ التفكير العقلاني ، فقد استدل بعضهم ، نيابةً عن الآخرين ، على أن الفقهاء لا بد وأنهم كانوا " ضد " هكذا تفكير عقلاني !!!!!!!!! .
لكن الأمر يظهره التاريخ على حقيقته ، وهو أن صراع الفقهاء لم يكن " ضد " التفكير الفلسفي في ذاته ، بل ضد " بعض " منتوج فكر " بعض " فلاسفتنا ؛ فالثابت أن " فقهاء " الأمة لم يسعوا لـ دحض أقوال الفلاسفة لأنها كانت " نتيجة " استخدام العقل ، بل لأنهم " رأوا " فيها " سوء استخدام " للعقل ... وليست هنا أية إشكالية : لا فيمن استخدم العقل فأنتج منتوجاً ما ، ولا فيمن رفض فنقد ، أو نقض ، منتوج المستخدم عقله السابق .
أما حكاية أن الفلسفة مرادف للتفكير العقلي ؟ !!! ... فالملاحَظ أن من مجالات الفلسفة ، وعلى لسان متخصصيها المعاصرين ، :
... : " هي نظرة شاملة تحيط بكل جوانب النشاط الإنساني فكراً وسلوكاً ... ؛ فالعلوم تقِف عند تخصصاتها لا تعدوها ، فالوجود ، والحياة بكل جوانبها ، والإنسان بكل ألوان نشاطه ، لا يمكن أن يكون موضوعاً لعلم واحد من العلوم " .
و ... : " كل علم يعمل في نطاق ميدان معين يرسم لنفسه مجموعة من القوانين والنتائج التى يؤمن بصحتها ، ولكن أي واحد منها لا يدخل في حسابه ربط النتائج التي وصل إليها بتلك التي حصل عليها غيره لرسم صورة عامة " .
هذا عن " المجالات " ، أما " الأهداف " :
... : " الفلسفة تمكننا من استشراف الأهداف البعيدة للإنسانية ، وتحفزنا على المساهمة فى تحقيقها ؛ فهي موقف إنساني من العالم ومن العصر ومن المجتمع يستوعب كل جوانب الإنسان " .
لكن رجال الوضعية المنطقية يرفضون أن يكون للفلسفة " الحق في أن تشيد لنفسها مذاهبها أو أنساقها الفكرية الخاصة ، بل عليها ، فقط ، أن تقتصر على مهمة التحليل المنطقى لجميع أشكال الفكر الإنسانى ، تاركةً للعلم مهمة تفسير الكون . على أن تؤسس نظريتها للمعرفة على تحليل نتائجه فحسب " . ما يعني أن تصبح الفلسفة " أحد النواتج الثانوية للبحث العلمى " .
وبهذه النظرة يصبح الفيلسوف هو من يحدد " الميدان " الذى سيعمل فيه . ويقتصر داخل هذا الميدان على بعض الموضوعات التي يسعى أن يعالجها . وهو ، بالطبع ، يختار ما يعتقد أنه " مهم " ، أو ما يجد فيه " الإشباع لميوله الخاصة " !!! .
إن ميول الفلاسفة ، وطباعهم ، وطبيعة العصر الذي يعيشون فيه ، لا تؤثر ، فقط ، على اختيارهم لموضوعاتهم ، بل أيضاً على " الطريقة " التى يعالجون بها دراسة هكذا موضوعات ، فلا غرابة ، مِن ثَم ، أن تؤثر هذه العوامل ، وواضح أنها عوامل شخصية ( = غير موضوعية ) ، على النتائج التى يصل إليها الفيلسوف .
... : " إننا لن نجد شيئاً محدداً نسميه " الفلسفة " ، فنحن مضطرون للتعامل مع " فلسفات " عديدة ، تختلف كل منها عن الأخرى ، ربما بعدد الفلاسفة الذين سنتعامل مع إنتاجهم . ومع ذلك فإن غالبيتهم يأبون أن توصف فلسفاتهم بأنها مجموعة من الافتراضات الفضفاضة التي تكتنفها بعض الجوانب الذاتية ، بل يصرون على أنهم يقررون الواقع ويعبرون عن الحقيقة " . ما يعني أنه ليس بالضرورة " أن نسلم لهؤلاء بما زعموه لمذاهبهم من بلوغ للمعرفة اليقينية " .
... : " إن جميع الأنظمة الفلسفية التي نتلقاها عن الفلاسفة من وقت لآخر ليست سوى روايات مسرحية تمثل عالماً خلقه الفلاسفة أنفسُهم بطريقة روائية مسرحية " .
هذه الطروحات لا تعني الرغبة في إلغاء كل الإنتاج الفلسفي ، بل على العكس ، هي تشدد على تسمية الأشياء بأسمائها ، فلا يعطى شيء أكبر من حجمه ، حيث لدينا لا فلسفة واحدة ، بل فلسفات متعددة كـ الفلسفة الماركسية التي بإمكان " المسلم " أن يرفضها دون أن يتهم بالعداء لـ الفلسفة ! وأيضاً كـ الفلسفة البراجماتية ( = النفعية ) التي بالإمكان أن يرفضها أحد الناس لأنه رأى غيرها من الفلسفات أكثر إقناعاً .
مما فات لنا أن نسأل : لماذا يصر علمانيونا على أن رفض علماء الإسلام لمنتوج فلسفي معين / محدد إنما هو رفض لكل أنواع التفكير الفلسفي ؟ !!! .
يبين التاريخ أن اعتراض فقهائنا على فلسفة ، أو بعض فلسفة ، الإغريق لم يكن من حيث هي " تفكير عقلي منظم " ، بل لِمَا ضمتْ من مقولاتٍ تخالف ، بشكل أو بآخر ، معتقداً ، أو أكثر ، من معتقداتنا نحن المسلمين . كما يبين التاريخ أن هكذا موقف من الفقهاء لم يكن إلا بعد " مناقشة " هذه المقولات ومن ثم " تفنيدها " تفنيداً قام ، وفقط ، على " بناءات عقلية " قبل أن يقوم على أدلة نقلية .
يُتْبع ...
 
رد: الحضارة الإسلامية و " إلهيات اليونان " ، ورقة في الفلسفة والسياسة :

(7) :
إذاً ، رأينا كيف أن متغربينا ، بذلوا الجهد لتأسيس في العقول فكرةَ أن الوافد اليوناني ، ومن ثم الفكر الغربي برمّته ، هو " الكمال كله " في العقل ومنهج التفكير السليم ، حتى أصبح المُعارِض لفكرة ، أو أكثر ، من الوافد اليوناني متهماً بما قال مالك في الخمر !!! . ثم بدءوا في عمل " الباقي " وهو هيْل التراب على حضارتنا ، فكان أن وسموها بأنها حضارة " نقل " لا معرفةَ لها ، إطلاقاً ، بالعقل ، ما يجعلنا نعذر المستشرقين الذين قالوا عنا شبيه ذلك .
وبناءً على المنهج التحليلي النقدي ، نُلزم أنفسَنا ، عقلاً ونقلاً :
- عقلاً ... : " من لم يقِفْ على منتهى علمٍ ، لن يقِفَ على فساده " .
- ونقلاً ... : " هاتوا برهانكم " !!! .
سنعرض لـ بعض النصوص الفلسفية سواء كان قائلها من اليونان ، أو كان من فلاسفتنا نحن المسلمين ، لنبين عنصر " الاستنفار " لدى الفقهاء الذين عارضوا هذا الطرح أو شبيهه ، فنعلم : هل كانوا محقين أم لا ! ، خاصة وأنه سيظهر ، في نهاية المطاف ، أن اعتراض فقهائنا لم يكن على " الفلسفة " كـ منهج للتفكير عقليٍّ ، بل على بعض منتوجاتها !!! بدليل أن من هؤلاء من قدم " مباحث " فلسفية راقية لم تتصادم مع معتقداتنا ، كما أنه لم يطلب أحدٌ إليهم أن " يخترعوا " هذه المباحث متماهيةً مع هذه المعتقدات ... والسبب في ذلك أن هؤلاء لم يصدروا عن " دونية " تنظر إلى حضارتنا نفوراً ، بل كانوا " أنداداً " للفكر الغربي الذي ترجموه فأخذوا منه ما يناسبنا ، وطرحوا الباقي ، ثم شرحوا وأضافوا ، وجاء الغرب الحديث ، ثم المعاصر ، ليأخذ هذا كله ويدّعي " بضاعتُنا رُدتْ إلينا " وأننا لم نكن سوى " جسر " عبرت عليه حضارة يونان إلى باقي أوروبا .
