حكم تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية

azam

:: عضو مُشارك ::
إنضم
12 جانفي 2012
المشاركات
275
نقاط التفاعل
0
النقاط
6
حكم تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية



مقدمة الطبعة الثانية


بسم الله الرحمن الرحيم​

الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام وجعلنا من أتباع خير الأنام، وحمَّلنا أمانة الدعوة إلى دينه القويم وحمْلِ رسالته للعالمين، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد بن عبد الله خير من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه هي الطبعة الثانية من رسالتي حول حكم تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية والتي نشرت طبعتها الأولى منذ ما يزيد على سبع سنين.

ولكتابة هذه الرسالة قصة أرى من المناسب إثباتها في هذا المقام؛ فلعل معرفة ظروف كتابة الرسالة تعين على حُسن تفهُّم ما ورد فيها.

فمنذ حوالي عشر سنين بدأت أجهزة الإعلام في مصر تُشغَل بما أطلقت عليه حوادث العنف والاعتداء على بعض المواطنين التي تحدث في بعض مناطق صعيد مصر وخصوصًا في الجامعات، وفي الحقيقة فإن ذلك لم يكن إلا تشويهاً متعمداً لقيام بعض أبناء الحركة الإسلامية بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد كان القيام بهذا الواجب امتدادًا لعودة صادقة للإسلام ظهرت قبل ذلك بعدة سنوات وكان من أهم مظاهرها تلك الحركة التي نشأت في جامعات مصر تحت اسم ((الجماعة الإسلامية)).

ثم إن تلك الحوادث لم تكن إلا جانباً واحداً من جوانب عدة تشمل الدعوة إلى الله عز وجل ونشر العقيدة السلفية الصحيحة وتربية الشباب تربية إسلامية تعتمد على العلم الشرعي وتزكية النفس بأنواع الطاعات والعبادات، بل وتشمل أيضاً العمل الاجتماعي الخيري؛ كمساعدة الفقراء والمحتاجين، والقيام بجهود الوساطة للصلح بين العائلات التي تقوم بينها المعارك والحروب بسبب انتشار عادة الأخذ بالثأر المعروفة في صعيد مصر.

وكان الإعلام الخبيث - ولا يزال - يركز على جانب واحد من تلك الجوانب ويظهره على غير حقيقته وهو جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو حتى في هذا الجانب كان يهمل عشرات الحالات التي يتم فيها تغيير المنكر بيسر وسهولة عن طريق اقتناع القائمين به بخطأ ما هم عليه بينما يتم التركيز على تلك الحالات القليلة التي تدعو فيها الحاجة إلى شيء من الشدة والقوة ويسميها تطرفاً وإرهاباً واعتداءً على حريات الآخرين.

وفي تلك الفترة وما بعدها كان النظام الحاكم في مصر يجرب أنواعاً من وسائل مواجهة الحركة الإسلامية للقضاء عليها، فإلى جانب الملاحقات الأمنية التي لم تنقطع في وقت من الأوقات (1) كانت تلك الحملات الإعلامية التي أشرنا إلى شيء منها، وكان من أخطر الوسائل التي استخدمها النظام العلماني استمالة طائفة من المشايخ والمنتسبين للعلم الشرعي ليبرروا للنظام باطله ويكونوا عوناً له في حرب دعاة الحق الصادقين.

وكان على رأس هؤلاء الشيخ/ سيد طنطاوي مفتي الجمهورية* و د/ محمد علي محجوب وزير الأوقاف، فقد توليا كبر هذا الأمر، وأخذا يجوبان مدن مصر من أجل تنفيذ الغاية السابقة. وكان من فضل الله سبحانه وتعالى أن عقدت بعض المناظرات بين مشايخ السلطان وبين الدعاة وطلبة العلم اتضح بها الحق لدى كثير من الناس بحمد الله عز وجل.

وكان من قدر العبد الفقير - كاتب هذه السطور - أن شارك في مناظرة كان طرفها الآخر المفتي ووزير الأوقاف وعُقدت في مدينة أسيوط (كان ذلك في أوائل العام 1408ه) وقد وفقنا الله فيها لبيان بعض القضايا الشرعية التي كان من أهمها القضية التي نحن بصددها: قضية تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية، وقد ذكرنا في ذلك بعض الأدلة الشرعية وأقوال العلماء الدالة على الإجماع على أن تغيير المنكر باليد ليس قاصراً على الحكام، أما المفتي والوزير - وهما حاملا لواء الدعوة إلى أن تغيير المنكر باليد لا يجوز لغير الحكام - فقد كانت أدلتهما في تلك المناظرة بعض التحكمات العقلية في مقابل النصوص الشرعية من مثل القول بأن تغيير المنكر باليد من قِبَل غير الحكام يؤدي إلى الفوضى، أو التمسك بعمومات ليست في محل النزاع كالقول بأن الإسلام دين الرفق والسماحة وأن الدعوة لا بد أن تكون بالموعظة الحسنة، وأخيراً قال المفتي إنه المفتي الرسمي للدولة بما يعني أن فتواه لا بد أن تكون ملزمة للجميع، وهذا قول مردود؛ فإنه ليس لأحد - كائناً من كان - أن يلزمنا بما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إننا نقول: إن كنت ترى أن إلزامك لنا مبني على أنك مُعين من قبل رئيس الدولة، فإنه عندنا حاكم ساقط الشرعية، لا ولاية له على المسلمين (2).

وفي تلك الفترة كثُر اللغط حول هذه القضية، وصار كل من هب ودب يتكلم فيها، وصار أمراً عادياً أن تتناقل وسائل الإعلام الحكومية كل يوم تقريباً تصريحات للمفتي ووزير الأوقاف حول هذا الموضوع، ووصل الأمر بوزير الأوقاف إلى أن قال حول المناظرة التي أشرت إليها إنه حين ذهب إلى أسيوط وجد سبع جماعات يكفر بعضها بعضاً، وإنه قد تقدم طالب جامعي صغير ليناظره هو والمفتي.

والحق أن هذا لم يكن إلا محض كذب وافتراء (3).

في تلك الأجواء رأيت الحاجة داعية إلى كتابة هذه الرسالة التي بَينتُ فيها - بحمد الله تعالى - ما أراه صواباً في هذه المسألة، مؤيداً بالأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله ثم بأقوال أهل العلم من سلف هذه الأمة ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم.

ولعله من تمام القول في ذلك أن أذكر أنه عُقد فيما بعد (في جمادى الثانية 1409هـ) مؤتمر في الجامع الأزهر تحدث فيه كل من الشيخ/ متولي الشعراوي والشيخ/ محمد الغزالي والشيخ/ الطيب النجار، وفي نهاية المؤتمر ألقى الشيخ الشعراوي بياناً قالت الصحف يومها إنه قد وقَّع عليه كل من الشيخ الشعراوي والشيخ الغزالي والدكتور يوسف القرضاوي. وقد كان ذلك البيان - مع الأسف الشديد - حلقة في سلسلة الحرب التي شنها النظام العلماني في مصر ضد الحركة الإسلامية، ويكفي أن نقرأ من هذا البيان الفقرة التي تقول: ( (... ونحن نعتقد في إيمان المسئولين في مصر، وأنهم لا يردون على الله حكماً ولا ينكرون للإسلام مبدأ، وأنهم يعملون على أن تبلغ الدعوة الإسلامية مداها تحقيقاً وتطبيقاً)) (4).

وهذا قول لا يحتاج إلى رد، وكل منصف متابع للأحوال في مصر يعلم بطلانه.ومما جاء في هذا البيان أيضًا: ( (... بل الثابت في كل العصور أن الذي يقوم بتنفيذ الحدود وتغيير المنكر باليد هم أولياء الأمور وحدهم)) (4)، وهذا قول إن صح في مسألة تنفيذ الحدود، فإنه لا يصح في مسألة تغيير المنكر كما يجده القارئ الكريم مفصلاً في هذه الرسالة.

ولست الآن في معرض الرد المفصل على هذا البيان، وإنما أشرت إليه لتعلقه بموضوع هذه الرسالة، ولكونه قد اُستغل من قِبل زبانية التعذيب في التنكيل بشباب الإسلام، فإني أذكر أن بعض أولئك الزبانية كان يقول لمن يعذبهم بعد صدور هذا البيان: ( (أتدرون بم وصفكم الشيخ الغزالي في المؤتمر؟ إنه قال إنكم بُله، أما الشيخ الشعراوي فقد قال إنكم خوارج؛ أي أننا نسجنكم ونعذبكم ونقتلكم بفتوى العلماء))، فهل يعي هؤلاء العلماء خطورة ما أقدموا عليه؟!

ومن عجيب تصاريف القدر أن العلماء الثلاثة الذين نُسب إليهم توقيع البيان قد تعرضوا بعد ذلك لهجوم حاد من قِبل زكي بدر - وزير داخلية النظام المصري في ذلك الوقت - حيث أمطر كلاً منهم بوابل مما كانت تسميه صحافة المعارضة وقتها بقاموس الشتائم البدري؛ وهو طائفة من البذاءات أُنزه هذا الكتاب عن إثبات شيء منها فيه، فهل يصدق فيهم القول بأن: (من أعان ظالماً سلطه الله عليه) (5)؟

وبعد...

فقد كانت تلك إشارة سريعة إلى ظروف كتابة هذه الدراسة منذ ما يزيد على سبع سنين، وكنت بين الحين والآخر أعيد النظر في مادتها، فأحذف شيئًا وأضيف شيئًا وأختصر شيئًا وأبسط شيئًا حتى بدت بهذه الصورة التي بين يديك - أخي القارئ - ثم شعرت بعد إلحاح من بعض إخواني في الله بأهمية إعادة طبعها بصورة جيدة، خصوصاً وقد وجدت بعض من كتبوا عن الحركة الإسلامية في مصر قد أشاروا إليها باعتبارها معبرة عن رأي فصيل مهم من فصائل تلك الحركة (6).

وأخيراً فهذا جهدي المتواضع أقدمه للقراء الكرام فما كان فيه من صواب فمن الله وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه، وأنا راجع عن كل قول يخالف الكتاب والسنة في حياتي وبعد مماتي.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين​

وكتب؛ عبد الآخر حماد الغنيمي
في يوم الإثنين الموافق 21 محرم 1416هـ
19 يونيو 1995​
 
توطئة


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وبعد:

فإن الإسلام - وهو دين الله الحق - قد جاء بكل ما فيه مصلحة ومنفعة محققة للناس في دنياهم وآخرتهم، ونهى عن كل ما فيه مفسدة ومضرة محققة لدنيا الخلق وآخرتهم.

لذا فالإسلام في حقيقته هو أمر بكل معروف ونهي عن كل منكر، وإن خيرية هذه الأمة مترتبة على كونها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر بعد إيمانها بالله كما قال جل جلاله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} (آل عمران: 110).

وإن الله سبحانه وتعالى جعل من أخص خصائص المجتمع المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فيِ اْلأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالمعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41).

وما استحق بنو إسرائيل اللعنة إلا لتركهم لهذا الأمر العظيم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ بَني إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؛ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78 - 79).

وقد أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم من رأى منكراً أن يغيره: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) (7)، ولقد صدق الغزالي رحمه الله حين قال عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنه ( (القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين)) (8).

وقد كثر اللغط في هذه الأيام حول هذا الموضوع، وأُثيرت حوله الشبهات وأُعلنت حروب شعواء على شباب الإسلام الذين يحاولون - ما وسعهم الجهد - أن يأتمروا بأمر الله ورسوله فيغيروا ما استطاعوا من هذه المنكرات الفاشية التي صار مجتمعنا يموج بها ليل نهار.

ولما لم يستطع هؤلاء أن يشككوا في مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام؛ لجأوا إلى طريق أخرى وهي أن يدّعوا أن تغيير المنكر باليد إنما هو من خصائص الحكام، وليس لمن دونهم من الناس الحق في ذلك. وهم يعلمون جيداً أن حكام هذه الأيام لا يقومون بهذا الأمر، بل الواضح أنهم يفعلون ضد ذلك تماماً؛ فهم يشجعون المنكرات والفواحش ويحمونها ويحاربون دعاة الحق وينكلون بهم، فلم يكن هناك بد من تسطير هذه الصفحات نبين فيها الحق بمشيئة الله تعالى حتى يعلمه طلاب الحق من المسلمين.إن الحق الذي نعتقده وندين به: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو واجب الأمة جمعاء، وأن لآحاد الرعية من المسلمين تغيير المنكر بأيديهم وليس فقط بألسنتهم وقلوبهم، وذلك بضوابط نذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.

وفي الصفحات التالية تجد عرضاً لأدلتنا في ذلك مؤيدة بأقوال العلماء الأثبات في هذا الموضوع.

والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به المسلمين... آمين.

عبد الآخر حماد
أسيوط في 4 شعبان 1408هـ
22 مارس 1988م​


(7) صحيح مسلم: كتاب الإيمان (باب كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان). وسيأتي تمام تخريجه قريبًا إن شاء الله تعالى.

(8) إحياء علوم الدين (2/306).
 
الفصل الأول؛

الأدلة القاطعة على أن تغيير المنكر باليد ليس مقصوراًعلى الحكام... أولاً: من القرآن الكريم:


يقول الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104).

فهذه الآية الكريمة نص قاطع في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الإمام القاضي أبو بكر بن العربي: ( (في هذه الآية والتي بعدها وهي قوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية)) (1).

وقال الجصاص: ( (قد حوت هذه الآية معنيين أحدهما: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآخر: أنه فرض على الكفاية... لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِّنكُمْ أُمَّةٌ..} وحقيقته تقتضي البعض دون البعض، فدل على أنه فرض على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين)) (2).

وقال الحافظ ابن كثير: ( (والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً علىكل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري (3) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))) (4).

قلت: قول ابن كثير رحمه الله: ( (وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه)) معناه بحسب قدرته، ويدل على ذلك استشهاده بحديث أبي سعيد الذي جعل مناط الأمر بالتغيير هو الاستطاعة.

وفي معنى هذه الآية آيات أُخر منها قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...} (آل عمران: 110)، وقوله سبحانه وتعالى في نعت المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله جل جلاله: {اْلَّتَائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} (التوبة: 112).

قال الجصاص بعد أن ذكر طائفة من هذه الآيات الكريمة: ( (فهذه الآي ونظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي على منازل أولها تغييره باليد - إذا أمكن - فإن لم يمكن وكان في نفسه خائفاً على نفسه إذا أنكر بيده فعليه إنكاره بلسانه، فإن تعذر ذلك لما وصفنا فعليه إنكاره بقلبه)) (5) أ.هـ.

والمقصود من ذلك أنه قد ثَبَتَ بهذه الآيات وغيرها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه فرض على الكفاية، وهذا الحكم شامل لكل مراتب التغيير، ولا نعلم دليلاً واحداً يخص الحكام بمرتبة من هذه المراتب، فمن ادعى شيئاً من ذلك فعليه الدليل.


(1) أحكام القرآن لابن العربي (1/292).

(2) أحكام القرآن للجصاص (2/29).

(3) في تفسير ابن كثير عن أبي هريرة وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.

(4) تفسير القرآن العظيم (1/391).

(5) أحكام القرآن للجصاص (2/30).
 
ثالثًا؛ الإجماع


1) قال الإمام النووي - في شرح مسلم -: ((قال العلماء ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين، قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية)) (18).

وهذا كلام عام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل درجاته لم يخصص إمام الحرمين نوعاً منها.

2) قال القرطبي عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الَّنَبِيِينَ بِغَيْرِ حَقٍ...} (آل عمران: 21): ((أجمع المسلمون فيما ذكره ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك)) (19).

فهذا الإجماع الصحيح يدل على وجوب تغيير المنكر على كل من قدر عليه سواء كان حاكماً أو محكوماً.


(18) شرح مسلم (2/23).

(19) تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) (4/48).
 
رابعًا؛ فعل الصحابة رضي الله عنهم


1) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس - والناس جلوس على صفوفهم - فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف. قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان - وهو أمير المدينة - في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذتُ بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له: غيرتم والله، قال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة) (20).

فها هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قد باشر التغيير بيده فجبذ بثوب مروان، وهو الأمير يومئذٍ.

قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: ((وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان المنكر عليه والياً، وفيه أن الإنكار عليه يكون باليد لمن أمكنه ولا يجزئ عن اليد اللسان مع إمكان اليد)) (21).أ.هـ.

2) وعن سويد بن غفلة قال: (كنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وهو أمير المؤمنين - بالشام فأتاه نبطي مضروب مشجج مستعدي، فغضب غضباًشديداً، فقال لصهيب: انظر من صاحب هذا؟ فانطلق صهيب فإذا هو عوف بن مالك الأشجعي... قال: يا أمير المؤمنين رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها، فلم تُصرع ثم دفعها فخرت عن الحمار، ثم تغشاها فَفَعْلتُ ما ترى، قال: ائتني بالمرأة لتُصدقك، فأتى عوف المرأة، فذكر الذي قال له عمر رضي الله عنه... فقالت المرأة: والله لأذهبن معه إلى أمير المؤمنين.... قال أبوها وزوجها: نحن نُبلِّغ عنك أمير المؤمنين، فأَتيا فصدّقا عوف بن مالك بما قال، قال: فقال عمر لليهودي: والله ما على هذا عاهدناكم، فأمر به فصُلبَ... قال سويد بن غفلة: وإنه لأول مصلوب رأيته) (22).

فهذا عوف بن مالك - وهو صحابي جليل - رأى منكراً فغيره بيده، ولم يكن المنكر ليندفع إلا بالضرب، فضرب عوف بن مالك صاحب المنكر، فشج رأسه فلما بلغ ذلك عمر رضي الله عنه وعرف حقيقة الأمر، ما عنَّفَهُ بل أقام حُكم الله في هذا الذمي وهو أن يُقتل.

3) ورأى ابن عمر فسطاطًا على قبر عبد الرحمن فقال: (انزعه يا غلام؛ فإنما يظله عمله) (23).

وهذا تغيير باليد وقع من غير حاكم كما ترى.


(20) أخرجه البخاري (956) واللفظ له ومسلم (889) والنسائي (3/187) وابن ماجه (1288) وأحمد (3/36، 54).

(21) شرح صحيح مسلم (6/178).

(22) أخرجه البيهقي (9/201) وأبو عبيد في كتاب الأموال (485) والحديث حسنه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (5/119).

(23) علقه البخاري في كتاب الجنائز (باب الجريدة على القبر) (3/264 فتح) وقد ذكر الحافظ في الفتح أن ابن سعد أخرجه موصولاً. والفسطاط بيت من الشَّعر وقد يطلق على غير الشَّعر
 
خامسًا؛ فعل التابعين


1) عن إبراهيم قال: (كان أصحاب عبد الله يستقبلون الجواري معهن الدفوف في الطرق فيخرقونها) (24).

2) (وعن أبي حصين أن رجلاً كسر طنبورًا لرجل، فخاصمه إلى شُريح فلم يضمنه شيئًا) (25).

وعدم تضمين القاضي شريح لهذا الرجل يدل على أنه يجوز له كسر هذا الطنبور.


(24) أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار (4/240) من طريق ابن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن منصور عن ابراهيم قال: فذكره.
قلت: وهذا إسناد مسلسل بالثقات رجال الصحيحين: فابن بشار هو محمد بن بشار العبدي ثقة (انظر التقريب 2/147 والتهذيب 5/47) ويحيى بن سعيد هو القطان الثقة الإمام (انظر التقريب 2/348 والتهذيب 6/138) وسفيان هو الثوري الإمام (انظر التقريب 1/311 والتهذيب 2/353) ومنصور هو ابن المعتمر السلمي ثقة ثبت (انظر التقريب 2/276 والتهذيب 5/544) وابراهيم هو ابن يزيد النخعي الفقيه الثقة (انظر التقريب 1/46 والتهذيب 1/115) والأثر أخرجه ابن جرير في نفس الموضع من طريق ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان به. وهذه الطريق أيضًا في غاية الصحة فعبد الرحمن هو ابن مهدي الحافظ الإمام العلم (التقريب 1/499 والتهذيب 3/424). وقوله (أصحاب عبد الله) يعني عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(25) أخرجه البخاري تعليقاً في كتاب المظالم باب: هل تكسر الدنان التي فيها الخمر (5/145 فتح) ووصله ابن أبي شيبة (7/312) رقم (3575) من طريق وكيع (هو ابن الجراح) عن سفيان(هو الثوري) عن أبي حصين (هو عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي) وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الكتب الستة (انظر تهذيب التهذيب6/81، 2/353، 4/82). وأخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار (4/241) من طريق ابن بشار قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا: حدثنا سفيان عن أبي حصين فذكره، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الستة (انظر تخريج الأثر السابق).
 
سادساً؛ أقوال العلماء في هذه المسألة


والآن - أخي القارئ - نسوق لك طائفة من أقوال العلماء في هذه المسألة ليتبين لك أن قولنا هو قول أئمة الهدى من أهل العلم.

1) من أقوال الحنفية:

قال الإمام أبو بكر الجصاص: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالان: حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته، ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله؛ وإزالته باليد تكون على وجوه منها: ألا يمكن إزالته إلا بالسيف وأن يأتي على نفس فاعل المنكر، فعليه أن يفعل ذلك كمن رأي رجلاً قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ ماله، أو قصد الزنا بامرأة أو نحو ذلك، وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح، فعليه أن يقتله لقول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده) فإذا لم يمكنه تغييره بيده إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضاً عليه)) (26). أ.هـ.

2) من أقوال المالكية:

1) قال الإمام أبو بكر بن العربي عند تفسير قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنكَرِ} (آل عمران: 104): ((ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). وفي هذا الحديث من غريب الفقه أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ في البيان بالأخير في الفعل وهو تغيير المنكر باليد وإنما يبدأ باللسان والبيان فإن لم يكن فباليد، يعني أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه؛ بنزعه عنه وبجذبه منه، فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه وذلك إنما هو إلى السلطان؛ لأن شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجاً إلى الفتنة وآيلاً إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أن يقوى المنكر، مثل أن يرى عدواً يقتل عدواً فينزعه عنه ولا يستطيع ألا يدفعه ويتحقق أنه لو تركه قتله، وهو قادر على نزعه ولا يسلمه بحال وليخرج السلاح)) (27).

ويلاحظ هنا قول الإمام أبو بكر بن العربي: ((فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه وذلك إنما هو إلى السلطان)) ومعنى ذلك أن ما قبل ذلك من تغيير باليد من غير سلاح ليس محتاجاً إلى السلطان، ومع ذلك فقد استثنى الشيخ حالة يجوز فيها للآحاد استعمال السلاح وهي أن يقوى المنكر كأن يرى رجلاً يقتل آخر ويتحقق أنه لو تركه قتله فهنا يجوز له إشهار السلاح في تغيير هذا المنكر.

2) نقل النووي في شرح حديث: (من رأى منكم منكراً) قولاً للقاضي عياض يقول فيه: ((هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل أو يريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره...)) (28) .

وكلام القاضي عياض هنا يبين صفة التغيير أيَّاً كان المغير حاكماً أو محكوماً فله أن يكسر آلات الباطل أو يريق المسكر أو ينزع المغصوب ويرده إلى أصحابه، فلم يفرق في ذلك بين الوالي والرعية.

3) وقال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الَّنَبِيِينَ بِغَيْرِ حَقٍ....} (آل عمران: 21): ((ولو رأى زيد عمراً وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه، إذا لم يكن صاحب المال قادراً عليه ولا راضياً به)) (29). فانظر كيف عبر بقوله (زيد) وذلك يفيد أنه أي فرد ولا يشترط أن يكون الحاكم، هذا وقد مر بنا من قبل عند ذكر الإجماع ما نقله القرطبي رحمه الله من ذكر الإجماع على أن تغيير المنكر واجب على كل من قدر عليه باليد فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه.

4) قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: ((فانظروا يرحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قِبلها، وينوطون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها)) (30).

وهذا من الإمام الطرطوشي خطاب للمسلمين جميعاً، ومن ادعى التخصيص فعليه الدليل.

3) من أقوال الشافعية:

1) قال الإمام النووي: ((قال إمام الحرمين رحمه الله: ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته العمل إلى نصب قتال وشهر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك، ربط الأمر بالسلطان)) (31).

2) وقال إمام الحرمين - الجويني - أيضاً في غياث الأمم عند الحديث عن خلو الزمان عن الإمام أو الخليفة: ((أما ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم لكن الأدب يقتضي فيه مطالعة ذوي الأمر ومراجعة مرموق العصر كعقد الجُمَع وجر العساكر إلى الجهاد واستيفاء القصاص في النفس والطرف فيتولاه الناس عند خلو الدهر، ولو سعى عند شغور الزمان طوائف من ذوي النجدة والبأس في نفض الطرق عن السعاة في الأرض بالفساد فهم من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (32).

ومن هذا النص يتبين لنا أن الجويني رحمه الله يرى أن ما يسوغ لآحاد الرعية أن يقوموا به من غير إذن السلطان - وإن كان الأدب يقتضي مراجعته في ذلك -، فإن الناس يقومون به إذا خلا الزمان عن إمام. وذكر من أمثلة ذلك عقد الجمع وجر العساكر إلى الجهاد واستيفاء القصاص في النفس والطرف.

وأنه لو سعى طوائف من ذوي النجدة في حال غياب الإمام بنفض الطرق عن السعاة في الأرض بالفساد فإن ذلك من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويدل هذا الجزء الأخير من كلام الجويني على أن القيام بتغيير المنكر وتطهير الأرض من الساعين فيها بالفساد جائز لآحاد الرعية سواء في حال وجود الإمام أو حال غيابه - والله أعلم -

3) قال الغزالي في الإحياء بعد كلام له في عدم وجوب استئذان الإمام في التغيير: ((... وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقاً من غير اجتهاد فلم يفتقر إلى الإمام، وأما جمع الأعوان وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر سيأتي...)) (33).

وقال عند ذكره لدرجات الحسبة: الدرجة السابعة: ((مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح وذلك جائز للآحاد بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة في الدفع، فإذا اندفع المنكر فينبغي أن يكف)) (34).

وقال: ((الدرجة الثامنة: أن لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج فيه إلى أعوان يشهرون السلاح وربما يستمد الفاسق أيضًا بأعوانه، ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان، ويتقاتلا فهذا قد ظهر الاختلاف في احتياجه إلى إذن الإمام، فقال قائلون: لا يستقل آحاد الرعية بذلك لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن وهيجان الفساد وخراب البلاد، وقال آخرون: لا يحتاج إلى الإذن - وهو الأقيس - لأنه إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب، والتضارب يدعو إلى التعاون فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه، ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعاً لأهل الكفر فكذلك قمع أهل الفساد جائز؛لأن الكافر لا بأس بقتله، والمسلم إن قتل فهو شهيد، فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله، والمحتسب المحق إن قتل مظلوماً فهو شهيد وعلى الجملة فانتهاء الأمر إلى هذا من النوادر في الحسبة فلا يغير به قانون القياس)) (35)أ.هـ.

ويتضح من هذا العرض لكلام الغزالي.. أن تغيير المنكر باليد له درجات:

الأولى: إزالة المنكر من غير تعرض لفاعله، وهي الدرجة الخامسة في ترتيب الغزالي لدرجات الحسبة، فهذه كما رأينا في كلامه جائزة للآحاد ولا تفتقر إلى إذن الإمام.

الثانية: وهي مباشرة الضرب باليد والرجل؛ أي ضرب فاعل المنكر ما لم يصل الأمر إلى شهر السلاح، وهي الدرجة السابعة في ترتيب الغزالي، فهذه أيضًا جائزة بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة

الثالثة: وهي شهر السلاح وجمع الأعوان وهي الدرجة الثامنة في ترتيب الغزالي، وهذه الدرجة هي التي وقع فيها الخلاف بين العلماء فمنهم من أجازها لآحاد الرعية ومنهم من قصرها على الحكام وقد رجح الغزالي جوازها لآحاد الرعية كما رأينا.

قال الشيخ محمد أحمد الراشد في كتاب المنطلق تعقيبًا على كلام الغزالي السابق: ((وهذا نص يكتب بماء الذهب وعلى الدعاة أن يحفظوه عن ظهر قلب)) (36).

فتمسك أخي بهذا الكلام الجيد ولا يغرنك قول متفلسفة العصر الذين يهاجمون صاحبه فيرمونه بأن كلامه هذا لم يستند فيه إلى آية واحدة أو حديث واحد ولو ضعيف أو عمل من أعمال الصحابة أو التابعين (37).

4) وقد تكلم ابن القيم في الطرق الحكمية عن تكسير آلات اللهو والصور، وهل يضمن من يكسر شيئًا من ذلك؟ فقال: ((وقال أصحاب الشافعي يضمن ما بينه وبين الحد المبطل للصورة، وما دون ذلك فغير مضمون لأنه مستحق الإزالة)) (38).

وذلك يعني أن الرجل إذا أتلف الجزء المحرم فلا شيء عليه، فإن تعدى ذلك إلى إتلاف ما ليس بمحرم فإنه يضمن بقيمة ذلك.

5) قال الإمام النووي - في شرح حديث أبي سعيد الذي في باب صلاة العيدين -: ((وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان المنكر عليه واليًا، وفيه أن الإنكار عليه يكون باليد لمن أمكنه ولا يجزئ عن اليد اللسان مع إمكان اليد)) (39).

وقال في رياض الصالحين عند ذكره لحديث أم سلمة: (إنه يستعمل عليكم أمراء... إلخ) قال: ((معناه من كره بقلبه ولم يستطع إنكاراً بيد ولا لسان فقد برئ من الإثم وأدى وظيفته، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، ومن رضي بفعلهم وتابعهم فهو العاصي)) (40).

وقد مر بنا من قبل في باب الأدلة من السُنة ما ذكره النووي في شرح مسلم تعليقًا على هذا الحديث.

وقال في كتاب الأربعين النووية: ((وأعلى ثمرة الإيمان في باب النهي عن المنكر؛ أن ينهي بيده وإن قتل شهيدًا، قال الله تعالى: {يَا بُنيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمَعَرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} لقمان: 17)) (41).

6) قال ابن دقيق العيد: ((قالوا ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولاية، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين)) (42).أ.هـ.

ويلاحظ في ذلك أنه أثبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لآحاد المسلمين ولم يستثن من درجاته شيئاً فدل ذلك على أن جميع الدرجات ثابتة لآحاد المسلمين بما فيها اليد، والله أعلم.

4) من أقوال الحنابلة:

1) قال ابن القيم: ((وقال إسحق بن إبراهيم سئل أحمد عن الرجل يرى الطنبور أو طبلاً مغطى أيكسره؟ قال إذا تبين أنه طنبور أو طبل كسره. وقال أيضًا سألت أبا عبد الله عن الرجل يكسر الطنبور أو الطبل عليه في ذلك شيء؟ قال يكسر هذا كله وليس يلزمه شيء)) (43).

وقال ابن القيم أيضاً: ((وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن كسر الطنبور الصغير يكون مع الصبي؟ قال: يُكسر أيضاً، قلت: أَمُرُّ في السوق فأرى الطنبور يباع أكسره؟ قال: ما أراك تقوى. إن قويت - أي فافعل - قلت: أ دعى لغسل الميت فأسمع صوت الطبل، قال: إن قدرت على كسره، وإلا فاخرج)) (44).

وقال ابن القيم أيضًا في نفس الكتاب: ((وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: دُفع إليّ إبريق فضة لأبيعه، ترى أن أكسره أو أبيعه كما هو؟ قال: اكسره. وقال: قيل لأبي عبد الله: إن رجلاً دعا قوماً فجيء بطست فضة وابريق فضة، فكسره فأعجب أبا عبد الله كسره، وقال: بعثني أبو عبد الله إلى رجل بشيء فدخلت عليه، فأتى بمكحلة رأسها مفضض فقطعتها، فأعجبه ذلك وتبسم)).

قال ابن القيم: ((ووجه ذلك أن الصناعة محرمة فلا قيمة لها، ولا حرمة وأيضاً فتعطيل هذه الهيئة مطلوب فهو بذلك محسن وما على المحسنين من سبيل)) (45).

2) قال الإمام ابن قدامة رحمه الله عند حديثه عن الوليمة وما يفعله من دُعي إليها فوجد فيها معصية: ((فإن رأى نقوشاً وصور شجر ونحوها فلا بأس بذلك لأن تلك نقوش، فهي كالعلم في الثوب، وإن كانت فيه صور حيوان في موضع يوطأ أو يتكأ عليها، كالتي في البسط والوسائد جاز أيضاً، وإن كانت على الستور والحيطان وما لا يوطأ وأمكنه حطها أو قطع رؤوسها فعل وجلس، وإن لم يكن ذلك انصرف ولم يجلس، وعلى هذا أكثر أهل العلم)) (46).

3) وقال ابن القيم عند حديثه عن الأنصاب: ((وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب فيسر الله سبحانه وتعالى كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين)) (47).

4) قال ابن كثير: ((وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ففرح الناس بذلك)) (48).

5) وقال ابن القيم عند حديثه عن طائفة يغنون في المساجد: ((ومن أعظم المنكرات تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد الأقصى عشية عرفة ويقيمونه أيضًا في مسجد الخيف أيام منى وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي مرارًا، ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه والناس في الطواف، فاستدعيت حزب الله وفرقنا شملهم)) (49).

فمن هذا يتبين أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه كانوا يباشرون التغيير بأيديهم؛ لعلمهم أنه ليس هناك من دليل على اختصاص ذلك بالولاة.

6) قال ابن رجب الحنبلي: ((جهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات؛ مثل أن يريق خمورهم أو يكسر آلات اللهو التي لهم أو نحو ذلك، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك وكل ذلك جائز)) (50).

5) من أقوال الظاهرية وغير المتمذهبين من العلماء:

1) قال الإمام ابن حزم في المحلى في (أحكام الإمامة) ((مسألة: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم إن قدر بيده فبيده، وإن لم يقدر بيده فبلسانه، وإن لم يقدر بلسانه فبقلبه ولا بد، وذلك أضعف الإيمان فإن لم يفعل فلا إيمان له، ومن خاف القتل أو الضرب أو ذهاب المال فهو عذر يبيح له أن يغير بقلبه فقط ويسكت عن الأمر بالمعروف وعن النهي عن المنكر فقط، ولا يبيح له ذلك العون بلسان أو بيد على تصويب المنكر أصلاً)) (51).

2) قال الإمام الشوكاني في السيل الجرار: ((كل مسلم يجب عليه إذا رأى منكراً أن يغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهور كون الشيء منكراً يحصل بكونه مخالفاً لكتاب الله سبحانه أو لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو لإجماع المسلمين، ثم إذا كان قادراً على تغييره بيده كان ذلك فرضاً عليه ولو بالمقاتلة، وهو إن قُتل فهو شهيد، وإن قتل فاعل المنكر فبالحق والشرع قتله، ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين، فإن لم يؤثر ذلك جاء بالقول الخشن، فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد ثم المقاتلة إن لم يمكن التغيير إلا بها، فإذا كان غير قادر على الإنكار باليد أنكر باللسان فقط وذلك فرض، فإن لم يستطع الإنكار باللسان أنكر بالقلب وهذا يقدر عليه كل أحد وهو أضعف الإيمان كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم)) (52).

6) من أقوال العلماء المعاصرين:

1) قال الأستاذ عبد القادر عودة: ((إذا شوهد الجاني، وهو يرتكب الجناية كان لأي شخص أن يمنعه بالقوة عن ارتكاب الجريمة، وأن يستعمل القوة اللازمة لمنعه سواء كانت الجريمة اعتداء على حقوق الأفراد؛ كالسرقة، أو اعتداء على حقوق الجماعة؛ كشرب الخمر والزنا، وهذا ما يسمى بحق الدفاع الشرعي العام) (53) أ.هـ.

2) سُئل الدكتور/ عمر عبد الرحمن: هل يجوز استخدام القوة في تغيير المنكر للأفراد؛ كتحطيم سيارة عمداً أو كسر آلة موسيقية أو الاعتداء على مخمور مثلاً؟

فأجاب: ((نعم يجوز ذلك بل قد يجب، أولاً: لقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده...) ومَنْ تفيد العموم؛ فيجوز بل يجب على آحاد الرعية وأفرادها أن يغيروا المنكر بأيديهم ولا يتوقف ذلك على إذن أصحاب السلطة... إلى أن قال وكيف يستأذن من ولي الأمر إذا كان هو قد جعل المنكر معروفاً؛ فأحل الربا والزنا والخمر والمسارح والمراقص ووقف رجال الشرطة يحرسون هذه الأماكن ويجعلون لها حماية؟ فهل يستأذن ولي الأمر في النهي عن المنكر الذي رعاه وحماه، واعتنى به أشد الاعتناء وجعله من موارد الدولة وترويج السياحة؟)) (54).

3) قال الشيخ عبد الله ناصح علوان بعد كلام له في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ((وأما ما يحتج به البعض من حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) إن الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء وبالقلب على عوام الناس، فهذا الاحتجاج لا ينهض على دليل ولا يستند على حجة لأن لفظ (مَن) في قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم) هو لفظ يدل على العموم، ويشمل كل من استطاع تغيير المنكر باليد أو اللسان أو الإنكار بالقلب سواء أكان المنكِر من الأمراء أو العلماء أو عامة الناس إذا فقهوا الخطر الذي يترتب عليه تفشي المنكر، وذلك للعموم الذي يدل عليه الحديث الذي سبق، ولعموم كلمة (أمة) الواردة في قوله سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} فإن كلمة أمة تشمل الأمة بأسرها على اختلاف طبقاتها ومستوايتها سواء أكانوا حكاماً أم علماء أم عامة.

وإلا فكيف يتأتى للأمة أن تكون واقفة بالمرصاد للذين يتآمرون عل دينها وأخلاقها، ويعبثون بعقائدها ومقدساتها ويعيثون في الأرض ظلماً وفسادًا، ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم؟ كيف يتأتى لهم الوقوف إذا لم تتضافر الأمة بأسرها على مقاومة المنكر، وتقف صفًا واحدًا أمام العابثين والظالمين؟)) (55).

وبعد:

فهذه أقوال العلماء من فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم، تبين بوضوح وجلاء جواز تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية، وإنما وقع الخلاف فيما لو وصل التغيير باليد إلى جمع الأعوان وشهر السلاح، ففيهم من أجاز التغيير عند ذلك أيضاً كالغزالي رحمه الله ومنهم من منع التغيير حينئذٍ كالإمام الجويني.

