الاسر الفقيرة والاسر الغنية ودخول الجنة

ابو عبد المعز

:: عضو مُشارك ::
إنضم
20 جوان 2011
المشاركات
160
نقاط التفاعل
5
النقاط
7
الأسر الفقيرة والأسر الغنية ودخول الجنة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد...
فقد اختلفت أنظار كثير من الأُسَر نحو الفقر والغنى، فمن الناس من يظن أن فقره من هوانه على ربه، وهؤلاء مخطئون قطعًا، وإلا لم يرزق الله تعالى الكافر، بل قال: }كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (الإسراء: 20)، ومنهم من يرى غناه علامة رضا من الله سبحانه، وهؤلاء أيضًا مخطئون؛ لأن الله تعالى قد يعطي العبد على خطاياه الكثيرة، وحينها يكون ذلك استدراجًا وليس حبًّا ولا رضًا بما يصنع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت الله يعطي العبد على معاصيه فإنما ذلك استدراج» (أحمد 17311 وصححه الألباني).
ومنهم من يعتبر الفقر شرفًا يوم القيامة، وسببًا للسبق نحو الجنة، وآخرون يرون الغنى طريق الدرجات عند الله، وفي هذا المقال نستعرض خلاصة اجتهاد أهل العلم في بيان ذلك.
عن أُسَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ، عَلَيْهِ الصلاة والسَّلام، قَالَ: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ» (متفق عليه).
وقوله صلى الله عليه وسلم: أصحاب الجَدّ بفتح الجيم أي: الغِنَى، وقوله صلى الله عليه وسلم: محبوسون أي ممنوعون من دخول الجنة مع الفقراء من أجل المحاسبة على المال، وكأن ذلك عند القنطرة التي يتقاصون فيها بعد الجواز على الصراط.
قال المهلب: فيه من الفقه أن أقرب ما يُدْخَل به الجنة: التواضع لله تعالى، وأن أبعد الأشياء من الجنة: التكبر بالمال وغيره، وإنما صار أصحاب الجد محبوسين؛ لمنعهم حقوق الله الواجبة للفقراء في أموالهم، فحُبِسُوا للحساب عما منعوه، فأما من أدى حقوق الله في أمواله، فإنه لا يُحبس عن الجنة، إلا أنهم قليل؛ إذ أكثر شأن المال تضييع حقوق الله فيه؛ لأنه محنة وفتنة، ألا ترى قوله: «فكان عامة من دخلها المساكين»، وهذا يدل أن الذين يؤدون حقوق المال ويسلمون من فتنته هم الأقل، وقد احتج بهذا الحديث في فضل الفقر على الغنى. (شرح صحيح البخاري لابن بطال 7/ 318).التفاضل بين الفقر والغنى


قال ابن بطال رحمه الله: طال تنازع الناس في هذه المسألة، فذهب قوم إلى تفضيل الفقر، وذهب آخرون إلى تفضيل الغنى.أدلة من فضل الفقر على الغنى


واحتج من فضَّل الفقر بهذه الآثار وبغيرها، فمنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين» (الترمذي 5352 وصححه الألباني).
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الفقراء يدخلون الجنة وأصحاب الجد محبوسون» (متفق عليه). ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، نصف يوم» (الترمذي 2353 وصححه الألباني). أدلة من فضَّل الغنى على الفقر


واحتج من فضَّل الغنى بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن المكثرين هم الأقلون، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا» (أحمد 21570 وصححه الألباني). وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين، أحدهما: رجل آتاه الله مالاً فسلّطه على هلكته في الحق» (متفق عليه).
وبقوله لسعد: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس» (متفق عليه). وقال لأبي لبابة حين قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله ورسوله: «أمسك عليك بعض مالك فإنه خير لك» (البخاري 1425). وقال في معاوية: «إنه صعلوك لا مال له» (مسلم 1480)، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليذمّ حالة فيها الفضل. الترجيح بين الأمرين


