إعلان مبدأ ترومان، ومشروع مارشال "1947-1949"

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

الستار سوسو

:: عضو مُتميز ::
إنضم
17 جويلية 2008
المشاركات
680
نقاط التفاعل
3
النقاط
17
العمر
32
إعلان مبدأ ترومان، ومشروع مارشال "1947-1949": خلال هذه الفترة وصلت الحرب الباردة إلى ذروتها. وتميز عام 1947 بحادثين كانا نذيراً بانتهاء فترة الانتقال وبداية لتزايد مظاهر الحرب الباردة، وهما إعلان مذهب أو مبدأ ترومان ومشروع مارشال.
مبدأ ترومان: وقد بدأ مذهب ترومان ، عندما زاد احتمال انتشار الشيوعية في اليونان، وكانت إنجلترا قد أخذت على عاتقها أن تمد الحكومة اليونانية بالمال والسلاح لمكافحة الحرب الأهلية مع الشيوعيين، ولكن في مارس 1947 قررت الحكومة البريطانية أنه لم يعد في استطاعتها الاستمرار في هذا السبيل، بسبب سوء حالتها الاقتصادية. وأبلغت هذا القرار إلى الولايات المتحدة الأمريكية فارتاعت له، وتجسد أمامها الخطر الكبير الذي ينجم عن قطع المعونة البريطانية عن الحكومة اليونانية، إذ قد يترتب على ذلك نجاح الشيوعيين في قلب نظام الحكم في اليونان، ومن ثم تتسرب العدوى إلى حوض البحر الأبيض المتوسط. عندئذ طلب الرئيس هاري ترومان من الكونجرس الموافقة على مد اليونان وتركيا بأربعمائـة مليون دولار، ثم تحدث ترومان إلى الكونجرس وإلى جمهور كبير قائلا "أعتقد أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تتجه إلى مساعدة الشعوب الحرة التي تكافح الخضوع للأقليات المزودة بالسلاح أو الضغوط الخارجية. وأنني أعتقد كذلك أننا يجب أن نساعد هذه الشعوب المتحررة على العمل من أجل تقرير مصيرها الخاص بها وطرق سلوكها". "وأعتقد أن مساعداتنا يجب أن تسلك بصفة رئيسية طريق المساعدات المالية والاقتصادية التي تعتبر ذات أهمية حيوية بالنسبة للاستقرار الاقتصادي والاتجاه السياسي السليم. إن بذور الأنظمة الشمولية الدكتاتورية تغذيها دائما عوامل الفقر والحاجة، لذلك نجدها تنتشر وت------و في تربة الكفاح والفقر المليئة بالشر، وتصل إلى قمة تطورها و------وها حين يموت أمل الشعب في تحقيق حياة أفضل. ويجب علينا أن نٌبقي على هذا الأمل حياً في النفوس. إن شعوب العالم الحرة تنظر إلينا كي نساندها في المحافظة على حريتها. فإذا تهاونا في زعامتنا، فإننا نضع سلام العالم في خطر ونحيط رفاهية أمتنا بالخطر كذلك".وكان لمبدأ ترومان في نظر الأمريكيين الفضل في:
1. أنه أظهر للاتحاد السوفيتي أن الولايات المتحدة الأمريكية على استعداد لمعارضة "تكتيكات المسالمة" التي يستولي بها على الأراضي الأخرى، قطعة بعد قطعة.
2. أنه ألزم شعب الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة بقبول مسؤولياته في الدفاع عن العالم الحر.
3. أنه أوقف بصورة حاسمة الانتصار الشيوعي المتوقع في اليونان وساعدها على أن تصبح في ذلك الوقت أكثر انتعاشاً من أي وقت. ولم يقابل مبدأ ترومان بالترحيب في أول الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الشعب الأمريكي اضطر فيما بعد إلى قبول سياسة حكومته. ويعتبر شهر مارس 1947 نقطة تحول في التاريخ الأمريكي، وليس ذلك بسبب تخلي أمريكا عن سياسة العزلة فحسب، بل بسبب تبدد الحلم الذي كان يراودها بالعودة إلى الحالة الطبيعية، وتسليم الأمر إلى هيئة الأمم المتحدة. إذ لم تعد تكفي هذه الهيئة لحفظ السلام الذي تنشده أمريكا، وهذا السلام في نظرها هو السلام الذي يخدم مصالحها ومصالح حلفائها. ورأت منذ ذلك الوقت أن تتزعم العالم الذي دعته بالعالم الحر.

