العلامة محمد الطاهر بن عاشور

amir16

:: عضو منتسِب ::
إنضم
3 ماي 2014
المشاركات
7
نقاط التفاعل
3
النقاط
3
لمحات من حياته:
اسمه ونسبه:
هو محمد الطَّاهر بن محمد بن محمد الطَّاهر بن محمد بن محمد الشَّاذلي بن عبد القادر بن محمد (بفتح الميم) ابن عاشور، وهذا الأخير من أشراف الأندلس، قدِم إلى تونس واستقرَّ بها بعد خروج والده من الأندلس فارّاً من القهر والتَّنصير، وكان عالماً عاملاً صالحاً.

وقد برز في عائلة ابن عاشور جَدُّ المترجَم محمد الطَّاهر ابن عاشور الذي كان من فقهاء عصره، وتقلَّد مناصب هامَّة في القضاء والإفتاء والتَّدريس، إضافة إلى تولِّيه نقابة الأشراف، وله مؤلَّفات مطبوعة.
وأيضاً والد المترجَم محمد ابن عاشور، الذي تولى رئاسة مجلس دائرة جمعيَّة الأوقاف.
أما جَدُّه لأمِّه، فهو العالم الوزير محمد العزيز بُوعَتُّور (1240-1325هـ)، الذي تولَّى الوزارة الكبرى بعد مصطفى إسماعيل، وتحقَّقت على يديه إصلاحات نالت إعجابَ الوزراء وتقدير الأمراء.

مولده ونشأته:
ولد صاحب التَّرجمة في ضاحية المَرْسى، قرب العاصمة التونسيَّة، سنة 1296هـ = 1879م . ونشأ في رحاب العلم والجاه، فسلك تعلُّم القرآن الكريم في سنِّ السَّادسة، فقرأه وحفظه على المقرئ الشيخ محمد الخياري، ثم حفظ مجموعةً من المتون، وتلقَّى قواعد العربيَّة على الشيخ أحمد بن بدر الكافي.

زوجته وأبناؤه:
تزوَّج محمد الطَّاهر ابن عاشور السَّيِّدة الشَّريفة فاطمة بنت نقيب الأشراف بتونس السَّيَّد محمد محسن، فأنجبت له أربعة بنين واثنتين من البنات.
برز من أولاده السيِّد محمد الفاضل (1909-1970م) الذي تولى التدريس بجامع الزيتونة والقضاء، ثم عمادة الكلية الزيتونيَّة للشريعة وأصول الدين، وعُيِّن مفتياً للجمهورية التُّونسيَّة، وكان عضواً بمجمع اللَّغة العربية بالقاهرة، وله مجموعةٌ من الكتب المطبوعة والأبحاث.
وكذلك الأستاذ عبد الملك وكان موظفاً سامياً، وله بحوث وتحقيقات علميَّة نُشرت له بالمجلَّات التُّونسية.
وللشيخ محمد الطاهر أحفادٌ بررة أساتذة جامعيُّون، منهم الأستاذ الدُّكتور المؤرِّخ محمد العزيز بن عبد الملك، والأستاذ الدُّكتور الحقوقيُّ عياض بن محمد الفاضل الذي رأَس الجامعة التونسية.

نشأته العلميَّة:
التحق الشابُّ محمد الطاهر بجامع الزيتونة سنة 1310هـ = 1893م، وقرأ فيه علوم القرآن والقراءات، والحديث، والفقه المالكي وأصوله، والفرائض، والسِّيرة، والتَّاريخ، والنَّحو واللُّغة والأدب والبلاغة، وعلم المنطق.
كما تعلم الفرنسيَّة على يد أستاذه الخاصِّ أحمد بن ونَّاس المحمودي.

حصل المترجَم على شهادة التَّطويع - انتهاء التَّعليم الثانوي- من الجامع الأعظم سنة 1317هـ=1899م، وعاد بعدها إلى حضور دروس شيوخه، فقرأ على الشيخ محمد النخلي الوُسطى في العقيدة، وشرح المحلِّي في أصول الفقه، والمطوَّل في البلاغة، والأشموني في النحو، وعلى الأستاذ عمر ابن الشيخ تفسير البيضاوي، وعلى الشيخ سالم بوحاجب البخاري والموطَّأ بشرحيهما.