قال ابن بطال: وأحسن ما رأيت في هذه المسألة ما قاله أحمد بن نصر الداودي قال: «الفقر والغنى محنتان من الله تعالى وبليتان يبلو بهما أخيار عباده، ليبدي صبر الصابرين وشكر الشاكرين، وطغيان البطرين، وإنما أشكل ذلك على غير الراسخين، فوضع قوم الكتب في تفضيل الغنى على الفقر، ووضع آخرون في تفضيل الفقر، وأغفلوا الوجه الذي يجب الحض عليه والندب إليه، وأرجو لمن صحت نيته وخلصت لله طويته، وكانت لوجهه مقالته أن يجازيه الله على نيته ويعلمه، قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (الكهف: 7)، وقال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (الأنبياء: 35)، وقال: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ (فصلت: 51)، وقال: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (المعارج: 19- 21)، وقال تعالى: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (الفجر: 15، 16)، وقال: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ (الشورى: 27).
وقال: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ.. (الزخرف: 33) الآيـــــــة، وقــــــال: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (العلق: 6، 7)، وقال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (العاديات:
icon_cool.gif
، يعنى لحب المال، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا..» (متفق عليه). وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من فتنة الفقر، وفتنة الغنى، فدل هذا كله أن ما فوق الكفاف محنة، لا يسلم منها إلا من عصمه الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما قل وكفى خير مما كثر وألهى» (أحمد 21721 وصححه الألباني).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أُوتي بأموال كسرى: (ما فتح الله هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم. وقال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، اللهم إنك منعت هذا رسولك إكرامًا منك له، وفتحته علىَّ لتبتليني به، اللهم سلطني على هلكته في الحق واعصمني من فتنته».
فهذا كله يدل على فضل الكفاف، لا فضل الفقر كما خيلّ لهم، بل الفقر والغنى بليتان كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من فتنتهما، ويدل على هذا قوله تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (الإسراء: 29)، وقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (الفرقان: 67)، وقال: وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا (النساء: 5)، وقال في ولي اليتيم: وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (النساء: 6)، وقال: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ... (النساء: 9)، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة: «أمسك عليك بعض مالك» (البخاري 1425). وقال لسعد: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس» (متفق عليه).
وهذا من الغنى الذي لا يُطْغِي، ولو كان كلما زاد كان أفضل لنهاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصى بشيء، واقتصرت أيدي الناس عن الصدقات وعن الإنفاق في سبيل الله، وقال لعمرو بن العاص: «هل لك أن أبعثك في جيش يسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبةً من المال؟ فقال: ما للمال كانت هجرتي، إنما كانت لله ولرسوله. فقال: نعم المال الصالح للرجل الصالح» (البخاري في الأدب المفرد 299 وصححه الألباني). زبدة الكلام


ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليحض أحدًا على ما يُنقِص حظه عند الله، فلا يجوز أن يقال: إن إحدى هاتين الخصلتين أفضل من الأخرى؛ لأنهما محنتان، وكأن قائل هذا يقول: إن ذهاب يد الإنسان أفضل عند الله من ذهاب رجله، وإن ذهاب سمعه أفضل من ذهاب بصره؛ فليس هاهنا موضع للفضل، وإنما هي محن يبلو الله بها عباده؛ ليعلم الصابرين والشاكرين من غيرهما، ولم يأت في الحديث، فيما علمنا، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على نفسه بالفقر، ولا يدعو بذلك على أحد يريد به الخير، بل كان يدعو بالكفاف ويستعيذ بالله من شرّ فتنة الفقر وفتنة الغنى، ولم يكن يدعو بالغنى إلا بشريطة يذكرها في دعائه. فأماّ ما روي عنه أنه كان يقول: (اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين) (الترمذي 5352 وصححه الألباني). فإن ثبت في النقل فمعناه ألا يجاوز به الكفاف، أو يريد به الاستكانة إلى الله، ويدل على صحة هذا التأويل أنه ترك أموال بني النضير وسهمه من فدك وخيبر، فغير جائز أن يظن به أن يدعو إلى الله ألا يكون بيده شيء، وهو يقدر على إزالته من يده بإنفاقه. وما روي عنه أنه قال: «اللهم من آمن بي وصدّق ما جئت به، فأقلل له من المال والولد» (ضعفه الألباني).
فلا يصح في النقل ولا في الاعتبار، ولو كان إنما دعا بذلك في المال وحده لكان محتملاً أن يدعو لهم بالكفاف، وأما دعاؤه بقلة الولد، فكيف يدعو أن يقل المسلمون، وما يدفعه العيان مدفوع عنه صلى الله عليه وسلم، وأحاديثه لا تتناقض. كيف يذمّ معاوية، ويأمر أبا لبابة وسعدًا أن يبقيا ما ذكر من المال، ويقول: إنه خير، ثم يخالف ذلك، وقد ثبت أنه دعا لأنس بن مالك وقال: «اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته» (متفق عليه).
قال أنس: فلقد أحصت ابنتي أنى قدّمت من ولد صُلبي مَقْدِم الحجاج البصرة مائةً وبضعةً وعشرين نسمةً بدعوة رسول الله، وعاش بعد ذلك سنين ووُلد له». فلم يدع له بكثرة المال إلا وقد أتبع ذلك بقوله: «وبارك له فيما أعطيته». المبتلى بالغنى والمبتلى بالفقر

