التفاعل
10.3K
الجوائز
2.5K
- تاريخ التسجيل
- 8 جانفي 2010
- المشاركات
- 10,646
- آخر نشاط
- الوظيفة
- تاجر

الفتن الصماء
الحمد لله الذي هدى أولياءه لدين الإسلام، أحمده سبحانه على جزيل الفضل والإنعام، وأشكره على ما أولاه من التوفيق والإلهام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق السلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير معلم وإمام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فمن علامات الساعة التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: اقتتالُ فئتين عظيمتين من المسلمين، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة".
وقد حدث ذلك في عهد عليٍّ -رضي الله عنه-، والطائفتان هما: طائفة علي -رضي الله عنه- ومن معه، وطائفة معاوية -رضي الله عنه- ومن معه، وقد وقعت الحرب بينهما في معركة صفِّين، سنة ستٍّ وثلاثين من الهجرة، وحصل فيها من البلاء ما يُذهِب العقول، ويُحيِّر ذوي الألباب.
وهذا حال الحروب، فإنها إذا أقبلت استشرف لها الناس وكأنهم نالوا المرغوب وظفروا بالمطلوب, فإذا وقعت وذاق الناس مرارتها, ومسَّهم لهيبُ حرارتها, وَدُّوا أن لم يكونوا قد خاضوا لججَ بحارِها، ولم يقتحموا أسوارها، وقد كانت العرب تقول: الحربُ غشوم لأنها تنالُ غيرَ الجاني.
وقيل لعنترة الفوارس: صف لنا الحرب, فقال: أولها شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى.
الحربُ أول ما تكون فَتِيَّة
تسعى بزينتها لكل جهولِ
حتى إذا حميت وشَبَّ ضرامُها
عادت عجوزًا غيرَ ذاتِ حليلِ
شمطاء جزَّت رأسها وتنكَّرت
مكروهةً للشَّم والتقبيلِ
والحرب بين الناس سجال، والرأي فيها أبلغُ من القتال, وفي حكمة سليمان بن داود -عليهما الصلاة والسلام-: الشرُّ حلو أوله، مُرٌّ آخرهُ.
والحربُ تركب رأسها في مشهدٍ
عُدِل السفيه به بألف حليمِ
في ساعةٍ لو أنَّ لقمانًا بها
وهو الحكيمُ لكان غيرَ حكيمِ
وإذا كان هذا الحال فيما يجري بين الناس بسبب الحروب، فكيف إذا كانت هذه الحرب قد دارت رحاها بين خير الناس -بعد الأنبياء- أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! لا شك أنها فتنة وأيما فتنة، وبلاء أيما بلاء.
لما قُتِل عثمان -رضي الله عنه- مظلومًا، وحاز مرتبةَ الشهادة التي بشره بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، بايع الناسُ عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، إلا معاوية بنَ أبي سفيان -رضي الله عنه- وقد كان أميرًا على الشام، فقد رفض أن يبايع عليًّا حتى يسلِّم له قتَلَة عثمان، وقد كان قتَلةُ عثمان في جيش عليٍّ، وسبب مطالبة معاوية بدمِ عثمانَ لأنَّ معاوية وليُّ دمِ عثمان، ولأنه صار رأس بني أمية.
وقد دخل أبو مسلم الخولاني وناس معه على معاوية فقالوا له: أنت تنازع عليًّا أم أنت مثلُه؟ فقال: لا والله، إني لأعلم أنَّ عليًّا أفضل مني, وإنه لأحقُّ بالأمر مني, ولكن ألستم تعلمون أنَّ عثمان قُتِل مظلومًا وأنا ابنُ عمه, وإنما أطلبُ بدمِ عثمان، فأْتوه فقولوا له: فليدفع إليَّ قتلةَ عثمان وأسلِّم له, فأَتَوا عليًّا فكلَّموه بذلك فلم يدفعهم إليه, لأنه لم يكن قادرًا على تسليمِ قتلةِ عثمان لمعاوية أو أن يقيم الحدَّ عليهم, وذلك لأنهم عند البيعة كانوا هم المستولين على زمامِ الأمر, ولما اجتمعوا إلى أهل العراقِ كانوا في مَعقِل قوَّتهم حيث تحصَّنوا بقبائلهم, فخاف عليٌّ -رضي الله عنه- إنْ قتلهم أن يُفتَح عليه بابٌ لا يغلق, فكان الأمر عليه شديدًا -رضي الله عنه-.