ثابت ، وبالتاريخ ، أن إنجازاتٍ فكريةً ذات شأن كبير في حيواتنا الفكرية والاجتماعية كانت تأسست حتى قبل أن يُترجم ، ثم يُشرح ، منطق اليونان ممثلاً في " أورجانون " أرسطو !!! بدليل ما نطالعه في الفقه وأصوله ، وهذا خادم لكثير من فروع العلوم الأخرى ، وهذا كله تم قبل أن تبدأ ، وتنشط ، عملية الترجمة ، ومن ثم يتعرف مفكرونا على الفكر اليوناني .
و " مثقفونا " ، متغربوهم تحديداً ، يقلبون المسألة ، فبدلاً أن يناقشوا : هل الذي في تراثنا من إرث فكري مؤسس على أبجديات عقلية أخذناها ، برمّتها ، عن اليونان ، أم كانت لنا " المناهج " الفكرية الخاصة بنا كتداعيات منطقية للحضارة الإسلامية القائمة على " التفكّر " ، راحوا يشغّبون على الذهنية المتلقية فأشاعوا أن فقهاءنا رفضوا " التفكير العقلاني " لمّا رفضوا " فلسفة الإغريق " ما يعني اتهامهم ، دون مواربة ، أن قدماءنا يرفضون الأخذ بالعقل ، ودليلِه ، بالأساس !!! .
ما فلسفة اليونان ؟ :
اشتُهر من فلاسفة اليونان طاليس وهيراقليطس وفيثاغورث وسقراط وأفلاطون وأرسطو ! ولا يعني ذلك قصرَ " الاشتهار " على هؤلاء فقط ، فهناك فلاسفة آخرون لهم باعٌ طويل في الطروحات الفلسفية ، لكن لهؤلاء المذكورين أن لهم أثراً ، أو أثاراً ، مهمة ، وخطيرة ، على الفكر ، ومن ثم العقل ، العربي والمسلم .
يجمع الفصيلَ الأكبرَ من فلاسفة يونان الاتجاهُ الماديُّ ، فهم بدءوا يسألون ، مندهشين ، : ما مبدأ الكون ؟ وما أصل الموجودات ؟ ...
وكان طبيعياً ، والقوم ، أغلبُهم ، وثنيون أن يقولوا بالمادة مفسراً لبداية ، ونشأة ، الكون والأشياء والأحياء .
إلا أن الملاحَظ أن من احتك من هؤلاء بحضارة الشرق تبنى وجهة نظر في الإلهيات تنحو إلى القول بوجود إله واحد أزلي ، ذلك دون أن يكون لدىهم " دينٌ " ذو وحي منزّل ، لكنهم اعتمدوا على أقيسة منطقية وبداهات عقلية ليصلوا إلى هكذا تصورات ، فلم لم يكن في ديانات الإغريق القديمة ما يؤسس للكلام في وحي وما إلى ذلك لشدة استغراقهم في الوثنية التي تأسست على مجموعة من الآلهة جعلوها تسكن جبال الأولمب ( منها اشتق اسم دورة الألعاب الأوليمبية ) ، وخلعوا عليها حتى الصفات البشرية غير الكريمة : فهي ترتكب حتى أعمال السطو والخطف ! بل والخيانة بأنواعها !!! . مثل هذا الطرح المتصل بـ " تصورات " عن " آلهة " دفع الباحثين إلى عدم الاعتماد عليه حال كان المراد السؤال عن الحقائق الأزلية الأبدية .
لكن تقوم أمامنا مفارقة جد طريفة : هناك غير حضارة قامت على فكرة " الوثنية " ... وربما قبل أن توجد هذه الحضارة بالأساس ... وذلك كـ حضارة قدماء المصريين التي مثّلت نوعاً " راقياً " من الفكر الديني ممثلاً في : آلهة ذات تخلّق والتزام كوني وبشري . ما يعني أن السبب وراء هكذا تصور للآلهة عند الإغريق كان شيئاً آخر غير " الوثنية " ، على ما فيها من عيوب وتناقضات ، ولّدَ عند القوم هذه التصورات ، وهي تصورات مشينة ، بحق ما قالوا عنه إنه " الإله " .
يُتْبع ...
 
رد: الحضارة الإسلامية و " إلهيات اليونان " ، ورقة في الفلسفة والسياسة :

(8) :
عاب حضارةَ الإغريق ، على وجه العموم ، أشياءُ :
- الوقوف ، بحثاً علمياً ، عند القضايا الفكرية ذات الطابَع التجريدي الصرف .
- غياب الاهتمام بما هو عملي ذو تعلق بمناشط الإنسان في حياته المادية من سياسة وأخلاق وإنتاج ... إلى آخر هذه الحقول التي يُنتظر أن ينزل إليها " المنظّرون " ليُحكم على " التنظير " بصحةٍ أو بُطلان .
- إهمال " التجريب " في التعامل مع " الطبيعي " .
- الاستعلاء على العمل اليدوي ، ونسبته ، فقط ، إلى " العبيد !!! .
... : " إن احتقار اليونان للأعمال اليدوية ابتعد بكل شخص ، باستثناء العبيد ، عن الاطلاع المباشر على عمليات الإنتاج ؛ فاستخدام الآلات ، والاتصال بها ، هو الذى يكشف عيوبها . لقد كانت إمكانية الاختراع الفني متوفرةً ، فقط ، لأولئك الذين ليست لهم رغبة فيه ولا يصيبهم أى نفع منه " .
- ... : " نحن لا نعتبر الإحساس معرفةً علمية ، لأنه لا يفسّر لنا السبب : فهو يعرّفنا أن النار ساخنة ، لكن لا يعرّفنا لماذا النار ساخنة " .
ونحن لا ننكر محاولات للدخول بالفلسفة اليونانية مجال " العمل " خاصة على يد سقراط الذي قيل إنه أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض .
هذا معناه أن الإغريق رأوا : " أن لكل شىء طبيعة هي القوة التي تصدر عنها آثار هذا الشىء في نفسه أو في الخارج " ، وأن العقل يمكنه أن يدرك " طبيعة الأشياء " ، وذلك بـ " الفكر المجرد " ما دفعهم لأن يعتمدوا الفكر المجرد وحده طريقةً إلى اكتشاف كل الحقائق .
ويبقى مَعْلمٌ مهم في تاريخ الإغريق ذو دلالة على أمرين :
- الأول ، أن القوم ، رغم وثنيتهم ، انتهوا ، بشكل أو بآخر ، إلى الإقرار بأن هذا العالم لا بد له من " قوة عليا " تقوم على شؤونه .
- أن العقل البشري قد يقدم الأدلة على " وجود " الإله ، لكنه يظل في حاجة إلى مصدر آخر يعرّفه الكثير مما له تعلق بهذا الإله ... كصفات هذا الإله ، وكيف هي علاقته بخلقه .
وهذه نماذج لمفكرين إغريق علها تكون إضاءات تبين صدق ما ندعيه :
• سقراط :
هو أول الهرم الذي يضم أكبر ثلاثة عقول بشرية : سقراط ، وأفلاطون ، ثم أرسطو .
عاصر الرجلُ السوفسطائيين ، بل كان واحداً منهم ، لكنه أزعجه أن تبدأ على يد هؤلاء ، وقد كانوا ، في الأصل ، معلمين ، عمليةُ " التحلل " عبر انهيار الأخلاق والقيم العليا التي رأى سقراط أنه لا يقوم مجتمع " صحي " اجتماعياً إلا بها ! فكان أول سعي له هو رد المعرفة إلى أساس " واحد " ما يعني أن تكون الحقيقة واحدة وليست متعددة ولا نسبية ، وذلك ليفوّت الرجلُ على السوفسطائيين ، محاولتهم ، بل محاولاتهم ، في تأسيس القيم على أساس التغير والنسبية حتى اشتهر عنهم أنهم يثبتون الشيء ونقيضه في وقت ، ومكان ، واحد !!! .
أحل الرجل العقلَ ، كأساس للمعرفة ، محل الحواس ، ما بفضي إلى الكلام في " حقائق ثابتة " ، ما يعني الإقرار بأحكام عقلية يتفق عليها الناس ، ثم ... تحديد " مباديء " أخلاقية لا يجوز الخروج عليها !!! ولهذا اجتمع عليه " المستفيدون " من سريان النسبية وميوعة القيم ، فتم إعدام الرجل ، الذي كان ، إلى جانب مثاليته الأخلاقية ، مؤمناً :
- بإله قال عنه إنه " أزلي أبدي متعال " .
- وبأن الموت ليس " النهاية العدمية " بل هو "حياة أخرى " .
- وبأن هناك " شريعة أخلاقية " وصفها بأنها " أبدية " لا يمكن أن تقوم على دين ضعيف كالذي آمن به الإغريق .
• أفلاطون :
التلميذ الأثير ، والأهم ، لسقراط ، بل إن " فضله " على الفكر الإنساني ليس يقلّ ، بحال ، عن فضل سقراط نفْسِه ؛ فهو من " أبقى " و " نقل " فكر ، وفلسفة ، سقراط إلى الفضاء المعرفي الإنساني ، حيث سقراط لم يكن يدرّس كتابةً ، بل شفاهةً ، ما جعل فلسفته عُرْضةً لأن تضيع لولا كتابات أفلاطون ( = المحاورات ) التي حفظت لنا فلسفة سقراط ، حتى قيل إن فلسفة أفلاطون ترديد لفلسفة سقراط لكنها مكتوبة .
