محمد عاطف العراقي

د.سيد آدم

:: عضو مُتميز ::
إنضم
28 مارس 2014
المشاركات
787
نقاط التفاعل
472
النقاط
23
(1) :
هو أحد " آخر الرجال المحترمين " في عالم التعليم بوجه خاص ، والثقافة بوجه عام ! .
أثار الكثير من " المعارك " الفكرية التي راقت للبعض ، وصدمت البعض الآخر . ونشهد أن الرجل أثار كل هذا الكم من هكذا معارك ولا هم له إلا تنوير العقول لمنحها القدرة على الوصول إلى الحقيقة والحق ، بصرف النظر : هل اتفقت النتائج مع قناعاته أم لم تتفق ، فكان شعاره أنه يمضي في طريقه بدافع حب الخير للآخرين .
- عاطف العراقي بين " عربية " الفلسفة و " إسلاميتها " :
كان ، رحمه الله ، يقف بصف القائلين إن فلسفتنا ، ومن ثم حضارتنا برمتها ، عربيةٌ ! ما يعني خطأ القول إنها " فلسفة إسلامية " ! وللرجل حججه التي اقتنع بها وساقها للمخالفين عساهم يقتنعون كما اقتنع هو .
القضية أثيرت على بساط البحث أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، أثارها عربيةً ، أولاً ، بعض مثقفي الشام ، وكان وراء ذلك دوافع " قومية " ربما كان منها رفضهم " الدولة العثمانية " حيث نظروا إليها باعتبارها ممثلة لـ " الخلافة الإسلامية " !!! ثم أثارها ، بعد ، حزب البعث العربي الاشتراكي ، وكان وراء ذلك ، التسمية بالعربية ، عوامل سياسية بحتة !!! .
والحجة هنا أن مفكرينا ، حتى غير العرب ، كتبوا كل الذي كتبوا باللغة العربية ، بصرف النظر عن " إسلاميتهم " .
وببرهن الفريق الآخر القائل بـ " إسلامية " فلسفتنا لموقفه بالآتي :
• المستشرقون أنفسهم ، لم يسموا " فلسفتنا " عربيةً .
• علم الكلام ، والذي جاء في جزء من تعريفه ( هو علم الدفاع عن العقيدة الإسلامية بالأدلة العقلية ) ، يماثل " اللاهوت " في الديانات غير الإسلامية . ثم هذا يقابل اللفظ الإنجليزي Islamic Theology وهو يعني " علم الإلهيات الإسلامي " .
• يسمى التصوف الإسلامي أو التصوف المسيحي أو التصوف اليهودي ... بل وحتى البوذي ! ، تأسيساً على أن التصوف " ظاهرة عالمية " يأخذ بها " أي " و " كل " دين سماوياً كان ، أم كان غير سماوي ! ولا يصح القول " تصوف عربي " ، لأنه لم يقترن ، ابداً ، لا بالقومية ، ولا باللغة .
• فلاسفة الإسلام ، وهؤلاء ممثلو الجانب العقلي في الإسلام ، تكلم كل منهم ، على حدة ، في " التوفيق بين الدين والفلسفة " ، ما يعني أهمية بيان العلاقة بين الدين وبين الفلسفة ... ولعل أشهر ما كُتب في ذلك هو كتاب ابن رشد " فصل المقال " والذي يدور ، بالأساس ، حول العلاقة بين الحكمة ، وهي الفلسفة ، وبين الشريعة ، وهي الدين .
• قدامى الأساتذة المتخصصين ، كمصطفى عبد الرازق ، كتب في " تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية " ! ومحدثوهم ، كعبد الرحمن بدوي ، كتب في " مذاهب الإسلاميين " .
إن قول بعض المستشرقين إن فلسفتنا " يونانية بلغةٍ عربية " خطأ كبير ، مرده إلى اعتماد هؤلاء على بعض الكتابات التي ثبت أن كاتبها قد أخطأ كثيراً لما تكلم في الفلسفة الإسلامية خالطاً بين آراء أرسطو وآراء أفلوطين .
لقد طالبنا مفكرينا ، وهم يأخذون من الفلسفة ، والحضارة ، السابقة عليهم أن يتبينوا مواطن القوة ليأخذوا بها ، ومواطن الضعف لينبّهوا عليها ، ثم يعرضوا عنها ... ما يعني أننا لا ننكر " قوة " الفلسفة اليونانية ، لكن اللفظ لا يجب أن يطلق هكذا " على عواهنه " ؛ فلكل فلسفة " موطن قوة " ، وقد تمثل هذا ، بالنسبة للفلسفة اليونانية ، في مبحث " السياسة " نظراً وعملاً ... خاصة ما كتبه أرسطو في " نظم الأثينيين " و " السياسة " .
لهذا السبب جاء " ثراث " الإلهيات لفلاسفة الإسلام الأشد ضعفاً من أي مبحث آخر بحثوه ؛ ويأتي الفارابي دليلاً على صدق هذا الزعم ، حيث الرجل ، وهو يتناول السياسة ، أوغل في الميتافيزيقا ، بينما أرسطو صنفها ضمن " العمليات " ... أي العلوم العملية !!! .
والأمر على غير ذلك في مبحث " الإلهيات " ، لأسباب كثيرة ، لعل أهمها : تصور اليونان للدين من حيث هم "وثنيون " ، كذا تصورهم لـ " الإله " الذي بات عندهم كصانع الساعة : أوجدها عن غيرها ، ثم لا شأن له بها !!!!!! .
لم يحالف الفلاسفةً المسلمين الحظُّ وهم يكتبون في الإلهيات بحسب الفهم اليوناني ؛ فليس المفكر المسلم مفتقراً ليأخذ " إلهياته " من اليونان ذوي التصور البعيد ، كل البعد ، عن التصور الإسلامي ، إذ قام التصور اليوناني للإله على أنه مجرد محرك أول لم يخلق ، ولا يهمه ، العالم ، وتبقى علاقة الله بهذا العالم " علاقة العاشق بالمعشوق " ليس إلا !!! ، بينما الله ، بحسب التصور الإسلامي ، خالق مريد مدبر ... لا يغيب عنه مثقال ذرة ، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .
يُتبع ...
 
(2) :
عاطف العراقي : " التراث " ما له ، وما عليه :
لا يقف عاطف العراقي موقف الرافض للتراث ككل ، بل الرجل يجعل للتراث الاحترام ... كل الاحترام من حيث وجوبية الاستناد إلى " أصل / جذر " ، شريطة ألا تتحول هذه الوجوبية إلى إعاقة تمنع الأمة أن تنهض ، ذلك يكون حين يتم " الاستناد إلى اجترار الماضي ، والإشادة بعظمة أجدادنا ، وكأن مجرد الحديث عن عظمة الأجداد من جانبنا سيؤدي إلى إلزام مفكري العالم بالتسليم بعظمة فكرنا العربي الحالي " .
يقف عاطف العراقي بصف من يرى أن نقد هذه الفكرة أو تلك لا يعد جرحاً لهذا العَلم أو ذاك من رجالنا الأقدمين .
ولعل هذا أن يقدم لنا رؤية " صحيحة " لقيمة التراث تبتعد به ، جداً ، عن مجرد الترديد / التكرار / الاجترار ، وتجعله في موضعه المأمول عبر تدبره من خلال سياقه التاريخي الذي ورد فيه ، ثم فهم مقاصده / مراميه التي تغياها .
إن النقد يعد ، برأينا ، نوعاً من الشك المنهجي المحمود ، ذلك الشك المهم في حضارتنا ، حيث نتبين أن السهيلي ، شارح سيرة ابن هشام ، يؤكده ... فـ " هذا أمر لا يسلم منه أحد " . بل إن أبا حامد الغزالي يرى " أن من لم يشك لم ينظر ، ومن لم ينظر لم يبصر ، ومن لم يبصر بقي في متاهات العمى والضلال " .