شيوخه:
تحمَّل الطاهر بن عاشور العلم عن أعيان علماء تونس وشيوخ جامع الزيتونة، ومنهم:
الشيخ أحمد بن بدر الكافي، والشيخ أحمد جمال الدين، والعلامة الشيخ سالم بوحاجب (1244-1342م)، وله منه إجازة، والشيخ محمد صالح الشريف (1285-1338هـ)، والشيخ عبد القادر التميمي، الفقيه المتكلِّم الشيخ عمر ابن الشيخ (1239-1329هـ)، وله منه إجازة، والشيخ عمر ابن عاشور، والشيخ المقرئ محمد الخياري، والشيخ محمد صالح الشاهد، والشيخ محمد طاهر جعفر، والشيخ محمد العربي الدرعي، والعالم الوزير الشيخ محمد العزيز بوعتُّور، وله منه إجازة، والشيخ محمد بن عثمان النجار، والشيخ محمد النَّخلي، والشيخ محمود ابن الخوجه، وله منه إجازة.

تدريسه وتلامذته:
درَّس الشيخ محمد الطَّاهر ابن عاشور كتباً عالية في جامع الزيتونة، كأسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز للجُرجاني، ومقدمة ابن خلدون، وموطَّأ الإمام مالك، وكان أول من درَّس (ديوان الحماسة) فيه. كما كان يقوم بتدريس الحديث النبوي الشَّريف في ليالي رمضان.

وقد أدخل الشيخُ بعض الإصلاحات على التعليم الزيتوني، كتقسيم التعليم إلى المراحل الثلاث المعروفة الآن، وتحديد زمن الحصَّة، وتعيين مواد الدراسة، والشيخَ المدرِّس لها في كل فصل، مع بيان أوقات الدَّرس لكل مادة.

أما تلامذته، فقد تحمَّل عنه العلم جمٌّ غفير من أهل تونس والجزائر ممَّن كان يقصد الزيتونة، فكان منهم الأديب والفقيه والمؤرِّخ والصِّحافي والاقتصادي، وكبار الوزراء والكتَّاب، وممَّن عُرف بالتأليف منهم أذكر:
محمد الصَّادق ابن الحاج محمود المعروف بـ (بسِّيس) (1332-1398هـ)، ومحمد الصَّادق الشطِّي (1312-1364هـ)، وأبو الحسن ابن شعبان (1315-1383هـ)، ومحمد الفاضل ابن المترجَم (1327-1390هـ)، وعلي بن محمد البوديلمي، ومحمد العيد آل خليفة (1323-1399هـ)، وأحمد كريِّم (1243-1347هـ)، ومحمد الشاذلي النَّيفر (1330-1418هـ) رحمهم الله جميعاً.

وظائفه:
تولَّى ابن عاشور مناصب علميَّة وإداريَّة بارزة، وهاهي مرتَّبة تاريخيّاً:
1317هـ: بدأ بالتَّدريس في جامع الزيتونة.
1320هـ: نجح في مناظرة الطَّبقة الثانية ليتولى التَّدريس رسميّاً بالجامع الأعظم.
1321هـ: انتُدب للتَّدريس بالمدرسة الصادقيَّة.
1323هـ: عُيِّن عضواً بمجلس إدارة الجمعيَّة الخلدونيَّة، وفي نفس العام شارك باللَّجنة المكلَّفة بوضع فهرس للمكتبة الصادقيَّة.
1324هـ: شارك في مناظرة التَّدريس للطَّبقة الأولى بالزيتونة، وفي نفس السنة عيِّن عضواً في هيئة إدارة الجمعيَّة الخلدونيَّة.
1325هـ: عُيِّن نائباً أول للحكومة لدى النَّظارة العلميَّة بجامع الزيتونة.
1326هـ: سُمِّي عضواً في لجنة تنقيح برامج التَّعليم.
1327هـ: ترأَّس لجنة فهرسة المكتبة الصادقيَّة.
1328هـ: عُيِّن عضواً بمجلس الأوقاف الأعلى، وفي نفس السنة اختير حاكماً بالمجلس العقاري.
1331هـ: عُيِّن قاضياً مالكياً للجماعة بالمجلس الشرعي، وفي نفس السنة عُيِّن مفتياً.
1341هـ: سُمِّي مفتياً نائباً عن الشيخ باش مفتي، وبعدها بعام عُيِّن بمنصب رئيس المفتين.
1346هـ: رُقِّي إلى منصب كبير أهل الشُّورى.
1351هـ: تسلَّم منصب شيخ الإسلام المالكي، و عُيِّن شيخاً للجامع الأعظم وفروعه، وفُصل من هذا المنصب -ويُقال: استقال- بعد سنة ونصف، ليعودَ إليه سنة 1364هـ وبقي في هذا المنصِب إلى 1372هـ.
1367هـ: عُيِّن عميداً للجامعة الزيتونية إثر استقلال البلاد، وبقي فيه حتى سنة 1380هـ.
كما انتُخب الشيخ عضواً مراسلاً في المجمع العلمي العربي ( مجمع اللُّغة العربيَّة بدمشق حالياً) وذلك في سنة 1375هـ.