مشروع مارشال: بعد أشهر قليلة أُعلن مشروع مارشال، في 5 يونيه 1947. وكان الرئيس ترومان قد عين الجنرال مارشال وزيراً لخارجيته، ويتلخص مشروع مارشال في وجوب مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية لأوروبا الغربية قبل أن ينهار اقتصادها، وفي الوقت نفسه حث مارشال الدول الغربية على القيام بوضع برنامج موحد لإنهاض بلادها اقتصادياً حتى يمكن لأمريكا مساعدتها. ولم يستثن من دعوته دول أوروبا الشرقية، ولذلك كان لتلك الدعوة أثرها السيئ لدى حكومة الاتحاد السوفيتي. حتى صرح مولوتوف بأن الاتحاد السوفيتي لا يرى في مشروع مارشال إلا نوعاً من الاستعمار الجديد أي استعمار الدولار الأمريكي، ومحاولة للتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب المستقلة. وبموجب هذا المشروع أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية حوالي اثني عشر ملياراً من الدولارات في سبيل إعادة بناء اقتصاديات أوروبا الغربية. لقد جاء مشروع مارشال، في وقت كانت فيه أوروبا الغربية على استعداد تام للانحناء وقبول الشيوعية، إذ كان الألمان يعيشون في مدن مهدمة، كما أنها كانت تئن من الهزيمة، وتعجز عن الدفاع ضد التسلل والانقلابات. أما التضخم في إيطاليا فقد وصل إلى أعلى معدلاته، وفي فرنسا هبطت عمليات النقل وإنتاج المواد الغذائية إلى حالة من الفوضى لم يسبق لها مثيل.. وذلك في الوقت الذي توقفت فيه نصف عمليات التعدين، ولم يكن هناك إمداد بالكهرباء للمدن إلا لفترة ضئيلة، لا تتعدى ثلاث ساعات في اليوم. وبدت الأحزاب الشيوعية في كل من فرنسا وإيطاليا كأنها قريبة من النجاح في الانتخابات بعد أن وعدت بإصلاح الأوضاع. وكان الشيوعيون في البلدين أبطالاً وقت الحرب لأنهم كانوا قادة حركات المقاومة في حين تعاون غالبية رجال الصناعة مع الفاشيين والنازيين. لذلك كان يجب القيام بعمل سريع وحازم، من وجهة النظر الأمريكية. لقد أعلن جورج مارشال George Marshall مشروعه في 5 يونيه 1947، في خطاب خطير أثناء تخريج دفعة جديدة من جامعة هارفارد Harvard ، وكان هذا الخطاب بداية لهذا المشروع، فقال: "لقد أخذ في الاعتبار حين النظر في إعادة الحياة إلى أوروبا تلك الخسائر في الأرواح، والدمار الملموس في المدن الذي أصاب المصانع والمناجم، والطرق والسكك الحديدية، وقد أصبح من الواضح في خلال الشهور القليلة الماضية أن هذا الدمار الملموس قد يكون أقل خطورة من تدهور جميع عوامل الإنتاج ومقومات الاقتصاد في أوروبا. لقد كانت الظروف خلال السنوات العشر الماضية، غير عادية بصورة واضحة، إذ كانت حمى الاستعداد للحرب، والجهود الضخمة التي بذلت خلالها، هي التي تسيطر سيطرة تامة على جميع مظاهر الاقتصاد القومي. وقد أدى هذا الوضع إلى أن تشعر الأجهزة المختصة باليأس المطلق، وإلى أن يتحطم تكوين نظام الأعمال والاقتصاد في أوروبا تحطيماً كاملاً. لذلك تأخر الانتعاش بسبب عدم الاتفاق بين مختلف الأطراف المعنية، حتى بعد انتهاء الحرب بعامين وانتهاء العداوات بين الحلفاء وكـل من ألمانيا وال------سا، وإقرار السلام"."لذلك نجد أن مطالب أوروبا خلال السنوات الثلاث أو الأربع القادمة من المواد الغذائية الأجنبية ومن المنتجات الأساسية وبخاصة من أمريكا، كانت أعلى بكثير من قدرتها الحالية على دفع تكاليفها، لذلك يجب أن تقدم إليها المساعدات الإضافية، وإلا فإنها سوف تواجه تدهوراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً خطيراً. لذلك أصبح من المنطق والعقل أن تبذل الولايات المتحدة الأمريكية كل ما في جهدها من طاقات لمساعدتها في العودة إلى حالتها الاقتصادية الطبيعية في العالم، لأن عدم تحقيق هذا الهدف سيؤدي إلى عدم خلق أي استقرار سياسي، كما أنه لن يساعد على تحقيق السلام. لذلك فإن