تعتمد رؤية العراقي للتراث على ما أسماه " ثورة من الداخل " ؛ تلك التي تسعى " للمواءمة بين الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا ... أو نفلت منه ، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا ... أو نفلت منها " .
تعاملت مع التراث ثلاثة اتجاهات :
الأول : اتجاه احتمى بالتراث ككل ؛ حيث وجد فيه ، بظنه ، " منظومة متكاملة ، هي أقرب إلى القداسة ، تمتلك الحقيقة المطلقة وكل علم ممكن ؛ فلديها كل الكشوف العلمية حتى ما لم يُكتشف ، ولديها قوانين تنظيم المجتمع وقواعد الحريات السياسية والإنسانية وقوانين الاقتصاد الكامل وقوانين التربية النهائية " . وهذا دفع البعض لأن يعلن " احتمينا بالنصوص فدخل اللصوص " يقصد لصوص الفكر والعقل ، هؤلاء الذين سرقوا منا كيف نفكر ليومنا وغدنا ، وجعلونا أسارى ماضٍ علّه يأتينا ببطل / منقذ !!! . وستبقى الجماهير مرتكزة على هذا " التمني " واجدةً فيه العزاء النفسي عن حاضر أليم لا تستطيع ، أو قل لا تريد ، تغييره ... وهذا أغلب الظن ، بل هو جملة اليقين .
ولعل في هذا الاتجاه " طاووسية " مفرطة ؛ فأهل الماضي " رجال " اجتهدوا وفهموا ، ونحن " رجال " لنا أن نجتهد ونفهم كما اجتهدوا وفهموا . إضافةً إلى أن هذا الاتجاه يضع " سقفاً " لتساؤل العقل ، ما يجعله ، العقل ، فاقدَ الأهلية لأن يكون " عقلاً " فيتنحى ليصبح " مُخاً " بيلوجياً ، قصارى وظائفه الحفظ والاستظهار .
الثاني : اتجاه تربصي اعتمد منهج الإقصاء ، فكان أن أراد " بتر التراث بتراً " حتى تمنى أصحاب هذا الاتجاه " أن يأكلوا كما يأكل الغرب ، ويجدّوا كما يجد الغرب ، ويلعبوا كما يلعب الغرب ، ويكتبوا من اليسار ( الصحيح ، لُغوياً ، أن نقول " الشمال " لا اليسار !!! ) إلى اليمين كما يكتب الغرب " .
وواضح ما بهذا الاتجاه من عدم إدراك لخصائص الواقع العقدي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي للأمة ، ما جعله عاجزاً أن يحتوي أفرادها ، فضلاً عن اقتناعهم به .
الثالث : اتجاه يحترم تجارِب الآخرين ، ويقدر لماضيه خبرته فيحاول الموازنة / الملائمة بين ما كان ( = التراث ) وبين ما يريد أن يكون .
يرفض عاطف العراقي الاتجاه الأول ؛ فلا شك أن في تراثنا " ما يستند إلى الخرافة ويدعو إليها ، ولا بد أن نستبعده لأنه لا يصلح أساساً نقيم عليه فكرنا ( = نهضتنا ) مستقبلاً " .
وبنفس القدر ، يرفض العراقي الاتجاه الثاني ، فهو ، الاتجاه ، يعبر عن " ثورة من الخارج " ، من حيث كون العراقي يرفض أن تكون تصوراتنا الفكرية " نابعة من ثقافة الغرب ، فليس هذا ما أدعو إليه لأننا نعتقد أن رفض التراث العربي كليةً يعبّر عمّا نسميه ثورة من الخارج ، وهذه الثورة لا تصلح بأي وجه من الوجوه أن تكون دعامة على أساسها نقيم مستقبلاً لفكرنا العربي " .
ثم ينحاز العراقي ، من حيث إنه مفكر مصري عربي مسلم ، إلى الاتجاه الثالث ، فإن لدينا " جوانب مشرقة في تراثنا القديم ، فلنأخذ هذه الجوانب المشرقة التي تعبّر عن قيم خلاّقة ، مثّلها مفكرون من أبناء وطننا العربي كمحمد عبده وطه حسين وعبد الرحمن الكواكبي وزكي نجيب محمود ، ومفكرون إسلاميون كمحمد إقبال . إن هؤلاء كانوا ، بأفكارهم ، معبرين عما نسميه ثورة من الداخل ، أي ثورة من داخل الفكر ، ولم يكونوا معبرين عن الثورة من الخارج ، تلك الثورة التي ترفض ، أساساً ، تراثنا العربي ، وتدعو إلى جعل قيم الغرب ، وثقافته ، هي أساس فكرنا في المستقبل . إن هذه الفكرة نرفضها من جانبنا قلباً وقالباً لأنها لا تمثل نوعاً من الاستمرار ، لا تمثل اعترافاً بما في تراثنا من قيم " .
يُتبع ...
 
(3) :
يميّز عاطف العراقي بين " طبع التراث " و " تحقيق التراث " و " إحياء التراث " ، لينتهي بنا إلى ضرورة الاهتمام بالإحياء لا بمجرد الطبع أو التحقيق ، لأنه بدون الإحياء لن يكتسب تاريخ الفلسفة الإسلامية لا معنىً ولا مغزىً جديدين ، وهذا لا يمنع من " تحقيق التراث " ، لأننا لن نقوم بعملية الإحياء إلا بعد التحقيق ، لكن الأمر ، حتى الآن ، لم يتجاوز طبع ، أو تحقيق ، التراث ، ولو سار الأمر سيرته تلك لكان الإعجاب / التقدير " أولى به أراوح من تركوا لنا هذه المخطوطات ، لا من قاموا بتغيير لون صفحاتها من لون أصفر إلى لون أبيض ، فإن مجرد تغيير اللون لا يستحق منا هذا الإعجاب " .
إننا " حين نعمد إلى تلك المخطوطة ، أو تلك ، من المخطوطات التي تتضمن كتاباً أو رسالة تركها لنا هذا المفكر أو ذاك من مفكري العرب ، ونحول أوراقها المتآكلة الآخذة في الاصفرار بفعل الزمن ، إلى اللون الأبيض القشيب فهذا " طبع تراث " ، يقوم به حتى الآن ، وللأسف الشديد ، عدد غفير من الناس أدخل في باب التجّار منهم في باب المثقفين ، برغم أن بعضهم يحلو له أن يدخل نفسه في باب الثقافة والمشتغلين بها ، والثقافة منه براء " .
لكننا " حين نعمد إلى مخطوطة ، مطبوعة كانت أو مصوّرة ، ونحن مزوَّدون بأدوات البحث العلمي الحديث ، مجدّون في مقارنتها بالنُّسخ الأخرى الخطية الأقدم منها والأحدث ، باذلون كل الجهد في أن نرضي ضمائرنا نحو هذا التراث الذي تركه لنا ذلك المفكر أو ذاك ، فهذا " تحقيق تراث " " .
أما الإحياء فـ " هو أن ننظر إلى تلك الموضوعات ، أو المشكلات ، التي أثارها الفيلسوف نظرة جديدة معاصرة ؛ إذ ليس من المعقول أن تحتفظ المشكلات القديمة بنفس طابعها . وبهذا يكون معنى الإحياء بعث المشكلات التي أُثيرت في عصور سابقة والنظر إليها بمنظار جديد هو منظار العصر الذي نعيش فيه " . ما يعني أننا نجعل المفكر إنساناً لنا أن ننقده ما كان هناك مبرر لهذا النقد ، والمفكر إذا كان لا يعيبه أن يخطئ ، فنحن لا يعيبنا أن ننقد .
