- إنضم
- 28 جانفي 2008
- المشاركات
- 3,616
- نقاط التفاعل
- 18
- النقاط
- 157
- الجنس
- ذكر
فصل في إبطال الفلسفة و فساد منتحلها
-----------------------
هذا الفصل و ما بعده مهم لأن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن.
و ضررها في الدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها و يكشف عن المعتقد الحق فيها.
و ذلك أن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله الحسي منه و ما وراء الحسي
تدرك أدواته و أحواله بأسبابها و عللها بالأنظار الفكرية و الأقيسة العقلية و أن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل.
و هؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف و هو باللسان اليوناني محب الحكمة.
فبحثوا عن ذلك و شمروا له و حوموا على إصابة الغرض منه و وضعوا قانونا يهتدي به العقل
في نظره إلى التمييز بين الحق و الباطل و سموه بالمنطق.
و محصل ذلك أن النظر الذي يفيد تمييز الحق من الباطل إنما هو للذهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشخصية
فيجرد منها أولا صور منطبقة على جميع الأشخاص كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع.
و هذه مجردة من المحسوسات تسمى المعقولات الأوائل.
ثم تجرد من تلك المعاني الكلية إذا كانت مشتركة مع معان أخرى و قد تميزت عنها في الذهن فتجرد منها معان أخرى و هي التي اشتركت بها.
ثم تجرد ثانيا إن شاركها غيرها و ثالثا إلى أن ينتهي التجريد إلى المعاني البسيطة الكلية المنطبقة على جميع المعاني و الأشخاص و لا يكون منها تجريد بعد هذا و هي الأجناس العالية.
و هذه المجردات كلها من غير المحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض.
لتحصيل العلوم منها تسمى المعقولات الثواني. فإذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة و طلب تصور الوجود.
كما هو فلابد للذهن من إضافة بعضها إلى بعض و نفي بعضها عن بعض بالبرهان العقلي اليقيني
ليحصل تصور الوجود تصورا صحيحا مطابقا إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مر. و صنف التصديق الذي هو تلك الإضافة و الحكم متقدم عندهم على صنف التصور في النهاية
و التصور متقدم عليه في البداءة و التعليم لأن التصور التام عندهم هو غاية الطلب الإدراكي و إنما التصديق وسيلة
لهو ما تسمعه في كتب المنطقيين من تقدم التصور و توقف التصديق عليه فبمعنى الشعور لا بمعنى العلم التام و هذا هو مذهب كبيرهم أرسطو
ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها ما في الحس و ما وراء الحس بهذا النظر و تلك البراهين.و حاصل مداركهم في الوجود على الجملة و ما آلت إليه و هو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم أنهم عثروا أولا على الجسم السفلي بحكم الشهود
و الحس ثم ترقى إدراكهم قليلا فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة و الحس في الحيوانات ثم احسوا من قوى النفس بسلطان العقل. و وقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية.و وجب عندهم أن يكون للفلك نفس و عقل كما للإنسانثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد و هي العشر،
تسع مفصلة ذواتها جمل و واحد أول مفرد و هو العاشر.
-
و يزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس و تخلقها بالفضائل
و أن ذلك ممكن للإنسان و لو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة و الرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله و نظره و ميله إلى المحمود منها و اجتنابه للمذموم بفطرته و أن ذلك اذا حصل للنفس حصلت لها البهجة و اللذة و أن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي و هذا عندهم هو معنى النعيم و العذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف في كلماتهم.
و إمام هذه المذاهب الذي حصل مسائلها و دون علمها و سطر حججها فيما بلغنا في هذه الأحقاب هو أرسطو المقدوني
من أهل مقدونية من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون و هو معلم الإسكندرو يسمونه المعلم الأول على الإطلاق يعنون معلم صناعة المنطق إذ لم تكن قبله مهذبة
و هو أول من رتب قانونها و استوفى مسائلها و أحسن بسطها و لقد أحسن في ذلك القانون ما شاء لو تكفل له بقصدهم في الإلهيات
ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب و أتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل.
و ذلك أن كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي تصفحها كثير من أهل الملة و أخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم و جادلوا عنها و اختلفوا في مسائل من تفاريعها
و كان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المائة الرابعة لعهد سيف الدولة و أبو علي بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان و غيرهما.
و اعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه.
فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول و اكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب فهو قصور عما وراء ذلك
من رتب خلق الله فالوجود أوسع نطاقا من ذلك و يخلق ما لا تعلمون و كأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط
و الغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المقتصرين على إثبات الأجسام خاصة المعرضين عن النقل و العقل المعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء.
و أما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في الموجودات و يعرضونها على معيار المنطق و قانونه فى قاصرة و غير وافية بالغرض.
أما ما كان منها في الموجودات الجسمانية و يسمونه العلم الطبيعي فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود و الأقيسة كما في زعمهم
و بين ما في الخارج غير يقيني لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة و الموجودات الخارجية متشخصة بموادها.
و لعل في المواد ما يمنع مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي اللهم إلا مالا يشهد له الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الذي يجدونه فيها ؟ و ربما يكون تصرف الذهن أيضا في المعقولات الأول المطابقة للشخصيات بالصور الخيالية لا في المعقولات الثواني التي تجريدها في الرتبة الثانية فيكون الحكم حينئذ يقينيا بمثابة المحسوسات إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال الانطباق فيها فنسلم لهم حينئذ دعاويهم في ذلك.
إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا و لا معاشنا
فوجب علينا تركها.
و أما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس و هي الروحانيات و يسمونه العلم الإلهي و علم ما بعد الطبيعة فإن ذواتها مجهولة رأسا و لا يمكن التوصل إليها و لا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا.
و نحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا و بينها فلا يأتي لنا برهان عليها و لا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية و أحوال مداركها و خصوصا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد و ما وراء ذلك من حقيقتها و صفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه. و قد صرح بذلك محققوهم حيث ذهبوا إلى أن مالا مادة له لا يمكن البرهان عليه لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية.