رد: حكم البناء على قبر الميت مع بيان السنة في صفة القبر ( فتاوى العقيدة 5 )
قال ابن القيم في أعلام الموقعين:
(وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك , حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم , وأطلقوا لفظ الكراهة , فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة , ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه , وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى , وهذا كثير جدا في تصرفاتهم ; فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة , وقد قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين بملك اليمين : أكرهه , ولا أقول هو حرام , ومذهبه تحريمه , وإنما تورع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان . وقال أبو القاسم الخرقي فيما نقله عن أبي عبد الله : ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة , ومذهبه أنه لا يجوز , وقال في رواية أبي داود : ويستحب أن لا يدخل الحمام إلا بمئزر له , وهذا استحباب وجوب , وقال في رواية إسحاق بن منصور : إذا كان أكثر مال الرجل حراما فلا يعجبني أن يؤكل ماله , وهذا على سبيل التحريم . وقال في رواية ابنه عبد الله : لا يعجبني أكل ما ذبح للزهرة ولا الكواكب ولا الكنيسة , وكل شيء ذبح لغير الله , قال الله عز وجل : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } . فتأمل كيف قال : " لا يعجبني " فيما نص الله سبحانه على تحريمه , واحتج هو أيضا بتحريم الله له في كتابه , وقال في رواية الأثرم : أكره لحوم الجلالة وألبانها , وقد صرح بالتحريم في رواية حنبل وغيره , وقال في رواية ابنه عبد الله : أكره أكل لحم الحية والعقرب ; لأن الحية لها ناب والعقرب لها حمة ولا يختلف مذهبه في تحريمه , وقال في رواية حرب : إذا صاد الكلب من غير أن يرسل فلا يعجبني ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا أرسلت كلبك وسميت } فقد أطلق لفظه " لا يعجبني " على ما هو حرام عنده . وقال في رواية جعفر بن محمد النسائي : لا يعجبني المكحلة والمرود , يعني من الفضة , وقد صرح بالتحريم في عدة مواضع , وهو مذهبه بلا خلاف ; وقال جعفر بن محمد أيضا : سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل قال لامرأته : كل امرأة أتزوجها أو جارية أشتريها للوطء وأنت حية فالجارية حرة والمرأة طالق , قال : إن تزوج لم آمره أن يفارقها , والعتق أخشى أن يلزمه ; لأنه مخالف للطلاق , قيل له : يهب له رجل جارية , قال : هذا طريق الحيلة , وكرهه , مع أن مذهبه تحريم الحيل وأنها لا تخلص من الأيمان , ونص على كراهة البطة من جلود الحمر , وقال : تكون ذكية , ولا يختلف مذهبه في التحريم , وسئل عن شعر الخنزير , فقال : لا يعجبني , وهذا على التحريم , وقال : يكره القد من جلود الحمير , ذكيا وغير ذكي ; لأنه لا يكون ذكيا , وأكرهه لمن يعمل وللمستعمل ; وسئل عن رجل حلف لا ينتفع بكذا , فباعه واشترى به غيره , فكره ذلك , وهذا عنده لا يجوز ; وسئل عن ألبان الأتن فكرهه وهو حرام عنده , وسئل عن الخمر يتخذ خلا فقال : لا يعجبني , وهذا على التحريم عنده ; وسئل عن بيع الماء , فكرهه , وهذا في أجوبته أكثر من أن يستقصى , وكذلك غيره من الأئمة . وقد نص محمد بن الحسن أن كل مكروه فهو حرام , إلا أنه لما لم يجد فيه نصا قاطعا لم يطلق عليه لفظ الحرام ; وروى محمد أيضا عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إلى الحرام أقرب ; وقد قال في الجامع الكبير : يكره الشرب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء , ومراده التحريم ; وكذلك قال أبو يوسف ومحمد : يكره النوم على فرش الحرير والتوسد على وسائده , ومرادهما التحريم . وقال أبو حنيفة وصاحباه : يكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير , وقد صرح الأصحاب أنه حرام , وقالوا : إن التحريم لما ثبت في حق الذكور , وتحريم اللبس يحرم الإلباس , كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها , وكذلك قالوا : يكره منديل الحرير الذي يتمخط فيه ويتمسح من الوضوء , ومرادهم التحريم , وقالوا : يكره بيع العذرة , ومرادهم التحريم ; وقالوا : يكره الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم إذا أضر بهم وضيق عليهم , ومرادهم التحريم ; وقالوا : يكره بيع السلاح في أيام الفتنة , ومرادهم التحريم . وقال أبو حنيفة : يكره بيع أرض مكة , ومرادهم التحريم عندهم ; قالوا : ويكره اللعب بالشطرنج , وهو حرام عندهم ; قالوا : ويكره أن يجعل الرجل في عنق عبده أو غيره طوق الحديد الذي يمنعه من التحرك , وهو الغل , وهو حرام ; وهذا كثير في كلامهم جدا . وأما أصحاب مالك فالمكروه عندهم مرتبة بين الحرام والمباح , ولا يطلقون عليه اسم الجواز , ويقولون : إن أكل كل ذي ناب من السباع مكروه غير مباح ; وقد قال مالك في كثير من أجوبته : أكره كذا , وهو حرام ; فمنها أن مالكا نص على كراهة الشطرنج , وهذا عند أكثر أصحابه على التحريم , وحمله بعضهم على الكراهة التي هي دون التحريم . وقال الشافعي في اللعب بالشطرنج : إنه لهو شبه الباطل , أكرهه ولا يتبين لي تحريمه فقد نص على كراهته , وتوقف في تحريمه ; فلا يجوز أن ينسب إليه وإلى مذهبه أن اللعب بها جائز وأنه مباح , فإنه لم يقل هذا ولا ما يدل عليه ; والحق أن يقال : إنه كرهها , وتوقف في تحريمها , فأين هذا من أن يقال : إن مذهبه جواز اللعب بها وإباحته ؟ ومن هذا أيضا أنه نص على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنا , ولم يقل قط إنه مباح ولا جائز , والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه الذي أجله الله به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم , وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه الله ورسوله ; وقد قال تعالى عقيب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } إلى قوله : { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } إلى قوله : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } إلى قوله : { ولا تقربوا الزنا } إلى قوله : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } إلى قوله : { ولا تقربوا مال اليتيم } إلى قوله : { ولا تقف ما ليس لك به علم } إلى آخر الآيات ; ثم قال : { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } وفي الصحيح : { إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال , وكثرة السؤال , وإضاعة المال } . فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله , ولكن المتأخرون اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم , وتركه أرجح من فعله , ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث , فغلط في ذلك , وأقبح غلطا منه من حمل لفظ الكراهة أو لفظ " لا ينبغي " في كلام الله ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث , وقد اطرد في كلام الله ورسوله استعمال " لا ينبغي " في المحظور شرعا وقدرا وفي المستحيل الممتنع كقوله تعالى : { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا } وقوله : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } وقوله : { وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم } { وقوله على لسان نبيه : كذبني ابن آدم وما ينبغي له , وشتمني ابن آدم وما ينبغي له } وقوله صلى الله عليه وسلم : { إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام } وقوله صلى الله عليه وسلم في لباس الحرير : { لا ينبغي هذا للمتقين } وأمثال ذلك )
لعل إطلاق الكراهة في مسألتنا من هذا الباب.
وإنما نقلت كلام ابن القيم بطوله لنفاسته.