{ الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى }

أم انس عبد الله

:: عضو مثابر ::

مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز
[font=traditional arabic,serif]الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى[font=traditional arabic,serif] (1)
بسم الله , والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد : فإن الدعوة إلى الله تعالى من أهم الواجبات الإسلامية , وهي سبيل الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة , وقد أمر الله بها في كتابه الكريم وأثنى على أهلها غاية الثناء، فقال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (2) وقال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (3) فانظر أيها القارئ الكريم , كيف أمر الله سبحانه في الآية الأولى بالدعوة إليه , وأوضح مراتب الدعوة حتى يكون الداعي في هذا السبيل العظيم على بصيرة، وما ذاك إلا لأن المدعوين أصناف كثيرة وطبقات مختلفة .
فمنهم الراغب في الخير ولكنه غافل قليل البصيرة فيحتاج إلى دعوته بحكمة : وهي تفهيمه الحق وإرشاده إليه وتنبيهه على ما فيه من المصلحة العاجلة والآجلة , فعند ذلك يقبل الدعوة وينتبه من غفلته وجهله ويبادر إلى الحق , ومنهم المعرض عن الحق المشتغل بغيره فمثل هذا يحتاج إلى الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والتنبيه على ما في التمسك بالحق من المصالح العاجلة والآجلة
__________
(1) نشرت في مجلة راية الإسلام ، العدد الأول ، ذو الحجة 1379هـ السنة الأولى ، من ص 9 والبقية في ص 12 ، والعدد الثالث ، صفر سنة 1380هـ .
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة فصلت الآية 33

(2/341)
[font=traditional arabic,serif]وعلى ما في خلافه من الشقاء والفساد وسيئ العواقب، ولعله بهذا يجيب إلى الحق ويترك ما هو عليه من الباطل .
ولا ريب أن هذا المقام مقام عظيم يحتاج الداعي فيه إلى مزيد من الصبر والحلم والرفق بالمدعو تأسيا بإمام الدعاة وسيدهم وهو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ، الطبقة الثالثة من الناس من له شبهة قد حالت بينه وبين فهم الحق والانقياد له فهذا يحتاج إلى مناقشة وجدال بالتي هي أحسن حتى يفهم الحق وتنزاح عنه الشبهة . ومثل هذا يجب على الداعي أن يرفق به أكثر من الذين قبله وأن يصبر على مناقشة واقتلاع جذور الشبهة من قلبه , وذلك بإيضاح الأدلة الدالة على الحق وتنويعها وشرحها شرحا وافيا جليا على حسب لغة المدعو وعرفه , إذ ليس كل أحد يفهم اللغة العربية فهما جيدا , وإن كان من أهل العلم فإنه قد يدخل عليه من لغته وعادته وعادة قومه ما يلبس عليه المعنى الذي أراده الشارع فيحصل بذلك خطأ كبير وقول على الله ورسوله بغير علم .
ولا يخفى على من له أدنى بصيرة ما يترتب على ذلك من الفساد الكبير في الدنيا والآخرة. ومن هنا يعلم الداعي إلى الله تعالى أنه في حاجة شديدة إلى الفقه في الدين , والبصيرة بأحكام الشريعة , والمعرفة بلغة المدعوين وعرفهم , وذلك يوجب عليه التوسع في فهم الكتاب والسنة والعناية بمعرفة ما أراد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - , والعناية أيضا بدراسة اللغة العربية وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من حين بعثه الله إلى أن قبضه إليه دراسة وافية حتى يتمكن بذلك من إرشاد الأمة إلى ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أخلاق وأعمال , وعلى حسب اجتهاده وعمله وصبره يكون حظه من الثناء