سياستنا ليست موجهة ضد أي بلد من البلاد، أو أي مبدأ من المبادئ سوى الجوع والفقر واليأس والفوضى، بل يجب أن يكون هدفها هو إحياء النشاط الاقتصادي في العالم؛ ليمكن إتاحة ظهور الظروف السياسية والاجتماعية التي يمكن أن تقوم في ظلها المؤسسات الحرة. وإنني على اقتناع تام بأن هذه المساعدة يجب ألا تقوم على أساس التدرج البطيء، في الوقت الذي تظهر فيه الأزمات وتتكون بسرعة كبيرة. لذلك فإن أي مساعدة يمكن أن تقدمها هذه الحكومة في المستقبل، يجب أن تقدم علاجًا وليس مجرد عملية تهدئة وتسكين. وإنني على ثقة تامة من أن أي حكومة تسعى للمساهمة في عملية الإنعاش، سوف تجد كل تعاون مطلق من جانب حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن أي حكومة تلجأ إلى المناورات ل------------ل انتعاش الدول الأخرى لن تجد أي مساعدة من جانبنا. وبجانب ذلك فإن الحكومات، والأحزاب السياسية، أو المجموعات المختلفة التي تسعى إلى استمرار البؤس الإنساني لكي تحصل من ورائه على الربح السياسي، أو غير السياسي، سوف تجد أمامها معارضة قوية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية".وكان هدف مارشال من خطابه هو تقديم المعونة الأمريكية لإنعاش الاقتصاد في أوروبا بشرط أن تتعاون الدول الأوروبية في الاستفادة منه على أحسن وجه، على أساس دولي لا على أساس قومي. ويرجع الفضل الأكبر في نجاح مشروع الإنعاش الأوروبي، وما أحرزه من نتائج عظيمة إلى حسن تصرف إيرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا واتساع أفقه. وقد كانت الدول الغربية تعتبر نفسها مدينة دائماً بالفضل لأمريكا، في حين اعتبرت الحكومة السوفيتية هذا المشروع عملاً من أعمال الحرب الباردة.
ولما دعت بريطانيا وفرنسا إلى عقد مؤتمر في باريس لدراسة مشروع مارشال، رفض الاتحاد السوفيتي الاشتراك فيه، بل وأمر حكومات أوروبا الشرقية ألا ترسل مندوبين عنها. وحتى تشيكوسلوفاكيا التي كانت قد أعلنت قبولها لمشروع مارشال، عادت تحت الضغط الروسي إلى العدول عن الاشتراك في المشروع.
وهكذا اتسع الخلاف بين الشرق والغرب، وفي أكتوبر 1947 أعلن الاتحاد السوفيتي عن تأسيس منظمة أطلق عليها الكومنفورم[1][1]Cominform ، وهي نفس المنظمة الشيوعية القديمة الكومنترن Comintern في لباس جديد. وتسربت الأوامر للأحزاب الشيوعية في غرب أوروبا أن تتخلى عن سياسة المهادنة والاعتدال التي اتبعتها، عندما كان التحالف الكبير سائداً بين روسيا والغرب، وهنا انتشرت الإضرابات والمظاهرات والعصيان، ولم يقف الحد عند قيام الإضرابات في أوروبا، بل انتقلت إلى الملايو وبورما وإندونيسيا والهند الصينية، ولجأ الشيوعيون الآسيويون إلى حرب العصابات حتى انقلبت الحرب الباردة إلى حرب ساخنة في كثير من أرجاء العالم.

مولد اسم "الحرب الباردة": كانت الحرب الباردة قد اكتسبت في ذلك الوقت هذا الاسم المعروف. ففي يوليه 1947 ظهر مقال في المجلة الدورية الأمريكية المسماة "مجلة الشؤون الخارجية" بعنوان "منابع السلوك السوفيتي"، وكان هذا المقال بقلم جورج فروست كينين George Frost Kennan أحد كبار موظفي وزارة الخارجية في ذلك الوقت، إلا أنه لم يوقع باسمه، ولكن سرعان ما عُرف أن كاتبه هو نفسه جورج كينين. وقد أوضح في مقاله بصورة قاطعة مبدأ "الاحتواء" Containment، الذي أصبح السياسة الرسمية لحكومة ترومان. ولكن هذه السياسة تعرضت لهجوم عنيف، من المعلق السياسي الأمريكي والتر ليبمان، على أساس أنها سياسة عقيمة جدباء، وقد أُعيد نشر هذه المقالات فيما بعد في كتيب بعنوان "الحرب الباردة". وعلى هذا النحو وُلد الاسم، رغم أنه لم يكن حتى ذلك الوقت مجهولاً، فإن عبارة "الحرب الباردة" لم ترد إلا في عنوانه، كما أن الأوضاع التي وصفها الكتاب لم تكن جديدة على القرار.