وفي مثل هذا الخلاف يمكننا - والله أعلم - أن نجمع بين الرأيين؛ وذلك بالنظر إلى جسامة المنكر وخطورته، فإذا كان المنكر من الجسامة بحيث يترتب على بقائه مفسدة أكبر من تلك التي تتوقع من تغييره عن طريق شهر السلاح وجمع الأعوان، فلا بأس حينئذٍ من اللجوء إلى هذه الوسيلة في التغيير.

أما إن كان المنكر أهون من ذلك، فلا يلجأ حينئذٍ إلى تلك الوسيلة، وهذا يدخل في باب قياس المصالح والمفاسد الذي سنتكلم عنه في فصل الضوابط - بمشيئة الله تعالى -

وأيضاً فالقارئ الكريم لو راجع ما نقلناه عن الإمام ابن العربي فسيجد شيئاً كهذا الذي ذكرناه.

والله أعلم​


(26) (أحكام القرآن) للجصاص (2/31).

(27) أحكام القرآن لابن العربي (1/293).

(28) شرح صحيح مسلم (2/25).

(29) تفسير القرطبي (4/49).

(30) الحوادث والبدع ص: 105.

(31) شرح صحيح مسلم (2/25) والعجيب أن لجنة كان قد ألفها شيخ الأزهر للرد على شهادة (الشيخ/صلاح أبوإسماعيل) فيما سمي بقضية الجهاد 1981م أوردت هذا النقل للجويني، وزعمت أنه يقصد أن التغيير باليد لا يكون إلا للحكام، وأما من عداهم فلهم التغيير بالقول فقط. وفهمهم هذا عجيب ومخالف لقول الجويني: (ما لم ينته العمل إلى نصب قتال وشهر سلاح) لأن معنى قوله: (ما لم ينته العمل إلى نصب قتال...) أن كل ما قبل ذلك جائز ومنه التغيير باليد من غير سلاح؛ كإراقة الخمور وكسر الملاهي ونحو ذلك، بل إنه رحمه الله ذكر في تتمة الكلام الذي نقله عن النووي آنفاً أن لأهل الحل والعقد التواطؤ على خلع والي الوقت إذا جار وظهر ظلمه، ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب. (المصدر السابق نفس الجزء الصفحة).

(32) غياث الأمم في التياث الظلم ص: 279.

(33) إحياء علوم الدين (2/315).

(34) المصدر السابق (2/332).

(35) إحياء علوم الدين (2/333).

(36) المنطلق ص: 152.

(37) الحمزة دعبس في مقال له بجريدة النور المصرية عدد 20 رجب 1408 هـ.

(38) (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص: 272.

(39) شرح صحيح مسلم (6/178).

(40) رياض الصالحين ص: 116.

(41) الأربعون النووية ص: 111.

(42) شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد ص: 137، وابن دقيق هو فقيه المذهبين الشافعي والمالكي.

(43) الطرق الحكمية ص: 271، 272.

(44) المصدر السابق ص: 272.

(45) المصدر السابق ص: 274، 275.

(46) المغني لابن قدامة (8/111).

(47) إغاثة اللهفان (1/212).

(48) البداية والنهاية (14/12).

(49) إغاثة اللهفان (1/231).

(50) جامع العلوم والحكم شرح حديث (من رأى منكم منكرًا) ص: 282.

(51) المحلى (9/361).

(52) السيل الجرار (4/586).

(53) التشريع الجنائي الإسلامي (1/86).

(54) جريدة النور المصرية عدد 13 رجب 1408 هـ.

(55) تربية الأولاد في الإسلام (1/481).
 
الفصل الثاني؛ ضوابط التغيير باليد

بعد أن تحدثنا عن جواز التغيير باليد لآحاد الرعية، لابد أن نعلم أن هناك شروطاً لذلك، وقد استنبط العلماء هذه الشروط من نظراتهم في النصوص الشرعية وفي المقاصد العامة للشريعة، ونحن نبين في هذا الفصل أهم هذه الشروط وهي:

أولاً: أن يكون المنكر موجوداً في الحال:


فلا تغيير باليد لمنكر لم يقع بعد ولا لمنكر قد وقع وانتهى، وفي ذلك يقول أبو حامد الغزالي: ((المعصية لها ثلاثة أحوال: إحداها: أن تكون متصرمة فالعقوبة على ما تصرم منها حد، أو تعزير وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد، والثانية: أن تكون المعصية راهنة وصاحبها مباشر لها؛ كلبسه الحرير وإمساكه العود والخمر، فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها، وذلك يثبت لآحاد الرعية، الثالثة: أن يكون المنكر متوقعاً كالذي يستعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعد لم يحضر الخمر، فهذا مشكوك فيه، إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح، فأما التعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة)) (1).


ثانياً: أن يكون المنكر ظاهراً من غير تجسس:


وذلك لعموم النصوص الناهية عن التجسس كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اْجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تجَسَّسُوا...} (الحجرات: 12).


وفي الحديث: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا وكونوا إخوانا) (2).


وعن زيد بن وهب قال: (أُتي ابن مسعود فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) (3).


إلى غير ذلك من الأدلة القاضية بحرمة التجسس على المسلمين ولا يستثنى من ذلك إلا حالة الضرورة؛ كأن يتعين البحث والتجسس طريقاً لإنقاذ نفس من الهلاك،.


قال النووي في شرح مسلم: ((وقال أقضى القضاة الماوردي: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت، فذلك ضربان: أحدهما أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك، وكذا لو عرف غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار، والضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه)) (4).


ثالثاً: أن يلتزم الدرجات الشرعية التي ذكرها العلماء في التغيير:


فقد ذكر الغزالي - في الإحياء -: ((أن درجات التغيير تبدأ بالتعريف؛ أي تعريف الفاعل للمنكر أن هذا منكر، ثم الوعظ اللين ثم السب والتعنيف بالقول ثم التغييرباليد؛ ككسر الملاهي وإراقة الخمر ثم التهديد والتخويف ثم مباشرة الضرب باليد والرجل ثم جمع الأعوان وشهر السلاح)) (5).


وهذه الدرجات يمكن تقسيمها - كما يقول الأستاذ جلال الدين العمري - إلى نوعين: أحدهما الإصلاح بالوعظ، والآخر الإصلاح بالقوة على هذا الترتيب (6) والأصل في ذلك ما ورد في أمر الجهاد من البدء بالدعوة قبل القتال وكذا قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اْقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الْتِي تَبْغِي....} (الحجرات: 9)، فأمر بالإصلاح قبل القتال.


قال القرطبي: ((فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو القتل فليفعل، فإن زال المنكر بدون القتل لم يجز القتل، وهذا تُلُقي من قوله سبحانه وتعالى: {فَقَاتِلُواْ الْتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلىَ أَمْرِ اللهِ})) (7).


وقال ابن العربي: ((وإنما يبدأ باللسان والبيان، فإن لم يكن فباليد)) (8).


وقال الشوكاني: ((ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين، فإن لم يؤثر ذلك جاء بالقول الخشن، فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد، ثم المقاتلة إن لم يمكن التغيير إلا بها)) (9).


لكن إن علم أنه لا ينتهي عن منكره بمجرد القول، جاز له البدء بالدرجة الأعلى، وقد قال الجصاص فيمن قصد رجلاً بالقتل، أو قصد امرأة بالزنى ونحو ذلك: ((... وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول، أو قاتله بما دون السلاح، فعليه أن يقتله... وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده أو بالقول امتنع عليه ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه، ولم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل، من غير إنذار منه له، فعليه أن يقتله... وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) يوجِب ذلك أيضاً؛ لأنه قد أمر بتغييره على أي وجه أمكن ذلك، فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل، فعليه قتله حتى يزيله، وكذلك قلنا في أصحاب الضرائب والمكوس التي يأخذونها من أمتعة الناس أن دماءهم مباحة، وواجب على المسلمين قتلهم، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه، ولا التقدم إليهم بالقول؛ لأنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مقدمين على ذلك مع العلم بحظره، ومتى أنذرهم من يريد الإنكار عليهم امتنعوا منه حتى لا يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر)) (10).


رابعاً: أن يقتصر على القدر المحتاج إليه:


فإذا أمكن أن يغير المنكر بيده دون التعرض لفاعله، فليس له أن يباشر الضرب على فاعل المنكر، وإن احتاج إلى ضربه: فإن كان المنكر يندفع بضربه بيده فليس له رفع العصا في وجهه، وقد قال الغزالي رحمه الله ((وهو ألا يأخذ بلحيته في الإخراج ولا برجله إذا قدر على جره بيده، فإن زيادة الأذى فيه مستغنى عنه، وأن لا يمزق ثوب الحرير بل يحل دروزه فقط)) (11).


وقال الجصاص: ((وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه، لم يجز له الإقدام على قتله)) (12).


وقد مر بنا ما نقله ابن القيم في الطرق الحكمية عن الشافعية في أن المغير إذا اتلف ما زاد عن الحد المبطل للصورة، فإنه يُضمن بقيمة ذلك، وإنما كان الأمر كذلك لأنه مأمور بإزالة المنكر فقط، ومتى قدر على إزالة المنكر بغير إيذاء فاعله لم يكن له إيذاؤه، ومتى أمكن إزالة المنكر بأذى قليل، لم يجز الأذى الكثير - والله أعلم -


خامساً: أن لا يؤدي تغيير المنكر إلى منكر أكبر منه:


وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القضية فقال: ((فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته)) (13).


ويضرب ابن تيمية لذلك مثالاً فيقول: ((ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أُبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور، لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمداً يقتل أصحابه)) (14).


ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ((إنكار المنكر أربع درجات: الأولى أن يزول ويخلفه ضده، الثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة)) (15).


ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: ((مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم)) (16).


هذا ونحب أن نؤكد على قضية مهمة وهي أن قياس المصالح والمفاسد يجب أن يكون بمقياس الشرع، لا بمقياس العقول والأهواء، وفي ذلك يقول ابن تيمية: ((لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر)) (17).


سادساً: أن لا ينكر العامي إلا في الأمور الجلية الظاهرة التي لا تحتاج إلى اجتهاد:


وفي ذلك يقول النووي رحمه الله: ((إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة؛ كالصلاة والصيام والزنى والخمر ونحوها، فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال، ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء)) (18).


وإنما اشترط ذلك لأن الجاهل قد يوقعه جهله في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وهو لا يدري، كما أنَّا قد قدمنا أنه يلزمه تقديم الدعوة والبيان، وأنَّى له أن يدعو وأن يبين وهو جاهل، والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلىَ اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (يوسف: 108)


فمن أين له بالبصيرة في دقائق العلم وهو عاميٌّ جاهل.


وبعد:


فهذه أهم الضوابط التي يجب مراعاتها عند التغيير باليد، ولعلك تلحظ فيها أخي القارئ أنها كلها تقريباً ليست خاصة بآحاد الرعية، بل إنها مما ينبغي على الحكام والعلماء أيضاً مراعاته، وكذلك فإن منها ما ليس بقاصر على درجة التغيير باليد، لكنه قد يُطلب أيضاً عند التغيير باللسان، ولكننا ذكرناها كضوابط للتغيير باليد لآحاد الرعية بالذات، لعظم الحاجة إليها في هذه الحالة أكثر من غيرها.


والله أعلم​


(1) إحياء علوم الدين (2/324).

(2) أخرجه البخاري (5143، 4064، 6066، 6724) ومسلم (2563) وأبو داود (4917) من حديث أبي هريرة.

(3) أخرجه أبو داود (4890) وقال النووي في رياض الصالحين ص: 508: حديث حسن صحيح رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم.

(4) شرح مسلم (2/26).

(5) انظر إحياء علوم الدين (2/329 - 333).

(6) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجلال الدين العمري ص: 174.

(7) الجامع لأحكام القرآن (4/49).

(8) أحكام القرآن لابن العربي (1/293).

(9) السيل الجرار (4/586).

(10) أحكام القرآن للجصاص (1/31، 32).

(11) الإحياء (2/331).

(12) أحكام القرآن للجصاص (2/31).

(13) رسالة الحسبة المطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (28/129).

(14) المصدر السابق (28/131).

(15) إعلام الموقعين (3/7).

(16) المصدر السابق (3/7، 8).

(17) رسالة الحسبة المطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (28/129).

(18) شرح مسلم (2/23).
 
الفصل الثالث؛ شبهات وتساؤلات... (1) الفهم الخطأ لقوله تعالى: {عليكم أنفسكم}


يذكر البعض قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّنْ ضَلَ إِذَا اْهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105) ويقصدون أن معنى هذه الآية أن الإنسان عليه أن يستقيم في نفسه، وما دام قد اهتدى هو فلا شأن له بالآخرين.

وهذا الفهم خطأ ولا شك، وقد كفانا مؤنة الرد على هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه حيث قال: ((يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّنْ ضَلَ إِذَا اْهْتَدَيْتُمْ} وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب))) (1).