(2/342)
[font=traditional arabic,serif]الحسن الذي أثنى الله به على الدعاة إليه في الآية المتقدمة وهي قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا } (1) الآية .
وهذه الآيه الكريمة تفيد أن الدعاة إلى الله عز وجل هم أحسن الناس قولا إذا حققوا قولهم بالعمل الصالح , والتزموا الإسلام عن إيمان ومحبة وفرح بهذه النعمة العظيمة , وبذلك يتأثر الناس بدعوتهم وينتفعون بها ويحبونهم عليها , بخلاف الدعاة الذين يقولون ما لا يفعلون فإنهم لا حظ لهم من هذا الثناء العاطر , ولا أثر لدعوتهم في المجتمع، وإنما نصيبهم في هذه الدعوة المقت من الله سبحانه والسب من الناس والإعراض عنهم والتنفير من دعوتهم , قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } (2) { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } (3) وقال الله موبخا لليهود : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } (4) فأرشد سبحانه في هذه الآية إلى أن مخالفة الداعي لما يقول أمر يخالف العقل كما أنه يخالف الشرع , فكيف يرضى بذلك من له دين أو عقل .
اللهم اهدنا لما فيه رضاك واجعلنا من الذين يهدون بالحق وبه يعملون , إنك أكرم مسئول وخير مجيب .
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة الصف الآية 2
(3) سورة الصف الآية 3
(4) سورة البقرة الآية 44

(2/343)
[font=traditional arabic,serif]الدعوة إلى الله وأثرها في المجتمع[font=traditional arabic,serif] (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد : فلقد رفع الله شأن الدعاة إليه وأبلغ في الثناء عليهم , حيث يقول سبحانه : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (2) ولا ريب أن هذا الثناء يحفز الهمم ويلهب الشعور ويخفف عبء الدعوة ويدعو إلى الانطلاق في سبيلها بكل نشاط وقوة . وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري - رحمه الله - أنه تلى هذه الآية الكريمة : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ } (3) الآية . فقال : هذا حبيب الله , هذا ولي الله , هذا صفوة الله , هذا خيرة الله , هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحا في إجابته , وقال إنني من المسلمين . هذا خليفة الله . انتهى .
ولا ريب أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - هم سادة الناس في الدعوة وهم أولى الناس بهذه الصفات الجليلة التي ذكرها الحسن - رحمه الله - وأولاهم بذلك وأحقهم به على التمام والكمال؛ إمامهم وسيدهم وأفضلهم وخاتمهم نبينا محمد بن عبد الله بن
__________
(1) نشرت في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، العدد الثاني ، السنة الثانية ، شوال عام 1389هـ .
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة فصلت الآية 33

(2/344)
[font=traditional arabic,serif]عبد المطلب - صلى الله عليه وسلم - الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة وصبر على الدعوة إلى ربه أتم صبر وأكمله , حتى أظهر الله به الدين وأتم به النعمة ودخل الناس بسبب دعوته في دين الله أفواجا . ثم سار أصحابه الكرام بعده على هذا السبيل العظيم والصراط المستقيم فصدقوا الدعوة ونشروا لواء الإسلام في غالب المعمورة , لكمال صدقهم وعظيم جهادهم وصبرهم على الدعوة والجهاد صبرا لا يعتريه ضعف أو فتور , وتحقيقهم الدعوة والجهاد بالعمل في جميع الأحوال , فضربوا بذلك للناس بعد الرسل أروع الأمثال وأصدقها في الدعوة والجهاد والعلم النافع والعمل الصالح , وبذلك انتصروا على أعدائهم وبلغوا مرادهم وحازوا قصب السبق في كل ميدان .
وهم أولى الناس بعد الرسل بالثناء والصفات السالفة التي ذكرها الحسن , وكل من سار على سبيلهم وصبر على الدعوة إلى الله , وبذل فيها وسعه فله نصيبه من هذا الثناء الجزيل الذي دلت عليه الآية الكريمة والصفات الحميدة التي وصف بها الحسن الدعاة إلى الحق , وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « من دل على خير فله مثل أجر فاعله » (1) , وقال - عليه الصلاة والسلام - : « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا » (2) خرجهما مسلم في صحيحه .
وقال لعلي - رضي الله عنه - لما بعثه إلى خيبر : « فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم » (3) متفق على صحته .
وفي هذه الأحاديث وما جاء في معناها تنبيه للدعاة إلى الله والمجاهدين في سبيله على أن المقصود من الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه هو هداية البشر وإخراجهم من الظلمات
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893),سنن الترمذي العلم (2671),سنن أبو داود الأدب (5129),مسند أحمد بن حنبل (4/120).
(2) صحيح مسلم العلم (2674),سنن الترمذي العلم (2674),سنن أبو داود السنة (4609),مسند أحمد بن حنبل (2/397),سنن الدارمي المقدمة (513).
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2783),صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406),سنن أبو داود العلم (3661),مسند أحمد بن حنبل (5/333).

