في " الربا " ، دراسة أصولية فقهية فكرية اقتصادية معاصرة !!! :

د.سيد آدم

:: عضو مثابر ::
(1) :
نقول ، وبالله العون ، إن الزكاةَ حق المال ، وهي عبادة ، من ناحية ، وواجب اجتماعي / مجتمعي من ناحية أخرى . ومع ذلك فالزكاة ليست ، وحدها ، حق المال ؛ فهي " الحد الأدنى " المفروض في الأموال حين لا تحتاج الجماعة إلى غير حصيلة الزكاة ، فأما حين لا تفي ، فإن الإسلام أعطى للحاكم سلطاتٍ واسعةً للتوظيف في رؤوس الأموال ، بمعنى الأخذ منها بقدَر معلوم ، وفي الحدود اللازمة للإصلاح ، ولدينا النص " إن في المال حقاً سوى الزكاة ". وكذا الحال بقراءة أبواب " المصالح المرسلة " و " سد الذرائع " ، فهذا كله يمثل ، برأينا ، دوائرَ واسعةً تشمل تحقيق المصالح العليا للجماعة بما يضمن دفع الضرر ... الذي هو أحد مقاصد الشريعة .
إن المصالح التي ليس لها نص شرعي ، من القرآن الكريم أو السنة النبوية ، ويُشهد لها بالاعتبار تُسمى ، عند الأصوليين ، بـ " المصالح المرسلة " ... وكونها أصلاً فقهياً موضع نظر بين الفقهاء ؛ وقد ادّعى القرافي أن الفقهاء ، جميعاً ، أخذوا بها ، واعتبروها دليلاً في الجزئيات ، وإنْ أنكر أكثرُهم كونها أصلاً في الكليات ... وقال في ذلك : " إن المصلحة المرسلة غيرنا صرّح بإنكارها ، ولكنهم ، عند التفريع ، نجدهم يعللون بمطلق المصلحة ، ولا يطالبون أنفسهم ، عند الفروق والجوامع ، بإبداء الشاهد لها بالاعتبار ، بل يعتمدون على مجرد المناسبة . وهذا هو المصلحة المرسلة " .
ومن أمثلة الأخذ بالمصالح المرسلة :
• وُجِد أصحابُ الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، يقومون بأمور ، من بعده ، لم تكن موجودةً في عهده عليه الصلاة والسلام ؛ فجمعوا القرآن الكريم في المصاحف ، ولم يكن ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن المصلحة " تقاضتْهم فعلَ ذلك " .
• اتفق الصحابةُ ، رضي الله عنهم ، ومن بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، على حد شارب الخمر ثمانين جلدةً ، مستندين في ذلك إلى المصالح ، أو الاستدلال المرسَل ؛ حيث رأوا " الشراب ذريعةً إلى الافتراء وقذف المحصنات بسبب كثرة الهذيان " .
• اتفق الخلفاء الراشدون ، رضي الله عنهم ، على تضمين الصّناع . مع أن الأصل أن أيديهم على الأمانة ، ولكن وُجد أنهم لو لم يضمنوا لاستهانوا بالمحافظة على أمتعة الناس وأموالهم ، وفي الناس حاجة شديدة إليهم ؛ فكانت المصلحة في تضمينهم ليحافظوا على ما تحت أيديهم ، ولذلك قال الإمام علي ، كرم الله وجهه ، : " لا يصلح الناس إلا ذاك " .
• كان عمر بن الخطّاب ، رضي الله عنه ، يشاطر الولاة ، الذين يتهمهم في أموالهم ، لاختلاط أموالهم الخاصة التي استفادوها بسلطان الولاية . وذلك من باب المصلحة ، أو المصالح ، المرسلة أيضاً ، لأنه رأى في ذلك " مصلحة الولاة " ، ومنْعهم من استغلال سلطان الولاية لجمع المال وجرّ المغانم من غير حِلّ .
