حِجَابُكِ أَيَّتُهَا الْمُسْلِمَة
الحمدُ لله ربِّ العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى ، أتمَّ سبحانه لنا الدين وجعل أمتنا أمة الإسلام خير أمة ؛ فله الحمد تبارك وتعالى أولاً وآخرا وله الشكر ظاهراً وباطنا على نعمه العظيمة ومنَنه التي لا تعد ولا تحصى ، ثم أمَّا بعدُ :
فيا طالبة العلم : طيَّب الله حياتك بالعلم والإيمان ، وطيَّب أوقاتكِ بالطاعة والإحسان ، وطيَّب بدنك بالستر والاحتشام ؛ هذه وصية أهديها لك راجياً من الله سبحانه وتعالى أن ينفعكِ بها ولاسيما أنك في موضعٍ أنت فيه قدوة في الخير والاستقامة والطاعة لله تبارك وتعالى .
والوصية حول الحجاب ، وبين يدي الحديث عن الحجاب وثماره وآثاره لابد من مقدِّمةٍ هي من الأهمية بمكان ألا وهي : أن نستشعر - أيتها الفاضلة - أن نعمة الله سبحانه وتعالى علينا بهذا الدين عظيمة ومنَّته علينا بالهداية إليه كبيرة ؛ فهو الدين الذي ارتضاه لعباده وكمَّله لهم ولا يقبل جل وعلا منهم ديناً سواه ، قال الله تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران:19] ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران :85] ، وقال تعالى : 5 [المائدة:3] نعم إنه الدين الذي أصلح الله به العقائد والأخلاق ، وأصلح به الحياة الدنيا والآخرة ، وزيَّن به ظاهر المرء وباطنه ، وخلَّص به كل من اعتنقه وتمسك به من براثن الباطل ومهاوي الرذيلة ومنزلقات الانحراف والضلال ، إنه الدين العظيم الدين المبارك الدين المثمر للخيرات والبركات والثمار النافعات التي تعود على المستمسك به في دنياه وأخراه .
ولابدَّ في هذا المقام - أيتها الأخت الفاضلة - من تذكُّر واستحضار جملةٍ من الضوابط تعِين متأمِّلها على لزوم هدايات الدين وتوجيهاته العظيمة وتلقِّيها بالقَبول وانشراح الصدر والرضا ، ولعلي أنبِّه على أهم هذه الضوابط وأعظمها وأرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا جميعا بها :
% أولاً : عليك أن تعلمي علم اليقين أن أحسن الأحكام وأقومها وأكملها وأجملها أحكام رب العالمين وخالق الخلق أجمعين تبارك وتعالى { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة:50] ، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } [التين:8] ، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [الأعراف:87] فإذا أيقن المسلم بذلك لم يتردد في قَبول أي حكم يصِله ويرِدُ إليه ويبلغه مما حكم الله به وأمَرَ به جل وعلا .
% الأمر الثاني : عليكِ يا طالبة العلم أن تدركي أن سعادتكِ وكرامتكِ مرتبطةٌ تمام الارتباط بهذا الدين وبالطاعة لرب العالمين والتزام أحكامه وشرعه ، وأن حظَّكِ ونصيبكِ من السعادة بحسب حظكِ ونصيبكِ من الطاعة والالتزام ، قد قال الله تعالى : {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } [النساء:31] ، وقال الله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس:9-10] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .
% الأمر الثالث : عليك التنبه - وفَّقكِ الله - إلى أن المسلمة لها في هذه الحياة أعداء كُثُر يسْعَون للإطاحة بكرامتها وخلخلة سبيل عزِّها وفلاحها وسعادتها وإيقاعها في حمأة الرذيلة والفساد ، ويقدِّمون في سبيل ذلك كل ما يستطيعون ، ويأتي في مقدمة هؤلاء الأعداء الشيطان عدو الله وعدو الدين وعدو عباده المؤمنين ، قد قال الله تعالى : {إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [فاطر:6] فالواجب الحذر كل الحذر من هؤلاء الأعداء الذين غايتهم وأكبر مُنْيَتهم أن تتحلل المرأة المسلمة من أخلاقها وآداب دينها وأسباب عزِّها وفلاحها في الدنيا والآخرة .
% الأمر الرابع : عليكِ أيتها الموفقة أن تؤْمِني إيماناً جازماً أن التوفيق والصلاح والاستقامة وتحقُّق الخير والبركة والكرامة بيد الله جل وعلا ، فهو الذي بيده أزمة الأمور ومقاليد السماوات والأرض ؛ فمن أعزَّه الله فهو العزيز ، ومن أذله الله تبارك وتعالى فهو المهان ، وقد قال الله تعالى {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } [الحج:18] ؛ ولهذا عليك في هذا المقام أن تقوِّي صلتكِ بالله ، وأن تلجئي إلى الله سبحانه وتعالى دوماً وأبداً سائلةً الهداية والتوفيق والثبات على الدين ، ومن عظيم الدعاء (( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي ، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي ، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي ، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ )) .
% الأمر الخامس : أن يكون اهتمامكِ أيتها الموفقة بأن تحظي بنيل الكرامة عند الله وأن تفوزي بالسعادة برضا الله سبحانه وتعالى ؛ فتلك هي الكرامة الحقيقية ، وقد قال الله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات:13] ، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ ؟ قَالَ أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ )) ، فمن ابتغى الكرامة من غير هذا السبيل فإنما يركض في سراب ويسعى في سبيل خيبةٍ وخسرانٍ وتباب .