(2/345)
[font=traditional arabic,serif]إلى النور وانتشالهم من وهدة الشرك وعبادة الخلق إلى عز الإيمان ورفعة الإسلام وعبادة الإله الحق الواحد الأحد الذي لا تصلح العبادة لغيره ولا يستحقها سواه سبحانه وتعالى , وليس المقصود من الدعوة والجهاد هو سفك الدماء وأخذ المال واسترقاق النساء والذرية وإنما يجيء ذلك بالعرض لا بالقصد الأول , وذلك عند امتناع الكفار من قبول الحق وإصرارهم على الكفر وعدم إذعانهم للصغار وبذل الجزية حيث قبلت منهم فعند ذلك شرع الله للمسلمين قتالهم واغتنام أموالهم واسترقاق نسائهم وذرياتهم , ليستعينوا بهم على طاعة الله ويعلموهم شرع الله , وينقذوهم من موجبات العذاب والشقاء ويريحوا أهل الإسلام من كيد المقاتلة وعدوانهم ووقوفهم حجر عثرة في طريق انتشار الإسلام ووصوله إلى القلوب والشعوب , ولا ريب أن هذا من أعظم محاسن الإسلام التي يشهد له بها أهل الإنصاف والبصيرة من أبنائه وأعدائه , وذلك من رحمة الله الحكيم العليم الذي جعل هذا الدين الإسلامي دين رحمة وإحسان وعدل ومساواة يصلح لكل زمان ومكان ويفوق كل قانون ونظام .
ولو جمعت عقول البشر كلهم وتعاضدوا على أن يأتوا بمثله أو أحسن منه لم يستطيعوا إلى ذلك من سبيل , فسبحان الذي شرعه ما أحكمه وأعدله , وما أعلمه بمصالح عباده , وما أبعد تعاليمه من السفه والعبث وما أقربها من العقول الصحيحة والفطر السليمة .
فيا أيها الأخ المسلم , ويا أيها العاقل الراغب في الحق تدبر كتاب ربك وسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - وادرس ما دل عليه من التعاليم

(2/346)
[font=traditional arabic,serif]القويمة والأحكام الرشيدة والأخلاق الفاضلة تجد ما يشفي قلبك ويروي غلتك ويشرح صدرك ويهديك إلى سواء السبيل .
ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين , ويفقههم في الدين , وينصر بهم الحق , وأن يوفق ولاة أمرهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد , وأن يعينهم على القيام بالدعوة إليه على بصيرة إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .

(2/347)
[font=traditional arabic,serif]ما هكذا الدعوة إلى إصلاح الأوضاع يا حمد[font=traditional arabic,serif] (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله , أما بعد :
فقد اطلعت على ما نشر في جريدة السياسة بعددها 668 في 19 \ 8 \ 1404 هـ لكاتبه حمد السعيدان , وقد نسب إلي هداه الله كلاما عن حلق اللحية تجرأ فيه بشيء لم أقله , ومما ذكر أني قلت : أي فتوى تصدر باسمي يجب أن تكون ممهورة بخاتمي ومصدقة من وزارة الأوقاف الإسلامية . وهذا الكلام ظاهر البطلان لأني لم أشترط يوما ما تصديق وزارة الأوقاف الإسلامية على ما يصدر مني من الفتاوى . ثم استرسل في الكلام عن حلق اللحية وغيرها وزعم أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى » (2) يقتضي بهذا العصر أن نحلق اللحى؛ لأن المجوس واليهود والسيخ وغيرهم يطلقون اللحى , وقال : ( وعليه يجب مخالفة هذه الفئات نحلق لحانا ) .
وقد قام رجال الأزهر بتطبيق هذا الحديث وهو مخالفة
__________
(1) نشرت في مجلة البحوث الإسلامية ، العدد 15 ص 12 - 15 .
(2) رواه البخاري في كتاب (اللباس) باب (تقلين الأظافر) ص 264 ، ومسلم بشرح النووي في كتاب (الطهارة) باب (خصال الفطرة) ج2 ، ص147 واللفظ له .

