باب في القضاء والقدر وأحكامه والتوكل على الله عز وجل

ابو عمر البلدي

:: عضو مُشارك ::
الحمد لله كثيرا والصلاة والسلام على الهادي بشيرا ونذيرا وبعد ما جاء باب في القضاء والقدر وأحكامه والتوكل على الله عز وجل للعلامة الابشيهي رحمه الله قال
اعلم أن كل ما يجري في العالم من حركة وسكون وخير وشر ونفع وضر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية، فكل بقضاء الله وقدره، وكذلك فلا طائر يطير بجناحيه ولا حيوان يدب على بطنه ورجليه، ولا تطن بعوضة ولا تسقط ورقة إلا بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته، كما لا يجري شيء من ذلك إلا وقد سبق علمه به. واعلم أن كل ما قضاه الله تعالى وقدره، فهو كائن لا محالة كما أن ما في علم الله تعالى يكون فهو كائن قريب، وما قدر الله وصوله إليك بعد الطلب فهو لا يصل إليك إلا بالطلب، والطلب أيضاً من القدر فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن اتفق شيء فبتيسيره، فمن رام أمراً من الأمور ليس الطريق في تحصيله أنه يغلق بابه عليه ويفوض أمره لربه، وينتظر حصول ذلك الأمر، بل الطريق أن يشرع في طلبه على الوجه الذي شرعه له فيه.
وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين واتخذ خندقاً حول المدينة حين تحزبت عليه الأحزاب يحترس به من العدو وأقام الرماة يوم أحد ليحفظوه من خالد بن الوليد، وكان يلبس لأمة الحرب ويهيئ الجيوش ويأمرهم وينهاهم لما فيه من مصالحهم، واسترقى وأمر بالرقية، وتداوى وأمر بالمداواة، وقال: الذي أنزل الداء أنزل الدواء، فإن قيل: قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استرقى أو اكتوى فهو بريء من التوكل، قلنا: أليس قد قال: اعقلها وتوكل. فإن قيل: فما الجمع بين ذلك؟ قلنا معناه من استرقى أو اكتوى متكلا على الرقية أو الكي، وأن البرء من قبلهما خاصة، فهذا يخرجه عن التوكل، وإنما يفعله كافر يضيف الحوادث إلى غير الله. وقد أمرنا بالكسب والتسبب. ألا ترى أن الله قال لمريم عليها السلام: " وهزي إليك بجذع النخلة " فهلا أمرها بالسكون وحمل الرطب إلى فمها وأنشدوا في ذلك:
ألم تر أن الله قال لمريم ... وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها ... جنته ولكن كل شيء له سبب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً، فلم يحمل أرزاقها إليها في أوكارها بل ألهما طلبه بالغدو والرواح " . وقد جمعوا بين الطلب والقدر فقالوا: إنهما كالعدلين على ظهر الدابة، إن أحمل في واحد منهما أرجح مما في الآخر سقط حمله وتعب ظهره وثقل عليه سفره، وإن عادل بينهما سلم ظهره ونجح سفره وتمت بغيته. وضربوا فيه مثالا عجيباً، فقالوا: إن أعمى ومقعداً كانا في قرية بفقر وضر لا قائد للأعمى ولا حامل للمقعد، وكان في القرية رجل يطعمهما قوتهما في كل يوم احتساباً لله تعالى، فلم يزالا بنعمة إلى أن هلك ذلك الرجل فلبثا أياماً واشتد جوعهما وبلغ الضر منهما جهده، فأجمع رأيهما على أن الأعمى يحمل المقعد فيدله المقعد على الطريق ببصره، فاشتغل الأعمى بحمل المقعد ويدور به ويرشده إلى الطريق وأهل القرية يتصدقون عليهما، فنجح أمرهما ولولا ذلك لهلكا. فكذلك القدر سببه الطلب، والطلب سببه القدر وكل واحد منهما معين لصاحبه، ألا ترى أن من طلب الرزق والولد ثم قعد في بيته لم يطأ زوجته ولم يبذر أرضه معتمداً في ذلك على الله واثقاً به أن تلد امرأته من غير مواقعة، وأن ينبت الزرع من غير بذر، كان عن المعقول خارجاً ولأمر الله كارهاً.
قال الغزالي أما المعيل فلا يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبراً لضعفهم وتسكيناً لقلوبهم وقد أدخر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوت سنة، ونهى أم أيمن وغيرها أن تدخر شيئاً، وقال: أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا. وقال عبد الله بن الفرج: أطلعت على إبراهيم بن أدهم، وهو في بستان بالشام فوجدته مستلقياً على قفاه، وإذا بحية في فمها باقة نرجس، فما زالت تذب عنه حتى انتبه. فحسبك توكل يؤدي إلى هذا. وعن عبد الله الهروي قال: كنا مع الفضيل بن عياض على جبل أبي قيس فقال: لو أن رجلا صدق في توكله على الله ثم قال لهذا الجبل اهتز لاهتز، فوالله لقد رأيت الجبل اهتز وتحرك، فقال له الفضيل رحمه الله تعالى: لم أعنك رحمك الله فسكن،
وقيل: إن سبب بداية ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه رأى طيراً أعمى بعيداً عن الماء والمرعى، فبينما هو يتفكر في أمر ذلك الطائر، فإذا هو بسكرجتين برزتا من الأرض إحداهما ذهب والأخرى فضة، هذه فيها ماء والأخرى فيها قمح، فلقط القمح وشرب الماء. ثم غابا بعد ذلك فذهل النون، وانقطع إلى الله تعالى من ذلك الوقت
ويروى عن سيدنا عيسى عليهم الصلاة والسلام مر بفخ منصوب وإذا بطائر قريب منه. فقال له الطائر: يا نبي الله: هل رأيت أقل عقلا ممن نصب هذا الفخ ليصيدني به وأنا أنظر إليه؟ قال: فذهب عنه ثم رجع وإذا بالطائر في الفخ، فقال له: عجباً لك ألست القائل كذا وكذا آنفاً. فقال: يا نبي الله إذا جاء الحين لم يبق أذن ولا عين. انتهى
اسال الله العلي القدير لي ولكم حسن الختام في الدارين
 
العودة
Top Bottom