رحلة إلى الأفق .. .فريق 4algeria

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

sql

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
18 نوفمبر 2007
المشاركات
9,173
نقاط التفاعل
27
النقاط
317

83584698us1tc0.gif




رحلة إلى الأفق ...

تنحنح وقاوم خجله من عاصفة التصفيق الحادة التي صاحبت صعوده إلى المنصة... أعرب عن شكره وامتنانه بجمل قليلة وجد بعدها أن كلماته قد نفذت, فقد كان دائما قليل الكلام غير ماهر في فن الحديث ... نظراته كانت تتجه بشكل متكرر إلى مقعد خال بالأمام ...
مضى الوقت وانتهى الحفل فترك القاعة ومشاعره ممتزجة بالفرحة والفخر والغضب والقلق...أمسك بهاتفه المحمول وطلب ابنه الوحيد ليستفسر منه لما لم يأت إلى أهم تكريم في حياته.... وبعد انتظار طويل رد الابن أخيرا...
- آلو
تحدث بانفعال مصحوب بالقلق.
- لماذا لم تأت؟
فرد الابن بتلقائية بالإنجليزية.
- ماذا؟
هنا أدرك أن انفعاله وقلقه قد جعلاه ينسى أين هو ويتحدث بلغته الأصلية . كيف ؟ بعد كل تلك السنين التي عاشها هنا رجع في لحظة إلى كلمات هجرها وتعود على غيرها حتى صار يتحدثها كأهلها !
كان يعلم جيدا أن ابنه لا يتحدث العربية ولا يفهمها فسارع بتغير لغته وعاود السؤال وهو أقل انفعالا فقد سيطر عليه الذهول....
فأجاب الابن:
- لم يكن لدي الوقت, ذهبت في نزهة مع أصدقائي.
ارتسمت ملامح الضيق بوضوح على وجهه وهو يقول له "حسنا" ويغلق الخط , حاول أن يخفي تلك الملامح عندما شعر ببعض زملائه يتجهون نحوه ثم التفوا حوله مهنئين, متسائلين عما يحضر للمستقبل من أبحاث, فاستأذن ومضى إلى سيارته وقبل أن يدخلها رمق بنظرة سريعة العلم الذي يعلو ذلك الصرح العلمي الكبير... فاليوم كرم فيه بصفته مواطنا ينتمي إلى تلك الدولة العظيمة, يشارك في نهضتها العلمية ويبني كابن من أبنائها مستقبلها... فقد حصل على جنسيتها منذ سنوات وصار يحمل بطاقة هوية ثمينه يحرص على حملها ويتجنب بها المشاكل التي تواجه أي عربي يعيش في تلك الدولة... ومنذ ذلك الحين صارت الأبواب تفتح له أكثر ولم تمنع أصوله العربية كل من حوله أن يعترفوا له بالذكاء والمهارة وأيضا بالعبقرية والاجتهاد... ولكنه كان يعلم جيدا أن حصوله على تلك الجنسية الثمينة كلفه حياة زوجية لم يتفاهم طرفاها أبدا ... زوجة لم تقدره ولم تتحمل طباعة الشرقية...
قاد سيارته الفارهة متجها إلى منزله ولكن هناك ما كان يعطل سير المرور.
حشد كبير كان ينظم تظاهرة ولاحظ وجود الملامح العربية بين كثير منهم. فمد رأسه خارج نافذة السيارة وسأل أحد المتظاهرين عن سبب التظاهرة فأجابه باستنكار واستعجاب ألا تشاهد الأخبار؟ ألا تقرأ الصحف ؟ لقد قصفت دولة عربية بمباركة ومساعدة حكومتنا...
كان يحمل لافتة مكتوب عليها بالخط العريض بالإنجليزية "من القاتل؟" وتحتها صورة بشعة لطفل مقتول.
التظاهرة جعلته يغير مساره ويبحث عن طريق آخر أقل ازدحاما لا تطارده فيه تلك الصورة المؤلمة التي احتلت مخيلته فمضى في طريقة محاولا أن يتناساها ... لكن انتابه شعور غريب وهو ينعطف إلى أحد الشوارع... شعر للحظة أنه شارع من شوارع مدينته البعيدة وأنه سيقوده إلى منزله القديم وسرعان ما وجد نفسه يقود السيارة بلا هدف وأخذ يجوب في الطرقات كأنه يبحث عن شئ أو يهرب من شئ ما...
وجد نفسه يتجه إلى المكان الذي تعود دائما أن يشاركه مشاعره منذ أن كان صبيا في مدينته الساحلية الصغيرة... البحر...الذي يسمونه هنا المحيط ..