محمد الخضر حسين وابن عاشور:
كان من أعزِّ أقران الشيخ إليه الشيخ الإمام محمد الخضر حسين الذي زامله في الزيتونة دراسة، وتوجُّهاً فكرياً، إذ انعقدت بينهما صداقةٌ بدأت سنة 1317هـ، بلغت في صفائها ومتانتها -على حدِّ قول الإمام- الغايةَ التي ليس بعدها غاية.

وكان في محطَّات حياة الشيخين كثيرٌ من التَّشابه، فالشيخ محمد الطاهر تولى مشيخة الجامع الزيتوني، في حين تولى الشيخ محمد الخضر حسين مشيخة الجامع الأزهر، وكان كلاهما من المعتنين بالأدب إلى جانب العلوم الشَّرعية، وتولى الاثنان الردَّ على الشيخ علي عبد الرزَّاق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم).
وهذه العلاقة جسَّدها الرجلان بقصائدَ ومراسلات، منها: أنه لمَّا تولى الشيخ محمد الطَّاهر التَّدريس بجامع الزيتونة، هنَّأه الشيخ محمد الخضر بقصيدة مطلعها:
مَساعي الوَرى شَتَّى وكلٌّ لهُ مَرمى ومَسعى ابنِ عاشُورٍ لهُ الأَمَدُ الأَسْمى
فَتًى آنَسَ الآدابَ أَوَّلَ نَشئِهِ فكانَت لهُ رُوحاً وكان لها جِسْما
وبعد هجرة الشيخ محمد الخضر حسين إلى دمشق، بعث صديقُه قاضي القضاة بتونس وقتئذ الشيخ محمد الطاَّهر رسالةً مصدَّرةً بأبيات منها:
بَعُدتَ ونفسي في لِقاكَ تَصيدُ فلم يُغنِ عنها في الحنانِ قَصيدُ
وخَلَّفتَ ما بينَ الجوانحِ غصَّةً لها بينَ أحشاءِ الضُّلوعِ وَقودُ
فأجابه الشيخ محمد الخضر بقصيدة مطلعها:
أَيَنعَمُ لي بالٌ وأنتَ بعيدُ وأَسلو بطَيفٍ والمنامُ شَريدُ؟
إذا أَجَّجَت ذِ****َ شَوقيَ أَخضَلَت لَعَمري -بدَمعِ المُقلَتَينِ- خُدودُ
بَعُدتُ بجُثماني ورُوحي رَهينةٌ لدَيكَ ولِلوُدِّ الصَّميمِ قُيودُ

أوليَّاته:
للشيخ محمد الطَّاهر ابن عاشور أوليَّات تمثِّل مظهراً من مظاهر تميُّزه رحمه الله وهي:
• أوَّل من فسَّر القرآن كاملاً في إفريقيَّة، وذلك في كتابه (التَّحرير والتَّنوير).
• وهو أوَّل من جمع بين منصب شيخ الإسلام المالكي وشيخ الجامع الأعظم (الزيتونة). وأول من سمِّي شيخاً للجامع الأعظم.
• وأوَّل من تقلَّد جائزة الدولة التقديريَّة للدولة التونسيَّة، ونال وسام الاستحقاق الثَّقافي سنة 1968م.
• وهو أوَّل من أحيا التَّصانيف في مقاصد الشَّريعة في العصر الحديث بعد العز بن عبدالسلام (660هـ) والشاطبي (790هـ).
• وأوَّل من أدخل إصلاحات تعليميَّة وتنظيميَّة في الجامع الزيتوني، في إطار منظومة تربويَّة فكريَّة.

