بين المنطق وأصول الفقه : نظرة إسلامية :

د.سيد آدم

:: عضو مثابر ::
(1) :
قام نزاعٌ كبير بين أهل الفكر في عالمنا العربي / الإسلامي ، وكان طرفاه الأساس : من يرى أن ليس للمسلمين منهج للبحث العلمي ، قائماً بذاته ، باستقلال عن قدامى المنهجيين الغربيين ، ما يعني التماهي في ثقافة " الغير " . وكان أصحاب هذا الرأي لهم الغَلبة بكل الوجوه ، وأشاعوا أن لا منهجَ صحيحاً إلا ما أُخِذ عن اليونان ومنطقهم ، متمثلاً ذلك ، وبالأساس ، في منطق أرسطو ، ومثّل هذا الفريق نفرٌ من علماء وفلاسفة المسلمين كـ : الكندي ، وابن سينا ، والفارابي . هذا في المشرق الإسلامي ، وكـ : ابن طفيل ، وابن باجة ، وابن رشد . وهذا في المغرب الإسلامي .
وقام فريق آخر يرى ضرورة اعتبار شخصية ( = هُوية ) العالِم المسلم ؛ لذا فلا بد من الممازجة بين الفكر الإسلامي وجذور الثقافات التي فتح المسلمون بلادها ، بحيث لا يُتجاهل التراثُ الوافدُ ، كما لا يُهمَل الطرحُ العلميُّ للمسلمين ممثلاً ، بالأساس ، في القرآن الكريم والسنة النبوية . لذا طرح هذا الفريق أن أصول المنهج العلمي / الفلسفي تؤخذ ، على المستوى الإسلامي ، من علم أصول الفقه على المستوى المنهجي ، ومن علم التوحيد على المستوى العقدي .
اعتمد المسلمون ، حال أسسوا المنهجية العلمية ، أن العبرة ليست " أن نحشو ذهن الطالب بالمعلومات ، بل أن نملّكه وسائل تحصيل المعلومات وتفحّصها ، وذلك يتم عبر التعود على البحث والتنقيب والاستقراء " . وتلك أولى مهام ، وفوائد ، المنهج .
والمنهج ، اصطلاحاً ، هو " الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة ما " .
وقد حدد المسلمون اتجاهين للمناهج :
الأول : منهج الاكتشاف . وهو الذي يسعى إلى اكتشاف حقيقة ما .
الثاني : منهج التصنيف . وهو الذي يبرهن على مفاهيم سائدة / قائمة ، أو يعدّل منها .
أما البحث ، فهو " استقصاء دقيق يهدف إلى اكتشاف حقائق ، أو قواعد ، عامة يمكن التحقق منها في المستقبل " . ومن ثم يكون المنهج العلمي ، كتعريف المسلمين له ، هو " مجموعة منظمة من المبادئ العامة ، والطرق الفعلية التي يستعين بها الباحث في حل مشكلات بحتة مستهدفاً بذلك الكشف عن الحقيقة " .
ولا شك أن الكثير من مفكري الإسلام ، وعلمائه ، خاصة علماء الكلام ( = الأصوليون ) وعلماء أصول الفقه ، قد رفض الاعتماد على نظرية " القياس المنطقي " ، كما جاءت عن أرسطو طاليس ، منهجاً في النظر والبحث والوصول إلى الحقائق ، خاصة في الذي له تعلق بالعلوم الشرعية الإسلامية فضلاً عن العلم العقدي ، ولا يجب أن نفهم هذا الموقف على أنه نكران للمنهج العلمي ودوره وأهميته ، بل على أساس أن علماءنا قد وجدوا أن منهجَ القياس المنطقي ، كما جاءنا عن أرسطو والسوفسطائيين وسقراط والكلبيين والرواقيين ، ليس يتفق مع نزعة العلمية بل العملية كما فهموها من مصدري الإسلام : القرآن الكريم والسنة الشريفة ، لذا أسسوا منهجاً خاصاً استمدوا مبادئه / مقوماته / أسسه من أصول الإسلام متمثلةً في الكتاب والسنة . وقد سمّى علماءُ أصول الفقه هذا المنهج باسم " القياس الأصولي " . تأسيساً على الاختلاف / التباين القائم بين نظرة كل من الأصوليين والأرسطيين إلى القياس . ولا شك لدينا أن المسلمين عرفوا القياس قبل ترجمة ، ومن ثم معرفة ، المنطق ... وذلك في الاجتهاد بـ " الرأي " الذي هو مبدأ إسلامي اعتمد عليه الصحابة والتابعون ، ولم ينكره إلا أهل الظاهر .
ومن أوليات المنهج الكلامُ في " الحد " ، وقد اختلف تعريفه عند الأصوليين عنه عند المنطقيين ؛ فقد أخذ ابن تيمية الكثير من أفكار السابقين له وأضاف إليها من فكره الخاص ؛ فالرجل يرى أن التحقيق السديد في مسألة الحد هو جواب " ما هو " لسائل يستفهم عن شيء . وهذا السائل :
• إما أن يكون غير عارف بمسمى الاسم ، فالحد يكون بالنسبة إليه " ترجمة " ، وهو من الحدود اللفظية ، وهناك الحدود الشرعية التي عرّفها الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ، كالإيمان والإسلام والإحسان .
• وإما أن يكون عارفاً بمسمى الاسم ، وفي هذه الحالة لا يحتاج للتمييز ، وإنما يحتاج شيئاً زائداً عن التعريف ، وهو ذكر خصائص باطنة ، أو ما تركب منه .
والدارس للمنطق ، الحديث تحديداً ، يجد أن " جون استيوارت مل " قد قدّم ما قاله ابن تيمية ، دون الإشارة إليه ، من حيث إن " مل " يرى أن الحد " مجرد شرح اللفظ " .
ثم تناول الأصوليون مسألة " القياس " فانتهوا إلى تعريفه وبيان مكوناته / أركانه ؛ فالقياس ، عندهم ، هو التقدير والمساواة . وهو ، اصطلاحاً ، حمل مجهول على معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه عنهما ، لأمر جامع بينهما .
ولا شك ، لدى دارس المنطق والأصول ، أن هذا التعريف أدخل إلى باب الدقة المنهجية من التعريف الأرسطي للقياس ، والذي يدور حول كونه مجرد انتقال من " جزئي " إلى " كلي " .
أما أركان القياس فقد أجملها الأصوليون في أربع نقاط : الأصل ، والفرع ، والحكم ، والعلة.
ثم عرّفوا كل نقطة تعريفاً دقيقاً :
• الأصل : هو ما بُني عليه غيرُه ، أو هو ما عُرِفَ بنفسه دون إفتقار إلى غيره .
• الفرع : هو ما تفرع وبُنى على غيره ، أو هو ، عند الفقهاء ، المحل ، أو الشيء الذي نريد أن نحكم عليه .
• الحكم : هو الحكم الشرعي الذي يحكم به على الفعل من ناحية كونه حراماً أو حلالاً ، كما أنه صور هذا الحكم . وقد أجملوها في خمس صور هي : الواجب ، والمحرم ، والمكروه ، والمندوب ، والمباح .
• العلة : وهي أهم أركان القياس ، من حيث إنها التي تُستنبَط من حكم الأصل ، أو يُنص عليها ، وتكون موضع لبحث ونظر وتأمل في الفرع ، حتى إذا تحقق وجودها جرى حكم الأصل عليها ... لذا صار القول " الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً " .
وتكلّم العلماء ، الأصوليون تحديداً ، في العلة تفصيلاً لتعلقها بالأحكام ، وهي ذات التعلق " العملي " بالحياة بوجه عام .
يُتبع ...
 

