التفاعل
10.3K
الجوائز
2.5K
- تاريخ التسجيل
- 8 جانفي 2010
- المشاركات
- 10,646
- آخر نشاط
- الوظيفة
- تاجر
- الأوسمة
- 2

إنَّ لله ـ عزَّ وجلَّ ـ في خَلْقِه شؤونًا عجيبة، وله ـ سبحانه ـ في أقداره أسرارًا لطيفة؛ يرفع ويخفض، يبسط ويقبض، يُعزُّ ويُذلُّ، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممَّن يشاء، يُخرج الحيَّ من الميِّت ويُخرج الميِّت من الحيِّ، يُضلُّ من يشاء ويهدي إليه من أناب.وممَّا قدَّره الله على عباده ـ وهو دالٌّ على حكمته ـ أن يبتليَهم بالسَّرَّاء والضَّرَّاء، والشِّدَّة والرَّخاء، والحسنات والسَّيِّئات، قال تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين﴾[العنكبوت:1-3]، ومن ذلك ما أصاب أهل الإسلام في هذه الأيَّام، من فتنة الخروج على الحكام، وتأجيج نار الثَّورات، مع ما صاحبها من مظاهرات واعتصامات.
وحكم هذا الأمر في شريعة الإسلام لا يخفى على من له مُسكة من علم بنصوصها، فالأحاديث الَّتي تأمر بالسَّمع والطَّاعة للحاكم المسلم في المعروف، وتنهى عن منازعته في الأمر والخروج عليه ـ ولو كان ظالـمًا ـ أشهر من أن تُذكر، وأكثر من أن تُحصر، لكنَّ الَّذي جعل المصيبة تتعاظم، والبليَّة تتفاقم؛ أن وُجد من الدُّعاة والمشايخ المنتسبين إلى السُّنَّة من يدعو إلى ذلك ويحرِّض عليه، من غير حجَّة ولا برهان، ولا نور مقتبس من سنَّة أو قرآن، مخالفين بذلك تلك النُّصوص الكثيرة، متنكِّبين منهج السَّلف الصَّالح الَّذي غرُّوا النَّاس بالانتساب إليه دهرًا طويلاً.
ألا فليُعلم أنَّ ربَّنا قد بيَّن لنا في كتابه المنهج الشَّرعيَّ في التَّغيير، مَنْ سلكه جنى ثمراته، وأوصله إلى رضوان ربِّه وجنَّاته، ومن أعرض عنه ورضي بغيره، ممَّا يوحيه الشَّيطان إلى أوليائه، فلا يمكن أبدًا أن يصل إلى مراده، ولا أن يحقِّق مبتغاه وأهدافه.
قال سبحانه: ﴿إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[الرعد:11].
وقال عزَّ مِن قائل: ﴿وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون * وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون﴾[النور:55-56].
وقال جلَّ في علاه: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيز * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور﴾[الحج:40-41].
وقال جلَّ ذكره: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون﴾[الأعراف:129]، ثمَّ قال في ختام هذا السِّياق: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُون﴾[الأعراف:137].
فدلَّت هذه الآيات على أنَّ الاستخلاف في الأرض والتَّمكين؛ إنَّما يكون من الله لعباده الَّذين يتحقَّق فيهم شرطه؛ وهو: الإيمان الصَّادق، والعمل الصَّالح، مع اليقين بوعد الله، والصَّبر على أقداره.
قال الحسن البصريُّ: «والله لو أنَّ النَّاس إذا ابتُلوا من قبل سلطانهم صبروا؛ ما لبثوا أن يرفع الله ذلك عنهم، وذلك أنَّهم يفزعون إلى السَّيف فيُوكلوا إليه، ووالله ما جاءوا بيوم خير قطّ»، ثمَّ تلا: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُون﴾(1).
فمن رام إخراج الأمَّة من ديجورها الَّذي طال فيه سباتها؛ فليبدأ بنفسه فَلْيَنْهَهَا عَنْ غَيِّها، وليجمِّلها بالإيمان بربِّها، والأعمال الَّتي بها فلاحها، ثمَّ ليَسْعَ بعد ذلك إلى تعميم هذا الخير بين النَّاس، بدعوتهم إليه، والصَّبر معهم لحملهم عليه، وهو منهج نبيِّنا صلى الله عليه وسلم العمليّ في الدَّعوة والإصلاح؛ فإنَّه ربَّى أصحابه فردًا فردًا، ولم ينازع ملكًا في ملكه، ولا سلطانًا في حكمه، وقد أرشدنا إلى ذلك ربُّنا في كتابه في سورة وجيزة في ألفاظها وكلماتها، لكنَّها بليغة في عبرها وفوائدها، وهي سورة العصر، الَّتي قال الله فيها: ﴿وَالْعَصْر * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾[العصر]، فقوله:﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ دليل على تكميل النَّفس، وقوله:﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾ دليل على الدَّعوة إليه لتكميل الغير.
قال العلاَّمة ابن السَّعدي: «فبالأمرين الأوَّلين يكمِّل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمِّل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالرِّبح العظيم»(2).
ولابدَّ لذلك من أمرين اثنين؛ بهما جاء النَّبيُّ المصطفى صلى الله عليه وسلم هما: العلم والتَّزكية، قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين﴾[آل عمران:164].