طوّر أفلاطون فكرة سقراط في المعرفة ، فأقرّ : هي " عقلية " وليست " حسية " . لكن الرجل صعد بالأمر خطوة لأعلى فربط المعرفة بما عُرف في فلسفته بـ " نظرية المُثُل " !!! .
لا بد من " فكرة سابقة " لدى العارف لتصح معرفته ! ، فالإنسان " يعرف " / " يدرك " ما هو مشترك بين صور الموجودات ، كـ الحُسن والقبح مثلاً ، وذلك بطريق " العقل " لا بطريق " الحواس " ، إلا أن هذه " المعرفة " ، أو هذا " الإدراك " لازمٌ له ، كي يقابل ويقارن ، معرفةٌ / فكرة مسبقة كانت قبل هذه المعاني التي يدركها الإنسان ... هذه الـ معرفة ، أو الـ فكرة لا يمكن ردها إلى " العقل " وإلا لأصاب السوفسطائيون في تلاعبهم بالألفاظ فيصبح الحادث أن يعطي " كل أحد " الصفاتِ التي تؤيد وجهة نظره من حيث إنهم يقولون إن الحقائق نسبية ! فلم يبق إلا أن نقول إن لهذه " المعاني " ، وهي معانٍ كلية ، وجوداً حقيقياً مستقلاً ، وليست هي مجرد " أفكار " في ، أو لـ ، عقولنا . هذه المعاني الحقيقية المستقلة ذات وجود مفارق ، هي " المُثُل " التي يكون عليها كل فكرة ، أو معرفة ، عقلية .
إن نفوسنا ، قبل أن " تسقط " في " قيد " / " سجن " البدن كانت تحيا في هذا العالم المفارق : عالَم المُثُل ، فلما " هبطت " لتحل ، أو تسكن ، في الأجسام تغلب المادي المعاش على المثالي الذي كان معاشاً ، فنسيت النفس الإنسانية بعضاً ما كانت تحياه في العالم المثالي المفارق ، ومن ثم صيّر أفلاطون العلمَ تذكُّراً لتلك المثل ولهذا العالم ، ومن ثم يصبح الجهل نسيان هذه المثل وهذا العالم .
المثل هي :
- معانٍ مجردة .
- ووجودها من نفسها .
- وهي الأساس لكل شيء بينما هي لا تعتمد على أي شيء .
- وهي " ليست مخلوقةً لله " .
- وهي دائمة ( = أزلية أبدية ) .
- وهي ساكنة .
- وهي مفارقة للزمان والمكان .
ومع ذلك فأفلاطون يؤمن بـ " إله أزلي " يرى أنه " واجب الوجود " ، و " علة وجود العالم " ... لكن تبقى إشكالية الكيفية التي بها خلق الله هذا العالم ، حيث لم يقو أفلاطون على تصور أن يخلق اللهُ العالمَ من العدم ، فكان أن قال إن الأشياء مؤلفة من مادة وصورة ، والمادة الأصلية هى الهيولى التي لا صورة لها ، والإله " وجد " هذه المادة قديمة محايثة لوجوده ، فهو ولم يخلقها . كذلك الحال مع المثل المجردة ، هي موجودة ولم " يبدعها " الإله ، والذي حدث أن هذا الإله " شكّل " المادة على صورة المثل ، ما جعل الرجل يتكلم في " وجود أشرف " وآخر " أخس " مع أن الوجودين قديمان .
• أرسطو :
هو أشهر ، وإن لم يكن الوحيد ، من قال بقدم العالم قاصداً بذلك أن العالم " موجود بلا بداية ... ولا علة ... ولا سبب " ! فلا أول لهذا العالم زمانياً ، ولا فاعل / خالق له ( = الله لم يخلق هذا العالم ) إيجاداً عن ، و من ، عدم .
وقِدم العالم ، أو أزليته ، غير مقصورة على المادة دون الصورة ، ولا عليهما معاً دون الحركة !!! !!! !!! .
يتساوى وجودان : وجود العالم ووجود الله ، فلا يسبق وجودُ أحدِهما وجودَ الآخر !!! ما يُفضي إلى أن وجود الله ليس أسبق من وجود العالَم ، وهذا ، منطقياً ، يؤسس لأن لا تكون علاقة الله ، عز وجل ، بالعالم علاقةَ السبب بالنتيجة حيث " لا دخل للزمن فيها " وبديلاً عن العلاقة " السببية " يقدم لنا أرسطو العلاقة " المنطقية " فالله ، تعالى ، مقدمة ، والعالم نتيجة ، وفي المنطق تتقدم المقدمةُ النتيجةَ لا تقدماً " زمانياً " ، بل تقدماً " منطقياً " !!! .
الحركة عند أرسطو أزلية لا بدايةً زمنيةً لها ... فهو يرى أن الله ، كعلة أولى ، ثابت دون تغير لا في ولا في إرادته ولا في قدرته ، وحال نفترض زماناً لم تكن فيه حركة فلازم أن نقول بأنه لا حركة إلى الأبد !!! أو نرى أنه بما أنه قامت حركة ، فمعنى هذا أن " مرجّحاً " استدعى هذا الحركة التي هي دليل على " تغير " في الإله الذي لا " شيء " معه يُلزمه هكذا حركة ، كما أن قدرته لا تستدعي مرجحاً بحال ... إذاً ، كما يرى أرسطو ، الحركة أزلية ! والله لا يحرك العالم دفعاً ، بل العلاقة هنا علاقة " عشق " فالعالم " ينجذب " إلى الله تحركاً شوقياً ، لأن الله " كامل كمالاً مطلقاً " ، ما يعني التشديد على أن الرابطة ، هنا ، رابطة العشق من المعلولات لعلتها !!! . وهو ، سبحانه ، لا يفعل إلا " التفكير " / " التأمل " في نفسه ، ما يعني أن " لذته " و " حياته العليا " في تعقل ذاته ، وبالتالي فهو ، حاشاه ، يجهل هذا العالم لأن هذا العالم " أحط من أن يناله العلم الإلهي " !!!فالعالم عند الرجل أزلي نشأ عن " الشوق " إلى الله !!! .
والله لا يتدخل في إدارة الكون ، حيث هو لا يعمل أي شيء لأنه جوهر هذا الكون فيجب تنزيهه عن " العمل " ( نلاحظ احتقار أرسطو للعمل اليدوي ، والفخر بالتفكير حتى جاء الكثير من أبحاثه لا نتيجة " تجربة " بل نتيجة " فكر " ) ، كما أنه أعطى لكل موجودات الطبيعة طبيعةً تسيرها ، فكان أن سار العالم الطبيعي بحسب " طبيعة الأشياء " .
هذا عن تصور ، أو تصورات ، الرجل فيما له تعلق تعلق بالإلهيات !!! ونفس القدر نجده في تصوراته الطبيعية ، تلك التي أخذتها الكنيسة وأشاعت أن لها وجوداً في " الكتاب المقدس " حتى قيل إن الكنيسة مسّحت أرسطو ... : " السماء حيوان مطيع لله بحركته الدائرية ، والسماء موجود قديم ( = لا يرجع وجودُه إلى أي سبب سابق على وجوده ) ، غير قابل للفساد ، شامل العمل ، بسيط بلا ثقل ، متحرك بروح . فالحركة الدائرية لا يمكن أن تتحرك بغير روح ".
يُتْبع ...
 
(9) :
الطرح والطرح المقابل :
نحن ، كزاعمي موضوعية ، لا ننكر وجود كتابات لبعض علماء السلف تحوي " كلاماً " ضد الفلسفة ، وربما جاز اعتبار هكذا كلام هو أقرب إلى الشتم ، والهجاء ، من النقد الموضوعي ، كما يمكن اعتباره أقرب إلى تحريض " العوام " ضد الفلاسفة من تفنيد آرائهم ودحضها بالدليل العقلي لعقل ... نعم ، مثلُ هذه الكتابات موجودة ، لكن : لماذا " اختيار " هذه الكتابات ، دون غيرها ، لتكون الممثل لأفكار الفقهاء ؟ !!! نحن نتهم هكذا اختيار بأنه ليس يخلو من الغرض الذي هو ، تقول العرب ، مرض .