أخلاقه وشمائله:
كان الشيخ رحمه الله رجلاً تزيِّنه أخلاقٌ رضيَّةٌ وتواضعٌ جمٌّ، اشتُهر بالصبر وعلوِّ الهمَّة، والاعتزاز بالنَّفس، عفيف القلم، حلو المحاضرة، طيب المعاشرة.
يقول زميلُه في الطَّلَب وصديقه المقرَّب الشيخ محمد الخضر حسين: "شبَّ الأستاذ على ذكاء فائق، وألمعيَّة وقَّادة، فلم يلبث أن ظهر نبوغُه بين أهل العلم". وقال فيه: "وللأستاذ فصاحةُ منطق وبراعة بيان، بالإضافة إلى غزارة العلم وقوَّة النَّظر وصفاء الذَّوق وسعة الاطِّلاع في آداب اللغة".

وقد وصَفَه أحدُهم فقال: رأيت فيه شيخاً مَهيباً يمثِّل امتداداً للسَّلف الصَّالح في سَمْتِه، ودخل في عقده العاشر ولم تنل منه السُّنون شيئاً.. قامةٌ سمهريًّة خفيفة اللَّحم، وعقليَّةٌ شابَّةٌ ثريَّةٌ بحصيلتها، وقلبٌ حافظٌ أصاب من علوم القدماء والمحدَثين، ولسانٌ لافظٌ يقدر عل الخوض في كل شيء من المعارف، وذهنٌ متفتحٌ يشقِّق الحديث روافدَ مع وقارٍ يزيِّنه وفضلٍ يبيِّنه، وأخلاقٌ وشمائلُ حسنةٌ تهشُّ للأضياف وترحِّب بالوارد، وتعطي في عُمق لمن يريد الاغترافَ من بحر كثُرت مياهُه وقد ازدحمت العلومُ فيه.

وكان في مناقشاته العلميَّة لا يجرح أحداً ولا يحطُّ من قدره، فإذا لاحظ تهافتاً في الفكر لمَّح إلى ذلك تلميحاً، وبرغم الحملات التي شُنَّت ضده لم ينزل عن المستوى الخُلُقي الذي يتَّصف به العلماء، بل لم يُشِر إلى خصومه، ولم يَشكُ منهم قطُّ.
ويقول فيه الدُّكتور محمد الحبيب بلخوجه: "هو نمطٌ فريد من الأشياخ، لم نعرف مثلَه بين معاصريه أو طلَّابه أو من كان في درجتهم من أهل العلم.. وقد وهبه الله متانةَ علم، وسعة ثقافة، وعمق نظر، وقدرة لا تفتُر على التَّدوين والنَّشر، ومَلَكات نقديَّة يتَّضح أثرها في طريقة الجمع بين الأصول والتعريفات، وما يلحق بها من ابتداعات وتصرُّفات".
قال فيه الشَّاعر التُّونُسي محمد الحليوي:
عَلَمٌ
يَعِزُّ نَظيرُه في دَهرِهِ هَيهاتَ ، ليسَ نَظيرُه بمُتاحِ
عَلَمٌ تجمَّع عِلمُهُ في شَخصِهِ كتَجَمُّع الأَضواءِ في المِصباحِ
ما ضَرَّ مَن أضحى يَعيشُ بعَصرِهِ إنْ لم يُشاهِد (مالكاً) في السَّاحِ

وفاته:
تُوفِّي محمد الطَّاهر ابن عاشور عن أربع وتسعين سنة في ضاحية المَرْسَى قرب تونُس العاصمة، يوم الأحد 13 من رجب سنة 1394هـ الموافق 12 من آب (أغسطس) 1973م. ووُري الثَّرى بمقبرة الزّلَّاج.
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنَّاته.

تعريف بمؤلفاته:
تنوَّعت آثار الشيخ رحمه الله تعالى من حيث موضوعاتُها، فألَّف في التفسير، والحديث، والأصول، والأدب، واللُّغة، والتَّاريخ والتَّراجم، والدِّراسات الإسلاميَّة. وقد اتَّسمت بنُضج الفكرة وعُمق التَّحليل والمعالجة العلميَّة، وبلاغة الأسلوب.
ونخصُّ منها بالتعريف تفسيرَه للقرآن، وكتابه في الأصول (مقاصد الشَّريعة)، وكتابه في إصلاح التعليم، لشهرتها وتفرُّده بها في زمانه.