(2/347)
[font=traditional arabic,serif]المشركين وغيرهم وحلقوا لحاهم ) إلى آخر ما قال . ولا شك أن هذا جرأة من الكاتب وسوء أدب منه مع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فبيانه - صلى الله عليه وسلم - واضح وأمره واجب الامتثال والتنفيذ ويخشى على مخالفه من العاقبة السيئة , كما قال تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (1) وأمره - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحية واضح , وتنفيذه واجب إلى قيام الساعة سواء وفر الكفار لحاهم أم حلقوها , وموافقتهم لنا في شيء من شرعنا كإعفاء اللحية لا يقتضي أن نخالف شرعنا , كما أن دخولهم في الإسلام أمر واجب عليهم ومحبوب لنا ونحن مأمورون بدعوتهم إلى ذلك ولا يقتضي ذلك خروجنا من الإسلام إذا دخلوا فيه حتى نخالفهم , بل علينا أن ندعوهم إلى دين الله وألا نتشبه بهم فيما خالفوا فيه شرع الله , وهذا أمر معلوم عند جميع أهل العلم .
وهذه الجرأة من الكاتب في حمل الحديث الشريف على وجوب حلقها; لأن بعض المشركين تركوا حلقها جرأة شنيعة في نشر الباطل والدعوة إليه , ثم هي مخالفة للواقع فليس كل الكفار قد وفروا لحاهم بل فيهم من يعفيها وفيهم من يحلقها . ولو فرضنا أنهم كلهم أعفوها لم يجز لنا أن نخالف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنحلقها لمخالفتهم , وهذا لا يقوله من له أدنى علم وبصيرة بشرع الله عز وجل , ويلزم عليه لوازم باطلة ومنكرات كثيرة .
وأما ما ذكره عن شيوخ الأزهر من كونهم حلقوا لحاهم لما رأوا بعض الكفار قد أعفاها فهذا لو سلمنا صحته لا حجة فيه , فإن مخالفة بعض المسلمين لما شرعه الله
__________
(1) سورة النور الآية 63

(2/348)
[font=traditional arabic,serif]لا يحتج بها على ترك الشرع المطهر , بل الواجب الإنكار على من خالف الشرع والتحذير من الاقتداء به , لا أن يحتج بعمله على مخالفة الشرع . وكثير من العلماء قد خالفوا الشرع المطهر في مسائل كثيرة إما لجهل بالدليل , وإما لأسباب أخرى , ولا يجوز أن يكونوا حجة في جواز مخالفة ما علم من الشرع لكونهم لم يأخذوا به , بل غاية ما هناك أن يعتذر عنهم بأن الشرع لم يبلغهم أو بلغهم من وجه لم يثبت لديهم أو لأعذار أخرى , كما بسط ذلك الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الجليل : ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) وقد أجاد فيه وأفاد وأوضح أعذار أهل العلم فيما خالفوا من الشرع فليراجع فإنه مفيد جدا لطالب الحق .
وإني أنصح الكاتب ( حمد ) بأن يتقي الله ويحذر لمز الملتحين وسوء الظن بهم , كما أنصحه بأن يحسن الظن بجميع إخوانه المسلمين الذين يحرصون على تطبيق الشريعة ويتتبعون سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويتأسون به في أقواله وأعماله , وأن يحملهم على أحسن المحامل عملا بقول الله عز وجل في سورة الحجرات : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (1) ومعنى قوله : { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } (2) أي : لا يلمز بعضكم بعضا , واللمز : العيب , ثم قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } (3) الآية , فأمر
__________
(1) سورة الحجرات الآية 11
(2) سورة الحجرات الآية 11
(3) سورة الحجرات الآية 12

(2/349)
[font=traditional arabic,serif]سبحانه باجتناب كثير من الظن وأخبر أن بعضه إثم وهو الظن الذي لا دليل عليه ولا أمارة شرعية ترشد إليه .
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » (1) وهذا كله لا يمنع من نصيحة من أخطأ من أهل العلم أو الدعاة إلى الله في شيء , من عمله أو دعوته أو سيرته , بل يجب أن يوجه إلى الخير ويرشد إلى الحق بأسلوب حسن , لا باللمز وسوء الظن والأسلوب العنيف , فإن ذلك ينفر من الحق أكثر مما يدعو إليه , ولهذا قال عز وجل لرسوليه موسى وهارون لما بعثهما إلى أكفر الخلق في زمانه : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (2) وأخبر الله عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما جبله عليه من الرفق والحكمة واللين واللطف في الدعوة فقال سبحانه : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } (3) الآية، وأمره سبحانه أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة , فقال عز وجل : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (4) وهذا الأمر ليس خاصا به - صلى الله عليه وسلم - بل هو موجه إليه وإلى جميع علماء الأمة وإلى كل داع يدعو إلى حق ؛ لأن أوامر الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لا تخصه بل تعم الأمة جميعا , إلا ما قام الدليل على أنه خاص به , ولقول الله سبحانه : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } (5) الآية، ولقوله عز وجل : { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (6)
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (4849),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2563),سنن الترمذي البر والصلة (1988),مسند أحمد بن حنبل (2/465),موطأ مالك الجامع (1684).
(2) سورة طه الآية 44
(3) سورة آل عمران الآية 159
(4) سورة النحل الآية 125
(5) سورة الأحزاب الآية 21
(6) سورة الأعراف الآية 157