• ورد ، تاريخياً ، أنه ، عمر ، رضي الله عنه ، قد أراق اللبن المغشوش بالماء ، تأديباً للغاشّ . وذلك من باب " المصلحة العامة " ؛ فلا يعود بائعو اللبن للغش .
• وورد ، تاريخياً ، أنه ، عمر ، رضي الله عنه ، قتل الجماعةَ بالواحد إذا اشتركوا في قتله ، لأن المصلحة تقتضي ذلك ، إذ لا نصّ في هذا الأمر . ووجه المصلحة أن القتيل معصومٌ ، وقد قُتل عمداً ، فإهداره داعٍ إلى خرم أصل القِصاص ، واتخاذ الاستعانة والاشتراك " ذريعةً " إلى السعي بالقتل ، حال عُلمَ أنه لا قصاص فيه . وقد يقال إن مثل هذا يعد أمراً بدعياً ، لأن كل واحد لا يعد قاتلاً على حدة . والرد : إن القاتلَ الجماعةُ ، من حيث إنهم اجتمعوا على أمر القتل ، فقتلُها ، الجماعة ، كلها قتلٌ كالقاتل وحده ، إذ القتل مضافٌ إليها ، مثل إضافته إلى الفرد الواحد . وهنا أنزل عمر ، رضي الله عنه ، الكثير ( = الأشخاص ) المجتمعون لغرض القتل منزلة الفرد الواحد ، وقد دعت المصلحة إلى هذا الأمر الجديد ، وواضح أن فيه حقناً للدماء ما يوجد صيانةً للمجتمع وأفراده .
يُتبع ...
 
(2) :
... وعودٌ لموضوعنا الأساس ، الربا ، حيث مهّدنا بالذي سبق ، لنقدم أن استحداث طرق تعاملية اقتصادية جديدة قد يكون من باب سلطة الحاكم حال وجد المصلحة في ذلك ، طالما لم يقم " تعارض " بين الجديد وأحد أصلي التشريع .
لا شك ، لدينا ، في حُرمة الربا ، لكن علينا أن نفصل بين ما هو ربا ، وبين ما ليس كذلك ؛ فالربا بابٌ واسع ، وكم طالبنا بفتح باب الاجتهاد لمستحقيه والكف عن " ما ترك الأولون للاحقين شيئاً " و " ذهب الأولون بالخير كله " !!! . وكانت دعوتنا مقامةً ، بالأساس ، لضبط الحدود الفقهية ، والوقوف بها عند ما حرّم الله ، حتى لا نتعبد بالتضييق على الناس ، فنقع في تحريم ما أحلّ الله تعالى .
جاء عن عمر ، رضي الله عنه ، قوله : " لقد خِفتُ أن نكونَ قد زدنا في الربا عشرةَ أضعافِه بمخافته ". وأيضاً جاء قوله : " تركْنا تسعةَ أعشار الحلال مخافةَ الربا " .
لقد تعرّض أكثر الصحابة لقضية الربا بالشرح المبين ، ومن أهمهم عبد الله بن عباس ، رضي الله عنه ، حيث أخبر أنه " لا ربا إلا في النسيئة " . ( النسيئة : الزيادة في أصل الدَّيْن عند حلول أجله للحصول على أجل جديد ) . واستدلوا بأنه الربا المحرّم شرعاً في القرآن الكريم دون غيره ، وجاء التعبير عنه بقول الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مصاعفة " . ومعلوم أن هذه الآية الكريمة قد نزلتْ قبل آية التحريم " وأحل الله البيعَ وحرّم الربا " . والقاريء له أن يلاحظ أن الربا قد ذُكِر ، في الآيتين الكريمتين مُعرّفاً ، وقاعدة اللغة تنص أنه حال أُعيدتْ المعرفةُ ، صار المقصود بلفظها الثاني عين الأول .
إذن ، ومن قول ابن عباس ، رضي الله عنه ، يصح تقييد الربا ، فضلاً عن أنه ، عند البعض ، لا يَرِدُ ، ولا يُتصور ، إلا في الأصناف الستة المذكورة في حديث عبادة بن الصامت " الذهب ، والفضّة ، والبُر ، والشعير ، والتمر والملح " . حتى أن الظاهرية ، وأهمهم ابن حزم ، يوقفون الربا على على هذه الأصناف ، ولا يتعدونها ، حتى قالوا عنها " الأصناف الربوية " ... ونفس المنحى نجده عند ابن القيم .
وَجد القولُ بتضييق دائرة الربا مناصرين / مؤيدين ، ما أهّل محمد عبده أن يصدر فتواه بحِلّة فوائد " دفاتر توفير البريد " ، ثم سار نفس السيرة تلميذه محمد رشيد رضا . بل أحلّ بعض عمليات البورصة ، على الرغم أنه عاصر فريقاً ينادي بتوسيع دائرة الربا ، معتبرين أعمال البورصة داخلةً في هذه الدائرة .
والمأخذ على هذا الفريق الأخير ، أنه لم يفرّق بين " الربا المحض " ، وهو ربا النسيئة ، والذي جاء فيه قول ابن حنبل " الربا الذي لا شك فيه " . وبين أنواع أخرى من الربا ألحقوها ، هم ، به على سبيل القياس ، ومن قبيل التورع / الخوف من الوقوع في الشبهات .
والدارس للفقه يجد تأييداً لتضييق ابن عباس دائرة الربا ، وقصْر ذلك على ربا النسيئة الذي دلّت الآيات القرآنية الكريمة على تحريمه ، وقام على ذلك الإجماع ، وغيره محل خلاف ، من حيث إن الأساس المقام عليه هو تجنب الشبهات ، وهذا أمرٌ محمود ، لكن له قواعد :
• الحلال ما أحله الله تعالى ، والحرام ما حرّمه سبحانه .
• التحليل والتحريم منصوص عليهما شرعاً ( مع ضرورة التمييز بين الشرع والفقه ) !!! .
• الأصل في الأشياء " الِحِل " ، ولو لم يرد نص بذلك ، بينما التحريم مطلوبٌ فيه نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة . وقد قرأنا قوله الله تعالى : " قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم " . و " وقد فصّل لكم ما حرم عليكم " . ما يعني أن التحريم يحتاج إلى سند شرعي .
• حال أن كنا ، مجتمعياً ، أمام أمرٍ لم يرد بشأنه ، تحريماً ، نصٌّ قطعي الثبوت قطعي الدلالة ، يصبح حلالاً ، ولا يتم تحريمه إلا بالاستناد إلى دليل يقيني .
يُتبع ...
 
(3) :
معروف أن أصل العلاقة بين صاحب المال ( = الدائن ) والمقترِض ( = المدين ) ، هي قوة الأول وضعف الثاني ؛ فالدائن القوي هو الذي يضع الشروط للعلاقة القائمة بينه وبين المدين ، بينما لا يقدر المدين أن يضع شروطاً ! ، وعليه ، ليس إلا ، أن يستجيب لشروط الدائن ، وإلا فلا اقتراض !!! . ما يعني أن المدين هو الذي يسعى للدائن ، ويعلن قبوله شروطه ، ونلاحظ أن رغبة المدين لها تعلق بأساسيات المعيشة له ولمن يعول : أولاداً وزوجة . وبحال قصّر المدين عن السداد لحال الإعسار ، فالإسلام يدعو " فنظِرةٌ إلى ميسرة " . والحال غير ذلك ، كليةً ، في أمر الإيداع سواء في البنك ، أم في البريد ؛ فالمودَع طرفه ( = البنك ، أو البريد ) هو الأقوى ، وهو من يضع الشروط لصحة الإيداع .
إن صورة ربا النسيئة هي كما يلي : لشخصٍ على آخر دينٌ محدد القيمة ، وذو مدة محددة لإتمام سداد قيمة الدين ، فإذا جاء موعد السداد ( = الأجَل ) ، وعجز المدين أن يسدد ما اقترضه ، يقول للدائن : زدْني أجلاً ( = أنسئني ) ، أزدْك مالاً . أو يقول الدائن للمدين : زدني مالاً ، أزدْك أجلاً ( = أنسئك ) . وربما تصل الزيادة على أصل المال أضعافاً مضاعفة ، فإذا استمر المدين معسَراً ، انتقل الدين إلى بدنه وحريته ؛ فيسترقّ ، أو يُسخّر .