إن دعوة عاطف العراقي إلى الاهتمام بـ " الإحياء " أكثر من الاهتمام بـ " التحقيق " و " الطبع " تدخل ضمن محاولة الابتعاد عن القراءة الحرفية / النصية للتراث ، والاقتراب به من قراءة " وظيفية " لهذا التراث ، ما يؤهل لنتيجتين :
تعايش فعلي ، لا ظاهراتي ، للتراث لمشاكلنا المعاصرة .
تنسيب الأمور ، إذا نحن جعلنا تراثنا محكوماً عليه لا حاكماً علينا !!! . وذلك يتم بإخضاع التراث لعمليتي النقد والمراجعة عبر مناقشة فروعه وأصوله ، ثم العمل ، بعد ، على تجاوز ذلك كله لإنشاء / تأسيس وعي معرفي يوجد رؤية ، وربما رؤىً ، مغايرة لها تعلق بقضايا الأمة على صعد الاجتماع والسياسة والتربية والاقتصاد .
وبقراءة نظرة عاطف العراقي للتراث يتبين لنا أن الرجل كان على وعي كبير بوجود تداخل خطير بين نصوص التراث الداخلة في مختلف الميادين ، ما يعني إدراكه صعوبة ، بل قُلْ استحالة ، الفصل بين التراث وزمنه ، ما أسس لـ " تقديس " القديم لمجرد أنه قديم ، ويزداد هذا " التقديس " كلما أوغل النص التراثي في القِدم .
إن إضفاء القداسة على التراث ، ككل ، حوّل بعض الآراء / الاتجاهات إلى جزء ، ربما ، من العقيدة !!! ما يعني عدم اعتباره " حصيلة " فكرية لنا ، نحن الخَلَفَ ، أن نتصرف فيها بما يحقق " المقاصد " العليا منه .
وإذا كان عاطف العراقي ينعي هذا الموقف ، فلأن الرجل يعي أن الأمر لو بقي على هذه الصورة من أسطورية التراث ، فسيخرج علينا ، من بيننا ، مطالِبون بقطيعة معرفية مع التراث لاعتقادهم أن ذلك سيؤدي إلى الاغتراب حال أن بقينا ندور في حلقة مشكلات التراث وأولوياته لا مشكلاتنا وأولوياتنا ... وكأننا بالرجل يدعو إلى " تجسير " العلاقة بين التراث وواقع الأمة المعاصر .
يطالبنا عاطف العراقي أن لا نفرّط في الذي به نكون " عرباً " ليس بأن " نحيا " كما حيا الأسلاف ، بل بأن " نعمل " كما عملوا ؛ فهم قد اجتهدوا لزمانهم ومشكلاتهم ، ونحن يجب أن نجتهد لزماننا ومشكلاتنا ، فهمْ رجالٌ ونحن رجال ، فتكون لنا " وجهة نظر " واحدة وإنْ اختلفت القضايا المنظور إليها ، ومن ثم الحلول المتولَّدة .
وكأننا بالرجل ، وهو يرفع صوته ، ينادينا أنْ لا سبيل إلى وصل الحاضر بما هو جيد في تراثنا إلا بالاعتماد على " المعقول " في هذا التراث ، وغض الطرْف / صرف النظر عن " اللامعقول " في هذا التراث ، تأسيساً على أن العقل هو وكيل الله عند الإنسان ، وما يريد الله بالإنسان العسر ، بل يريد به اليسر ... فما جعل عليه من حرج !!! ينادينا بضرورة أن نحلل تراثنا تحليلاً عقلياً يبتعد به ، وبنا ، عن مجرد التناول التقليدي الاحتفائي المكتفي بترديد ما كتبه السابقون ، حتى وإنْ جُدد هذا التناول فيأتي تجديده ، على فرض وجوده ، شائهاً إذ يكتفي ، بعد الترديد / التكرار ، باختزال / اختصار ، وربما ابتسار ، النصوص التراثية ، ما يحيلها إلى " مسخ " فتفقد حيويتها التي يتغياها المصلح حال أخذ الموضوع دون المنهج .
علينا ، إذن ، لنكون مقدرين لتراثنا معتبرين لحياتنا المعاصرة ، أن ننظر إلى التراث باعتباره مجموعة مسائل تقنية يمكن أن نأخذها عن السلف لنستخدمها في حياتنا اليوم ونحن بمأمن بالنسبة إلى ما بين أيدينا من طرق جديدة في حياتنا اليومية الجارية / المعاشة ، فنعيش بها ونسلك على أساس من مقاصدها العامة / العليا ، ما يؤهل تراثنا ، وهو تراث قيم ، أن يدخل ، بشكل عملي مؤثّر ، في صلب حياة الناس المعاصرة معيناً لا معيقاً .
يُتبع ...
 
(4) :
عاطف العراقي : المستشرقون ، قراءة جديدة :
... : ( " سب الاسشتراق ، وأهله ، يحلو للبعض متحررين من تبعة البحث الجدي والمضني عن الحقيقة بإيثار سهولة السب واللمز ، وهذا منهج معتمد اليوم ومن موروثات عصر التدهور " ) .
... : ( " الحوار مع آراء المستشرقين أفضل ألف مرة من الهجوم على الاستشراق برمته " ) .
يرى عاطف العراقي ضرورة الكف عن مجرد " الحملات الهجومية على الاستشراق والمستشرقين ، فقد كتبنا ، نحن العربَ ، آلاف الصفحات خصصناها لإلصاق التهم المشروعة وغير المشروعة بأهل الاسشتراق ".
ثم إن الرجل يعترف أن هناك " ظواهر سلبية للاستشراق ، وعلينا مناقشة الأفكار التي تتبنى هذه السلبيات لنبين خطأها ، ولن يكون ذلك بمجرد شن الهجوم على الاستشراق بكل صوره ، فالحوار مع آراء المستشرقين أفضل ألف مرة من الهجوم على الاستشراق برمته والسخط على المستشرقين في كل زمان ومكان ، لأنا وجدنا في أكثر أنواع الهجوم ما يكشف عن كونه معبراً عن الاستخفاف بكثير من الحجج العقلية والأدلة المنطقية " .
وإذا كنا نجد لبعض المستشرقين إجادة في بعض الذي كتبوه ، فإن عاطف العراقي ، بموضوعية " العالِم " وإنصاف " الإنسان " ، سيعلن ذلك منصفاً هذا المستشرق أو ذاك في الذي كتب . ما جعل الخصوم ، و لا سبب للخصومة ، يضعونه تحت لافتات مشبوهة كالتغريب وما إلى ذلك !!! من مسميات / أوصاف تثير الشفقة على معلنيها أكثر مما تثيره على الموصوفين بها .
رأى عاطف العراقي أن لبعض المستشرقين إيجابياتٍ ويجب إعلان ذلك ، فالعلم لا يعرف التحزّب ولا التحيز ، ولهم ، كذلك ، أخطاء علمية ومنهجية يجب التنبيه عليها ، وهذا ما أخذه عاطف العراقي على نفسه في طريقة العالِم عف اللسان قوي الحجة ، وكان ، بمعرض رده على أخطاء هذا المستشرق أو ذاك ، مبتعداً عن الأسلوب الخطابي الإنشائي الوعْظي ، إيماناً منه أن هذا الأسلوب ليس من ديدن المفكر الذي يأخذ بالعقل وحججه ، لا بالعاطفة وتجييش المشاعر كسباً لعقول العوام بعد تزييف وعيهم .
يقول عاطف العراقي : " مئات من المستشرقين ، من أكثر دول العالم ، قدموا لنا آلاف الدراسات الرائدة ، والكتب المحقَّقة تحقيقاً علمياً فريداً . وإذا كانت لهم بعض الآراء التي نختلف معهم بشأنها في قليل أو كثير ، فلهم دينهم ولنا دين ، يجب علينا تحليل تلك الآراء ، والقيام بنقد هذا الرأي أو الآخر من الآراء التي قالوا بها ، ولكن على أساس الحجة المعقولة ، وليس على أساس الخطابة والمبالغة والإنشاء وسيل الشتائم " .