وعند ذلك جهَّز عليٌّ جيشًا قِوامه مائة وعشرون ألفًا لمواجهة أهل الشام, وحاول الأشتر النخعي وهو أحدُ قتلة عثمان -وكان في جيش علي- أن يثبِّط قومَه عن القتال, وذلك أنه كان يطمعُ أن يجعله عليٌّ على إمارة البصرة فجعل عليها ابنَ عباس -رضي الله عنهما-, فغضب لذلك وضعف حماسه عن القتال, وهذا شأن أهل الباطل، إنما هم طلابُ دنيا وليسوا من الآخرة في شيء، فإن أُعطوا منها رَضُوا وإن لم يُعْطَوا منها إذا هم يسخطون.
وارتحل عليٌّ إلى الشام لحرب معاوية, ولا يزال يسير بجيشه حتى نزل على صِفِّين، وهو موقعٌ قريبٌ من الرَّقة على شاطئ الفرات, وكان معاوية -رضي الله عنه- قد عسكر في صفين بجيشٍ قوامُه تسعون ألفًا، وقد تقابل الجيشان أكثر من شهر, ولم يحدث بينهما التحامٌ أو مواجهة طمعًا في الصلح, وكان عليٌّ ومعاوية أطلبَ لكفِّ الدِّماء، ولم يكونا يريدان القتال، ولكن كان في الجيش من أهل الأهواء المتغلِّبين الذين يُحرِّضون على القتال حتى نشبت الحرب الطاحنةُ بين الفريقين.
ومرَّ كعبٌ التغلبي بالناس, وقد وثبوا إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها فقال:
أصبحت الأمة في أمرٍ عجبْ
والملك مجموع غدًا لمن غلب
فقلتُ قولًا صادقًا غير كذبْ
إنَّ غدًا تهلك أعلامُ العربْ
الحمد لله الذي هدى أولياءه لدين الإسلام، أحمده سبحانه على جزيل الفضل والإنعام، وأشكره على ما أولاه من التوفيق والإلهام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق السلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير معلم وإمام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فمن علامات الساعة التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: اقتتالُ فئتين عظيمتين من المسلمين، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة".
وقد حدث ذلك في عهد عليٍّ -رضي الله عنه-، والطائفتان هما: طائفة علي -رضي الله عنه- ومن معه، وطائفة معاوية -رضي الله عنه- ومن معه، وقد وقعت الحرب بينهما في معركة صفِّين، سنة ستٍّ وثلاثين من الهجرة، وحصل فيها من البلاء ما يُذهِب العقول، ويُحيِّر ذوي الألباب.
وهذا حال الحروب، فإنها إذا أقبلت استشرف لها الناس وكأنهم نالوا المرغوب وظفروا بالمطلوب, فإذا وقعت وذاق الناس مرارتها, ومسَّهم لهيبُ حرارتها, وَدُّوا أن لم يكونوا قد خاضوا لججَ بحارِها، ولم يقتحموا أسوارها، وقد كانت العرب تقول: الحربُ غشوم لأنها تنالُ غيرَ الجاني.
وقيل لعنترة الفوارس: صف لنا الحرب, فقال: أولها شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى.
الحربُ أول ما تكون فَتِيَّة
تسعى بزينتها لكل جهولِ
حتى إذا حميت وشَبَّ ضرامُها
عادت عجوزًا غيرَ ذاتِ حليلِ
شمطاء جزَّت رأسها وتنكَّرت
مكروهةً للشَّم والتقبيلِ
والحرب بين الناس سجال، والرأي فيها أبلغُ من القتال, وفي حكمة سليمان بن داود -عليهما الصلاة والسلام-: الشرُّ حلو أوله، مُرٌّ آخرهُ.