والمقصود من ذلك أنه حينما يقوم المؤمنون بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنهم يكونون قد اهتدوا، وبعد ذلك لا يضرهم ضلال من ضل، قال ابن تيمية: ((وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله وأُدي الواجب من الأمر والنهي وغيرهما)) (2).


وقال الأستاذ سيد قطب رحمه الله: ((وهكذا صحح الخليفة الأول رضوان الله عليه ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة، ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح؛ لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق، فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه..))، إلى أن قال رحمه الله: ((... لا بد من جهد بالحسنى حين يكون الضالون أفراداً ضالين يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى، وتعطل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم، وبعد ذلك لا قَبْله تسقط التبعة عن الذين آمنوا وينال الضالون جزاءهم من الله حين يرجع هؤلاء وهؤلاء إليه)) (3).


ومما يوضح ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَاتَّقُواْ فِتنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُم خَاصَةً} (الأنفال: 25) فمن ترك الإنكار - مع قدرته عليه - دخل في الوعيد وقد يصيبه من الفتنة ما يصيب الذين فعلوا المنكر، ولذلك يسمي الشيخ محمد أحمد الراشد هؤلاء بالأبرار الهالكين (4) ويقول: ((أيها الزهاد العابدون: أمامكم خطر القانون الرباني الرهيب إن تخارستم، لا يغرنكم زهدكم ولا صلاتكم، انطقوا بالحق وانهوا عن المنكر، وإلا فهو الهلاك)) (5).



(1) أخرجه أبو داود (4338) والترمذي (2168، 3057) وقال: حسن صحيح وابن ماجه(4005) وأحمد(1/2، 5، 7، 9) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(1546).

(2) مجموع الفتاوى (14/480).

(3) الظلال (2/992، 993).

(4) انظر المنطلق ص: 75.

(5) المصدر السابق ص: 84.


 
(2) شبهة إثارة الفوضى

يقول البعض: إن ترك الأفراد يغيرون المنكر بأيديهم سيؤدي إلى الفتن والفوضى.

وردًا على ذلك نقول:

إن كنتم تقصدون أن تغيير المنكر باليد إذا قام به آحاد الرعية فإن ذلك سيؤدي ولا بد إلى الفتن والفوضى، فهذا منكم تحكم عقلي في مواجهة نصوص صريحة من السُنة وأفعال الصحابة وأقوال العلماء على اختلاف مذاهبهم، وليس يحق لأحد أن يقول برأيه قولاً مخالفاً لما قاله صلى الله عليه وسلم كما بيناه من قبل، وكأنهم بهذا يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يأمر بما يثير الفوضى والفتن.

وأما إن كنتم تقصدون أن ذلك الأمر ربما يؤدي إلى الفتن، فنحن قد بينا من قبل أن من شروط تغيير المنكر باليد أن لا يؤدي إلى منكر أكبر منه، ونقلنا كلام ابن تيمية في قياس المصالح والمفاسد بحيث لم تبق لهؤلاء المعاندين حجة يتكلمون بها.

ويحسن أن نسوق لهؤلاء كلامًا للإمام أبي بكر الجصاص يقول فيه: ((لم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إلا قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث، فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح، وسموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى حمل السلاح وقتال الفئة الباغية مع ما قد سمعوا فيه من قول الله سبحانه وتعالى {فَقَاتِلُواْ الْتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلىَ أَمْرِ اللهِ} وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره، وزعموا مع ذلك أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح، فصاروا شرًا على الأمة من أعدائها المخالفين لها؛ لأنهم اقعدوا الناس عن قتال الفئة الباغية، وعن الإنكار على السلطان الظلم والجور حتى أدى ذلك إلى تغلب الفجار بل المجوس وأعداء الإسلام حتى ذهبت الثغور وشاع الظلم وخربت البلاد وذهب الدين والدنيا، وظهرت الزندقة والغلو، ومذاهب الثنوية والخرمية والمزدكية والذي جلب ذلك كله عليهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على السلطان الجائر)) (6).

أقول: هكذا يقول الجصاص في عصره، فكيف لو رأى عصرنا وما حل بنا من النكبات نتيجة البعد عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثم إنني أسجل هنا تعجبي الشديد من أن وزارة الأوقاف المصرية توزع على أئمة المساجد كتيبًا بعنوان: منهج الإسلام في تغيير المنكر، ردد فيه كاتبوه هذه الشبهة ولم يأتوا على قولهم هذا بدليل واحد من الكتاب أو السنة أو الإجماع، أو حتى قول أحد أهل العلم من سلف هذه الأمة.

والأعجب من ذلك أنهم ينقلون لتأييد قولهم هذا كلامًا من سلسلة: الإسلام دين العقل في مواجهة الفكر المتطرف، وهي السلسلة التي استنكرها الأزهر نفسه وطالب بمصادرتها.

وبعد...

فإن الفوضى الحقيقية ليست في تغيير المنكر، ولكنها في تركه يتفشى ويزداد وفي محاربة القائمين على تغييره بدعوى الفوضى والفساد.


(6) أحكام القرآن (2/34).
 
(3) كيف يبدأ بالوعظ مع أن الحديث بدأ بالتغيير باليد

قد يتساءل البعض عن كيفية الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه...) وبين ما نقلناه من أنه يبدأ بلسانه قبل يده؟ فالمفهوم من الحديث أنه يبدأ باليد ثم اللسان ثم القلب.

وجواباً على ذلك نقول:

قد مر بنا قول بن العربي رحمه الله من غريب الفقه في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ في البيان بالأخير في الفعل وهو تغيير المنكر باليد.

والذي يظهر لي - والله أعلم - أن الحديث قد بين مراتب التغيير لا مراحله، فأعلى المراتب التغيير باليد وأوسطها التغيير باللسان وآخرها التغيير بالقلب.

أما المراحل فتبدأ بالتغيير بالقلب ثم اللسان ثم اليد؛ فرجلٌ يستطيع أن يصل إلى أعلى مرتبة فهو يبدأ بكراهية المنكر بقلبه ثم ينصح بلسانه ثم يغير بيده، ورجلٌ لا يستطيع التغيير باليد فهو ينكر بقلبه ثم ينصح بلسانه ويقف عند ذلك، وثالث لا يستطيع حتى أن يغير بلسانه فهو يكتفي بالمرحلة الأولى فينكر بقلبه ويعتزل المنكر.

والله أعلم​
 
(4) قضية استئذان الحاكم

يثير البعض قضية استئذان الحاكم في التغيير، بمعنى أنهم يقولون: نعم لآحاد الرعية أن يغيروا ولكن لا بد من إذن الحاكم في ذلك.

والحق أن النصوص التي أوردناها كما أنها تدل على أن التغيير باليد ليس خاصاً بالحكام فإنها أيضاً تدل على عدم اشتراط استئذانه في التغيير، وهذا الشرط تحكمٌ لا دليل عليه، فهو شرط باطل ولا شك.

يقول الغزالي رحمه الله: ((هذا الاشتراط فاسد؛ فإن الآيات والأخبار التي أوردناها تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عليه عصى، إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له)) (7).

وقال: ((بل أفضل الدرجات كلمة حق عند سلطان جائر (8)، كما ورد في الحديث فإذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته فكيف يحتاج إلى إذنه؟)) (9).

وقال: ((واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، بل كل من أمر بمعروف، فإن كان الوالي راضياً فذاك وإن كان ساخطاً له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه، فكيف يُحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه؟)) (10).


(7) الإحياء (2/315).

(8) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (3/19) والحاكم (4/505، 506) من حديث أبي سعيد الخدري، وأخرجه أبو داود (4344) والترمذي (2174) وابن ماجه (4011) وأحمد (3/61) بلفظ: (كلمة عدل) وقال الترمذي حسن غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي أمامة وطارق ابن شهاب وغيرهما، والحديث مخرج في السلسلة الصحيحة للألباني (491).

(9) الإحياء (2/315).

(10) المصدر السابق (2/315).

 
(5) شبهة الإلقاء باليد إلى التهلكة

يستدل بعض الناس بقوله سبحانه وتعالى: {ولاَ تُلقُواْ بِأَيدِيكُم إِلَى التَّهلُكةِ} (البقرة: 195) ويقولون إن تغيير المنكر باليد في هذه الأيام يؤدي إلى إيذاء من يقومون به؛ من سجنهم واعتقالهم من جانب الحكومات الجائرة، وعليه فإن تغيير المنكر يعتبر إلقاء باليد إلى التهلكة.

وهذه شبهة قد كفانا الرد عليها الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: (فعن أسلم أبي عمران التجيبي قال: كنا بمدينة الروم. فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا: {وأَنفِقُواْ في سَبيلِ الله ولاَ تُلقُواْ بِأَيدِيكُمْ إِلَى التَّهلُكةِ} فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتَرْكَنا الغزو) (11).

فقد ظهر من هذا البيان أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الإنفاق وترك العمل لدين الله عز وجل وإيثار الأهل و الأموال على طاعة الله والجهاد في سبيله؛ أي عكس ما يفهم هؤلاء.

وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) (12). فجعل الذي يموت بسبب كلمة حق يقولها عند سلطان جائر شهيداً، بل هو سيد الشهداء، فكيف تعتبرون الأذى في سبيل الله عز وجل إلقاء باليد إلى التهلكة؟‍‍!

وقال الإمام أبو بكر بن العربي عند تفسير قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ اْلَّنبِيِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} (آل عمران: 21): ((قال بعض علمائنا هذه الآية دليل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن أدى إلى قتل الآمر به...))، إلى أن قال رحمه الله: ((فإن خاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل، فإن رجا زواله جاز عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرج زواله فأي فائدة فيه؟ والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ولا يبالي)) (13).

فها هو الإمام ابن العربي يرى أنه حتى لو غلب على ظنك وقوع الأذى لك مع عدم رجاء زوال المنكر، فاهجم واخلص النية لله سبحانه وتعالى ولا تُبالِ بشيء.


(11) أخرجه أبو داود (2512) والترمذي (2972) وقال حسن غريب صحيح، والحاكم (2/275)، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

(12) أخرجه الحاكم (3/195) من حديث جابر بن عبد الله، وقال صحيح الإسناد وهو مخرج في السلسلة الصحيحة للألباني (374).

(13) أحكام القرآن لابن العربي (1/266، 267).
 
(6) شبهة تنافي التغيير باليد مع الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة

يستدل البعض بقول الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخْشَى} (طه: 44) وقوله: {وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) وقوله سبحانه وتعالى: {اْدْعُ إِلىَ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ اْلحَسَنَةِ وَجَادِلهُمْ بِالْتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) ويقولون إن هذه الآيات تدل على الرفق واللين وإن استعمال القوة في تغيير المنكر ينافي ذلك.

وجواباً على ذلك نقول:

1) أما قوله عز وجل: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا...}: فإن هؤلاء لم يفرقوا بين مقام الدعوة باللسان ومقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد؛ فالدعوة باللسان سابقة - كما بينا من قبل - لاستخدام القوة، فإن اندفع المنكر بمجرد الوعظ والنصح فلا يصح استخدام القوة، وإلا وجب استخدام القوة، ولو كان ما فهمه هؤلاء صحيحاً لما جاز قتال الكفار أبداً؛ لأن الآية التي استدلوا بها هي في الحديث عن فرعون وهو كافر، فطرد قولهم أننا لا نزال نقول للكفار قولاً ليناً لا شدة فيه حتى لو بقوا على كفرهم وأصروا عليه، وما هكذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم بل كان يدعو باللسان، فمن استجاب فبها ونعمت، وإلا فالسيف يؤدب الطغاة، قال ابن تيمية رحمه الله: ((فَقوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر وكفى بربك هادياً ونصيراً)) (14).

وقال الشنقيطي: ((واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لين وطريق قسوة، أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت وهو المطلوب، وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده، وتقام حدوده وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه، وإلى هذا الإشارة بقوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ الْنَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} الحديد: 35)) (15).

وقال الأستاذ سيد قطب رحمه الله: ((لا بد من جهد بالحسنى حين يكون الضالون أفراداً ضالين يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة، وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى وتعطل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم)) (16).

2) وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ}:

فنحن نرد على فهمهم له بأنهم قد أغفلوا بقية الآية وهي قوله تعالى: {إِلاَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنهُمْ} فمن ظلم فإنه لا يجادل بالتي هي أحسن، بل له شأن آخر.

هذا وقد قال فريق من العلماء إن هذه الآية منسوخة بآيات القتال، كما ذكر أبو بكر بن العربي عند تفسيرها وذهب هو رحمه الله إلى أنها ليست منسوخة قال: ((وإنما هي مخصوصة؛ لأن النبي عليه السلام بُعث باللسان يُقاتل به في الله، ثم أمره الله بالسيف واللسان حتى قامت الحجة على الخلق لله، وتبين العناد وبلغت القدرة غايتها عشرة أعوام متصلة، فمن قدر عليه قتل ومن امتنع بقي الجدال في حقه)) (17) ويزيد المعنى وضوحًا ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي من أقوال العلماء في المقصود بالذين ظلموا حيث قال: ((فيه أربعة أقوال: الأول أهل الحرب، الثاني مانعو الجزية، الثالث من بقي على المعاندة بعد ظهور الحجة، الرابع الذين ظلموا في جدالهم بأن خلطوا في إبطالهم وهذه الأقوال كلها صحيحة مرادة)) (18).