ويقول : " ونحن إذا تأمّلْنا نماذج من ردود بعض العرب على المستشرقين ، وذلك على النحو الذي نجده عند الشيخ محمد عبده ومحمد حسين هيكل ومصطفى عبد الرازق وعباس العقاد ونجيب العقيقي ومالك بن نبي ومحمد البهي ومحمود محمد شاكر وأنور عبد الملك وفريد وجدي ، فإننا نستطيع التفرقة بين رد ورد ، بين نقد ونقد ، وليس من المعقول أن نجد لغة الغمز واللمز حول البواعث الدينية ؛ فقد نجد نقداً للدين عند ابن الراوندي أكثر إيلاماً عما نجده عند هذا المستشرق أو ذاك من المستشرقين الغربيين " .
لكن الدارس لفكر الاستشراق ، والمستشرقين ، لا يعدم أخطاءً هنا وهناك ...
يُتبع ...
 
(5) :
أخطأ بعض المستشرقين في بعض آرائهم ، ما دفع عاطف العراقي للرد عليهم ، خاصة إذا لم يكن لديهم الدليل العلمي على ما أعلنوه من آراء ... فإنه " لم يسلّم بعض المستشرقين بأهمية ، وأصالة ، الفلسفة العربية الإسلامية " . ما يعنى أن قضية وجود فلسفة عربية لم تكن موضع اعتراف من جانب بعض المستشرقين ، بل وُجِدَ من المفكرين من وضعَ جدة ، وأصالة ، وأهمية ، الفلسفة الإسلامية موضع شك ... بل الإنكار !!! . كما أن من المستشرقين من يرى أنه ليس من طبيعة العرب التفلسف وإبداع المذاهب الفلسفية ، ومنهم من يرى أن العرب قد تأثروا بفلاسفة اليونان غاية التأثر ، بحيث إن فلسفتنا لا تخرج عمّا أبدعه فلاسفة اليونان من مذاهب ، وخاصة أرسطو والأفلاطونية المحدثة !!! .
ويسير في نفس اتجاه النص أعلاه تنمّان في قوله " العرب شعبٌ مجبولٌ على استعدادات قوية وثّابة ، ولقد كان أولاً صابئاً ثم استمد حماسة دينية وحربية من دين محمد المتوفَّى سنة 632م ، وهو دين شهواني وعقلي معاً . ومن آثار خلفائه وتفاسيرهم لما يزعمونه وحياً أوحاه الله إلى هذا النبي ، وفي قليل من الزمن ، تغلّب العرب على قسم عظيم من آسية وأفريقية وأوربة وأخضعوه للإسلام . وكان اختلاطهم بالأمم المغلوبة ، خصوصاً السوريين واليهود واليونان ، وتقدمهم في ألوان الترف وكل ما يستتبعه الترف ، وحاجتهم إلى الاستعانة بصناعة الأجانب من الأطباء ومن المنجّمين ، وتأثير هؤلاء فيهم ؛ كل أولئك ولّد فيهم شهوة متأججة إلى تحصيل المعارف . وقد عاون هذه النزعات خلفاء العباسيين : المنصور الذي ولّي الخلافة من سنة 753م إلى سنة 775م ، والمهدي الذي تُوفِّي سنة 784م ، وهارون الرشيد المعاصر لشرلمان ، وكان خليفة ما بين سنتي 786م و 808م ، والمأمون الخليفة من سنة 813م إلى سنة 833م ، والمعتصم المتوفّى سنة 841م . هؤلاء الخلفاء أمروا بنقل كتب اليونان إلى العربية ، وأنشئوا المدارس ودور الكتب الحافلة . ويكاد يكون أرسطو مع شرّاحه إلى فيلوبنوس ، من بين سائر الفلاسفة ، هو الذي استرعى أنظار العرب ، وقد تلقوا جملة ما ألّفه أرسطو ، ولكنهم تلقوها ، على الحقيقة ، عن تراجم ناقصة جداً بوساطة خادعة ، هي وساطة المذهب الأفلاطوني الجديد ، وأضافوا إلى هذا دراسة العلوم الرياضية والتاريخ الطبيعي والطب " .
هكذا يحكم تنمّان ، ومن سار سيرته ، على العقلية العربية الإسلامية ، ثم هو يعطي لنفسه حق الحكم ، والتقييم ، ... فيقول : " هناك عدة عقبات تثبط تقدمهم في الفلسفة ، وهذه العقبات هي :
- كتابهم المقدّس ، الذي يعوق النظر العقلي الحر .
- حزب أهل السنة ، وهو حزب قوي مستمسك بالنصوص .
- أنهم لم يلبثوا أن جعلوا لأرسطو سلطاناً على عقولهم ، ذلك إلى ما يقوم دون حسن تفهمهم لمذهبه من الصعوبات .
- ما في طبيعتهم القومية من ميل إلى التأثر بالأوهام .
من أجل ذلك لم يستطيعوا أكثر من شرْحهم لمذهب أرسطو وتطبيقه على قواعد دينهم الذي يتطلب إيماناً أعمى . وكثيراً ما أضعفوا مذهب أرسطو وشوّهوه . وبذلك نشأت فلسفة تشبه فلسفة الأمم المسيحية في القرون الوسطى ، تُعْنى بالبراهين الجدلية المتعسفة ، وتقوم على أساس من النصوص الدينية ".
هكذا يرى صاحب النص أعلاه أن الفلسفة العربية ، والإسلامية ، ليس ، في الغالب ، إلا شرحاً مُضْعِفاً لمذهب أرسطو ومفسريه ، وليس إلا تطبيقاً لهذا المذهب على قواعد الدين " العربي " !!! .
كما يذكر أسباب إعاقة سير الفلسفة عندنا ، نحن العربَ ، فيردها إلى دينية ( القرآن وحزب أهل السنة ) ، وقومية ( استعداد العرب للتأثر بالأوهام ، وخضوع عقولهم لسلطان أرسطو ) .
ويُلاحَظ على هذا الطرح / الرأي أمران : النفحة الدينية ، والتعصب الجنسي .
يُتْبع ...
 
(6) :
أما اللهجة الدينية التي صيغ بها هذا الرأي ، فلم تكن غريبة على روح العصر ؛ فـ " فيكتور كوزان " ينحو منحى اللغة الدينية بإطلاقية ونرجسية شديدين ... فيقول " المسيحية ، التي هي آخر ما ظهر على الأرض من الأديان ، هي أيضاً أكملها ، والمسيحية تمام كل دين سابق ، وغاية الثمرات التي تمخضت عنها الحركات الدينية في العالم ، وبها خُتمت . الدين المسيحي ناسخ لجميع الأديان ... كذلك كان الدين المسيحي إنسانياً واجتماعياً إلى أقصى الغايات ، ومن أراد دليلاً فلينظر ماذا أخرجت المسيحية وجماعةُ المسيحيين للناس : أخرجتْ الحرية الحديثة ، والحكومات النيابية . ثم لينظر من دون المسيحية : ماذا أخرجتْ منذ عشرين قرناً سائر الأديان . ماذا أنتج الدين البرهمي والدين الإسلامي ، وسائر الأديان التي لا تزال قائمةً فوق ظهر الأرض ؟ . أنتج بعضها انحلالاً موغلاً ، وبعضها أثمر استبداداً ليس له مدى . أما أوربة المسيحية فهي ، لا سواها ، مهد الحرية . ولو أن المقام والوقت يسعان لأثبتّ لكم أن المسيحية ، التي كانت الحكومات النيابية ثمرة لها ، هي التي تستطيع وحدها أن تقوّم هذه الصورة العجيبة من صور الحكم التي تؤلف بين النظام والحرية ، والمسيحية ، أيضاً ، هي التي ، بعد أن صانت الفنون والآداب والعلوم ، بعثتْها بعثاً قوياً . المسيحية هي أصل الفلسفة الحديثة " .
