ابن الراعي و جراحة القلوب

إلياس

👑 TOP5 ✍️
أوفياء اللمة
في مزرعة "الخير" الواقعة على تلال القرية، عاش فتىً في العاشرة من عمره يدعى "حسن" مع أبيه إبراهيم، الذي كان راعيًا للأغنام. لم يكن حسن مثل بقية الأطفال؛ فبينما كان بعض أقرانه يلعبون، كان هو منغمسًا في كتاب، يقرأ بشغف كأنه يغوص في عالم آخر.
كان حلم حسن الكبير أن يصبح طبيبًا، يعالج الناس ويخفف آلامهم. وكان يعلم أن الطريق طويل، لكن قلبه كان مليئًا بالأمل.
ذات بعد ظهر، بينما كان حسن جالسًا تحت شجرة السرو العتيقة يدرس كتاب العلوم، وصل صاحب المزرعة، العم رشيد - رجل ثري ذو لحية رمادية وملامح صارمة - ليتفقد قطيع أغنامه. رأى الفتى مع كتابه، فتجهّم وجهه متعجبًا. التفت إلى الأب إبراهيم وسأله باستنكار: "ماذا يفعل الولد؟ أليس من المفترض أن يرعى الغنم بدل أن يضيع وقته هكذا؟".
أجاب الأب بهدوء لكن بفخر واضح: "إنه يدرس يا سيدي رشيد. فبعد أيام قليلة لديه امتحان مهم. ابنى يحلم أن يصبح طبيبًا يومًا ما".
انفجر العم رشيد في ضحك عالٍ ومُهين، وقال بصوت مملوء بالسخرية: "طبيب؟! دعك من هذه الأوهام!، إن مصير ابن الراعي هو أن يكون راعيًا، مثل أبيه. هذه هي سنة الحياة. لن يصبح ابنك أكثر مما أنت عليه!". ثم انصرف وهو لا يزال يهز رأسه ضاحكًا.
غمر حسن شعورٌ بالمرارة والألم، وكادت دمعة تبلل صفحة كتابه. لكن النظر إلى عيني أبيه الحزينتين والمشجعتين في نفس الوقت منحه قوة. همس في نفسه: "سأثبت له أنه مخطئ. سأجعل حلمي حقيقة".
منذ تلك اللحظة، تضاعف تصميم حسن. كان يستيقظ قبل الفجر يأخذ الأغنام إلى المرعى، ويذهب إلى مدرسة القرية البعيدة عن مسكنه. كان يستغل كل لحظة فراغ في المذاكرة، حتى تحت ضوء القمر إذا لزم الأمر. كان التحدي يزيد من عزيمته، لا يكسرها.
مرت السنوات، واجتاز حسن مرحلة التعليم الأساسي وهو متصدرٌ دائمًا. ثم التحق بالثانوية العامة، وكان نجاحه فيها بداية الطريق نحو كلية الطب. كانت الرحلة شاقة ومليئة بالتحديات، لكن إصراره كان أقوى.
تخرج حسن في كلية الطب بامتياز، ليكون الأول على دفعته. لم يكتفِ بذلك، بل واصل تخصصه في جراحة القلب، مجالًا دقيقًا وصعبًا، أصبح جرّاحًا بارعًا وموثوقًا به في أكبر مستشفى في المدينة.
وفي يوم حافل بالمريض، بينما كان الدكتور حسن يقوم بجولته المعتادة لتفقد الحالات، وقعت عيناه على اسم مألوف في ملف مريض جديد: "رشيد أحمد". نظر إلى الرجل المسنّ المستلقي على السرير، يتألم من وجع في صدره. لم يصدق عينيه! لقد كان العم رشيد نفسه، لكن السنوات قد غيّرت ملامحه وأضفت الشيب على شعره.
العم رشيد، الذي كان يعاني من انسداد خطير في شرايين القلب، لم يتعرف على الشاب الوسيم ذي المعطف الأبيض الذي كان ينقذ حياته.
بكل مهنية وأخلاق، أشرف الدكتور حسن على حالته بنفسه. قام بجميع الفحوصات اللازمة، ثم أجرى له عملية جراحية دقيقة ومعقدة لفتح الشرايين المسدودة. كانت العملية ناجحة تمامًا.
أمضى العم رشيد أيامًا في التعافي، وكان الدكتور حسن يزوره يوميًا لمتابعة تحسنه، متجنبًا الكشف عن هويته الحقيقية. كان يريد أن يشفى الرجل أولاً.
وفي يوم خروجه من المستشفى، شعر بصحة أفضل، طلب العم رشيد مقابلة الطبيب المنقذ ليشكره شخصيًا. دخل الدكتور حسن الغرفة بهدوء.
انطلق العم رشيد وهو يمسك بيد الدكتور حسن، قائلا له: "شكرًا لك يا دكتور! لقد أنقذت حياتي. لن أنسى ما فعلته أبدًا."
ابتسم الدكتور حسن ابتسامة هادئة وقال: "العفو يا عم رشيد، هذه مهنتي. شفاؤك هو أعظم مكافأة بالنسبة لي." ثم توقف قليلاً وسأل: "ألا تذكرني؟"
نظر العم رشيد مليًا إلى عيني الطبيب، فرأى فيهما بريقًا مألوفًا. ارتعشت شفتاه وهو يقول: "عيناك... أعتقد أنني أعرف هذا البريق... ولكن من أنت؟"
قال الدكتور حسن بلطف: "أنا حسن. حسن ابن الراعي إبراهيم، الذي كان يعمل في مزرعتك."
سقطت دموع العم رشيد هذه المرة دون سيطرة. صمت طويلاً وهو ينظر إلى الأرض، خجلًا وندمًا على كلماته القديمة. ثم قال بصوت خافت: "أنا... أنا آسف جدًا يا بني. كنت أحمقًا وجاهلاً. نظرتي كانت ضيقة. لقد علمتني درسًا لن أنساه طوال حياتي."
أجاب الدكتور حسن: "لا داعي للاعتذار. أحيانًا، يحتاج بعضنا إلى تذكير بأن الأحلام لا تعرف حدودًا إلا تلك التي نضعها نحن لأنفسنا."
غادر العم رشيد المستشفى ذلك اليوم وهو رجل مختلف. ليس فقط أن قلبه شُفي جسديًا، ولكن لأنه تعلم درسًا أكبر عن التواضع، وقوة الإرادة، وأنه لا ينبغي لأحد أن يحدد مصير الآخر أبدًا.
وأصبحت قصة الدكتور حسن مصدر إلهام لكل أطفال القرية، يثبت لهم أن القلم والكتاب هما أقوى سلاح لبناء المستقبل، وأن السخرية قد تؤذي في البداية، لكنها يمكن أن تكون الوقود الذي يضيء طريق النجاح. بقلم: الأستاذ بدرالدين ناجي
 
العودة
Top Bottom