وبعد...

فقد تبين أن الجدال بالتي هي أحسن إنما هو لغير هذه الأصناف الأربعة وأشباهها، فمن لا يجدي معهم الجدال الحسن فينصحون بغيره، كما قال شوقي:

والشر إن تلقه بالخير ضقت به
star.gif
ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم

3) وأما قوله تعالى: {اْدْعُ إِلىَ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ اْلحَسَنَةِ} فإن كان المفهوم منها أن الدعوة لا بد أن تكون باللين والرفق، فقد بينا أننا نُقِر بهذا ولا يمكن أن نجحده، ولكن الكلام فيما لو لم يجدِ النصح والإرشاد، كيف يكون العمل؟ وبينا لك من قبل بالأدلة والبراهين ما يجب أن نقوم به إذا لم يجدِ النصح والإرشاد بما لا نرى داعيًا لإعادته وتكراره.

ومن ناحية أخرى فإننا نريد أن نوضح أن الناس يفهمون من معنى الحكمة أنها مجرد اللين والرفق، مع أنها أعم من ذلك وأشمل، فإن الحكمة كما يقول القرطبي: ((مصدر من الإحكام وهو الإتقان في قول أو فعل... وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه)) (19).

وقال ابن القيم رحمه الله في تعريف الحكمة: ((فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي)) (20) ومعنى هذا أنها الشِدة حينما يتطلب الأمر الشدة، واللين حينما يتطلب الأمر اللين.

فهل رأيت معنى الحكمة؟ وأنها اتباع الشرع المبين في كتاب الله وسنة رسوله، وأن ندور مع الشرع الحنيف حيث دار، فلا نقحم أهواءنا في ذلك فنجعلها حَكماً على كتاب الله وسنة رسوله بحجة الحكمة المزعومة.

وما أصدق القائل:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
star.gif
مضر كوضع السيف في موضع الندى

وكلمة أخيرة نود أن نقولها في هذا الموضوع؛

وهي أنه من الخطورة بمكان أن نأخذ ببعض الجوانب من المفاهيم الإسلامية ونضخمها ونبرز شأنها ونغفل جوانب لها أهميتها أيضًا. فالإسلام كما هو دين الرفق هو أيضًا دين القوة، والرسول صلى الله عليه وسلم هو نبي الرحمة ونبي الملحمة (21)، فهو نبي الرحمة حين يكون المطلوب هو الرحمة، وهو المقاتل حين يحتاج الأمر للقتال واستخدام القوة.

وحينما يكون الأمر متعلقاً بالفساد والبغي في الأرض، فإن عين الرحمة هي استعمال القوة لاستئصال هذا الفساد، والله سبحانه وتعالى يقول في شأن الزاني والزانية: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فيِ دِينَ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} (النور: 2).

أليست هذه الآية دليلاً على أن الرأفة وإن كانت مطلوبة في موضع فإنها مرفوضة في موضع آخر؟ ولكل مقام مقال - كما يقولون - ألا فليتق الله أقوام يبترون النصوص الإسلامية من أصولها ويفهمونها على ضوء ما يرضي أهل الباطل وليتقوا يومًا يرجعون فيه إلى الله فيحاسبهم عز وجل على الصغير والكبير ولا ينفعهم حينئذٍ هؤلاء الذين كانوا يرضونهم في الدنيا.


(14) مجموع الفتاوى (20/393).

(15) أضواء البيان (2/156).

(16) الظلال (2/993).

(17) أحكام القرآن (3/1487).

(18) المصدر السابق (3/1488).

(19) تفسير القرطبي (3/330).

(20) مدارج السالكين (2/479).

(21) انظر زاد المعاد (1/20).

 
(7) كلام للقرطبي فُهِمَ على غير وجهه


يثير البعض كلامًا للقرطبي رحمه الله قال فيه: ((قال العلماء الأمر بالمعروف باليد على الأمراء وباللسان على العلماء وبالقلب على الضعفاء يعني عوام الناس)) (22) ويستدلون به على أنه لا يجوز لآحاد الرعية تغيير المنكر باليد، ونحن نقول لهم:

أولاً: إنكم لم تفهموا ما نقله القرطبي رحمه الله حق الفهم لأنه استعمل حرف الجر (على) ونحن نستعمل حرف (اللام) بمعنى أنه يقصد أن الذين عليهم وجوباً عينياً تغيير المنكر بأيديهم هم الأمراء أما العامة فليس عليهم من الوجوب مثل ما على الحكام، وكون الواجب على العامة هو التغيير بالقلب لا يعني عدم جواز التغيير باليد واللسان، ونحن لم نقل أكثر من أن الفرد من الرعية له جوازاً تغيير المنكر بيده، وإنما يتعين ذلك عليه في حالات خاصة مثل أن يرى رجلاً يزني بامرأة ولا يراه أحد غيره، ويكون قادراً على التغيير باليد فها هنا يتعين عليه التغيير.

ثانياً: إن هذا الفهم الذي فهمتموه مخالف لكلام للقرطبي قبل هذا القول بقليل يقول فيه: ((أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، ليس عليه أكثر من ذلك)) (23). فقد جعل التغيير بكل الوسائل واجباً على الحاكم وغيره لكنه شرط لذلك القدرة.

ثالثاً: إن هذا الفهم مخالف لكلام للقرطبي لاحق بهذا الكلام يقول فيه: ((ولو رأى زيد عمراً وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادراً عليه ولا راضياً به)) (24).

رابعاً: إننا لو أخذنا بما فهموه من ظاهر كلام القرطبي رحمه الله لما جاز للعامة من غير العلماء أن يغيروا المنكر بألسنتهم أيضًا، ولا يكون لهم إلا الإنكار بالقلب، وهذا الفهم لا يمكن قبوله لمخالفته الصريحة لقوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) (25).

فهذا الحديث يدل فيما يدل على أن العامة يقومون بنصح الأئمة الأمراء، وماذا يكون نصحهم إن لم يكن أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر باللسان.

وإن هذا الفهم مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) (26).

فانظر إليه قال (ورجل) فدل ذلك على أنه أي رجل من عامة المسلمين، والمقصود أنهم لو قالوا بهذا الفهم الظاهر لكلام القرطبي من أن التغيير باليد للحكام فقط، للزمهم بقية ما في النص من أن التغيير باللسان للعلماء فقط وما أظن أحدًا عنده أدنى بصيرة بالنصوص الشرعية يقول بعد ما سبق من البيان إن العامة ليس لهم الإنكار باللسان.

وعلى ذلك فالمعنى الصحيح لقول القرطبي هو أن تغيير المنكر باليد أوجب على الحكام من غيرهم، وأن التغيير باللسان أوجب على العلماء من غيرهم، وأما التغيير بالقلب فيستوي فيه الجميع. والله أعلم.

خامساً: إنه لو فرض أن القرطبي رحمه الله ذهب إلى هذا الفهم الذي فهموه لكان لنا أن نخالفه رحمه الله ولا نأخذ بقوله حيث كان هو مخالفاً للأحاديث الصحيحة وعمل الصحابة والإجماع الذي نقله هو بنفسه - كما مرّ بنا - على أننا استطعنا - بحمد الله - التوفيق بين كلامه وكلام غيره من العلماء فاستقام الأمر، والحمد لله.


(22) تفسير القرطبي (4/49).

(23) تفسير القرطبي (4/48).

(24) المصدر السابق (4/49).

(25) أخرجه مسلم (55) وأبو داود (4944) والنسائي (7/156) 157) من حديث تميم الداري، وأخرجه الترمذي (1926) والنسائي (7/157) من حديث أبي هريرة، والحديث علقه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب قول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة (1/166 فتح) ونقل الحافظ في الفتح (1/167) عن البخاري قوله في تاريخه ((لايصح إلا عن تميم)).

(26) سبق تخريجه ص: 63
 
(8) شبهة الضرر الواقع على الغير

يثير البعض قضية الضرر الواقع على الغير من جراء القيام بتغيير المنكر، فيقولون: إن المسلم إذا قام بتغيير المنكر فإن أهله وأقاربه سيتعرضون للأذى من جانب أهل الباطل، فلا يجوز التغيير بناءً على ذلك.

ونحن نقول لهؤلاء: نعم قد ذكر بعض العلماء أنه إن أدى تغييرك المنكر إلى الإضرار بغيرك من المسلمين، فإنه يحرم عليك التغيير.

وفي ذلك يقول الغزالي رحمه الله: ((فإن كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركها، فإن إيذاء المسلمين محذور، كما أن السكوت على المنكر محذور، نعم إن كان لا ينالهم أذى في مال أو نفس ولكن ينالهم الأذى بالشتم والسب، فهذا فيه نظر ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكر في تفاحشها ودرجات الكلام المحذور في نكايته في القلب وقدحه في العرض)) (27).

والمتأمل في الكلام السابق يجد مبناه على قياس المصالح والمفاسد، بمعنى أنه إذا وقع أذى على الغير فإن ذلك مفسدة تمنع التغيير، والنظر الدقيق يقتضي - والله أعلم - أن نوازن بين هذا الأذى وبين ذلك المنكر، فقد نجد من المنكرات العامة ما ينبغي أن يتحمل لتغييره الأذى الذي قد يقع على الغير، وذلك لخطورة ذلك المنكر، ولهذا فإنه لو تترس العدو بطائفة من المسلمين فقد اتفق الفقهاء على أنه متى ما لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي إلى قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (28).

وقد وجدت تقرير هذا الذي ذكرناه عند السيوطي رحمه الله في الأشباه والنظائر حيث قال عند حديثه عن فروض الكفايات: ((ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يختص بأرباب الولايات ولا بالعدل ولا بالحر ولا بالبالغ ولا يسقط بظن أنه لا يفيد أو علم ذلك عادة، ما لم يخف على نفسه أو ماله أو على غيره مفسدة أعظم من ضرر المنكر الواقع)) (29).

فقد اشترط رحمه الله لسقوط التغيير أن يكون الضرر المتوقع وقوعه على نفسه أو ماله أو غيره أعظم من ضرر المنكر المراد تغييره، وهذا - والله أعلم - هو الصواب، ألا ترى لو أن رجلاً قصد رجلاً ليقتله ولم يمكن دفع ذلك إلا بما يؤدي إلى قطع طرف شخص ثالث، أيصح أن يقال إنه يجب ترك الأول يقتل الثاني حتى لا تقطع طرف الثالث؟ لا شك أن الإجابة أن هذا لا يصح وأنه يُتحمل قطع طرف إنسان مسلم في سبيل حفظ حياة مسلم آخر. والله أعلم

ومن ناحية أخرى فإن افتراض أن كل تغيير باليد سيؤدي إلى إلحاق الضرر بالغير هو افتراض غير صحيح بالمرة وهذه نقطة تتعلق بالواقع، ومن مارس هذه الأمور وتعرض للإيذاء في سبيل الله هو أقدر من غيره على معرفة هل يلحق التغيير ضررًا بالغير أم لا، فأولى بهؤلاء المعترضين أن يسألوا أهل الخبرة في ذلك، فهم أدرى بما يتوقع حدوثه من ضرر.


(27) إحياء علوم الدين (2/323).

(28) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه (10/52).

(29) الأشباه والنظائر ص: 414.
 
(9) شبهة الافتئات على الحاكم في إقامة الحدود

يقول البعض: إن من يقوم بتغيير المنكر بيده إنما يقوم بالافتئات على حق الحاكم، إذ أن الحاكم هو الذي يناط به مهمة إقامة الحدود.

وجواباً على ذلك القول نقول:

قد فرق أهل العلم بين تغيير المنكر وإقامة الحدود وممن فرق بينهما الغزالي رحمه الله حيث قال: ((ليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع وهو إعدام المنكر، فما زاد على قدر الإعدام فهو إما عقوبة على جريمة سابقة أو زجر عن لاحق، وذلك إلى الولاة لا إلى الرعية)) (30).

ومن ذلك نفهم أنه يفرق بين إزالة المنكر وبين العقوبة عليه فالأولى تجوز لآحاد الرعية والثانية من خصائص الحكام.

إن من أغراض إقامة الحد في الإسلام تأديب الجاني على ما اقترفت يداه وزجره عن أن يعود إلى ذلك مرة أخرى، وكذلك زجر غيره عن اقتراف هذا الإثم ولأجل ذلك فقد أنيطت هذه المهمة بالحاكم.

أما عملية التغيير فهي مجرد إزالة للمنكر أو دفع له، وهذه يقوم بها الحاكم وغيره، ومن قرأ ما سبق أن أوضحناه من الأدلة على ذلك لا يحتاج معه إلى زيادة بيان والله أعلم (31).


(30) الإحياء (2/331).