وأما التعصب الجنسي على العرب فله دعاته / أنصاره من بين المستشرقين ، وربما مثّل أرنست رينان المرجعَ الأساس لهؤلاء جميعاً ؛ فالرجل " زَخْرف لهذا التعصب لباساً علمياً من أبحاثه في تاريخ اللغات السامية ، ثم جعله حملةً شعواء تصوب سهامها إلى الجنس السامي كله " .
يقول عاطف العراقي : " هناك نفرٌ من المستشرقين يرجع عدم تفلسف العرب إلى طبيعتهم ، وقد توصل هذا الفريق إلى ذلك بالتفرقة بين ما يزعمونه من تقسيم الناس إلى جنس آري وجنس سامي ؛ فالجنس الآري هو ، وحده ، القادر على التفلسف وإبداع المذاهب الفلسفية . أما الجنس السامي فلا يستطيع ذلك ، فكان كل عمله نقل دائرة المعارف الفلسفية اليونانية وعدم الخروج عليها . وقد كان تقسيم الناس إلى ساميين وآريين هو ما فعله الباحثون في تاريخ اللغات في القرن التاسع عشر . وقد حاول بعض الباحثين في الفكر العربي تعميم هذا القول بحيث يصبح مميزاً لكل عقلية من العقليتين ، بحيث إنهم جعلوا التفرقة اللغوية أساساً للحكم على المباحث الفلسفية ؛ فقد ذهب رينان إلى القول إنه لا يمكننا أن نجد عند الجنس السامي مذاهب فلسفية ، إذ أن هذا الجنس لم يثمر أي بحث فلسفي خاص ، بحيث إن الفلسفة عند الساميين ما هي إلا مجرد اقتباس وتقليد للفلسفة اليونانية . وشايعه في ذلك ليون جوتييه ، حيث يقول إن الجنس السامي والجنس الآري يتجهان اتجاهين متضادين تماماً ؛ فالعقلية السامية تميل إلى قرن الأشياء والأضداد دون ربطها بما يجعل منها وحدة واحدة ، بل تتركها منفصلة عن بعض ، ثم لا تلبث أن تنتقل من إحداها إلى الأخرى دون واسطة بوثبة فجائية . أما العقلية الآرية فإنها على العكس من تلك ، إنها تتجه إلى الربط بين هذه وتلك بوسائط تدريجية ، بحيث لا تنتقل من طرف إلى آخر إلا بدرجات غير محسوس بها ، مثلها في ذلك مثل الألوان المذاب بعضها في بعض " .
وهذا كله ، برأي عاطف العراقي ، تأثرٌ بما سبق وادّعاه أرنست رينان ، من حيث إنه أول من قرر أن الجنس السامي أقل إبداعاً من الجنس الآري ، ثم كان أن تابعه / شايعه بعضٌ من معاصريه من الفلاسفة لوثوقهم بمعرفته باللغات السامية ... وهو ، رينان ، القائل " ما يكون لنا أن نلتمس عند الجنس السامي دروساً فلسفية . ومن عجائب القدر أن هذا الجنس الذي استطاع أن يطبع ما ابتدعه من الأديان بطابع القوة في أسمى درجاتها لم يثمر أدنى بحث فلسفي خاص ، وما كانت الفلسفة قط عند الساميين إلا اقتباساً صرفاً جديباً وتقليداً للفلسفة اليونانية " .
ومعنى هذا أن رينان يزعم " أن من خواص النفس السامية أنها ذات انسياق فطري نحو التوحيد في الدين ، وإلى البساطة في اللغة والصناعة والفن والمدنية . بينما النفس الآرية فذات ميل فطري إلى التعدد وانسجام التآليف " .
فها هنا تفريق بين عقلية " سامية " : تمثل الفصل والمباعدة لا الجمع والتأليف ، وتدرك الجزئيات دون ترتيب وتناسق بحيث لا تتمكن من التوصل إلى القضايا الكلية والقوانين العامة ، وإذا لم تتوصل إلى هذه القضايا الكلية والقوانين الشاملة فقد عجزت عن تحقيق الأصالة والابتكار ، وعقلية " آرية " : تحاول ، بفطرتها ، التأليف بين عناصر الأشياء بتناسق وترتيب ونظام يؤدي إلى الجمع وامتزاج العناصر . وهذا يجعل النتائج التي تتوصل إليها العقلية الآرية ، بزعم أصحاب هذه النظرية العنصرية ، دقيقةً وعميقة .
يخطّئ عاطف العراقي أرنست رينان في كثير مما ذهب إليه ؛ فهو غير محق في إلقاء اللوم على فلاسفة العرب للأخطاء التي حدثت في الترجمات عن اليونانية على النحو الذي نجده عند بعض فلاسفة العرب حين نسبوا آراء لأرسطو لم يقل بها . بل اللوم يجب أن يُلقى ، إلى حد كبير ، على المترجمين لا على الفلاسفة العرب الذين اعتمدوا على هذه الترجمات التي وصلت إليهم . ثم إن عصرهم لم يكن به من وسائل النقد / التدقيق ما به يستطيع الفيلسوف التمييز بين كُتب هذا الفيلسوف وكُتب غيره .
كما يوضح عاطف العراقي كيف أن رينان قد تناقض مع نفسه ؛ ففي الوقت الذي يطلق فيه أحكاماً على فلسفة مفكري العرب ، يقول ، وهو بمعرض حديثه عن فلسفة ابن رشد ، : " إن ابن رشد إذا كان لم يطمح إلى مكانة الشارح لآراء أرسطو ، فإننا يجب ألا ننخدع بهذا التواضع من جانب ابن رشد ، إذ أن العقل البشري يطالب باستقلاله ، وإذا ما قيدناه بنص من النصوص عرف كيف يجد حريته في تفسير هذا النص وتكوين رأي حوله " .
ثم إن دعوى رينان تفوق الجنس الآري على الجنس السامي باتت غير ذات أهمية في زماننا هذا ؛ فقد ساد في القرن التاسع عشر اعتقاد بوجود عناصر وأجناس مختلفة ينقسم إليها الناس . لكن العنصرية ، مهما اشتدت ، أصبحتْ مقصورةً على مجرد وضع سياسي . ما يعني ، في نهاية المطاف ، أن الفرق ، والفروق ، بين الأجناس أمر لا وجود له إلا في الميدان الُّلغوي ، بحيث تستند العنصرية إلى مقاييس لُغوية لا جنسية .
وما ذهب إليه عاطف العراقي في رفض " نظرية " أرنست رينان بشأن الفلسفة العربية ، نجد مثله عند معاصرين لرينان !!! ... فـ " جوستاف دوجا Gustave Dugat " يورد ، في كتابه " تاريخ الفلاسفة والمتكلمين من المسلمين " ، رأياً مماثلاً لما يراه أرنست رينان ، وهذا الرأي منسوب لـ " شمويلدرز Schmolders " ... وفيه " لا نستطيع أن نذكر ، قطّ ، فلسفة عربية على الوجه الدقيق لما يُفهم من هذه العبارة كما نذكر فلسفة يونانية وفلسفة ألمانية ... إلخ ، ومهما ذكرنا هذه العبارة فإنا لا نريد شيئاً غير الفلسفة اليونانية كما فهما العرب " . ما يعني أن الفلسفة العربية ، برأي رينان وشمويلدرز ، ليست إلا تقليداً للفلسفة اليونانية ، دون أن يكون لها ، الفلسفة عند العرب ، أي نتاج خاص بها !!! لكن دوجا يعلّق بقوله " هذه أحكام تذهب في البتّ إلى حد الشطط ، ومصدرها سوء التحديد للفلسفة ، وجهلنا بما للعرب من مصنفات غير شروحهم لمؤلفات أرسطو ؛ فهل يظنّ ظانٌّ أن عقلاً كعقل ابن سينا لم ينتج في الفلسفة شيئاً طريفاً ، وأنه لم يكن إلا مقلّداً لليونان ؟ . وهل مذهب المعتزلة والأشعرية ليست ثماراً بديعة أنتجها الجنس العربي " ؟ .