مما سبق نجد أن المدين شخص " طبيعي " ، وليس " معنوياً / اعتبارياً " ، على حين " البنك " أو " البريد " شخص معنوي / اعتباري ، لا يُتصور نقل الدين إلى بدنه وحريته ، حيث هو أرقام وقيود حسابية .
إن المعاملات الورقية ليست ضمن الأصناف الستة السابق ذكرها ، ورغم صدور فتوى من الأزهر الشريف باعتبار الأوراق المالية كالذهب ، فإن الأمر اختلف الآن ؛ فلم يعدْ لهذه الأوراق سندٌ / غطاء ذهبي ، ومنصوص على الحق في استرداده ، ومدوّن ذلك النص على كل عملة ورقية ... كان ذلك فيما مضى ، أما الآن فلا دولةَ لديها هذا الغطاء الذهبي لعملتها الورقية . ما يعني انعدام القياس / خطأه بين النقود الورقية والذهب ، ما جعلها تخرج عن الأصناف الستة ، لكنها تبقى نوعاً من الصكوك الدالة على قوة ، أو ضعف ، هذا الاقتصاد أو ذاك ، بمعنى أن هذه العملة تقوى حال كان اقتصاد الدولة صاحبتها قوياً ، وتضعف حال كان اقتصاد الدولة صاحبتها ضعيفاً .
ووطنياً ، نرى أن المودع ماله بنكاً ، أو بريداً ، يعفي اقتصاد بلده أن يصدر أوراقاً مالية جدية دون سند اقتصادي إنتاجي ، ما يمثل عبئاً على بلده ... لذا جاء القول الاقتصادي : " إن المودع يسحب أمواله من سوق التداول " السلعي / الخدمي " ، فيساهم بذلك في تخفيف عبء التضخم عن اقتصاد بلده ، وفي ذلك دعمٌ قويّ لهذا الاقتصاد بما يحقق للدولة منفعة كبيرة " . وحال صرفتْ الدولة فائدةً لهذا المودِع ، فهي بذلك تدفع مقابل منفعة محقَّقة لها ، فالدولة ليست تدفع الفائدة مقابل " أجل " ، بل مقابل ما تحقق لاقتصادها من قوة ستنعكس على قيمة عملتها ، وستنعكس على المواطن خدماتٍ صحيةً واجتماعيةً ... وما إلى ذلك .
وما يؤيد هذا الرأي ، أن الدولة حال ضعفَ اقتصادُها تضطر إلى خفض سعر صرف أوراقها المالية ، وقد يأتي هذا الخقض بنسبة أكبر بكثير من سعر الفائدة التي تدفعها للمودِع ، وهنا لا يكون المودِع قد أخذ شيئاً يزيد عن رأس ماله ، حيث قلتْ قيمة العملة ( كأن يصبح الجنيه يشتري دجاجة ، وكان قبل ذلك يشتري دجاجتين ) !!! . والمودِع ، هنا ، بين أمرين : إما أن يكون الذي أخذه فائدة ، من البنك أو البريد ، مقابلاً للذي حققه لاقتصاد بلده من منفعة حال قوي اقتصادها ... فلا يكون هناك ربا ، أو يكون ما أخذه من فائدة في حدود هبوط سعر صرف العملة التي أودعها ... وأيضاً لا ربا ولا حرمة .
هذا رأي قابل لفتح باب النقاش لنتعلم ممن سيشاركنا الموضوع .
انتهى .
 
شكرا و بارك الله فيك
 
تنبيه: نظرًا لتوقف النقاش في هذا الموضوع منذ 365 يومًا.
قد يكون المحتوى قديمًا أو لم يعد مناسبًا، لذا يُنصح بإشاء موضوع جديد.
العودة
Top Bottom