والحربُ تركب رأسها في مشهدٍ
عُدِل السفيه به بألف حليمِ
في ساعةٍ لو أنَّ لقمانًا بها
وهو الحكيمُ لكان غيرَ حكيمِ
وإذا كان هذا الحال فيما يجري بين الناس بسبب الحروب، فكيف إذا كانت هذه الحرب قد دارت رحاها بين خير الناس -بعد الأنبياء- أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! لا شك أنها فتنة وأيما فتنة، وبلاء أيما بلاء.
لما قُتِل عثمان -رضي الله عنه- مظلومًا، وحاز مرتبةَ الشهادة التي بشره بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، بايع الناسُ عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، إلا معاوية بنَ أبي سفيان -رضي الله عنه- وقد كان أميرًا على الشام، فقد رفض أن يبايع عليًّا حتى يسلِّم له قتَلَة عثمان، وقد كان قتَلةُ عثمان في جيش عليٍّ، وسبب مطالبة معاوية بدمِ عثمانَ لأنَّ معاوية وليُّ دمِ عثمان، ولأنه صار رأس بني أمية.
وقد دخل أبو مسلم الخولاني وناس معه على معاوية فقالوا له: أنت تنازع عليًّا أم أنت مثلُه؟ فقال: لا والله، إني لأعلم أنَّ عليًّا أفضل مني, وإنه لأحقُّ بالأمر مني, ولكن ألستم تعلمون أنَّ عثمان قُتِل مظلومًا وأنا ابنُ عمه, وإنما أطلبُ بدمِ عثمان، فأْتوه فقولوا له: فليدفع إليَّ قتلةَ عثمان وأسلِّم له, فأَتَوا عليًّا فكلَّموه بذلك فلم يدفعهم إليه, لأنه لم يكن قادرًا على تسليمِ قتلةِ عثمان لمعاوية أو أن يقيم الحدَّ عليهم, وذلك لأنهم عند البيعة كانوا هم المستولين على زمامِ الأمر, ولما اجتمعوا إلى أهل العراقِ كانوا في مَعقِل قوَّتهم حيث تحصَّنوا بقبائلهم, فخاف عليٌّ -رضي الله عنه- إنْ قتلهم أن يُفتَح عليه بابٌ لا يغلق, فكان الأمر عليه شديدًا -رضي الله عنه-.
وعند ذلك جهَّز عليٌّ جيشًا قِوامه مائة وعشرون ألفًا لمواجهة أهل الشام, وحاول الأشتر النخعي وهو أحدُ قتلة عثمان -وكان في جيش علي- أن يثبِّط قومَه عن القتال, وذلك أنه كان يطمعُ أن يجعله عليٌّ على إمارة البصرة فجعل عليها ابنَ عباس -رضي الله عنهما-, فغضب لذلك وضعف حماسه عن القتال, وهذا شأن أهل الباطل، إنما هم طلابُ دنيا وليسوا من الآخرة في شيء، فإن أُعطوا منها رَضُوا وإن لم يُعْطَوا منها إذا هم يسخطون.
وارتحل عليٌّ إلى الشام لحرب معاوية, ولا يزال يسير بجيشه حتى نزل على صِفِّين، وهو موقعٌ قريبٌ من الرَّقة على شاطئ الفرات, وكان معاوية -رضي الله عنه- قد عسكر في صفين بجيشٍ قوامُه تسعون ألفًا، وقد تقابل الجيشان أكثر من شهر, ولم يحدث بينهما التحامٌ أو مواجهة طمعًا في الصلح, وكان عليٌّ ومعاوية أطلبَ لكفِّ الدِّماء، ولم يكونا يريدان القتال، ولكن كان في الجيش من أهل الأهواء المتغلِّبين الذين يُحرِّضون على القتال حتى نشبت الحرب الطاحنةُ بين الفريقين.
ومرَّ كعبٌ التغلبي بالناس, وقد وثبوا إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها فقال:
أصبحت الأمة في أمرٍ عجبْ
والملك مجموع غدًا لمن غلب
فقلتُ قولًا صادقًا غير كذبْ
إنَّ غدًا تهلك أعلامُ العربْ