لن نتجاهل " خطابية " هؤلاء الموجهةَ إلى " وجدان " لا " عقل " الجمهور !!! ، حيث لا تخلو أي حضارة ، وأي ثقافة ، من هكذا صنف من الناس ، بحيث لا يصبح من فعل ذلك من فقهائنا بدعاً بين المفكرين وأصحاب " الأفكار " !!! : فماركس ، أو لينين ، مثلاً ، لم يقفا عند حد " النقاش الهادئ " مع مخالفيهما ، بل رأيا في خصومهما الشيوعيين ممن لا يرى رأيهما ، ولا نقول أعداءهما في الطرف المقابل : " انتهازية وجبناً وردة عن الاشتراكية " ، و : " خيانةً لنضال الجماهير " .
كذلك فعل الرفيق المقابل تنفيراً إنْ بالحق أو بالباطل .
الإنكار ليس " بدعاً " ! ؛ ففي تاريخ الفكر والثقافة نجد " البعض " يعبئ الأمة / يشحنها عاطفياً ضد ما تصور أنه فكر رأى فيه خطراً على أصولها الثقافية . ومع أننا لا ندافع عن هكذا " نوعية " من التعاطي مع الفكر المخالف ، إلا أننا نشير أن مثل هكذا تعاطي لا يزال يحدث في كل الثقافات حتى الآن . وكنا نتمنى لو استندت هذه " التعبئة " ، وهذا " الشحن " إلى " مواقف فكرية " تمّت بعد بحث ودراسة ، ولا تكون مجرد رفض للرأي بناءً على عدم المعرفة ، فقط ، به !!! لذا جاء قول الغزالي : " رد المذهب بلا دراية رمي في عماية " .
لا يعنينا أن علمانيينا ، ومتغربينا ، أشاعوا بيننا أن رفض فقهائنا إنما هو للفلسفة بحد ذاتها ، لأن " عدم العناية " هنا مستند على نصوص لفقهائنا المعتبرين .
... : " إن الفلسفة على الحقيقة - أى معناها وثمرتها والغرض المقصود نحوه بتعلمها - ليس هو شيئاً غير إصلاح النفوس . وهذا نفسه لا غيره هو الغرض فى الشريعة ، وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء بالشريعة ، اللهم إلا لمن انتمى إلى الفلسفة بزعمه وهو ينكر الشريعة بجهله على الحقيقة بمعاني الفلسفة وبعد عن الوقوف على غرضها ومعناها " .
و ... : " إن أعلى الصناعات الإنسانية منزلةً ، وأشرفها مرتبة ، صناعة الفلسفة التي حدها : علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان ؛ لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق ، وفي عمله العمل بالحق ، لا الفعل سرمداً ، لأنا نمسك وينصرم الفعل إذا انتهينا إلى الحق . وأشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى : أعني علم الحق الأول الذي هو علة كل حق ، فإن في معرفة الحق كمالاً الإنسان وتماماً لنوعه " .
و ... : " في علم الأشياء بحقائقها الربوبيةُ ، وعلمُ الوحدانية ، وعلمُ الفضيلة ، وجملةُ علم كل نافع والسبيل إليه ، والبعد عن كل ضار والاحتراس منه ، واقتناء هذه جميعاً هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثناؤه ، فإن الرسل الصادقة ، صلوات الله عليها ، إنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحده ، وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده ، وترك الرذائل المضادة للفضائل في ذواتها وإيثارها " .
هذه قيمة الفلسفة عند أصحاب هذه النصوص .
و ... : " أما ما كان منها ، يقصد البراهين الفلسفية ، في الموجودات التي وراء الحس ، وهى الروحانية ، ويسمونه العلم الإلهي أو علم ما وراء الطبيعة ( = الميتافيزيقا ) ، فإن ذواتها مجهولة رأساً ، ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها ؛ لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مُدرَك لنا ، ونحن لا ندرك الذوات الروحانية . لعل هناك ضرباً من الإدراك غير مدركاتنا ؛ لأن مدركاتنا مخلوقة محدثة ، وخلق الله أكبر من خلق الناس ، والحصر مجهول ، والوجود أوسع نطاقا من ذلك . وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه ؛ فالعقل ميزان صحيح ؛ فأحكامه يقينية لا كذب فيها ، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طور العقل ؛ فإن ذلك طمع في محال ".
العقل عند صاحب النص ، حال يعمل مستقلاً ، لا يمكنه إدراك ما وراء الطبيعة ؛ لأنه لم يُخلق للعمل في هذا المجال ، ولكنه " ميزان صحيح وأحكامه يقينية لا كذب فيها " إذا استُخدم في مجاله .
هذا هو تعليق صاحب النص الذي كان معدوداً ، بعصره ، إماماً لأهل السنة ، على " تشويشات" الأفلاطونية الحديثة في مسألة الفيض والعقول والنفوس ... والرجل كان متحرراً من " الدونية " ، فلم يقع تحت تأثير مقولة " العقل الفعال " التي وصفها غير دارس بأنها " خرافة " 1 .
بالطبع لم تكن كل اعتراضات الفقهاء موجهة إلى مزاعم قدمها الفلاسفة عاريةً من أى دليل ، أو كانت مستندةً إلى أوهام وخيالات لا عقلانية ؛ فقد كانت للفلاسفة محاكمات عقلية معقدة وصلوا بها إلى نتائج تخالف عقائد المسلمين ، وهذه فندها الفقهاء بالمناقشات العقلية العميقة.
هنا تميز اتجاهان :
- اتجاه أبي حامد الغزالي ، الذى ناقش مقولات الفلاسفة بالمنطق ، واستخدم مناهجهم الفلسفية نفسها الفلسفية لإثبات أنهم أخطئوا النظر . والرجل لم يعترض على " المناهج " بل على النتائج !!! .
- واتجاه ابن تيمية ، الذى عمل على البرهنة على أن هناك عيوباً في المنهج نفسه ، لا في طريقة استخدامهم لهكذا منهج فقط .
• اتجاه أبي الغزالي :
---
1- وهاك تعريفات للفلسفة تبين تجاوز مفكرينا ، فقهاءَ وفلاسفةً ، لتعاريف الإغريق وتفُوقها : ... : من الاشتقاق : هي حب الحكمة . ومن العمل : تمام الفضيلة بالتشبّه بالله بقدر الطاقة الإنسانية ، أو العناية بالموت ... بمعنى إماتة الشهوات كطريق إلى الفضيلة العلمية والخُلقية . ومن حقيقتها : هي صناعة الصناعات وحكمة الحِكَم ، هي معرفة الإنسان نفْسَه ، هي علم الأشياء الأبدية الكلية إنيتها ومائيتها وعللها بقدر الطاقة الإنسانية . وإن كل علم يُنظر فيه يقع تحت الفلسفة التي هي علم كل شيء .
يُتْبع ...
 
• اتجاه أبي الغزالي :
(10) :
رغم رفض ، ونقد ، الغزالي الكثير من المقولات التي قال بها الفلاسفة ، فإنه اعتمد نفس منهج من انتقدهم ، بل الرجل جعل دراسة المنطق من " فروض الكفاية " على المسلمين ... : " ينبغى أن يوجد بينهم ( أي : المسلمين ) ، على الدوام ، العالِمُ المتمكن منه ( أي : المنطق ) ، وإلا باءت الأمة كلها بالإثم " .
... : " نذكر في هذه المقدمة مداركَ العقول ، وانحصارها في الحد والبرهان ( الحد والبرهان أدوات رئيسة في مباحث المنطق ) ، وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ، ولا من مقدماته الخاصة به ، بل هي مقدمة العلوم كلها . ومن لا يُحط بها ، فلا ثقةَ بعلومه أصلاً " .
و ... : " لا أدّعى أني أزن بها ( = قوانين المنطق ) المعارفَ الدينية فقط ، بل أزن بها العلومَ الحسابية والهندسية والطبيعية والفقهية والكلامية " .
وتاريخ الرجل العلمي يكشف لنا أنه درس المنطق ودرّسه ، ثم استخدمه ضد الفلاسفة ليس على سبيل توهين منهجهم / طرقهم في البحث ، بل لبيان تهافت النتائج التي وصل إليها فلاسفة اليونان ومن تابعهم من فلاسفتنا . ما يعني أن " مقولات " الرجل تعتبر ، في الأساس ، مباحث في الفلسفة .
وعن السبب في دراسة الرجل للفلسفة والمنطق ، فذلك لأنه رأى " انصراف طائفة من النُظّار ( = أصحاب النظر العقلي ) عن وظائف الإسلام ( = تكاليفه وفرائضه ، الداخلة تحت الشرعيات ) ، وإعراضهم عن الدين جملةً ، مقلدين في ذلك شرذمة يسيرة من ذوي العقول المنكوسة والآراء المعكوسة ممن هالهم سماع أسماء ضخمة ، كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطو ، فتصنّعوا الكفر كي يتميزوا عن سواء الناس الغالب ، ظنا منهم أن الكفر من أمارات الفطنة والعلم " .