(2/350)
[font=traditional arabic,serif]وقوله سبحانه : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (1) وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « من يحرم الرفق يحرم الخير كله » (2) .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه , ولا ينزع من شيء إلا شانه » (3) وقال أيضا - عليه الصلاة والسلام - : « إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف » (4) في أحاديث كثيرة تدل على أن الواجب على الدعاة إلى الله سبحانه والناصحين لعباده أن يتخيروا الأساليب المفيدة والعبارات التي ليس فيها عنف ولا تنفير من الحق , والتي يرجى من ورائها انصياع من خالف الحق إلى قبوله والرضى به وإيثاره والرجوع عما هو عليه من الباطل , وأن لا يسلك في دعوته المسالك التي تنفر من الحق ويدعو إلى رده وعدم قبوله .
وأسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه , والثبات عليه , والدعوة إليه على بصيرة , وأن يعيذنا وسائر المسلمين من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , ومن القول عليه سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم إنه ولي ذلك والقادر عليه , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .
__________
(1) سورة التوبة الآية 100
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592),سنن أبو داود الأدب (4809),سنن ابن ماجه الأدب (3687),مسند أحمد بن حنبل (4/366).
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594),سنن أبو داود الأدب (4808),مسند أحمد بن حنبل (6/125).
(4) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6528),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2593),سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701),مسند أحمد بن حنبل (6/37).

(2/351)
[font=traditional arabic,serif]ما هكذا الدعوة إلى الله يا صالح[font=traditional arabic,serif] (1)
الحمد لله , والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
أما بعد : فقد اطلعت على ما كتبه الشيخ صالح محمد جمال بجريدة الندوة في عدد الاثنين 2 \ 4 \ 1405هـ تحت عنوان ( خطب الجمعة وحوادث الساعة ) . وقد ساءني ما تضمنه من اعتراض الكاتب على خطيب المسجد الحرام , وما قاله الكاتب عن المولد النبوي . وما قاله في المآدب التي يقيمها أهل الميت في اليوم الثالث من الوفاة .
فالكاتب هداه الله إلى الصواب خاض في هذه الأمور بغير علم , واعترض على الخطيب واعتبر حديثه كلاما مملا وهذا اعتراض بالباطل ؛ لأن ما قاله الخطيب حق وفي محله , وليس كلاما مملا بل هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . وقد لعن بني إسرائيل لتخاذلهم في الأمر بالمعروف وتركهم المنكر يظهر بين قومهم فلا يغيرونه , فقال عز وجل : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } (2) { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } (3)
__________
(1) نشرت في مجلة البحوث الإسلامية ، العدد 12 من ص 369 - 374 .
(2) سورة المائدة الآية 78
(3) سورة المائدة الآية 79

(2/352)
[font=traditional arabic,serif]ولا يرضى مسلم صحيح العقيدة سليم الإيمان بربه أن يتصف بعمل كفار بني إسرائيل في عدم إنكار المنكر والتساهل به وعدم التحذير منه , وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه » (1) .
أما ما يتعلق بالاحتفال بالمولد النبوي فقد قامت الأدلة الشرعية على أنه لا يجوز الاحتفال بمولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره ؛ لأن ذلك من البدع المحدثة , لكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله ولا أحد من خلفائه الراشدين أو أصحابه - رضوان الله عليهم أجمعين - ولم يفعله أيضا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة وهم أعلم الناس بالسنة , وأكمل حبا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وأحرص على متابعة شرعه ممن بعدهم . وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » (2) أي : مردود عليه . وقال في حديث أخر : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة » (3) .
ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل
__________
(1) رواه ابن ماجه في الفتن بهذا المعنى
(2) رواه ابن ماجه في الفتن بهذا المعنى
(3) رواه البخاري في كتاب الصلح (5)، ومسلم في كتاب الأقضية (17).