التعريف بالتفسير:
تفسير التَّحرير والتَّنوير الذي سمَّاه مؤلفه: (تحرير المعنى السَّديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد). وقد قدَّم له بتمهيدٍ وافٍ ذكر فيه مُراده من هذا التفسير، وقال: "فجعلت حقّاً عليَّ أن أبدي في تفسير القرآن نُكتاً لم أرَ من سبقني إليها، وأن أقفَ موقف الحكم بين طوائف المفسِّرين تارةً لها وآونةً عليها، فإنِّ الاقتصار على الحديث المعاد، تعطيلٌ لفيض القرآن الذي ماله من نَفاد، ولقد رأيت النَّاس حول كلام الأقدَمين أحدَ رجلين: رجل معتكف فيما شادَه الأقدمون، وآخر آخذٌ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي تلك الحالتين ضررٌ كثير، وهنالك حالةٌ أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهي أن نعمِدَ إلى ما أشاده الأقدمون فنهذِّبه ونزيده وحاشا أن ننقضه أو نبيده، علماً بأنَّ غمط فضلهم كُفْرانٌ للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حَميد خصال الأمَّة".

ثمَّ قال: "وقد ميَّزت ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه، وما أجلبه من المسائل العلميَّة مما لا يذكره المفسِّرون، وإنَّما حَسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما بين يديَّ من التفاسير في تلك الآية خاصَّة، ولست أدَّعي انفرادي به في نفس الأمر، فكم من كلام تُنشئه تجدك قد سبقك إليه متكلِّم، وكم من فهم تستظهره وقد تقدَّمك إليه متفهِّم".

كما وضَّح أن فن البلاغة لم يخصَّه أحد من المفسِّرين بكتابٍ كما خصُّوا أفانين القرآن الأخرى، ومن أجل ذلك التزم ألا يغفل التنبيه على ما يَلوح له منه كلَّما ألهمه الله تعالى ذلك بحسب مبلغ الفهم وطاقة التَّدبر. واهتمَّ أيضًا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، أمَّا البحث عن تناسب مواقع السُّور فلا يراه حقّاً على المفسِّر.

وتفسير التَّحرير والتَّنوير يعد في الجملة تفسيراً بلاغياً بياناً لغوياً عقلانياً لا يغفل المأثور ويهتم بالقراءات، حَفَل بضروب من التأويل والفهم لمقاصد الشَّريعة ما يعزُّ وجوده في غيره، ويتفرَّد به عن غيره. وطريقة مؤلِّفه فيه أن يذكر مقطعاً من السُّورة ثم يشرع في تفسيره مبتدئاً بذكر المناسبة، ثم لغويَّات المقطع، ثم التَّفسير الإجمالي، ويتعرَّض فيه للقراءات والفقهيَّات ... وهو يقدم عرضاً تفصيليّاً لما في السُّورة ويتحدَّث عن ارتباط آياتها وتناسبها، فهو لم يغادر سورة إلا بيَّن ما أُحيط بها من أغراضها، لئلَّا يكون النَّاظر في تفسير القرآن -كما يقول ابن عاشور- مقصوراً على بيان مفرداته ومعاني جُمَله،كأنها فِقرٌ متفرِّقةٌ تصرِفه عن روعة انسجامه وتحجُب عنه روائع جَماله.

ومما قاله المصنِّف في تقديمه لكتابه: "وقد اهتممتُ في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ونُكَت البلاغة العربيَّة وأساليب الاستعمال"، وقال: "واهتممتُ بتبيين معاني المفردات في اللُّغة بضبطٍ وتحقيقٍ مما خلت عن ضبطِ وتحقيق كثيرٍ منه قواميس اللُّغة". وهو كما قال فعلاً حيث خرج من التَّفسير إلى إضافة قاموس لغوي لمفردات القرآن الكريم.

وأخيرًا هو يمتدح كتابه بقوله: "ففيه أحسنُ ما في التَّفاسير، وفيه أحسن ممَّا في التَّفاسير".
ومدَّة تأليف التَّفسير زهاء أربعين سنة، بدأ به في سنة 1341هـ وانتهى منه في رجب سنة 1380هـ، وبدأ بنشره على حلقات في (المجلَّة الزيتونيَّة)، ثم طُبع مراراً.