ولنا أن نلاحظ أن " تفنيد " الرجل آراء لهذا الفيلسوف أو ذاك ممن رأى في كلام أي منهما مخالفةً لما جاء به الوحي فى مواضيع عديدة ... كالقول بعدم علم الله بالجزئيات ، وبأن النفوس يستحيل عليها العدم بعد وجودها ، وإن الملائكة المقربين هي العقول المجردة التي هى جواهر قائمة بذاتها ، وإنكارهم بعث الأجساد ورد الأرواح إليها يوم القيامة ... إلخ إلخ إلخ ... هنا ، الرجل استخدم حججاً عقلية صرفة ، فلم يحتجْ ، قَط ـ بالنص الإلهي :
- ففي رده على فكرة أن الله " لم يصدر عنه إلا العقل الأول " ... : " الواحد لا يصدر عنه إلا واحد " . يقول : " يلزم من قولكم ألا يكون هناك شىء واحد مركب من أفراد ، بل تكون الموجودات كلها آحاداً ؛ فكيف إذن وُجدتْ هذه المرّكبات التي نراها في العالم ؟ ... أمِنْ علةٍ واحدةٍ ؟ ، فيبطل قولكم " لا يصدر عن الواحد إلا واحد " ، أو من علة مركّبة ؟ ، فيتوجه السؤال نفسه عن تركيب هذه العلة ( أي من أين جاءت العلة المركبة ) ؟ !!! . إذاً ، فلابد أن نصل ، إذا رجعنا في سلسلة الأسباب ، إلى شىء مركب صدر عن واحد .
- وفي قولهم إن المبدأ الأول ( = الله ) لم يفضْ عنه إلا العقل الأول ، وبتعقل العقل الأول لعلته صدر عنه عقلٌ ثانٍ وثالث وأفلاكٌ ونفوسٌ ... إلخ إلخ إلخ ، يقول : "ما ذكرتموه تحكّماتٌ لو حكاه إنسان عن منام رآه لاستدل به على سوء مِزاجه . وعلى رأيكم يكون المعلول أشرف من العلة ، من حيث : إن العلة ما فاض عنها إلا واحد وقد فاض عن هذا ثلاثة موجودات : عقل ونفس وفَلك . وأيضاً من حيث إن الأول ما عقل إلا نفسه ، والثانى عقل نفسه ونفس المبدأ ونفس المعلولات . إن من قنع أن يكون قوله في الله تعالى راجعاً إلى هذه الرتبة ، فقد جعله أحقر من موجود يعقل نفسه ويعقل غيره " .
لنا أن نلاحظ أن الغزالي يعتمد ، وفقط ، الحجة العقلية ، ولم يتطرق إلى الاحتجاج بالنصوص بحال1 .
- والرجل يتناول إشكالية قدم ، أو حدوث العالم ، حيث مقولة الإغريق ، وأكثر فلاسفة الإسلام ، بأن الله لم يخلق العالم من العدم ، فهو عالم قديم وليس له بداية ... مثله في ذلك كالله تماماً بتمام !!! .
والمتابع لبعض الطروحات العلمية المعاصرة يخلص إلى أن العلم الحديث ما عاد يقبل فكرة " أزلية العالم " هذه ! وربما سنرى كم كانت مفاهيم الغزالي عن الوجود والحركة والزمان والمكان بها الكثير مما يعد ملائماً للمفاهيم العلمية المعاصرة حتى !!! .
... : " إن رأي جماهير الفلاسفة ، متقدمهم ومتأخرهم ، هو القول بقدم العالم ، وأنه لم يزل موجوداً مع الله تعالى وغير متأخر بالزمان ، مساوقاً له مساوقةَ النور للشمس . وأن تقدُّم الباري هو كتقدُّم العلة على المعلول ، وهو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان . وهم يستدلون على ذلك بأدلة ثلاثة :
الأول : أنه يستحيل صدور حادث عن قديم ؛ إذ إن حدوث العالم بعد أن لم يكن يستلزم وجود مرجح طرأ على القديم ( = الله ) استدعى منه الإحداث ، ولكن إذا لم يستجد هذا المرجح فسيبقى العالم في نطاق الممكن ، ولكنه لن يحدث فعلاً . أما إذا استجد المرجح فمن الذي أحدث هذا المرجح ولم يكن هناك شىء مع القديم ؟ ولم حدث المرجح في هذا التوقيت ولم يحدث من قبل ؟ " .
الثانى : أن حدوث العالم عن القديم يبرز مشكلة " مدة التَّرْك " ، وهي المدة الزمنية التي انتظرها الخالق قبل أن يبدأ عملية الخلق ، فالزمان قبل الحدوث إذا كان متناهياً له مدة محددة ، يكون للقديم بداية قبل الحدوث تسبقه بهذه المدة ، ولا يكون بذلك قديماً لا بدايةَ له . أما إذا كان الزمان قبل الحدوث لا متناه ، فمعنى ذلك أن الحدوث لا يكون قد حدث حتى الآن لأن اللا متناهي – حسب تعريفنا للا متناهي - لا ينتهي أبداً ... إذن وجب ألا تكون هناك " مدة تَرْك " ، ويكون الموجِد متقدماً بالرتبة لا بالزمان .
الثالث : أن وجود العالم قبل حدوثه ممكن دائماص ، فلا توجد حالة من الأحوال يمكن أن يوصف فيها العالم بأنه كان مستحيل الوجود ثم أصبح بعدها ممكناً ؛ فإذا كان ممكناً وجوده منذ الأزل ، وهو موجود الآن ، فهو موجود منذ الأزل .
ثم الرجل يرد ... : " بم تنكرون على من يقول إن العالم حدث بإرادة أزلية قديمة ، لكنها اقتضت وجوده في الوقت الذي وُجِد فيه ، وإنها اقتضت أن يستمر العدم إلى الغاية التي استمر فيها ، وأن يبدأ الوجود حيث ابتدأ ، وإن الوجود قبله لم يكن مراداً فلمْ يحدث ؟ ... إن قلتم إن العقل يحكم ، بالضرورة ، باستحالة إرادة قديمة يحدث بها شىء متأخر عنها بدون مرجح ، فإن ادعيتم معرفة هذا بضرورة العقل ، فكيف لم يشارككم مخالفوكم في هذه الضرورة العقلية ؟ ( يقصد أن مقولة الفلاسفة التي اعتبروها مقدمة ، تحتاج هي نفسُها لإثبات ، فهي ليست من البديهيات التى تقبلها العقول بغير برهان ؛ فلو كانت بديهية لسلّم بها المخالفون كما يسلّم كل الناس بالبديهيات التي هي من ضرورات العقل ، مثل أن الكل أكبر من الجزء ، وأن النقيضين لا يجتمعان . لكن هذه المقدمة ليست بديهية وتحتاج إلى برهان ، والقوم لم يقدموه ) ، والفرقة المعتقدة بحدوث العالم بإرادة قديمة سابقة على حدوثه لا يحصرها بلد ولا يحصيها عدد ، ولا شك إنهم لا يكابرون العقول عناداً مع المعرفة ... لا بد من إقامة البرهان على استحالة ذلك ؛ إذ ليس في جميع ما ذكرتموه إلا مجرد الاستبعاد ، والتمثيل بعزْمنا نحن البشر وإرادتنا ( ذلك أن الإنسان إذا أراد شيئا فإنه لا يتراخى عن تنفيذه إلا بسبب العجز أو وجود ما يمنعه . ولما كان الله لا يعجز عن شىء ولا يمنعه مانع ، فلا بد - عند الفلاسفة - ألا يكون الخالق قد تراخى في الخلق ) وهو تمثيل فاسد ، فلا يصح أن تضاهي الإرادة القديمة بإرادة المخلوقات الحادثة . والاستبعاد المجرد لا يكفي من غير برهان " .
والرجل لا يكتفي بإثبات " الفساد المنطقي " لمقولتهم وافتقارها للدليل العقلي ، بل يأتي بفكرته عن الزمان ، وهي الفكرة التي نرى أنها قد سبقت عصرها بسنين .
إن " جرم " العالم متناه في أقطاره ، وتصور امتداد العالم إلى ما لا نهاية هو من " أخاديع الوهم " ، فالمكان - وهو تابع لامتداد العالم - متناه كذلك ، ولا يمكن " تصور " مكان خارج حدود العالم ! . والزمان هو قدر الحركة ، ... : " هو الحركة التي يستغرقها المتحرك في اجتياز مكان معين " ... وبما أن المكان متناهٍ ، لزم أن يكون الزمان متناهياً أيضاً .
يضاف إلى ذلك أن الزمان : " بدأ ببدء العالم " ، و : " حدث بحدوثه " ، فالله ، عز وجل ، خلق الزمان بمجرد خلق العالم !!! ما يعني أن " تصور زمان قبل زمان العالم خدعةٌ من أخاديع الوهم " .