وينتهي دوجا إلى ما يلي ، مع تحفّظنا على بعض ألفاظه ، :
يُتبع ...
 
(6) :
وينتهي دوجا إلى ما يلي ، مع تحفّظنا على بعض ألفاظه ، :
(7) :
- أن الفلسفة لدى العرب لم تتقيد بمذهب المشّائين تقيّداً صِرْفاً ، بل تغيرتْ أطواراً ؛ ففيها مذهب أهل السنة الـ " واقفين عند النصوص " ( نسجل تحفّظنا ) ، ومذهب الشك ، ومذهب التولد .
- وأن على الباحث في خصائص الفلسفة العربية ، وحتى يأتي حكمه سديداً ، أن ينظر إليها من ناحية إصلاحها للعقائد ، فهذه الناحية تمثل أهم ما ترمي إليه هذه الفلسفة أو تلك ؛ فـ " النظر العقلي عند العرب كان ، على الحقيقة ، محاولةً لإصلاح القرآن وتكميل الإسلام ( نسجّل تحفظنا ) . حاول ذلك المعتزلة قادة الحركة الفلسفية لدى المسلمين ... وقد أنكروا عقيدة أن القرآن غير مخلوق لكي لا يمسوا وحدانية الله ، وقرروا عقيدة أن القرآن مخلوق . وهم يقولون إنه كان من المستطاع أن يؤتى بخير منه . وهذا التعرّض لكتاب المسلمين المقدس بالبحث يكاد يكون من نوع ما فعلَ فلاسفة الأوروبيين في تمحيص التوراة والإنجيل ، كما تُمحّص سائر الكتب ، وكذلك فعل اشتراوس ورنان " .
- وأن اختيار العرب ، فلاسفتهم ، أرسطو دون غيره من فلاسفة اليونان ، إنما جاء لأن أرسطو منهجه التجريبي يعتبر أدنى إلى موافقة ميل العرب العلمي الوضعي من منهج أفلاطون المثالي ، ولأن منطق أرسطو كان يعتبر سلاحاً مجدياً في المنازعات المستمرة بين أهل المذاهب الكلامية .
هذا يعني خطأ رأي رينان في سبب اختيار الفلاسفة العرب أرسطو ، وخطأه الزاعم وجود جدب في الفلسفة الطبيعية عند الفلاسفة العرب ؛ فإن الطبيعة العلمية الوضعية التي تلائم طبيعة أرسطو لا تكون جدبةً ، من الناحية الفلسفية ، إلا إذا كانت طبيعة أرسطو ، المعلّم الأول ، جدبة فلسفياً .
ويرد عاطف العراقي على تنمّان زعمه أن من أسباب إعاقة سير الفلسفة عند العرب ، والمسلمين ، " كتابهم المقدس الذي يعوق النظر العقلي الحر " !!! ؛ فالقرآن الكريم ، يرى العراقي ، يحث في أكثر آياته على التأمل والبحث والنظر في جنبات الكون . فمن هذه الآيات قوله تعالى " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقومٍ يعقلون " . وقوله تعالى " فاعتبروا يا أولي الأبصار " . وقوله تعالى " أولمْ ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء " . وقوله تعالى " ويتفكرون في خلق السموات والأرض " . وقوله تعالى " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رُفعت " .
المسلّم به ، الآن ، أن بالمسلمين تأخراً معيباً ، لكن هذا ليس ذنب " الإسلام " من حيث إن الإسلام حجةٌ على المسلمين ، وليس المسلمون حجةً على الإسلام ؛ فالإسلام في حِل من تصور البعض له ، ممثَّلاً في كتابه : القرآن الكريم ، معيقاً للتقدم ... حتى جاء القول غير الصحيح ... : " المسْلِم يكره التغيير ، فالحياة المثالية والمجتمع المثالي عنده يتسمان بالثبات والقرار ، وبينما الغرب يتوقع أن يكون التغيير إلى ما هو أحسن ، نرى المسلم يجزم أن أمره لن يكون إلا إلى ما هو أسوأ . وهذا الميل صوب الماضي ، وهذا التلهف على الساكن الراكد ليس له ، في لغة التحصيل والتقدم ، إلا معنىً واحد : وهو تحقير الأصالة والابتكار . لقد بات الخلْقُ والاستحداث أقل أهميةً من الصوغ ، وباتت الألفاظ تَعْظُمُ ( = تفوق ) المعنى مرتبةً ، وكان الابتهاج بالشكل ، كوقاية للذات من كل بدعة مُفسدة ، من أقوى العوامل التي ظاهرتْ السبك الأدبي للعاطفة والفكر ، ذلك السبك الذي قدّر للإسلام أن يستكين له في امتثال بديع " .
وواضح ، هنا ، الخلط بين أمرين : " الإسلام كنظام من العقائد والمبادئ والأفكار ، وبين ما آل إليه الواقع الاجتماعي والعلمي للمسلمين في فترات التدهور الحضاري " ... وهذا خلط غير مشروع ، وغير مقبول علمياً ؛ فالمسلمون مأمورون ، ديانةً ، بعدم الارتكان إلى اتباع ما كان عليه السلف بصرف النظر عن " اصله " ، وهم مأمورون بإعمال العقل والسعي إلى التجديد والابتكار ؛ فالقرآن الكريم يدين ، إدانة صريحة ، منهجَ اتّباع السلف دون تمحيص والركون إلى التقليد ومحاكاة الماضي ... يقول تعالى " بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مهتدون " . ولا يقال في ذلك إن النهي عن اتباع السلف وإدانته ينصرف إلى الأمم السابقة على الإسلام ، إذ لا يُعقل أن يدين القرآن آفة عقلية في غير المسلمين ، ثم يقرّها في المسلمين ، فالنهي عام ، والإدانة عامة ، والأمر باتباع العقل والتجديد والابتكار عام أيضاً .
يُتبع ...

 
(8) :
- والتصوف :
وإذا كان عاطف العراقي قد أبان خطأ ، وأخطاء ، بعض المستشرقين فيما له تعلق / صلة بقضية الإبداع الفكري / الفلسفي عند العرب والمسلمين ، حين يختلقون أسباباً يعوزها الدليل العلمي ، فضلاً على ازدحامها بأخطاء التعصب العنصري والكثير من الصيغ الإنشائية ، فإنه ، في الوقت نفسه ، أبان عن أخطائهم حين كلامهم عن التصوف الإسلامي ، مبيناً كيف أنهم ، حتى في هذه المسألة ، كان سندهم " التمييز بين الجنس السامي ( = العرب ) والجنس الآري ( = الجنس الأوروبي) .
ورغم أن التصوف الإسلامي " جانبٌ من أخصب جوانب الحياة الروحية في الإسلام ، لأنه تعميقٌ لمعاني العقيدة ، واستبطانٌ لظواهر الشريعة ، وتأملٌ لأحوال الإنسان في الدنيا ، وتأويلٌ للرموز والشعائر يهبها قيماً موغلةً في الأسرار " . إلا أن بعضاً من المستشرقين لم يزل على إصراره أن التصوف الإسلامي دخيلٌ على الإسلام والمسلمين من حيث قوله إن التصوف مستمَدٌّ من الهند ، أو من فارس ، أو من المسيحية ، أو من اليونان .