% الأمر السادس : عليك أن تعلمي أيتها الموفَّقة أن أحكام الشرع المتعلقة بالمرأة شأنها كشأن أحكام الدين كلها ؛ محكمةٌ غاية الإحكام ، متقنةٌ غاية الإتقان لا نقص فيها ولا خَلَل ، ولا ظلم فيها ولا زلل ، كيف لا! وهي أحكام خير الحاكمين ، وتنزيل رب العالمين ، الحكيم في تدبيره ، البصير بعباده ، العليم بما فيه سعادتهم وفلاحهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا فإن من أعظم العدوان وأشد الإثم والهوان أن يقال في شيء من أحكام الله المتعلقة بالمرأة أو غيرها إن فيها ظلماً أو هضماً أو إجحافاً أو زللاً ، ومن قال ذلك أو شيئاً منه فما قدَرَ ربه حق قدره ولا وقَّره سبحانه وتعالى حق توقيره ، فلنتقِ الله ولنعظِّم أحكام الله سبحانه وتعالى ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الحج:32] .
هذه بعض التأصيلات المهمة والضوابط العظيمة والأسس المتينة التي نحتاج فعلاً دائما أن نتذكرها لتلين قلوبنا وترتاض نفوسنا ولنقبَل أحكام الله سبحانه وتعالى كلها بانشراح صدرٍ وطمأنينة نفسٍ وإقبالٍ على أحكامه جل في علاه التي هي سبب السعادة وسبيل الفلاح في الدنيا والآخرة .
ثم أيتها الموفقة : دين الإسلام عندما جاء بتلك الأحكام المختصة في المرأة في الحجاب والحشمة والقرار في البيوت والحذر من الاختلاط إلى غير ذلكم مما سيأتي الإشارة إليه جاء بها صيانةً للمرأة ، وحفظاً لها ، ووقايةً لشرفها ومكانتها وحمايةً لها من الشر والفساد ، ولتُكْسى بتلك الضوابط حُلَل الطُّهر والعفاف ، فالمرأة في ميزان الإسلام درةٌ ثمينة وجوهرةٌ كريمة تُصان من كلِّ أذى وتُحمى من كل رذيلة ؛ فما أعظم أحكام ديننا وما أجلَّ شأنها وما أعظم بركتها وما أحسن عوائدها لمن وفقه الله سبحانه وتعالى للالتزام بها ، وأما من تخلى عن ضوابط الدين وتوجيهاته الحكيمة زعماً منه أنها تعوِّق عن المصالح أو أنه يترتب عليها - والعياذ بالله - مفاسد أو أضرار أو أنها جناية على المرأة أو أو إلى غير ذلك مما يقال ويقال فهذا كله من التجنِّي العظيم والقول على الله وعلى كلامه وعلى حيه وحكمه بغير علم ، ومن أعظم المحرمات وأكبر الآثام القول على الله سبحانه وتعالى بلا علم ، قال الله تعالى : {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف:33]
أيتها الأخت الموفقة الكريمة الفاضلة : عندما تقرئين آية من كتاب الله وحديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتملاً على توجيهٍ يختص بالمرأة فاسمعي الآية بتدبر وطمأنينة وتقبُّل وانشراح صدر ؛ لأن الكلام الذي تسمعينه هو كلام من خلقك وأوجدك وأمدَّك بالسمع والبصر والحواس والقوى والنعم ،كلامه سبحانه وتعالى ، والفرق بين كلامه وكلام خلقه كالفرق بينه وبين خلقه سبحانه وتعالى ؛ فإياكِ ثم أياك أن يكون في صدرك وحشةً أو نُفْرةً أو انقباضاً من توجيهات رب العالمين ، وهكذا الشأن في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد قال الله تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، أحاديثه عليه الصلاة والسلام العمل بها عملٌ بالقرآن لأن الله جل وعلا قال في القرآن : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] روى البخاري عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : ((لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْ فَقَالَتْ إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَتْ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ قَالَ لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } قَالَتْ بَلَى قَالَ فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ)) . إذاً الأحاديث الثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام العمل بها عملٌ بالقرآن لأن الله أمَرَنا في القرآن بالأخذ عما جاء عن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ، وقد قال الله لأمهات المؤمنين : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } [الأحزاب:34] ؛ والحكمة : هي السنة والمأثور عن النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه .
أيتها الأخت الكريمة الفاضلة : إنَّ سعادتكِ مرتبطةٌ بهذا الدين وبالتزام توجيهاته الحكيمة وآدابه الكريمة وإرشاداته السديدة التي هي عزُّ المرأة وفلاحها ، إن كان البحث عن الجمال والزينة والمظهر الحسن فاعلمي أن الله سبحانه وتعالى يقول : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [الأعراف:26] ويقول جل وعلا : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات:7] ، وفي الدعاء المأثور : ((اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ)) ، فالإيمان والتقوى والالتزام بشرع الله سبحانه وتعالى وأحكامه وتوجيهاته هو الزينة الحقيقية وهو الجمال الحقيقي وهو السعادة الحقيقية وهو فلاح المرء في دنياه وأخراه .