هذا من كلام الغزالي ، فهل فيه " رفض " ، ناهيك عن " عداء " ، للفلسفة كـ منهج في التفكير ؟ ... أم الأمر ، والكلام بين أيدينا ، لا يعدو كونه رفضاً لنتائج فلسفية هي عبارة عن " مجموعة مقولات لا تتفق مع التفكير حتى المنطقي " ؟ .
الموضوعي ينتهي إلى أن طرح الغزالي طرح " عقلاني " لم يستخدم فيه ما يخوفنا به علمانيونا من " سلطة النص المقدس " على أمل إشاعة " نص فوبيا " فنترك النص إرضاء لهم فلا يبقى لنا لا " نَص " ولا " رضا " حيث لا مكان لـ الإمّعات !!! .
• اتجاه ابن تيمية :
---
1- نذكّر أن علمانيينا مصرون على أن " رجال الدين " لا يستطيعون السير طويلاً في البراهين العقلية .
يُتْبع ...
 
• اتجاه ابن تيمية :

(11) :
جاء بعد الغزالي1 ابنُ تيمية 2 ولم يفعل ما فعله سلفه ؛ فإذا كان الغزالي قد درس ، ودرّس ، الفلسفة والمنطق لأجل البحث عن الحقيقة ، فإن ابن تيمية درسهما لأجل بيان الباطل فيهما مما يتقاطع مع الإسلام بشكل أو بآخر ... : " ابن تيمية آمن بما جاء به الرسول أولاً ، ثم أراد أن ينفي عنه خبث الفلسفة ".
اعتمد الرجل ، كمنهج ، الآتي تسلسلاً : القرآن ، ثم السنة ، ثم فهوم الصحابة ، ثم فهوم التابعين .
بدأ الرجل مذهولاً لما قرأ ، عند بعض الفلاسفة المسلمين ، أن " أدلة القرآن ظنية " ما يعني أنها " لا تفيد اليقين " ! ما يعني أن يصير من " الفرض " ، بقول هؤلاء ، أن يلجأ المسلم إلى المنطق كما جاءنا عن أرسطو طاليس ليحوز الحكم اليقيني ... : " لو سُوّغ للناظرين أن يعرضوا عن كتاب الله ويعارضوه بآرائهم ، ومعقولاتهم ، لم يكن هناك أمر مضبوط يحصل لهم به هُدى ولا علم ؛ فالذين سلكوا هذا السبيل كلهم يخبر عن نفسه بما يوجب حيرته وشكه . فثبتَ بشهادته ، وإقراره على نفسه ، أنه لم يظفر من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه بيقين يطمئن إليه ، ولا معرفة يسكن بها قلبه . والذين ادّعوا في بعض المسائل أن لهم معقولاً صريحاً يخالف الكتاب قابلهم آخرون من ذوي المعقولات فقالوا : إن قول هؤلاء معلوم بطلانه بصريح المعقول ، فصار ما يدّعى معارضة الكتاب به من المعقول ليس فيه ما يجزم بأنه معقول صريح إما بشهادة أصحابه ، وإما بظهور تناقضهم ، وإما لمعارضة آخرين من أهل هذه المعقولات ؛ فإذا كان فحول النظر ، وأساطين الفلسفة ، لم يصلوا فيها إلى معقول صريح يناقض الكتاب ، بل إما إلى حيرة وارتياب ، وإما إلى اختلاف بين الأحزاب ، فكيف بغير هؤلاء " ؟ .
الفكرة ، هنا ، أن اختلاف الفلاسفة فيما بينهم ، ومعارضتهم بعضهم لبعض ، يؤكد أن الوسائل التي يتبعونها ليست يقينية ، وإلا لكان كل من يعرف كيف يستخدمها يصل إلى الحقيقة ، والحقيقة واحدة لا يختلف الناس بشأنها ؛ فهذا الاختلاف يؤكد أن المناهج الفلسفية إنما تقود إلى " نتائج ظنية " احتمالُ الخطأ فيها قائم ، ولا يمكن التعويل على مثل هذه المناهج في معارضة القرآن .
ثم الرجل يقول ، موضحاً الفكرة السابقة بشكل أوضح3 ، ... : " العلم الإلهي لا يجوز أن يُستَدل فيه بقياس تمثيلي يستوى فيه الأصل والفرع ، ولا بقياس شمولي تستوي فيه أفراده ؛ فإن الله سبحانه ليس كمثله شىء ، فلا يجوز أن يمثل بغيره ، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها . ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية ، لم يصلوا بها إلى يقين ، بل تناقضت أدلتهم " .
وإليكم بعضاً مما قدمه ابن تيمية لبيان " تواضُع " قيمة منطق أرسطو كـ أداة " تضمن " سلامة التفكير وصحة النتائج4 ، هذا ليتضح لنا الموقف الكلي للرجل من الفلسفة .
ونشير إلى أن للرجل " مناهجَ بديلة "11 وضعها كأصول طالَبَ بالاعتماد عليها ، وهي تعد ، برأينا ، دليلاً على " الإيجابية " التي هي أحد شروط الباحث الحقيقي ، إذ هي تبين أنه بحال رفض الباحث شيئاً لخصمه ، فإن عليه فرضَ أن يأتي بالبديل ... هذه " البدائل " ليست محل هذه الورقة .
- منطق أرسطو :
في المنطق ، ينقسم العلم قسمين : تصوري وتصديقي ، فالتصور يهدف إلى معرفة " حقيقة ما هو موجود " ، والتصديق يتعلق بإصدار " حكم " في ، أو على ، قضية معينة ... لذا جاء في مناهجنا الإسلامية ، والتي يمثّلها أصدق ، وأحسن ، تمثيل ، علم أصول الفقه ... جاء : " الحكم على الشيء فرعٌ على تصوره " !!! .
يقوم علم التصور على وضعية منطقية ، هي " الحد " وهو أحد مداخل التعريف ، حيث الآخر ، وبحسب فورفوريوس الصوري ، " الرسم " ... والحد هو : " القول الدال على ماهية الشىء " . والحد يقابل ، أو يقابله ، الرسم ، وهو " تعريف وصفي " ، وتعريفه : " قول مؤلف من أعراض الشىء وخواصه " . وبيّن أن التعريف بالرسم ليس يفيد التحصّل على " الماهية " ، ذلك لأنه يصف الشيء المراد تعريفه ، تمهيداً للحكم عليه ، من الظاهر فقط .
والحكم ، الذي هو " التصديق ، لا يتأتى ، بحسب منهج المنقودين ، إلا بالقياس المنطقي ... وهذا يتكون من : مقدمتين ، كبرى وتكون كلية لتكون يقينية . وصغرى جزئية ، ثم نتحصل منهما على نتيجة .
وهناك : " التمثيل " ، وهو " قياس الفقهاء " ، وفيه ، بوصف فقهائنا ، يضاف حكم شيء معلوم حكمه إلى آخر مجهول حكمه لاشتراكهما في علة الحكم .
كذلك ، فهناك : " الاستقراء " ويعرّفه فقهاؤنا بأنه " تصفح بعض الجزئيات لاستخراج حكم كلي مشترك ينسحب على كل الجزئيات الأخرى المشابهة التي لم تُفحَص " .
وبالعودة إلى أرسطو ، نجد أنه يرى أن كلاً من التمثيل والاستقراء " ليسا من القياس الصحيح " ، و " لا يفيدان اليقين " و " لا يصلحان للبرهان في قضايا المنطق " ! .
وفي المقابل ، فإن المناطقة يرون الآتي :
- سبُلُهم / طرائقهم في التحصيل هي ، وحدها ، التي تؤدي إلى " العلم اليقينى " .
- طرق الغير لا تصلح للعلم اليقينى .
وهنا يقف ابن تيمية ليفند هاتين المقولتين ... : " الدعوتان كاذبتان ؛ فلا طرقهم ( يقصد طُرُق المناطقة ) تقود ، حتماً ودائماً ، إلى العلم اليقيني ، ولا طرق غيرهم ، كلها ، عاجزة ، تماماً ، عن الوصول إلى العلم اليقيني .
ولنا أن نلاحظ " الدقة المنطقية " عند ابن تيمية :
- " حتماً " .
- " دائماً " .
وهاتان الكلمتان تعبران عن أن الرجل لم ينف وجود " علم يقيني " في المنطق الذي هو ينقده ... وينقضه ! كل ما في الأمر هو شيء من التواضع العلمي لدى المنطقيين اليونان وأتباعهم المسلمين فلا يدّعون أن اليقين بصفهم " حتماً " و " دائماً " .
- " كلها " .
- تماماً " .
وهاتان الكلمتان تعبران عن أن الرجل ينفي أن يكون منهج غير المناطقة اليونان ، وأتباعهم المسلمين ككل ، وبشكل تام ، غير مؤدٍّ لليقين . كما أن الكلمتين تعبران عن " اجتمالية " وجود خطأ حتى في منهج الفقهاء ! وهذا قمة التواضع العلمي . حيث الصواب قد يصيبه مخالفي ، وحيث الخطأ قد يصيب منهجي ... : " رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب " .
" الحد " و " الحقيقة " عرْض ونقد :
فيما له تعلق بـ التصور ، جاء قول الرجل ... : " إنه ( = في قولهم ) لا تحصلُ التصوراتُ إلا بـ الحد ، فهذه قضية سالبة وتحتاج إلى إثبات ، وليست بديهية ؛ فمن أين لهم هذا ؟ . وإذا كان هذا قولاً بلا علم ، كان أولَ ما أسسوه القول بلا علم أساساً لميزان العلم الذي يزعمون ( = يعرّفونه ) أنه آلة قانونية تعصم مراعاتُها الذهنَ أن يزلّ في فكره . إن الحد هو مجرد قول الحادّ ( = الشخص الذي يضع الحد ) ودعواه ؛ فإنه إذا قال : حد الإنسان – مثلاً - أنه الحيوان الناطق ، أو الضاحك ، هذه قضية خبرة ، ومجرد دعوى خالية من حجة ؛ فإما أن يكون المستمع لها عالماً بصدقها من دون هذا القول أو لا يكون ؛ فإن كان عالماً بصدقها ثبتَ أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد ، وإن لم يكن عالماً بصدقها فإنه بمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم ، كيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله ؟ . فقد تبين أنه على التقديرين : ليس الحد هو الذي يفيد معرفة المحدود " .
قد يكون صواباً القول إن كلام ابن تيمية " يصعب تفنيده " ؛ إذا لم تكن تعرف ماهية الشىء ، فعلاً ،فلن يمكنك قبول " الحد " الذي يدعي القوم أنه ماهية هذا الشىء ؛ لأن إجراءات المنطق ، كما جاءنا عن الإغريق ، لا تنطوي على عملية إثبات صحة الحد ؛ فكيف يصرون على أن التصورات لا يمكن تحصيلها إلا بالحد ، في حين أن التصور يجب أن يكون موجوداً بالفعل وإلا لم يمكن قبول الحد ؟ .
وفي " نقض المنطق " يقدم ابن تيمية ستة عشر وجهاً ضد أن الحد هو السبيل الوحيد لتصور ماهية الشىء ... فمثلاً ، وكدليل على عقلية منطقية غاية في التدقيق والتنظيم :
... " إن الله جعل لابن آدم من الحس الظاهر والباطن ما يحس به الأشياء ويعرفها ، فيعرف بسمعه وبصره وشمه وذوقه ولمسه الظاهر ما يعرف ، ويعرف أيضاً بما يشهده ويحسه بنفسه وقلبه ما هو أعظم من ذلك . أما الكلام فلا يتصور أن يعرف بمجرده مفردات الأشياء إلا بقياس تمثيل أو تركيب ألفاظ . وليس شىء من ذلك يفيد تصور الحقيقة ؛ فالمقصود أن الحقيقة إنْ تصَورَها بباطنه أو ظاهره استغنى عن الحد القولي ، وإن لم يتصورها بذلك امتنع أن يتصور حقيقتها بالحد القولي . فإن من عرف المحسوسات المذوقة – مثلاً – كالعسل ، لم يفده الحد تصورها ، ومن لم يذق ذلك ، كمن أخبر عن السكّر وهو لم يذقه ، لم يمكن أن يتصور حقيقة الكلام بالحد ، بل يمثل له ويقرب إليه ، ويقال له طعمه يشبه كذا ، أو يشبه كذا وكذا . وهذا التشبيه والتمثيل ليس هو الحد الذي يدّعونه . وكذلك المحسوسات الباطنة ، مثل الغضب والفرح والحزن والغم والعلم ... ونحو ذلك ؛ من وجدها فقد تصورها ، ومن لم يجدها لم يمكن أن يتصورها بالحد ، ولهذا لا يتصور الأكمه ( = المصاب بعمى الألوان ) الألوان بالحد ، ولا العِنّين ( = العاجز جنسيا ) الوقاع ( = الاتصال الجنسي ) بالحد ؛ فإذن القائل بأن الحدود هي التي تفيد تصور الحقائق ، قائل للباطل " .
" القياس " و " اليقين " عرْض ونقد :
وفيما له تعلق بـ التصديق جاء قول الرجل ... : " إنه لا يُعلم شىء من التصديقات إلا بالقياس . هذا هو قياس الفلاسفة الشمولي لا قياسَ الفقهاء التمثيلي !!! وهذه هذه قضية سلبية نافية ليست معلومة بالبديهة ، ولم يذكروا على هذا السلب دليلاً ، فصاروا مدّعين ما لم يبينوا الدليل ؛ فمن أين لهم أنه لا يمكن لأحد من بني آدم أن يلم شيئاً من التصديقات التي ليست عندهم بديهية إلا بواسطة قياسهم المنطقي الشمولي ؟ . وقالوا : العلوم اليقينية لا تحصل إلا بالبرهان - الذي هو عندهم القياس الشمولي - وعندهم لا بد فيه من مقدمة تكون قضية كلية موجبة ... فلا بد من العلم بتلك القضية أنها كلية ؛ إن كان العلم بها بديهياً أمكن أن يكون كل واحد من أفرادها بديهياً بطريق الأولى ( لا يحتاج إلى برهان ) ، وإن كان نظرياً ( = يكون الوصول إليه بالنظر العقلي ) احتاج إلى علم بديهي ( ليعمل كمقدمة في البرهان) ، فيفضي هذا إلى الدور المُعْيِى ، أو التسلسل ، وهو باطل عقلاً ( أي أن المقدمات إما أن تكون هي نفسها بديهية ، أو يلزم للبرهان على صحتها استخدام مقدمات بديهية ) . وما من قضية من هذه القضايا الكلية التي تجعل مقدمة في البرهان إلا والعلم بالنتيجة ممكن بدون توسط ذلك البرهان " . ثم الرجل يضرب أمثلةً ... منها :
- ... : " كل إنسان يعلم أن الشىء لا يكون متحركاً ساكناً معاً ، ولا يحتاج إلى معرفة القضية الكلية ( كل ضدين لا يجتمعان صدقاً ) ... وهكذا في كل ما يعلم تضادهما ؛ إذا علم تضاد المعنيين علم أنهما لا يجتمعان صدقاً ( فهذا لازم في العقل من لوازم التضاد ) . وإن لم يعلم تضادهما لم يغنه العلم بالقضية الكلية ( كل ضدين لا يجتمعان صدقاً ) . إن معرفة أن هذين المعنيين ما داما ضدين فلن يجتمعا صدقاً يمكن الوصول إليها بدون العلم بالمقدمة الكبرى ( إن كل ضدين لا يجتمعان صدقاً ) ؛ فلم يفتقر العلم بذلك إلى القياس الذي خصوه باسم البرهان " .
إذاً ، فالرجل يرى يرى أن حاصل القياس المنطقي ، في الغالب الأعم ، ، لا يزيد عن إثبات ما هو ثابت بالفعل ، كقولنا " كل إنسان حيوان ، وأحمد إنسان ، إذن أحمد حيوان ". فلو لم يكن المرء يعرف ، مِن قبل ، أن الإنسان أحمد هو حيوان ، لما أمكنه قبول أن كل إنسان حيوان .
في المنهج العلمى :
لا يعني ما سبق أن ابن تيمية " ينكر " قيمة القياس المنطقي بشكل قطعي ، بل كل ما في الأمر أن الرجل يرى أن ما ذكره مَن ينقدهم ، أو ينقضهم ، مِن صور القياس ومواده ، مع كثرة التعب العظيم ، ليس له فائدة علمية ، بل كل ما يمكن علمه ، عبر هكذا قياس ، يمكن علمه بدونه . أما ما كان في الموجودات الجسمانية ( = العلم الطبيعي ) ، فوجه قصور في القياس المنطقي أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التى تستخرج بالحدود والأقيسة ، وبين ما في الخارج / الموجودات المادية في الطبيعة غير يقينى ؛ ... : " فتلك أحكام كلية ذهنية عامة ، والموجودات الخارجية متشخصة بموادها . ولعل في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي ، إلا ما يشهد له الحس من ذلك ، فدليله شهوده بالحس لا تلك البراهين ، فأين اليقين الذي يجدونه فيه ؟ " .
هنا تبرز الفكرة الأساس للرجل ... وهي الفكرة التي نشأ حولها منهج البحث العلمي التجريبي الحديث فيما بعد ، وتقوم على أساس أن الأشياء الموجودة في الطبيعة يجب " فحصُها " وإجراءُ " التجارِب " عليها لمعرفة خصائصها ، ولا يصلح في " العلم الطبيعي " قياسات منطقية ولا تأملات عقلية . و ... : " إذا كان هذا يبدو لك بديهياً واضحاً الآن ، فإن أرسطو كان ، في الواقع ، يختلف معك تماماً " .