(2/353)
[font=traditional arabic,serif]بها , وقد قال سبحانه في كتابه المبين : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1) وقال عز وجل : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (2) وقال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (3) وذم سبحانه من شرع في دين الله ما لم يأذن به فقال : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (4)
والآيات في هذا المعنى كثيرة , وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ الأمة ما ينبغي أن تعمل به حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله , وهذا بلا شك فيه خطر عظيم واعتراض على الله سبحانه , وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة , ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ البلاغ المبين .
فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأمة أو فعله في حياته أو فعله أصحابه - رضي الله عنهم - , فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء . بل هو من المحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته كما
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة النور الآية 63
(3) سورة التوبة الآية 100
(4) سورة الشورى الآية 21

(2/354)
[font=traditional arabic,serif]تقدم ذلك في الحديثين السابقين , وقد جاء في معناهما أحاديث أخرى مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة : « أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة » (1) رواه الإمام مسلم في صحيحه .
وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها كشيخ الإسلام ابن تيمية , والشاطبي , وآخرين عملا بالأدلة المذكورة وغيرها , وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شيء من المنكرات كالغلو في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وكاختلاط النساء بالرجال واستعمال آلات الملاهي وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر , وظنوا أنها من البدع الحسنة , والقاعدة الشرعية رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - , وقد رددنا هذه المسألة - وهي الاحتفال بالمولد - إلى كتاب الله سبحانه فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به ويحذرنا أن نشرع في دينه ما لم يأذن به , ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها , وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا وأمرنا باتباع الرسول فيه .
وقد رددنا ذلك أيضا إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به، ولا فعله أصحابه - رضي الله عهم - , فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين بل هو من البدع المحدثة , ومن التشبه باليهود والنصارى في أعيادهم , وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام , بل هو من البدع المحدثات التي أمرنا الله ورسوله بتركها
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867),سنن النسائي صلاة العيدين (1578),سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954),سنن ابن ماجه المقدمة (45),مسند أحمد بن حنبل (3/311),سنن الدارمي المقدمة (206).

(2/355)
[font=traditional arabic,serif]والحذر منها .
ولا ينبغي لعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين , وإنما يعرف بالأدلة الشرعية . قال الله تعالى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (1) والخطيب في المسجد الحرام وفقه الله قد أحسن في إنكاره بدعة المولد ونصح لله ولعباده بأسلوب حسن وأدلة واضحة على أعظم منبر إسلامي، حتى تعم الفائدة وتقوم الحجة على من لم تبلغه . فالاعتراض عليه غلط محض واعتراض في غير محله وجرأة على الله وعلى دينه بغير علم ولا هدى , ومخالفة لما تقدم من الأدلة الشرعية , وليس في البدع شيء حسن بل كلها ضلالة كما قال ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أما الولائم التي تقام للعزاء بعد الموت فلاشك أنها من أمر الجاهليه , ومن النياحة التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن جهل الكاتب هداه الله ذلك , وإنما السنة عند الموت أن يصنع طعام لأهل الميت يبعث به إليهم إعانة لهم وجبرا لقلوبهم , فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم , لما روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بسند صحيح عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنهما - قال : لما جاء نعي جعفر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهله : « اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد أتاهم ما يشغلهم » (2) فهذا هو السنة .
وأما صنع الطعام من أهل الميت للناس سواء كان ذلك من مال
__________
(1) سورة الأنعام الآية 116
(2) سنن الترمذي الجنائز (998),سنن أبو داود الجنائز (3132),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610).