(31) ما ذكرناه من أن إقامة الحدود من اختصاص الحكام إنما هو في حالة أن يكون الحكام قائمين بذلك، أما إذا قصر الحكام في إقامة الحدود فإنه يجوز للجماعة المحتسبة من آحاد الرعية أن تقوم بذلك بعد قياس المصالح والمفاسد لأن هذا الأمر واجب على الأمة وينوب عنها الحاكم في ذلك فإن قصر الحاكم رجع الأمر للأمة، قال شيخ الإسلام ابن تيميه في مجموع الفتاوى (34/ 176): ((وكذلك الأمير إذا كان مضيعاً للحدود أو عاجزاً عنها، لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم تقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إن لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...)). وقال الشوكاني في السيل الجرار (4/311) تعليقاً على قول صاحب المتن: ((تجب إقامتها في غير المسجد على الإمام وواليه إن وقع سببها في زمن ومكان يليه))، قال الشوكاني: ((هذا مبني على أن الحدود إلى الأئمة وأنه لا يقيمها غيرهم على من وجبت عليه وليس على هذا أثارة من علم... ولا شك أن الإمام ومن يلي من جهته هم أولى من غيرهم كما قدمنا، وأما أنه (لا) يقيمها إلا الأئمة وأنها ساقطة إذا وقعت في غير زمن إمام أو في غير مكان يليه فباطل، وإسقاط لما أوجبه الله من الحدود في كتابه، والإسلام موجود والكتاب والسنة موجودان، وأهل العلم والصلاح موجودون فكيف تهمل حدود الشرع بمجرد عدم وجود واحد من المسلمين؟)) أ.هـ.
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية يعزر ويقيم الحدود (راجع في ذلك البداية والنهاية (14/12، 20).
 
(10) شبهة المنكر الأكبر والمنكر الأصغر

يقول البعض إنه لا يجوز الانشغال بتغيير المنكر الأصغر قبل تغيير المنكر الأكبر وهو عدم الحكم بما أنزل الله، وإن هذا الانشغال بالمنكر الأصغر يعرقل الجهود المبذولة من أجل إزالة المنكر الأكبر، ويقول بعضهم إننا في عصر استضعاف يشبه العصر المكي، وليس لنا أن نقوم بتغيير المنكرات بأيدينا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينشغل بتكسير الأصنام إلا بعد فتح مكة حين أصبحت مكة دار إسلام.

وجواباً على ذلك نقول:

إن كلامكم هذا لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع، وإليكم البيان:

1) أما قولكم لا يجوز تغيير المنكر الأصغر قبل تغيير المنكر الأكبر فجوابه من وجوه:

الوجه الأول: يقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا استَطَعتُم} (التغابن: 16) ومعنى الآية أن الإنسان عليه أن يتقي الله قدر استطاعته أي أنه إن استطاع أن يغير المنكر الأصغر، ولم يستطع تغيير الأكبر فليغير الأصغر لأن ذلك هو الذي في قدرته واستطاعته.

الوجه الثاني: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) (32) وما قيل في الآية السابقة يقال في هذا الحديث، ولذا فقد تقرر عند العلماء أن الميسور لا يسقط بالمعسور (33) فمتى قدر على بعض المأمور به وجب فعله ولا يسقط البعض لعدم القدرة على الكل.

الوجه الثالث: أن هذا الفهم الذي ذكرناه هو الموافق لقول أهل العلم، فقد ذكر الخلال أن الإمام أحمد رحمه الله سئل عن رجل له جار يعمل بالمنكر لا يقوى على أن ينكر عليه، وضعيف يعمل بالمنكر أيضاً يقوى علي هذا الضعيف، أينكر عليه؟ قال: نعم ينكر على هذا الذي يقوى أن ينكر عليه (34).

هذا وقد عنون الخلاَّل لهذه الفتوى بعنوان (باب الرجل يرى المنكر الغليظ فلا يقدر أن ينهى عنه، ويرى منكراً صغيراً يقدر أن ينهى عنه.كيف العمل؟).

الوجه الرابع: أنه لو صح استدلالكم بهذا لكان الذي أخره النبي صلى الله عليه وسلم هو المنكر الأكبر؛ لأن تحطيم الأصنام هو تحطيم لعقيدة الشرك، وهل هناك منكر أكبر من الشرك؟.

الوجه الخامس: ليس صحيحاً أن الانشغال بتغيير المنكر الأصغر يعرقل العمل لتغيير المنكر الأكبر، وكيف يكون ذلك وأصحاب المنكر الأكبر وهم الحكام العلمانيون يعمدون إلى تلك المنكرات الصغيرة في تثبيت أركان حكمهم، فكل تغيير لمنكر يفت في عضد هذا النظام وقد يفقده ركنًا من أركانه - والله أعلم -

2) أما قولكم إننا في عصر استضعاف يشبه العصر المكي، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحطم الأصنام إلا بعد التمكين فجوابه من وجوه:

الوجه الأول: أننا مطالبون بآخر أمر النبي صلى الله عليه وسلم فالدين قد كمل والنعمة قد تمت وقد كان في العهد المكي أحكام نسخت في العهد المدني، فما مات عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو الدين إلى يوم الدين، وليس لأحد أن يعطل حكماً ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بدعوى أننا في حال يشبه العصر المكي، وإلا لصح أن يقول البعض لا نزكي ولا نصوم لأن الزكاة والصيام إنما شرعا في العهد المدني.

الوجه الثاني: أنه لا يصح القول بأن الأمة جميعها صارت في عصر استضعاف بمعنى أن لا يكون فيها من يقوى على تغيير المنكر باليد، لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) (35).

وفي حديث جابر بن سمرة: (لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة) (36)، وفي حديث عقبة بن عامر: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك) (37)، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفة من أمته تقاتل في سبيل الله، وأن ذلك لا ينقطع في أمته حتى آخر الزمان.

قال النووي في شرح مسلم (13/67): ((ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء ومنهم محدثون، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من أهل الخير... وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة؛ فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث)) أ.هـ.

والمقصود أن هذه الطائفة المقاتلة هي طائفة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر واستمرار وجودها في الأمة ينسف فكرة عصر الاستضعاف من أساسها، فلم يبق إلا أن يقال إن الاستضعاف قد يشمل مكانًا دون آخر، وهذا حق ومقتضاه أن ينظر أهل كل بلد في حالهم وقدرتهم، فقد يكون عند قوم من القدرة ما ليس عند آخرين فيجب على القادر ما لا يجب على غير القادر، وحينئذٍ فليس لغير القادر أن ينكر على غيره ممن قدر على إقامة أمر الله فقام به.

قال ابن أبي العز في مقدمة شرح الطحاوية: ((وإن كان العبد عاجزاً عن معرفة بعض ذلك، أو العمل به فلا ينهى عما عجز عنه مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل حسبه أن يسقط عنه اللوم لعجزه، لكن عليه أن يفرح بقيام غيره به ويرضى بذلك ويود أن يكون قائماً به)) (38).

الوجه الثالث: أن ما يقال من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكسر الأصنام في العهد المكي ليس على إطلاقه، فقد أثبتنا من قبل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كسر صنماً على الكعبة بمكة قبل الهجرة (39)، والصحيح أنه لم يكسر الأصنام جملة إلا بعد الفتح، ليس لأنه لم يكن يجوز له ذلك بل لعدم قدرته عليه، فإنه لما قدر على تكسير صنم واحد كسره ولما قدر على تكسير كل أصنام الكعبة يوم الفتح فعل ذلك.

الوجه الرابع: أنه قد ثبت من فعل الصحابة رضي الله عنهم ما يدل على أن التغيير بالقوة كان معروفاً قبل عصر التمكين؛ فمن ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: (لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي في البيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي) (40).

والظاهر أن هذه المقاتلة كانت باليد لا بالسيف، ولكنها على كل حال نوع من التغيير باليد فعله عمر رضي الله عنه ليمكن المسلمين من الصلاة في البيت، وواضح أن ذلك كان بمكة قبل الهجرة.

الوجه الخامس: أن إبراهيم عليه السلام قد حطم أصنام قومه وهو وحيد مستضعف، وهذا استدلال صحيح سواء أقلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالف شرعنا، أو قلنا إنه ليس شرعاً لنا إلا إذا وافق شرعنا فإنه موافق - بحمد الله - لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أقول إننا مطالبون بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام حيث قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِين مَعَهُ} (الممتحنة: 4) ولم يذكر لنا القرآن رسولاً للاقتداء به على وجه التعيين إلا رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام.

بل إن الإمام ابن حزم يرى أن شريعة إبراهيم هي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((وأما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي شريعتنا هذه بعينها، ولسنا نقول إن إبراهيم بعث إلى الناس كافة، وإنما نقول إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة بالشريعة التي بعث الله سبحانه وتعالى بها إبراهيم إلى قومه خاصة دون سائر أهل عصره، وإنما لزمتنا ملة إبراهيم لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعِث بها إلينا، لا لأن إبراهيم عليه السلام بُعِث بها قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اْتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (النحل: 123) وقال تعالى: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ اْلمُشْرِكِينَ} (البقرة: 135))) (41).


(32) أخرجه البخاري(7288) ومسلم (1337) وابن ماجه (2) والنسائي(5/110) من حديث أبي هريرة.

(33) انظر ايضاح القواعد الفقهية لعبد الله بن سعيد اللحجي ص: 91.

(34) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال ص: 93.

(35) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (156، 1923) وأحمد (3/345)، (3/384) وابن حبان (6780 - إحسان) وابن الجارود في المنتقى (1031) من حديث جابر بن عبد الله.

(36) أخرجه مسلم (1922).

(37) أخرجه مسلم (1924).

(38) شرح الطحاوية ص: 16.

(39) انظر الأدلة من السنة النبوية: الحديث السادس

(40) أخرجه بهذا اللفظ ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/270) وابن أبي شبة في أخبار المدينة النبوية (2/226) كلاهما من طريق محمد بن عبيد، قال: أخبرنا اسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول فذكره.
قلت: وهذا إسناد في غاية الصحة فإن محمد بن عبيد هو ابن أبي أمية وهو ثقة من رجال الستة كما في تهذيب التهذيب (6/210) وكذا إسماعيل بن أبي خالد وقيس بن أبي حازم (انظر تهذيب التهذيب 1/185، 4/561).

(41) الإحكام في أصول الأحكام (5/182).
 
(11) شرط القدرة

فإن قال قائل فأين شرط القدرة فإنكم لم تذكروه فيما ذكرتم من الشروط؟ وقد نُقل عن بعض أهل العلم من المعاصرين أنه لا يجوز الإقدام على تغيير المنكر إلا بتوافر شرط القدرة.

قلنا:

معنى القدرة: أن يعلم المغير أن في قدرته أن يغير المنكر، والقدرة بهذا المعنى شرط في الوجوب وليست شرطاً في الصحة ولذلك لم نذكرها فيما ذكرنا من الضوابط.

والدليل على أن القدرة شرط في وجوب تغيير المنكر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد: (... فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه...) (42) فقوله فإن لم يستطع دليل على أن مناط الوجوب القدرة فمن فقد القدرة سقط عنه الوجوب.

وأما الأدلة على أن القدرة ليست شرطاً في صحة التغيير فكثيرة منها:

1) قوله صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) (43).

فلا شك أن هذا الرجل لم تبلغ قدرته أن يغير منكر ذلك الحاكم الجائر، ومع ذلك أنكر عليه فكان من نتيجة ذلك أن قُتل في سبيل الله، فعده النبي صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء مع حمزة رضي الله عنه.

2) ومنها ما جاء في قصة عاصم بن ثابت لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس نفر من أصحابه إلى عضل والقارة، فخرج عليهم قرابة مائة رام، فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر...، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل... (44).

قال الشوكاني تعليقاً على هذا الحديث: ((يجوز لمن لا طاقة له بالعدو أن يمتنع من الأسر وأن يستأسر)) (45).

3) ومنها ما ورد في قصة عمرو بن الجموح الذي ((كان رجلاً أعرج شديد العرج وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له: إن الله عز وجل قد عذرك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك، وقال لبنيه: ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة فخرج معه فقتل يوم أحد)) (46).

وعن أبي قتادة قال: ((أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة - وكانت رجله عرجاء - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقتلوه يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كأني انظر إليه يمشي برجله هذه صحيحة في الجنة، فأمر رسول الله بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد)) (47)

والشاهد من قصة عمرو بن الجموح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن له في القتال مع كونه أعرج والأعرج معذور بنص القرآن الكريم فهو لا يجب عليه الجهاد، لكنه لما جاهد قبل منه فدل ذلك على أن القدرة شرط في الوجوب لا الصحة.