هكذا ، وبنصوص ابن تيمية ، فالرجل " لا يعترض " على " منطق أرسطو " " اعتراضاً " على " التفكير العقلي ، بل هو يعترض على :
- قول المناطقة إن " هذا المنطق " هو " الطريق الوحيد " لليقين ؛ فهناك " طرق أخرى " غيره .
- قولهم إنه طريق مضمون ؛ فهو يراه لا يوفر " ضمانة أكيدة " ، فيجوز أن يصيب أو أن يخطئ ، ثم المنطقي ، بعد ذلك ، ... يطوّل العبارة ، ويبعد الإشارة ، ويجعل القريب من العلم بعيداً ، واليسير منه عسيراً " ... ثم الرجل يرى جدوى المنطق في البحث العلمي الذي ينبغي أن يقوم على " الملاحظة " و " التجريب " .
فهل لنا ، وأمامنا النصوص ، أن نقول إن الرجل كان ، في كل ، في كثير من ، اعتراضاته ، يسلك منهجاً عقلياً ؟ .
المنطق والعلم المعاصر :
عسانا نكون قد أبنّا خطأ ما ذهب إليه علمانيونا إلى أن علماء المسلمين " رفضوا المنطق ؛ لأنهم رأوا أن التفكير المنطقي سيبعد بالمسلمين عن الإيمان " ، بل على العكس ؛ لقد احتفى بعض أهم علماء السلف بالمنطق ، واستخدمه هذا البعض لإثبات أن الفلاسفة هم الذين أساءوا استخدامه .
أما من هاجموا المنطق ، كابن تيمية ، فلم يهاجموا " التفكير العقلي " ، بل أرادوا حماية العقل وإطلاقه من استلاب المنطق الأرسطي الصوري إلى رحابة الفكر المنظم المستقيم بكل طرقه .
لقد كانت هذه هي الإرهاصات الأولى لسير العقل في الطريق إلى بناء المنهج العلمي التجريبي الحديث للبحث ؛ فالعلم الحديث لم ينطلق إلا بعد أن تحرر من منطق أرسطو وسار في الطريق الذي كان ابن تيمية من أوائل من سلكوه نحو الاستقراء المنهجي .
أرسطو رأى أن القياس المنطقي ، الذي يبدأ من قضية كلية ، هو الطريق " الوحيد " للوصول إلى معرفة يقينية . أما الاستقراء ، فلم يعترف به إلا إذا تم تصفح كل جزئيات الموضوع . أما تصفح بعضها لاستنتاج حكم وتعميمه ، بعد ذلك ، على سائر الأفراد ، فلم يعتبره منتجاً للعلم اليقيني ، ولكن العلم الحديث أقام بنائه كله على فحص بعض العينات وإجراء التجارب عليها واعتبار أن النتائج تصف خصائص كل الأفراد المتشابهة لا العينات موضوع البحث فقط . وهذا هو ، بالضبط ، الاستقراء الذي دافع ابن تيمية في منهجه التجريبي عن قيمته في مجال البحوث الطبيعية .
... : " إن ما يثير فينا الاستياء من أرسطو ، في المقام الأول ، هو إصراره على المنطق ؛ فهو يعتقد أن القياس المنطقي هو وسيلة الإنسان الصحيحة للتفكير السليم ، مع أنه مجرد وسيلة يلبس فيها المرء تفكيره لإقناع عقول الآخرين . وهو يفترض أن الفكر يبدأ بالمقدمات ثم يبحث عن نتائجها ، بينما في الحقيقة يبدأ الفكر بالنتائج الافتراضية ، ويبحث عن مقدمات تبررها " .
لقد كانت بداية المنهج العلمي التجريبي في أوروبا عندما قام فرانسيس بيكون - ويصفه بعض مؤرخي الفلسفة بأنه أعظم عقل في العصور الحديثة - بتأصيل أسس الاستقراء المنهجي ، وذلك بعد ابن تيمية بأربعة قرون .
... : " إن خطأ فلاسفة اليونان الكبير هو أنهم صرفوا وقتاً كبيراً في النواحي النظرية والقليل في الملاحظة والبحث العلمي ، ولكن الفكر يجب أن يكون مساعداً للملاحظة لا بديلاً عنها " . و ... : " والآن ، بعد ألفي سنة من تخريط المنطق وفرمه بالآلة التي اخترعها أرسطو ، سقطت الفلسفة القديمة إلى درجة فقدت احترام الجميع . يجب أن نقذف بجميع نظريات القرون الوسطى والجدل والحوار والنظريات التي تحتاج إلى إقامة البرهان بعيداً وننساها " .
وفي غير كتاب لبيكون يقوم بالهجوم على أرسطو وتلامذته في العصور الوسطى ، وعلى الاستدلال القياسي ... : " إن القياس المنطقي لا يطبق على المبادئ الأولية للعلوم ، ويطبق ، عبثاً ، على البديهيات الوسطى ، وهو في هذا لا يباري الطبيعة دقة ، وهو يقود إلى التسليم بالقضية شكلاً ويهرب منه الموضوع " .
كما نجد أشد من هذا عند روجر بيكون ... : " لو تركت لي الحرية ، لأحرقتُ كتب أرسطو جميعاً ؛ وذلك لأن دراستها لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الضياع وإلى الخطأ وزيادة الجهل " .
هذه نصوص لرواد " النهضة " في أوروبا العصور الوسطى ، ولنا أن نقارن بين " معناها " ومعنى كلامٍ لمن هاجم المنطق الأرسطي من " سلفنا " ، ومن بعض هذا الكلام ما استشهد به علمانيونا ، كقول ابن الصلاح " من تمنطق فقد تزندق " !!! .
نحن نرى أن منطق أرسطو أداة طيبة لعرض الأفكار وإدارة الحوار ... عندما يبدأ المتحاوران في وزن المقدمة الكبرى ، فإن اتفقا بشأنها ، فقد قطعا " نصف المشوار " إلى تفاهم قد يكون ، بعد ، كاملاً ؛ فإذا عالجا المقدمة الصغرى واتفقا بشأنها ، فقد صار قبول النتيجة أمراً ميسوراً ، وإذا اختلفا حول شىء ما في المقدمات ، فقد " حررا " موضع الخلاف ليتعاملا معه بهدوء . لكن اتفاق المتحاورين لا يعني ، بالضرورة ، أنهما قد وصلا إلى علم يقيني واتفقا حول الحقيقة ؛ فاتفاقهما على المقدمات لا يضمن ، في حد ذاته ، أنها صحيحة .
... : " إن المنطق يزن الاستدلال ولا ينشئ الدليل ؛ فهو يقيس مادة الدليل ، ولكنه لا يوجِد هذه المادة . ومثله في ذلك كل العلوم الآلية ؛ فعلم العَروض لا يزيد مادة الشعر ولا يعطي المتكلم عبارات . وعلوم النقد البياني تزن مراتب الكلام وأسرار بلاغته ، ولا تمد المتكلم بأساليب البلاغة والصور البيانية . وتعلمُ المنطق والعلوم الفلسفية لا نحتاج إليها لنؤمن ، ولكن يسوغ تعلمها ذودا عن الإسلام وحماية له ومجادلة بالتي هى أحسن ؛ فعساهم يهتدون . ومن استمر منهم على غير ذلك ، كان في دراسة أساليبهم ما يفحمه ويلجمه . فالمنطق ، بحدوده وأشكال القياس المنطقي ، وضروب التمثيل ، يوضح الزيف في القول . ويكفي أن يوضع الكلام الزائف في شكل قياس منطقي ، وتعرف الحدود في كل أجزائه ، ويعرف العموم والخصوص في مقدماته ، ليتبين الخبيث من الطيب . ولكن المنطق لا يمكن أن يكون ، وحده ، طريقاً للإنتاج العقلي ؛ فإن ذرائع الإنتاج العقلي لا تتقيد بالمنطق . قد يكون ميزاناً ضابطاً ، ومع ذلك ليس هو وحده طريق الضبط العلمي ؛ فإن سلامة الفطرة واستقامة العقل قد تغني عنه كل الغناء " .
---
1- عاش في القرن الخامس الهجري ، ما بين 450هـ إلى 505هـ / 1058م إلى 1111م .
2- عاش ما بين 661هـ إلى 728هـ .
3- الموافقة .
4- لا يعني سوْقنا أدلة ابن تيمية موافقتنا ، بالضرورة ، على " كل " الموقف ، بل هذا إجراء " موضوعي " نبين به " جهد " أحد " سلفنا الصالح " نفياً لاتهام البعض ، حتى من بني جلدتنا ، أن السلف كان ضد " التفكير " كـ تفكير !!! .
انتهى .
 
تنبيه: نظرًا لتوقف النقاش في هذا الموضوع منذ 365 يومًا.
قد يكون المحتوى قديمًا أو لم يعد مناسبًا، لذا يُنصح بإشاء موضوع جديد.
العودة
Top Bottom