برودة الطقس أخلت المكان من رواده إلا من هاو للصيد شاركه شاطئ المحيط في ذلك الوقت...كان بارعا ...يتربص بالأمواج التائهة التي تدخل بين الصخور فتضل الطريق وتحاصر في الأخاديد حاملة معها الأسماك حيث كانت تنتظر سنارته ولكن رغم حصوله على عدد كبير من الأسماك كان يلقي بالكثير منها مرة أخري إلى المياه لأن تلك المنطقة تحوي نوعا من الأسماك المسمومة...
ترجل من سيارته ثم استقر على صخرة بقرب الشاطئ وأطلق العنان لنظراته فأخذت تقفز على الأمواج لتصل إلى ضالتها الأخيرة كما تعودت... في الأفق, اختلط صوت الرياح في أذنيه بصوت أوراق تتناثر على الأرض وكلمة كادت تخرق مسامعه "فاشل"... أنامل مرتعشة تلملم أوراق البحث الذي سهر ليال يكمله ظنا منه أنه سيلقى التقدير والدعم الذي يستحقه وتذكر وقع خطوات شاردة حملته في برد الشتاء القارص إلى شاطئ بحرمدينته منذ سنوات...لم ينس أبدا ذلك اليوم وذلك المكان...كان كمرآة تعكس ما بداخله من حزن ...فقد كان يحمل أمنيات كبيرة... أحلاما نمت بداخله وعلت وارتفعت...وأمواج البحرتعلو وتندفع ولكنها تصطدم بالصخور فتنتهي قصتها أمام صلابتها.. تنتهي رحلتها التي بدأتها من بعيد ولكنها في النهاية تضيع وتموت ...قد تكون قوية عنيفة ولكنها في النهاية تصبح رذاذا لا قيمة له... لم يرفع عينيه ولو للحظة عن تلك الأمواج ...كان يتابع موتها الواحدة تلو الأخرى حتى ظهر خيال يقترب...
في هذا البرد القارص كان هناك من يشاركه المكان والزمان... رجل تقدم به العمر وأحنى ظهره, حمل بيد سلة فارغة وبيده الأخرى سنارة... اتجه الصياد العجوز إلى الصخور وأخذ يقفز ليصل إلى مكان مناسب وألقى سنارته بين بقايا الأمواج وظل ينتظر والرياح تهز جسده الضعيف الذي كان يقاومها بصعوبة... رجع ببصره إلى الأمواج تحت قدميه وهو على يقين أن العجوز سيرحل لا محالة...
ظل العجوز يغير مكان صيده ويتحرك من صخرة إلى أخرى وكأنه واثق من أنه سينال ما يسعى من أجله... ومرت الساعات ولم يمض إلا وسلته ممتلئة بالأسماك..
أخذته ذكرى ذلك اليوم إلى جانب مهجور في نفسه...لأول مرة منذ أن أتى إلى هذا البلد يتساءل لما أتى وما الذي جناه ؟
سأل رفيق صباه في صمت فوجد أن هذا المحيط الواسع ليس بصديقه القديم الذي كان يقضي أوقات اليأس ناظرا إليه ينسج أحلامه البعيدة ويراها كل يوم أبعد حتى ظن أنها وراء الأفق...علا صوته يسأل ذاك الأفق البعيد ظنا منه أنه لا يختلف في أي مكان على وجه الأرض... ولكنه فوجئ به مختلفا فما عاد يخفي المجهول وما عاد يحمل أمنيات المستقبل كما كان في الماضي....حتى أمواج بحر مدينته كان لها لحن عجزت أمواج المحيط التائهة عن عزفه فلصوتها نغمة حزينة وكأنها أنين غربتها بين الصخور.
نظر إلى ذلك الهاوي وهو يلقي بالأسماك إلى المياه وتذكر فرحة صياد مدينته بما جنى من أسماك سليمة طازجة...
فتسللت أنامله إلى جيبه وأخرج بطاقة هويته الثمينة ثم نظر إليها طويلا.. نظر إلى الدولة... الصورة ...الاسم ... السن... العنوان.. وكأنه ينظر إلى بيانات شخص آخر وملامح لا يعرفها ...وصوت أنين الأمواج يعلو ليملأ أذنيه, يختلط بأنين أحلام داخله ضلت وتاهت فارتعشت أنامله وسقطت من بينها البطاقة واستقرت على صخرة قريبة انحسرت عنها الأمواج في تلك اللحظة... فهم إلى الصخرة مسرعا ليلتقطها قبل أن تحملها الأمواج بعيدا ولكن شئ بداخله منعه... فتحجرت قدماه وأبت يده أن تتحرك وظل ينظر إليها حتى حملتها الأمواج بعيدا فتاهت عن أنظاره وغاصت في الأعماق.. هدأ صوت أنين الأمواج في أذنيه وأسرعت عيناه إلى الأفق الذي بدا مختلفا وكأنه يدعوه, حاملا شوقا وحنينا وذكريات.



/
/
مع تحياتـ

فريق فور الجيريا
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top