وإنما ذكرت هذين الدليلين الأخيرين - أي قصة عاصم بن ثابت وقصة عمرو بن الجموح - مع أنهما واردان في شأن الجهاد، لأن حكم الجهاد هنا يعم الأمر بالمعروف النهي عن المنكر إذ هما جنس واحد، وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر في الكافي أن ((العمري العابد سأل مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله عز وجل وحكم بغيرها فقال مالك: الأمر في ذلك إلى الكثرة والقلة، وقال أبو عمر: جواب مالك هذا وإن كان في جهاد غير المشركين، فإنه يشمل المشركين ويجمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كأنه يقول من علم أنه إذا بارز العدو قتلوه ولم ينل منهم شيئًا جاز له الانصراف عنهم إلى فئة من المسلمين بما يحاوله فيه، وقول مالك هذا يشبه عندي ما رواه سفيان بن عيينة عن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال: من فر من رجلين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فلم يفر (48) يعني في القتال قال سفيان فحدثت به ابن شبرمة فقال: هكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (49).

فقد ظهر من كلام أبي عمر بن عبد البر في توضيح المقصود من كلام مالك وكذا من كلام ابن شبرمة الذي نقله سفيان بن عيينة أن حكم الجهاد هنا يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وتأمل قوله: ((جاز له الانصراف...)) فإنه لم يقل وجب عليه الانصراف مما يدل على أن غاية ما في الأمر أنه يسقط عنه الوجوب بينما يبقى جواز التغيير، لأن من جاز له الانصراف جاز له البقاء بل قد يستحب البقاء إذا كان في ذلك مصلحة؛ ككسر جاه الفاسق برؤية أهل الحق وهم يندفعون غير مبالين بالأذى وإن كان المنكر لا يزول بفعلهم.

4) وما دام الأمر كذلك فإنه يصح لنا الاستدلال هنا بما ذكره العلماء من جواز اندفاع الرجل الواحد في صفوف الكفار وإن علم أنه يقتل، فمن ذلك ما ذكر الإمام الدمياطي حيث عقد في كتابه مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق في فضائل الجهاد باباً جعل عنوانه (فضل انغماس الرجل الشجيع أو الجماعة القليلة في العدد الكثير رغبة في الشهادة ونكاية في العدو) وقد أورد فيه جملة من الأدلة منها حديث سلمة بن الأكوع، وفيه من قول سلمة: ((فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر، قال: فإذا أولهم الأخرم الأسدي على إثره أبو قتادة الأنصاري...، قال فأخذت بعنان الأخرم، قال: فولوا مدبرين، قلت: يا أخرم احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة، قال: فخليته...)) الحديث، وفيه من قوله صلى الله عليه وسلم: (كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة) (50)

قال الدمياطي: ((وفي هذا الحديث الصحيح الثابت أدل دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده وإن غلب على ظنه أنه يقتل إذا كان مخلصًا في طلب الشهادة كما فعل الأخرم الأسدي رضي الله عنه ولم يعب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه ولم ينه الصحابة عن مثل فعله، بل في الحديث دليل على استحباب هذا الفعل وفضله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مدح أبا قتادة وسلمة على فعلهما كما تقدم مع أن كلاً منهما قد حمل على العدو وحده ولم يتأن إلى أن يلحق به المسلمون)) (51).

وقال الإمام النووي في شرح قصة عمير بن الحمام ((لما رمى التمرات ثم قاتل حتى قتل)) (52) قال: ((فيه جواز الانغماس في الكفار والتعرض للشهادة وهو جائز لا كراهة فيه عند جماهير العلماء)) (53).

ومن هذا يعلم أن اندفاع الرجل المسلم مضحياً بنفسه في سبيل الله جائز في الجهاد وفي الحسبة وإن علم أنه يقتل وإن علم أن المنكر لا يزول ما دام في ذلك مصلحة شرعية ككسر قلوب الكفار والفساق بما يرونه من قوة المسلمين وجرأتهم أو تقوية المسلمين الآخرين وحملهم على التضحية كذلك.

قال القرطبي: ((قال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه وإن كان قصده إرهاب العدو ليعلم صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت النفس لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله سبحانه وتعالى به المؤمنين في قوله: {إِنَّ اللهَ اْشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (54).

وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ((فإن خاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل فإن رجا زواله جاز عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر وإن لم يرج زواله فأي فائدة فيه، والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ولا يبالي)) (55).

وبهذا يعلم صحة ما ذكرناه من أن تغرير المسلم بنفسه في سبيل الله جائز في الجهاد والحسبة، وإن علم أنه يقتل، وإن علم أن المنكر لا يزول ما دام في ذلك مصلحة شرعية ككسر قلوب الكفار والفساق بما يرونه من شجاعة المسلمين أو تقوية المسلمين وحثهم على التضحية في سبيل الله. لكن تبقى معنا نقطة لا بد من إيضاحها وهي حالة ما إذا كان الشخص يعلم أنه لا يقوى على تغيير المنكر، وأنه يعرض نفسه للهلاك دون أي منفعة للمسلمين وهي الحالة التي أشار الإمام محمد بن الحسن إلى كراهتها فيما نقله عنه القرطبي كما مرّ قريباً.

وقال الغزالي: ((... ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار؛ كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام، داخل تحت عموم آية التهلكة وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل إلى أن يقتل، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جراءته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله، فتنكسر بذلك شوكتهم، فكذلك يجوز للمحتسب بل يستحب له أن يعرَّض نفسه للضرب أو القتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر أو في كسره جاه الفاسق أو في تقوية قلوب أهل الدين، وأما إن رأى فاسقاً متغلباً وعنده سيف وبيده قدح وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته، فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجهاً وهو عين الهلاك)) (56).

ولا شك أن المنع من التغيير هنا مبني على أن التغرير بالنفس لا يقابله أي منفعة للمسلمين، أما ما كان فيه نفع للمسلمين ولو بمجرد تجرئة قلوب أهل الإيمان فإن جواز التغيير، بل استحبابه هو الأصل الذي ينبغي ألا ينازع فيه.

ولا شك أيضاً في أنه لا بد من معرفة جيدة بالواقع للحكم على مثل هذه الأمور، وهل فيها منفعة للمسلمين أم لا؟ ولا يصح لمن لا خبرة له بواقع بلد معين أن يحكم بأنه لا منفعة ترجى من الإقدام على التغيير، والصحيح أن يترك تقدير ذلك لأهل ذلك البلد، وخصوصاً من يقومون بأمر الحسبة فيه من أهل العلم والنظر الشرعي.


(42) سبق تخريجه ص: 21.

(43) سبق تخريجه ص: 63.

(44) أخرجه البخاري (3045) وأبو داود (2660) وأحمد (2/294) من حديث أبي هريرة.

(45) نيل الأوطار (7/255).

(46) سيرة ابن هشام (3/96) قال ابن اسحاق وحدثني أبي اسحاق بن يسار عن أشياخ من بني سلمة: فذكره، قال الألباني: ((وهذا سند حسن إن كان الأشياخ من الصحابة، وإلا فهو مرسل، وبعضه في المسند... وسنده صحيح)) أ.هـ من تخريج فقه السيرة ص: 282، ط: دار الكتب الحديثة سنة 1976.

(47) أخرجه أحمد (5/299) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/315) ورجاله رجال الصحيح غير يحيى بن النضر الأنصاري وهو ثقة.

(48) أخرجه البيهقي (9/76) وقد صححه الألباني في إرواء الغليل (1206) وأخرجه الطبراني مرفوعًا (1151) من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/328): ورجاله ثقات.

(49) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي لأبي عمر بن عبد البر (1/463).

(50) أخرجه مسلم (1807) وأحمد (4/52 - 53).

(51) مشارع الأشواق ص: 539.

(52) أخرجه مسلم (1901) من حديث أنس بن مالك.

(53) شرح مسلم للنووي (13/46).

(54) الجامع لأحكام القرآن (2/364).

(55) أحكام القرآن (1/266) 267).

(56) إحياء علوم الدين (2/319 - 320).

 


الفصل الرابع؛ أصل القضية


لا بد أن أشير هنا إلى أن ما سقناه في الفصول السابقة من أدلة على جواز تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية، ومن ردود على شبهات المخالفين، إنما كان تنزلا إلى منطق قوم من حملة العلم الشرعي صدَّرهم النظام العلماني ليوهموا الناس أن الخلاف في هذه القضية إنما هو خلاف شرعي حول من له سلطة تغيير المنكر باليد، وليتم إغضاء الطرف عن أصل القضية ولُبِّها؛ وهو وجود سلطة حاكمة تُنحِّي شريعة الله عن الحكم بين الناس، وبالتالي تُلبِسُ كثيرًا من المنكرات ثوب الشرعية القانونية، ويُعَدُّ من حاول تغيرها خارجًا عن القانون مستحِقًا لأقصى العقوبات.

إن مشايخ النظم العلمانية ومن لفَّ لفهم في هذه القضية قد أخطؤوا خطأين كبيرين:

الخطأ الأول: عندما تبنوا رأياً مخالفاً للأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة الذي انعقد - كما أسلفنا - على جواز تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية.

والخطأ الثاني: عندما ألبسوا هذا الخلاف ثوباً لا يليق به؛ فجعلوه خلافاً بين رعية مسلمة وسلطة مسلمة تحكم بالشرع، حول أحقية أي منهما بتغيير المنكر باليد!! وهذا غير صحيح فالسلطة الحاكمة لا تحتكم أصلاً إلى شرع الله عز وجل، بل تحتكم إلى أهواء البشر وعقولهم، والأمر عندنا واضح وضوح الشمس، فمن ترك شريعة الله واحتكم إلى غيرها فقد وقع في الكفر الأكبر المخرج من الملة، وعلى من يماري في ذلك أن يتدبر قول الله عز وجل: {فَلاَ وَرَبِكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُوا في أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ ويُسَلِمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65).

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله حول هذه الآية: ((وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمن لم يُحَكِّموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم نفياً مؤكداً بتكراره أداة النفي والقسم)) (1).

ولا عبرة بإبقاء بعض أحكام الزواج والطلاق ونحوهما مستمدة من أحكام الشريعة، فإن من شَرَعَ للناس ولو حكماً واحداً، فقد نازع الله صفة التشريع وهي من أخص صفاته سبحانه.

ولذا فإن الإمام ابن كثير قد حكم بكفر من تحاكم إلى الياسا التي وضعها جينكيز خان لأتباعه مع أن فيها ما هو مأخوذ من شريعة الإسلام، وذلك حيث يقول رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِية يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50): ((ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات...، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة من ملكهم جينكيز خان الذي وضع لهم الياسا؛ وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعًا مُتَّبعاً يُقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يُحكِّم سواه في قليل ولا كثير)) (2).

بل إن ابن كثير رحمه الله قد نقل الإجماع على كفر من تحاكم إلى الياسا حيث قال في البداية والنهاية: ((فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟! من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين)) (3).

ويعقب الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في عمدة التفسير على كلام ابن كثير الأسبق فيقول عن تلك القوانين الوضعية التي تسود بلاد المسلمين اليوم: ((إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس؛ هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام - كائناً من كان - في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها)) (4).

ويقول رحمه الله: ((أَوَ يجوز لرجل مسلم أن يليَ القضاء في ظل هذا (الياسق العصري) وأن يعمل به ويُعْرِضَ عن شريعته البيَّنة؟ ما أظن أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويؤمن به جملةً وتفصيلاً...، ما أظنه يستطيع إلا أن يجزم غير متردد ولا متأول بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة)) (5).

فإذا كان هذا حُكْم تولي القضاء في ظل هذه القوانين الوضعية، فكيف بمن شَرَعَ للناس تلك القوانين وأمرهم باتباعها، وكانت شرعية ولايته مستمدة منها؟! إن الأمر حينئذٍ يكون أكثر جلاءً ووضوحاً في أن كل حاكم نحَّى شريعة الله عز وجل وحمل الناس على التحاكم إلى غيرها، فولايته باطلة بطلاناً أصلياً أشد من بطلان ولاية القضاء في ظل القوانين الوضعية، والله أعلم.

وإذا كان الأمر بهذه المثابة، تبينت لنا خطورة الثاني من الخطأين اللذين أشرنا إليهما في صدر هذا الحديث، وأنه أشد بكثير من الخطأ الأول؛ ذلك أنهم بهذا الخطأ الثاني قد أضفوا صفة الشرعية على نُظُمٍ ساقطة الشرعية لكونها قد وضعت للناس شريعة غير شريعة الله سبحانه وتعالى، وحملتهم على التحاكم إليها واحترامها والرضى بها، وتلك مسألة - كما رأينا - في صلب العقيدة، وليست مجرد خلاف فقهي قد يَهون أمره.

إن ما نريد أن نؤكده هنا هو أنه بافتراض أننا نعيش في ظل نظام إسلامي يحتكم إلى شرع الله عز وجل فإنه يجوز لآحاد الرعية أن يغيروا المنكر بأيديهم، على ما بيناه من قبل، فكيف إذا ابتلينا بنظام هو - في حد ذاته - منكر يجب تغييره؟!

إن الأمر سيكون - حينئذٍ - غنيَّاً عن أي بيان...


(1) رسالة تحكيم القوانين ص: 1.

(2) تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير (2/68).

(3) البداية والنهاية لابن كثير (13/128).

(4) عمدة التفسير (4/172).

(5) المصدر السابق نفس الموضع.



 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top