فهذا هو المنهج الشَّرعيُّ في التَّغيير، ليس فيه روغان ولا دوران، فنحن الَّذي يهمُّنا أن نوحِّد الله ـ عزَّ وجلَّ ـ، ونلزم طاعته ونجتنب معصيته. وحسبنا أنَّنا قصدنا الخير وأتيناه من بابه، ولم تحرِفنا الأهواء والفتن إلى بنيَّات الطَّريق وجنباته، ورحم الله مجدِّد هذا العصر الإمام الألباني الَّذي كان كثيرًا ما يقرِّر هذا المعنى، ويتمثَّل ببيتين من شعر امرئ القيس، يقول فيهما:
بَكى صَاحِبي لـمَّا رأى الدَّرْبَ دُونه
وأيـقــنَ أنـــا لاحــــقــانِ بـقـيـصــرا
فَـقُـلــتُ لَـــهُ: لا تَــبْــكِ عَــيْــنُــكَ إنّـمَــانحاوِلُ مُــلْـكًـا أوْ نُـموتَ فَنُـعْذَرَا
فهذا هو السَّبيل، لمن رام إصلاح الحال والتَّبديل، أعلامه لائحة، ومنارته واضحة، ولكنَّه في نظر المستعجلين طريق طويل، إذ هو بتحقيق مقاصدهم غير جدير، فلذلك لا يصبرون على مكارهه وعقبات المسير.والشَّيء الَّذي لا يكاد ينقضي منه العجب؛ أنَّ كثيرًا من أولئك الدُّعاة المشار إليهم ممَّن كان يظهر الانتساب للسَّلف، ويرفع شعار الدَّعوة إلى منهج أهل الحديث، كانوا قبل الَّذي حدث بزمان بعيد، وإلى عهد قريب، يحرِّمون المظاهرات، ويمنعون العمل السِّياسي ودخول البرلمانات، فإذا بالأحداث تتسارع، وضغط العوام عليهم يزداد في الشَّارع، فلم يصبر إخواننا على الثَّبات على مواقفهم، ورأوا أنَّ القوم سابقوهم لاقتسام غنيمة الثَّورة، والاستئثار بالمناصب والثَّروة، فقرَّروا أن ينهجوا معهم منهجًا ثوريًّا حركيًّا، ورضوا لأنفسهم بأن يسلكوا مسلكًا حزبيًّا سياسيًّا، فتحوَّلوا في وقت وجيز إلى دعاة خروج وتحريض، وأقحموا أنفسهم معترك السِّياسة والتَّحزُّب البغيض، والأغرب من هذا أنَّنا رأينا منهم من تغيَّر كلامه وتبدَّل خطابه في أقلّ من أسبوع، ينسلخ من جلده كما تنسلخ الحيَّة من جلدها. فما الَّذي تغيَّر؟! آلدِّين الَّذي أكمله الله ورضيه للنَّاس، أم هو الهوى وتزيين الشَّيطان الوسواس! قد غرَّ القوم أن رأوا ملكًا قريبًا، وآنسوا حكمًا وشيكًا، فسلكوا طريقًا غير الَّتي كانوا يعتقدون، وأصبحوا يعرفون ما كانوا ينكرون، وينكرون ما كانوا يعرفون، وهذه علامة السُّقوط في الفتنة لو كانوا يعقلون.
عن حذيفة رضي الله عنه قال: «إذا أحبَّ أحدكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا؛ فلينظر، فإن كان رأى حلالاً ما كان يراه حرامًا فقد أصابته الفتنة، وإن كان يرى حرامًا ما كان يراه حلالاً فقد أصابته»(3).
وعنه أيضًا قال: «إنَّ الضَّلالة حقّ الضَّلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإيَّاك والتَّلوُّنَ في الدِّين؛ فإنَّ دين الله واحد»(4).
وقال إبراهيم النَّخعي: «كانوا يرون التَّلوُّن في الدِّين من شكِّ القلوب في الله»(5).
ومن جناية القوم على منهج السَّلف وقواعده أنَّهم ألصقوا به كلَّ هذه الانحرافات والخزايا، زورًا وبهتانًا، حتَّى أصبح بعض أهل السُّنَّة ممَّن لم تثبت على النَّهج قدمه، ولم يرسخ في العلم فهمه، يتساءل:
أصحيح تغيَّرت فتوى أهل العلم في هذا الشَّأن؟
فنقول:
إنَّ دين الله لا يتغيَّر، وإنَّ الفتوى لم تتبدَّل، ولكنَّها سنَّة الله فيمن حكَّم الهوى على نفسه أن يغيِّر ويبدِّل، وأن يكثر من التَّنقُّل: ﴿سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾[الأحزاب:38].
فإن سأل سائل فقال:
ما سرُّ هذا التَّحوُّل عند هؤلاء الدُّعاة؟! لا سيما والعهد غير بعيد، وكلام القوم القديم لا يزال بأيدي النَّاس لا ينكره إلاَّ العنيد، وهو عليهم عند الخصام شهيد.
وجواب ذلك أن يقال: إنَّ لذلك التَّحوُّل جملة أسباب، منها ما قد ندركه ونتوصَّل إلى معرفته، ومنها ما لا يعلمه إلاَّ الله، وسيأتي اليوم الَّذي يجلِّيه فيه الرَّبُّ لعباده: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِر﴾[الطارق:9]، و﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ﴾[يونس:30].
ولكن أريد أن أنبِّه ههنا على ثلاثة أمور أراها ذات بال، تهمُّ كلّ مؤمن سائر إلى ربِّه، حريص على أن يثبت على أمره، حتَّى لا تزيغ به الأهواء، ولا تميل به الآراء.