فإن قيل: فأي الرجلين أفضل: المبتلى بالفقر، أو المبتلى بالغنى إذا صلحت حال كل واحد منهما؟ قيل: السؤال عن هذا لا يستقيم؛ إذ قد يكون لهذا أعمال سوى تلك المحنة يفضل بها صاحبه والآخر كذلك، وقد يكون هذا الذي صلح حاله على الفقر لا يصلح حاله على الغنى، ويصلح حال الآخر على الفقر والغنى. فإن قيل: فإن كان كل واحد منهما يصلح حاله في الأمرين، وهما في غير ذلك من الأعمال متساويان قد أدّى الفقير ما يجب عليه في فقره من الصبر والعفاف والرضا، وأدّى الغني ما يجب عليه من الإنفاق والبذل والشكر والتواضع، فأي الرجلين أفضل؟ قيل: علم هذا عند الله.

وأمّا قوله: «وأصحاب الجد محبوسون» فإنما يُحبس لهذا أهل التفاخر والتكاثر، وإن من أدّى حق الله في ماله، ولم يرد به التفاخر وأرصد باقيه لحاجته إليه، فليس أولئك بأولى منه في السبق إلى شيء، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق» (متفق عليه). فبين أنه لا شيء أرفع من هاتين الحالتين، وهو المبين عن الله تعالى معنى ما أراد، ولو كان من هذه حاله مسبوقًا في الأخرى لما حضّ النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتنافس في عمله، ولحضّ أبا لبابة على الحالة التي يسبق بها إلى الجنة، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فالذي هي عليه وزر فرجل ربطها فخرًا ورياءً ونواءً لأهل الإسلام» (البخاري 2371). فهذا من المحبوسين للحساب بخلاف الأولين.آفات الغنى