يقول عاطف العراقي : " مع أن التصوف يعدّ معبراً عن جانب من جوانب فكرنا الفلسفي العربي ، فإننا نجد مجموعة من المستشرقين قد ذهبوا إلى القول بأن التصوف يرجع إلى مصدر فارسي ؛ فقد ذهب دوزي Dozy وثولك Thoulk إلى القول بأن التصوف قد وصل إلى المسلمين عن طريق فارس ، وإن المسلمين قد استفادوا من هذا المصدر الفارسي في القول بأن العالَم لا وجود له في ذاته ، وإن الموجود الحقيقي هو الله تعالى . وهذه جوانب نجدها عند بعض صوفية الإسلام " .
لا شك ، لدينا ، أن من الباحثين الأوروبيين من اهتم بدراسة التصوف الإسلامي كأحد روافد الفكر الإسلامي بوجهٍ عام ، وقد انتهى بعضٌ من هؤلاء إلى الزعم بأن هذا التصوف ذو أصول غير إسلامية ؛ فمنهم من قال إن هذه الأصول التي أمدتْ التصوف الإسلامي الجِدةَ إنما جاءته من فارس / إيران ... لأن " العقلية السامية عاجزة عن الفنون والعلوم ، أولاً لفقرها في الخيال ، وثانياً لافتقارها إلى التدقيقات الروحية والمرونة العقلية واللغوية . ولهذا فإن ما نشأ في داخل هذه الأديان السامية من تصوّف ، إنما يرجع إلى رد فعل عنصري ولُغوي وقومي من جانب الشعوب الآرية المقهورة التي غلب عليها سلطان الساميين ، وأكثر الموجود في التصوف الإسلامي مرده إلى الزرادشتية ، بدليل ما هو موجود عند السهروردي المقتول " .
ويرد عاطف العراقي على هذا الرأي دافعاً عنه الصحة ؛ فـ " إذا كنا نجد بعض الصوفية من أصل فارسي ، كأبي يزيد البسطامي ، ومعروف الكرخي ، فإننا نجد ، أيضاً ، مجموعة من الصوفية العرب ، ومنهم أبو سليمان الداراني ، وذو النون المصري ، وابن عطاء الله السكندري ، ومحيي الدين بن عربي ، وعمر بن الفارض . بل وصل الأمر أن العكس هو الصحيح ؛ فقد أثّر بعض هؤلاء الصوفية العرب في التصوف الفارسي " .
ويفند عاطف العراقي مذهب المستشرقين كـ " ثولك " و " دوزي " بأن يؤكد ، أيضاً ، أن " الصوفية الذين يرجعون إلى أصل فارسي ، كأبي يزيد البسطامي ، ومعروف الكرخي ، إنما كانت نشأتهم بعد ظهور النبي والصحابة والتابعين " ؛ فإن " ظهور الكرخي والبسطامي كان بعد تحنّث النبي وزهد الزهّاد الأوائل ، ولا يمكن إغفال أثر حياة النبي ، وصحابته والزهّاد الأوائل ، في تشكيل قواعد السلوك إلى الله عند من جاء بعد ذلك من الصوفية ، فُرْساً كانوا أو عرباً " .
... ننتهي من هذا إلى " إنه من الصعب أن نوافق المستشرقين على رأيهم الذي يُرْجع التصوف إلى مصدر فارسي " .
حتى رأي " دوزي " الذاهب إلى القول بوجود أفكار مثل صدور كل شيء عن الله ، والقول بأن العالم لا وجود له في ذاته ، والقول بأن الموجود الحقيقي هو الله ، كما هو الحال عند الفرس ، ما يجعل الظن قائماً بأن تكون هذه الأفكار / الأقوال هي مصدر التصوف الإسلامي ، هذا الرأي مردود عليه بأن " مثل هذه الأفكار لا توجد إلا عند أصحاب وحدة الوجود الذين ظهروا في وقتٍ متأخر ، كما أنه ليس كل صوفية الإسلام قائلين بهذا المذهب ، فالقائلون به قلةٌ قليلة " .
كما أن العراقي لا يؤيد من ذهب من المستشرقين إلى القول بأن التصوف الإسلامي إنما يرجع مصدره إلى مصدر مسيحي ، حتى لو كانت هناك أوجه شبه بين سلوك ، وحياة ، بعض الزهاد والصوفية ، وبين حياة السيد المسيح ، عليه السلام ، والرهبان ، خاصةً حين نعلم أن فريقاً من الزهاد والعبّاد ، كإبراهيم بن أدهم ، كان لهم بعض أوجه النشاط / العمل في الدنيا .
كأن المستشرقين القائلين بهذا الرأي اعتمدوا له أدلة :
الأول : ما وُجِد من صلات بين العرب والنصارى في الجاهلية ، أو في الإسلام ، في الحيرة والكوفة ودمشق ونجران ، وخصوصاً في مضارب القبائل العربية التي انتشرت فيها المسيحية قبل الإسلام وبعد : بنو تغْلِب وقضاعة وتنوخ .
الثاني : ما يُلاحَظ من أوجه الشبة بين حياة الزهّاد والصوفية وتعاليمهم وفنونهم في الرياضة والخلوة ، وبين ما يقابل ذلك في حياة السيد المسيح ، عليه السلام ، وأقواله ، وكذا الرهبان وطرقهم في العبادة والملبس ( كاستعمال الخِرْقة ، في مقابل ما يستعمله الرهبان من ثوب على الكتفين ، واستعمال السبحة ) .
الثالث : وجود بعض متشابهات لُغوية آرامية التركيب مثل : ناسوت ، لاهوت ، رباني ، روحاني ، ربوبية ، ألوهية .
يقول أوليري : " إن هذا الفريق من الزهاد ، أو النساك ، كان ذا نموٍّ مَحلِّي بين العرب ـ تطورتْ به مؤثراتٌ مسيحية مما قبل الإسلام ، ونحن نعلم أن الرهبانية المسيحية كانت معروفةً لدى العرب على تخوم الصحراء السورية وفي صحراء سيناء . ويُحتمل ، حقاً ، أن الذي أوحى بالنسك إلى النساك الأولين في الإسلام هو الأديرة المسيحية ، إما مباشرة ، أو من طريق ما ذكرناه من تحنّث محمد " .
ويقول العراقي : " صحيح أننا نجد بعض المصطلحات المسيحية عند بعض صوفية الإسلام ، كاللاهوت والناسوت ، وغيرهما من المصطلحات ، ولكننا يجب أن نضع في الاعتبار أن هذه المصطلحات لم تظهر ، بصورة واضحة وحاسمة ، إلا في وقت متأخر نسبياً ، أي بعد استقرار الزهد والعبادة ، وهما يُعتبران مؤديين إلى نشأة التصوف الإسلامي " .
إذن ، فلا مانع من الإقرار بوجود أوجه شبهٍ بين الزهد والتصوف الإسلاميين ، وبين المقابل لهما عند المسيحيين من زهد وتصوف ، لكن أوجه الشبه هذه لا تقوم دليلاً على أن الزهد والتصوف الإسلامي هما من مصدر مسيحي ، ذلك لأن الزهد الذي قام عليه التصوف هو نفسه إسلامي .
ويرد عاطف العراقي مواجيد الصوفية إلى " مجموعة من الزهاد والعبّاد ، تلك التي تدلنا على استفادتهم ، بالأساس ، من آيات القرآن الكريم ، ومن حياة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد امتدح القرآن الكريم حال الرهبان والقساوسة في غير موضع " .
ونفس الموقف النقدي ، نجده عند عاطف العراقي ، من رأي من قال إن مصدر التصوف الإسلامي إنما هو مصدر هندي ، تأسيساً ، يرى هؤلاء ، على أن كثيراً من الصوفية كانوا من أصل غير عربي ، كالبسطامي وابن أدهم ، علاوةً على اعتراف بعض مشاهير المسلمين ، كالبيروني ، بأصله الهندي ، ثم إنه ، البيروني ، عقد مجموعة مقارنات بين عقائد الهنود من جهة ، وأفكار صوفية الإسلام من جهة أخرى .