التعريف بكتاب (مقاصد الشَّريعة الإسلامية):
يعدُّ هذا الكتاب من أشهر كتب ابن عاشور.
كان تأليفه استجابة للأُمنية التي أعرب عنها الشَّيخ محمد العزيز جُعَيط المفتي المالكي (1303-1389هـ)، يوم أن كتب في (المجلَّة الزيتونيَّة) أنه لم يعثر في تلك الثَّروة العلميَّة الهائلة على كتابٍ جامعٍ، يجمع في مطاويه شَمْل المقاصد الشَّرعية، ويُفصح عن أسرار التَّشريع.

فكان هدف ابن عاشور من تصنيفه -كما قال- ليكون: "مرجعاً بين المتفقِّهين في الدِّين عند اختلاف الأنظار وتبدُّل الأَعصار، وتوسُّلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودُربةً لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض، عند تَطاير شرر الخلاف، حتى يستتبَّ بذلك ما أردنا من نبذ التعصُّب والفَيْئَة إلى الحقِّ".

والذي دعاه إلى صرف الهمَّة إليه ما رأى من "عُسر الاحتجاج بين المختلفِين في مسائل الشَّريعة، إذ كانوا لا يَنتهون في حِجاجهم إلى أدلَّة ضرورية أو قريبة منها يُذعن إليها المكابِر، ويَهتدي بها المشبَّهُ عليه، كما ينتهي أهل العلوم العقليَّة في حِجاجِهم المنطقيِّ والفلسفيِّ إلى الأدلَّة الضَّروريات والمشاهدات والأصول الموضوعة، فينقطع بين الجميع الحِجاج، ويرتفع من أهل الجدل ما هم فيه من لجاج".

وقد قسَّم المؤلِّف كتابه إلى ثلاثة أقسام، فجعل القسم الأول في إثبات أنَّ للشَّريعة مقاصدَ من التشريع، عالج فيه القواعد المعرِّفة لهذا العلم، وجعل القسمَ الثاني في مقاصد التشريع العامَّة، أي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، والقسم الثالث في مقاصد التشريع الخاصَّة بأنواع المعاملات، فبحث في توجُّه الأحكام إلى مرتبتين: مقاصد ووسائل، وبيَّن أن مقصد الشَّريعة في المعاملات تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقِّيها. وقد طُبع الكتاب مراراً، آخرها بتحقيق الدكتور محمد الحبيب بلخوجة صدر عن دار القلم بدمشق.

التعريف بكتاب (أليس الصُّبح بقريب؟ التَّعليم العربي الإسلامي، دراسة تاريخيَّة وآراء إصلاحيَّة):
يعدُّ هذا الكتاب من أهم الكتب التي كُتبت في عصر ابن عاشور، اعتنى به مؤلِّفه بنقد التعليم ومناهج التأليف السائدة؛ فتكلَّم عن أوضاع التعليم وأسباب ضعفه، وأحوال البيئة الزيتونية ومبادرات إصلاح التعليم فيه، قال في مقدمته: "قد كان حَدا بي حادي الآمال وأملى عليَّ ضميري، من عام واحد وعشرين وثلاث مئة وألف، للتَّفكير في طرق إصلاح تعليمنا العربيِّ والإسلاميِّ، الذي أشعرَتني مدةُ مزاولته، متعلِّماً ومعلِّماً، بوافر حاجته إلى الإصلاح الواسع النِّطاق، فعقدت العزمَ على تحرير كتاب في الدَّعوة إلى ذلك وبيان أسبابه".

بحث المؤلِّف في كتابه أسباب تأخُّر التَّعليم، وعزاه إلى انعدام خُطَّة تربويَّة متطوِّرة، وإهمال الضَّبط للدروس والمقرَّرات، والبعد عن التَّربية الأصيلة.
ونقَد كذلك مستويات التَّعليم، الابتدائيِّ والثانويِّ والعالي، وبيَّن عيوبَها، ثم تكلَّم على العلوم وأحوالها و إصلاحها وأسباب تأخُّرها.