غير أن آفات الغنى أكثر، والناجون من أهل الغنى أقل؛ إذ لا يكاد يسلم من آفاته إلا من عصمه الله؛ فلذلك عظمت منزلة المعصوم فيه؛ لأن الشيطان يسول فيه إما في الأخذ بغير حقه، أو في الوضع في غير حقه، أو في منعه من حقه، أو في التجبر والطغيان من أجله، أو في قلة الشكر عليه، أو في المنافسة فيه إلى ما لا يبلغ صفته. وإنما ينظر يوم القيامة بين الناس فيقدم الأقل حسابًا فالأقل، فلذلك قدم الفقراء؛ لأنهم لا شيء عليهم في حساب الأموال، فيدخلون الجنة قبل الأغنياء، ثم يحاسب أصحاب الأموال فيدخلون الجنة، وينالون فيها من الدرجات ما قد لا يبلغه الفقراء.
وكذلك ليس في قوله صلى الله عليه وسلم: «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء» (متفق عليه) ما يوجب فضل الفقراء، وإنما معناه أن الفقراء في الدنيا أكثر من الأغنياء، فأخبر عن ذلك كما نقول: أكثر أهل الدنيا الفقراء، لا من جهة التفضيل، وإنما هو إخبار عن الحال، وليس الفقر أدخلهم الجنة، إنما أدخلهم الله الجنة بصلاحهم مع الفقر؛ أرأيت الفقير إذا لم يكن صالحًا فلا فضل له في الفقر، وأما حديث سهل فلا يخلو أن يكون فضل الرجل الفقير على الغني من أجل فقره أو من أجل فضله، فإن كان من أجل فضله فلا حُجة فيه لمن فضّل الفقر، وإن كان من أجل فقره فكان ينبغي أن يُشترط في ملء الأرض مثله لا فقير فيهم.
ولا دليل في الحديث يدل على تفضيله عليه مع جهة فقره؛ لأنا نجد الفقير إذا لم يكن صالحًا؛ فكل غني صالح خير منه، وفى حديث خباب أن هجرتهم لم تكن لدنيا يصيبونها، ولا نعمة يستعجلونها، وإنما كانت لله؛ ليثيبهم عليها في الآخرة بالجنة والنجاة من النار، فمن قتل منهم قبل أن يفتح الله عليهم البلاد قالوا: مرّ ولم يأخذ من أجره شيئًا في الدنيا، وكان أجره في الآخرة موفرًا له، وكان الذي بقى منهم حتى فتح الله عليهم الدنيا، ونالوا من الطيبات؛ خشوا أن يكون عجّل لهم أجر طاعتهم وهجرتهم في الدنيا بما نالوا منها من النعيم؛ إذ كانوا على نعيم الآخرة أحرص.
وتركه صلى الله عليه وسلم الأكل على الخوان وأكل المرقق، فإنما فعل ذلك كأنه رفع الطيبات للحياة الدائمة في الآخرة، ولم يرض أن يستعجل في الدنيا الفانية شيئًا منها؛ أخذًا منه بأفضل الدارين، وكان قد خيّره الله بين أن يكون نبيًا عبدًا أو نبيًا ملكًا، فأختار عبدًا، فلزمه أن يفي الله بما اختاره.
والمال إنما يُرغب فيه مع مقارنة الدين ليستعان به على الآخرة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يحتج إلى المال من هذه الوجوه، وكان قد ضمن الله له رزقه بقوله: نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132). وقول عائشة رضي الله عنها: «لقد توفي رسول الله وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير» (متفق عليه) هو في معنى حديث أنس الذي قبله من الأخذ بالاقتصاد وبما يسد الجوعة، وفيه بركة النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أن الطعام المكيل يكون فناؤه معلومًا بالعلم بكيله، وأن الطعام غير المكيل فيه البركة؛ لأنه غير معلوم مقداره. (انتهى شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/167 – 173)).خلاصة القول


مما سبق يتبين أنه لا يجوز أن يقال: إن خصلة الفقر أفضل من خصلة الغنى أو العكس، لأنهما محنتان وفتنتان، كما قال ربنا سبحانه: }وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (الأنبياء: 35)، كما أن الناس ليسوا سواءً في مواجهة تلك الفتنتين، وقد ظهر ذلك جليًا في كتاب ربنا حين قال: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (الروم: 33)، فذلك فريق لا يعرف ربه ولا يدعوه منيبًا متضرعًا إلا إذا كُسِر ظهره في فقر ومصيبة، فإن جاءته النعمة أشرك.
وهناك فريق بخلاف ذلك، لا يعرف ربه إلا مع الغنى والنعمة، ويكون الفقر فتنة لـــه وسقوطًا، كمــــــا قـــــال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (الحج: 11)، وعليه لا يُعلم أيكون الفقر سببًا للتفضيل والنجاة والسبق إلى الجنة كمن اتقى أم الغنى، علم ذلك عند ربي، والسعيد من جُنِّب الفتن، غنيًّا كان أو فقيرًا، والحمد لله رب العالمين.
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top