(2) :
• مفهوم العلة :
العلة ، لغةً ، اسم لما يتغير حكم الشيء لحصوله .
وهي ، اصطلاحاً ، إماراتٌ ، أو علاماتٌ ، نصبها اللهُ ، تعالى ، كأدلة على الأحكام .
وأبو حامد الغزالي يرى أن العلة علامةٌ أقامها الشارع وضعاً . وهي قد تكون حكماً ، أو وصفاً محسوساً ، أو فعلاً .
• شروط العلة :
1- أن تكون مؤثرة في الحكم ، لأن الحكم معلولٌ لها .
2- أن تكون وصفاً ظاهراً منضبطاً غيرَ مضطرب .
3- أن تكون مطردة ، بمعنى أنها إذا وُجدت وُجد حُكمُها .
4- أن تكون العلة منعكسة . والعكس هو رد الأمر إلى آخره ، وأخره إلى أوله . أو هو ، كما يقول الفقهاء : انتقاء العلة .
5- أن تكون العلة أمراً وجوديا ً. ولا خلاف بين الأصوليين في تعليل الحكم الوجودي بعلة وجودية .
6- أن تكون العلة متعدية ، وهي التي تنتقل من الأصل إلى الفرع ، ذلك غير القاصرة ، فإنها موقوفة ، فقط ، على الأصل .
• مسالك العلة : وهي مسلكان ... هما :
1- مسالك نقلية : وهي المعتمدة على النص الشرعي من الكتاب ، أو السنة ، أو الإجماع ذي الأصول المعتمدة على نص من قرآن قطعي الدلالة ، أو نص نبوي قطعي الثبوت قطعي الدلالة .
2- مسالك عقلية : وهي المعتمدة على الأدلة التي استنبطها العقل وهي أنواع : المناسبة ، الشَّبَه ، والطرد ، والدوران ، والسبر ، والتقسيم ، وتنقيح المناط .
وقد شرح الأصوليون أنواع المسالك العقلية كالآتي :
المسلك الأول : المناسبة :
هي ، في اللغة ، الملائمة ، فكل ما له تعلق بغيره وارتباط ، فإنه يصح أن يقال عنه مناسب له .
وعند الأصوليين ، الآمدي تحديداً ، " عبارة عن وصف منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحكم " .
وذكر أبو حامد الغزالي أن الأساس الذي يمكن أن يقوم عليه الوصف المناسب هو " المصلحة " ، ويتمثل معنى المصلحة في " حفظ مقصود الشرع " ... والمصلحة ثلاث :
1- ما شهد الشرع باعتبارها .
2- ما أبطلها الشرع .
3- ما لم يشهد الشرع لا باعتبار ولا ببطلان ... ، وهذا موضوع اجتهاد .
أقسام الوصف المناسب :
1- الوصف المؤثر : ما ظهر تأثير عينه في عين الحكم ، أو جنسه .
2- الوصف الملائم : ما ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم ، أو عينه .
3- الوصف الغريب : ما لم يظهر تأثير ولا ملائمته .
المسلك الثاني : الشبَه :
عرفه بعض الأصوليين مقارنةً مع غيره من المسالك بأنه إما " أن يكون مناسباً للحكم بذاته ، وإما أن لا يناسبه بذاته . فالأول : هو الوصف المناسب ، والثاني ، الشبه ، والثالث : الطرد " .
المسلك الثالث : الطرد :
هو ، في اللغة ، النفي والإبعاد .
وهو ، في الاصطلاح ، وجود حكم عند وجود الوصف ، ومقارنته له .
وقد اختلف الأصوليون حول الطرد كطريقة لثبوت العلة ؛ فمنهم من رأى الأخذ به ، ومنهم من أنكر ذلك .
المسلك الرابع : الدوران .
هو ، في اللغة ، الطواف .
هو ، في الاصطلاح ، أن يوجد الحكم بوجود الوصف ، وينتفي بانتفائه .
المسلك الخامس : السبر والتقسيم .
هو ، في اللغة ، الاختبار والتجزئة .
وهو ، في الاصطلاح ، أن ينقسم الشيء في العقل إلى قسمين ، أو أقسام ، يستحيل أن تجتمع كلها في الصحة والفساد ، فيبطل الدليل أحد القسمين ، فيقضى العقل بصحة ضده " .
أقسام السبر والتقسيم من حيث حصر الأوصاف .
1- المنحصر : وهذا قاصر على التردد بين النفي والإثبات .
2- المنتشر : ويشمل أقساماً ، أو أوصافاً ، كثيرة .
المسلك السادس : تنقيح المناط .
التنقيح ، في اللغة ، التهذيب والتمييز .
والمناط ، في اللغة ، اسم مكان من الإناطة ، وهي التعليق والإلصاق .
ويقول عنه ابن تيميه " أن ينص الشارع على الحكم عقيب أوصاف يعرف فيها ما يصلح للتعليل وما يصح ، فينفع المجتهد الصالح ، وما يلغى ما سواه " .
ويقوم المجتهد في هذا الباب بعمليتين :
1- حذف : فيحذف ما لا يصلح من الأوصاف .
2- تعيين : حيث يقوم بتعيين القلة من بين ما تبقى .
ويعرف أن المناط هو النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها .
وهناك كلامٌ للأصوليين حول مسائل منهجية أخرى :
1- قياس الغائب على الشاهد
وهذا هو نفسه القياس الأصولي ؛ ولكن عند المتكلمين يطلق عليه قياس الغائب على الشاهد مع إضافة بعض الأمور ، وهي الجمع بالعلة ، والجمع بالشرط ، والدليل والحد .
انتهى .
 
السلام عليكم
بارك الله فيك الأخ الكريم على ما تفضلت به من منفعة
تقبلوا تحياتي
 
توقيع رابح66
السلام عليكم
بارك الله فيك الأخ الكريم على ما تفضلت به من منفعة
تقبلوا تحياتي

وعليكم السلام أخي الكريم ،
بل أنتم أصحاب الفضل ؛ إذ تفيدوننا بما تضيفون فننقح موجوداً أو نَعلم جديداً . شاكرين ومقدرين .
 
بارك الله فيك
وبانتظار القادم
 
بارك الله فيك
وبانتظار القادم

إن شاء الله تعالى ، مع رجاء أن تتكرموا بالمرور وبيان النقص في المكتوب .
 
يعطيك العافية اخي
جعل الله هذا العمل في ميزان حسناتك

أخوك فلسطيني من غزة
 
تنبيه: نظرًا لتوقف النقاش في هذا الموضوع منذ 365 يومًا.
قد يكون المحتوى قديمًا أو لم يعد مناسبًا، لذا يُنصح بإشاء موضوع جديد.
العودة
Top Bottom