وكان الشيخ جريئاً في نقده، مجدِّداً، بصيراً بعيوب العلوم التي عرضَها، يطغى على نقده الطَّابع التَّربوي، إذ كان يُظهر هنَات العلوم، وينبِّه على مواطن الخلل فيها، لاسيَّما ما يعسُر فهمه على الطَّالب، ونبَّه في جرأة أثارت حفيظةَ خصومه على العراقيل المصطنعة التي أثارها أعداء التطوُّر الواقفين في وجه كل إصلاح علميٍّ تربوي.
يقول: "غير أني لم أدَع فرصةً إلا سعيت إلى إصلاح التعليم فيها بما ينطبِق على كثير مما تضمَّنه هذا الكتاب، فاستتبَّ العمل بكثير من ذلك، وبقي كثير، بحسب ما سمحَت به الظُّروف، وما تيسَّر من مقاومة صانعِ منكَرٍ ومانعِ معروف".

لقد كان المؤلِّف في كتابه هذا مؤرِّخاً للعلوم وطرق تدريسها منذ انتشار العلم في بلاد الإسلام وامتداده إلى الأندلس، فبحث في أطوار التعليم العربيِّ عند ظهور الإسلام، ونقل العلوم الفارسية والهندية واليونانية، ووَصَف التعليم الإسلاميَّ وأساليبه ومناهجه، كما بحث في صفة الدُّروس والطَّريقة في معرفة أهليَّة المتصدِّي للتعليم، ومواضع التعليم، وظهور الكتاتيب وتعليم المرأة، وانبعاث العلوم الإسلاميَّة في الأقطار، ثم تكلَّم على مواضع التعليم في إفريقيَّة والمغرب، وأسلوب التعليم فيها، ثم خصَّ التعليم في تونس، فتحدَّث عن مواضع التعليم فيها وأسباب تأخُّره، ونظره في إصلاحها وترقية أفكار التَّلامذة. وأرَّخ بعد ذلك للتأليف وأسبابه، وبحث في كل علمٍ يدرسه طالب العلم، وطرق إصلاح تعليمه.
وقد طُبع الكتاب مرَّتين.

وللمترجَم غير الكتب التي ذُكرت نحوٌ من أربعين كتاباً تأليفاً وتحقيقاً، شطرها لم يُطبع بعد، منها:
1 - تعليقات وتحقيق على حديث أمِّ زرع – مخطوط.
2 - النظر الفَسيح عند مَضيق الأنظار في الجامع الصَّحيح – مطبوع.
3 - كشف المغطَّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطَّا – مطبوع.
4 - آراءٌ اجتهادية – مخطوط.
5 - الأمالي على مختصر خليل – مخطوط.
6 - حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب (التنقيح على شرح تنقيح الفصول في الأصول) – مطبوع.
7 - قضايا وأحكام شرعيَّة – مخطوط.
8 - الوقف وآثاره في الإسلام – مطبوع.
9 - أصول التقدُّم في الإسلام – مخطوط.
10 - أصول النِّظام الاجتماعي في الإسلام – مطبوع.
11 - تحقيقات وأنظار في الكتاب والسُّنَّة. – مطبوع.
12 - نقدٌ علميٌّ لكتاب الإسلام وأصول الحكام لعلي عبد الرزَّاق – مطبوع.
13 - أصول الإنشاء والخطابة – مطبوع.
14 - الأمالي على دلائل الإعجاز للجرجاني – مخطوط.
15 - تحقيق لشرح القرشي على ديوان المتنبي – مخطوط.
16 - ديوان بشار بن برد – مطبوع.
17 - ديوان النابغة الذبياني – مخطوط.
18 - شرح ديوان الحماسة – مخطوط.
19 - شرح معلَّقة امرئ القيس – مخطوط.
20 - سرقات المتنبي ومشكل معانيه لابن بسَّام النحوي– مطبوع.
21 - شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام – نُشرت مقالات في مجلة مجمع اللُّغة العربية بدمشق.
22 - قصيدة الأعشى الأكبر في مدح المحلَّق – مطبوع.
23 - الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم الأصبهاني – مطبوع.
24 - قصَّة المولد النَّبوي الشَّريف – مطبوع.
25 - قلائد العقيان ومحاسن الأعيان لأبي نصر الفتح ابن خاقان – مخطوط.

المرجع:
كتاب (محمد الطَّاهر ابن عاشُور، علَّامة الفِقه وأُصوله والتَّفسير وعُلومه)، تأليف: إياد خالد الطَّباع، وهو الكتاب رقم (26) في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون، لمحات من حياتهم وتعريف بمؤلفاتهم) التي تصدرها دار القلم بدمشق، الطبعة الأولى، 1426هـ - 2005م.


 
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك اخي الفاضل
 
بارك الله فيك على الموضوع
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top