ونلاحظ مما أورده البيروني في " ما للهند " أن الرجل يذكر " مشابه ومقارنات " لا " تأثير وتأثر " ؛ فهو على دراية أن الصوفية المسلمين ، كالحلاّج والشبلي والبسطامي ، ما كانوا على اتصال " حي " بمذاهب الصوفية الهنود ، فهو ، البيروني ، يعتبر نفسه أنه أول من تحدث من المسلمين عن هذه المذاهب .
ومما لا شك فيه أن بدء التأثير والتأثر بين المسلمين والهنود قد كان " بفضل الدعاة المسلمين في بلاد الهند ممن قاموا ببث الدعوة الإسلامية في الهند " .
وينتهي عاطف العراقي ، في نقده للفكرة التي تقول بالمصدر الهندي كأساس للتصوف الإسلامي ، إلى التأكيد على أن كل هذه الآراء ، رغم كثرتها ، لا يمكن أن تؤدي إلى القول بأن مصدرَ التصوف الإسلامي مصدرٌ هندي ، إلا إذا تكلمنا عن التصوف الفلسفي لا عن التصوف السني . ما يعني أن الأثر الهندي لم يظهر عند صوفية الإسلام المتفلسفين ، كابن سبعين ، إلا في القرن السابع الهجري ، وذلك بعد أن كان التصوف الإسلامي قد استقرت دعائمه تماماً في القرون الستة السابقة .
ثم يتعرض عاطف العراقي لقول بعض المستشرقين برد التصوف الإسلامي إلى مصدر يوناني ؛ حيث اعتبر هؤلاء ، ومن أهمهم أوليري ، أن الإلهيات الموجودة في التصوف الإسلامي يرجع مصدرها إلى الأفلاطونية المحدثة ، وبالمثل نجد نيكلسون يرى صحة ذلك مستنداً إلى مجموعة أناشيد روحية / قصائد بديوان شمس تبريز تحمل الطابع الأفلاطوني المحدَث .
إن أوليري ، ومن أيده ، يذهب إلى اعتبار التصوف الفلسفي عند أفلوطين ، وذهابه إلى أن المعرفة تُدرك بالمشاهدة حين الغيبة عن النفس وعن العالَم المحسوس ، كل هذا كان معروفاً عند العرب الذين عرفوا فلسفة أفلوطين عن طريق كتاب أثولوجيا أرسطو طاليس ، الذي نُسِبَ خطأً إلى أرسطو ، في حين أنه كان مجموعة من مقتطفات التاسوعة الرابعة والتاسوعة الخامسة والتاسوعة السادسة . وقد سمّى العرب أفلوطين بـ " الشيخ اليوناني " .
ويقِف عاطف العراقي موقف الناقد الموضوعي من كل تلك الآراء السابقة ، والتي تطالبنا بالتسليم بأن " مصدر التصوف الإسلامي مصدرٌ يوناني " ، فيرى " أن هذا كله يجب ألا يؤدي بنا إلى إرجاع التصوف الإسلامي إلى مصادر يونانية عامةً ، وأفلاطونية محدثة على وجه الخصوص . إذ أننا يجب أن نضع في الاعتبار أن صوفية الإسلام ، إذا كان قد تأثر بعضهم بالمصادر اليونانية ، فإن ذلك كان في وقت متأخر ، أي لم يكن واضحاً وظاهراً في القرون الأولى للتصوف " . ما يعني أنه حتى بحال التسليم بأن للفلسفة اليونانية ، بوجهٍ عام ، والأفلاطونية المحْدثة بوجه خاص ، أثراً على الصوفية المسلمين ، فلا يجب التسليم برد التصوف الإسلامي ، ككل ، إلى المصدر اليوناني ؛ فصوفية الإسلام الأوائل كانوا راغبين عن الفلسفة اليونانية ، على غير ما كان حال المتكلمين والفلاسفة ، فلم يُقْبِلْ هؤلاء الصوفية على الفلسفة اليونانية ، إلا بعد مُضيّ وقتٍ غيرِ قصير على نشأة التصوف الإسلامي ، ذلك بعد أن بدأ بعضهم يأخذ بالنظر العقلي في فلسفة اليونان خالطاً به النظر الذوقي / القلبي في التصوف الإسلامي ، وما فشا / شاع هذا الخلط إلا بعد القرن السادس الهجري .
ويرى عاطف العراقي أن التصوف الإسلامي نشأ ، في المقام الأول ، على مبادئ الزهد والعبادة ، وهذا ما لا يمكن إرجاعه ، بأية حال ، إلى مصادر غير إسلامية . كما يشدد على أن الصوفية الأوائل قد صدروا ، حال تكلموا عن / في الأحوال والمقامات ، عن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فيؤكد " أن الصوفية تخصصوا بمكارم الأخلاق ، والبحث عن معالي الأحوال ، وفضائل الأعمال ، اقتداءً من جانبهم بالرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وصحابته والتابعين . وهذا كله موجود في كتاب الله عزّ وجل " .
يقول عاطف العراقي : " ننتهي من عرض آراء نفر من المستشرقين إلى القول بأن الكثير من القضايا والأحكام والاتهامات التي وُجّهتْ إلى الفلسفة العربية قد تلاشتْ ، أو هي في طريقها إلى الزوال . ذلك لأن هذه القضايا والاتهامات والأحكام لم تقمْ على جذور ثابتة من البحث العلمي النقدي الدقيق ، فهناك مشكلات خاصة بالفلسفة العربية دونَ غيرها من الفلسفات السابقة عليها والتالية لها . كما أنه ليس من المناسب ، إطلاقاً ، أن نقول إن عجلة الفكر الفلسفي قد توقفت فترة ، ونحدد هذه الفترة بأنها الفترة التي وُجِد فيها فلاسفة العرب . إن العجلة كانت دائرةً وفي دورانها أنتجتْ لنا العديد من الثمرات الفكرية الرائعة ، كما أن هناك آراء قال بها فلاسفة العرب لم يسبقهم إليها فلاسفة اليونان ، وإذا كان فلاسفة العرب قد تأثروا بفلاسفة اليونان ، فإن هذا التأثر يعد ، في حد ذاته ، مظهراً من مظاهر الصحة لا مظاهر المرض " ... ما يعني أن الفلسفة العربية قد كان لها موضوعاتها التي تختلف ، في بعض زواياها ، عن موضوعات الفلسفة اليونانية . إذ أن الفلسفة الإسلامية قد تأثرت ، دون شك ، بالبيئة التي نشأت فيها ، والتربية التي نمت عليها وترعرعتْ . وحينما انتقل تراث فلاسفة اليونان ، وخاصةً أرسطو ، إلى مفكري العرب ، أدركوا ما في مذهبه من نقص ، وما فيه من مسائل تخالف العقيدة الإسلامية ، وما فيه ، أيضاً ، من مسائل تركها أرسطو دون حلٍّ قاطع . ومن هنا بدأ فلاسفة العرب سد الثغرات التي وجدوها في مذهب أرسطو ؛ فمن إعجابهم الكبير بأرسطو نراهم يحاولون الدفاع عن الفلسفة قائلين إنها لا تتنافى مع الدين . ومن هنا نشأ موضوع التوفيق بين العقل والوحي ، أو بين الفلسفة والدين ، حتى تتم البرهنة على أن الفلسفة لا تخالف العقيدة الدينية . لا شك أن المسلمين واجهوا مشكلاتٍ جديدة لم يثرها ، باستفاضة ، فلاسفة اليونان ، كمشكلة النفس وخلودها ، ومشكلة العلاقة بين الخالق والمخلوق ، ومشكلة الوحي الإلهي .
انتهى .
 
كل الشكر والامتنان على روعهـ بوحـكـ
..
وروعهـ مانــثرت .. وجماليهـ طرحكـ
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top