(2/356)
[font=traditional arabic,serif]الورثة أو من ثلث الميت أو من شخص آخر فهذا لا يجوز ؛ لأنه خلاف السنة ومن عمل الجاهلية كما تقدم , ولأن في ذلك زيادة تعب لهم على مصيبتهم وشغلا إلى شغلهم . وقد روى أحمد وابن ماجه بإسناد جيد عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - أنه قال « كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة » (1) . ولم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه - رضي الله عنهم - ولا عن السلف الصالح إقامة حفل للميت مطلقا لا عند وفاته ولا بعد أسبوع ولا بعد أربعين يوما ولا بعد سنة من وفاته , بل ذلك بدعة يجب تركها وإنكارها والتوبة إلى الله منها لما فيها من الابتداع في الدين ومشابهة أهل الجاهليه .
وقد قال الإمام العلامة أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي - رحمه الله - في كتابه المغني ما نصه : ( مسألة : قال ولا بأس أن يصلح لأهل الميت طعاما يبعث به إليهم ولا يصلحون هم طعاما يطعمون الناس . وجملة ذلك أنه يستحب إصلاح طعام لأهل الميت يبعث به إليهم إعانة لهم وجبرا لقلوبهم فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم .
وقد روى أبو داود في سننه بإسناده عن عبد الله بن جعفر قال : لما جاء نعي جعفر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد أتاهم أمر شغلهم » (2) . وروي عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال : ( فما زالت السنة فينا حتى تركها من تركها فأما صنع أهل الميت طعاما للناس فمكروه; لأن فيه زيادة على مصيبتهم وشغلا لهم إلى شغلهم وتشبها بصنع أهل الجاهلية . ويروى أن جريرا وفد على عمر فقال:
__________
(1) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1612).
(2) سنن الترمذي الجنائز (998),سنن أبو داود الجنائز (3132),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610).

(2/357)
[font=traditional arabic,serif](هل يناح على ميتكم؟ قال: لا، قال: وهل يجتمعون عند أهل الميت ويجعلون الطعام؟ قال: نعم قال ذاك النوح) انتهى المقصود .
وأما قول الكاتب هداه الله وهل كل ما لم يفعله الرسول وأصحابه حرام أم العكس هو الصحيح , أي : أن الأصل في كل الأعمال هو الحل إلا ما ورد نص بالتحريم . فهذا الكلام فيه إجمال وإفراط وليس على إطلاقه , والصواب أن يقال : إن ما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم فيما - يتعلق بالعبادات لا يجوز لأحد إحداثه ولا تشريعه للناس ؛ لأن العبادات توقيفية لا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله , فمن أحدث شيئا من العبادات فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله , ويعتبر بذلك مبتدعا مخالفا للشرع المطهر يجب رد بدعته عليه للأدلة السابقة , ومن ذلك الاحتفال بالموالد كما تقدم , وهكذا ما كان من أمر الجاهلية لا يجوز لأحد إحداثه ولا إقراره كإقامة المآتم بعد الموت؛ لأن أمر الجاهلية كله مرفوض ومنهي عنه إلا ما أقره الشرع المطهر , لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع : « إن أمر الجاهلية كله موضوع » .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر لما عير رجلا بأمه : « إنك امرؤ فيك جاهلية » (1) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة , وقد قال الله سبحانه في كتابه المبين لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } (2) الآية .
أما الأمور الأخرى التي لا تعلق لها بالعبادات ولا بأمر الجاهلية
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (30),صحيح مسلم الأيمان (1661),سنن أبو داود الأدب (5157).
(2) سورة الأحزاب الآية 33

(2/358)
[font=traditional arabic,serif]فالأصل فيها الحل إلا ما حرمه الشرع كأنواع المآكل والمشارب والصناعات ونحو ذلك ؛ لأن الناس أعلم بأمور دنياهم . ويستثنى من ذلك ما حرمه الله ورسوله كلبس الذهب والحرير للذكور , وكتشبه الرجال بالنساء ونحو ذلك مما نص الشرع على النهي عنه فهو مستثنى من هذه القاعدة . ولما أوجب الله من النصح له سبحانه ولعباده , ولما يجب من التنبيه على الأخطاء التي وقع فيها الكاتب وأعلنها , رأيت التنبيه على ذلك , وأسأل الله أن يوفقنا والكاتب وسائر المسلمين لما يرضيه من القول والعمل , وأن يمن على الجميع بالتوبة النصوح , وأن يرزقنا جميعا التمسك بكتابه وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - والحذر مما يخالفهما إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .

(2/359)
[/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font][/font]
 
تنبيه: نظرًا لتوقف النقاش في هذا الموضوع منذ 365 يومًا.
قد يكون المحتوى قديمًا أو لم يعد مناسبًا، لذا يُنصح بإشاء موضوع جديد.
العودة
Top Bottom