وانتقلت المبادأة في الشؤون الغربية إلى أيدي أمريكا من صيف عام 1947 فصاعداً، بصفة قاطعة، رغم أن هذه المبادأة كانت لا تزال محدودة وفي دور التجريب. فكانت سياسة "الاحتواء" لا تعني أكثر مما تؤديه هذه العبارة، ولم تكن تعني زيادة شقة الحرب الباردة أو توسيع نطاقها.. وإ------ا كان الهدف الحقيقي هو تقوية حلفائها ضد الشيوعية. أما في خارج أوروبا، فإن الحرب الباردة لم تكن قد نشبت بعد، كما أن الأمريكيين لم تكن لديهم رغبة في نشوبها، ففي الشرقين الأوسط والأقصى كان الوضع وضع انسحاب للقوات الأنجلو ـ فرنسية يصحبه هدوء نسبي. وكانت دول أمريكا اللاتينية بعيدة كل البعد عن النفوذ الشيوعي، كما كانت الدول الأفريقية بمنأى عن كل من أمريكا والاتحاد السوفيتي، بما لا يدع لها فرصة أن تكون ميداناً للحرب الباردة على أي وجه.
وقد تبدو السياسة الأمريكية المرسومة عام 1947 على شئ من القصور في نظر من يتقصى الأسباب والعوامل، فإن سياسة "الاحتواء" كانت لا تعدو أن تكون شبيهة بخط ماجينو خلال الثلاثينيات من ناحيتين: كانت سياسة راكدة من ناحية، ولم تمتد بصورة كافية فتغطي الجهة الأمامية بأكملها من ناحية أخرى، وهكذا لم تدرك أهمية الاحتفاظ بالسيطرة على جميع الكتلة الشيوعية ابتداء من النرويج إلى اليابان إلا فيما بعد. ففي عام 1947 كانت كراهية الأمريكيين التقليدية للاستعمار أو لسيطرة شعب على شعب آخر لا تزال في ذروتها. وكذلك كان البريطانيون قد فقدوا الشعور "بالنعرة الإمبراطورية". وكان الاتجاه السائد في دول آسيا والشرق الأوسط، خلال العامين الأولين بعد الحرب العالمية الثانية، هو الرغبة في الاستقلال والتخفيف من نفوذ الدول الكبرى فيها. ولم يساعد هذا الاتجاه على تدعيم سياسة "الاحتواء" الأمريكية التي كان لها أثرها العميق في جميع الدول الكبرى. لقد انسحب الفرنسيون من سورية، ولبنان تحت ضغط المقاومة، وانسحب البريطانيون من العراق "فيما عدا بعض المطارات" كما انسحبوا من منطقة الدلتا في مصر إلى معسكراتهم على قناة السويس ، وكان في نية إيرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا أن ينقل ال---------دة العسكرية البريطانية في الشرق الأوسط من منطقة القناة إلى كينيا. كذلك انسحب الأمريكيون والبريطانيون من إيران، ثم تلاهما الاتحاد السوفيتي فسحب قواته منها في مايو 1946. وإن ترك فيها حكومة موالية له في ولاية أذربيجان، أما في الشرق الأقصى فقد تخلت أمريكا عن سيادتها على جزر الفلبين، كما سحبت قواتها من الصين كجزء من سياستها التي تهدف إلى التهدئة والمسالمة، وكذلك عرضت الحكومة الأمريكية على الاتحاد السوفيتي ـ بلا جدوى ـ الدخول في مباحثات لإنشاء حكومة مؤقتة واحدة لكوريا بأكملها، في حين كان البريطانيون مشغولين بعملية انسحاب أكثر أهمية من كل هذا، ذلك هو انسحابهم من شبه القارة الهندية، ومن بورما، ومن سيلان. وكانت قواتهم قد خرجت في عام 1946 من الهند الصينية ومن إندونيسيا، ولم يبق فيها غير قوات الفرنسيين والهولنديين. وكان هذا الاتجاه العام يحظى بموافقة أمريكا بطبيعة الحال في ذلك الوقت، أما حين كانت تعجز الدول العظمى عن الانسحاب أو تأبى الانسحاب. فهنا كانت أمريكا تنظر إلى الموقف باستياء. من ذلك موقف البريطانيين في فلسطين والملايو وسنغافورة وهونج- كونج، وموقف الفرنسيين في الهند الصينية، وموقف الهولنديين في إندونيسيا. وكانت هذه المناطق كلها على وشك الوقوع تحت رحى الصراع بين الشيوعية والدول الغربية، ومن ثم بدأت أمريكا في إعادة النظر في سياستها، وإن لم يبد ذلك بوضوح في عام 1947. أما دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا فكان لها وضع مختلف، ذلك أن الأولى كانت تعد المجال الطبيعي للنفوذ الأمريكي، أما الثانية فكانت قد خطت خطواتها الأولى وهي تجتاز عتبة التاريخ المعاصر. على أن هذه المجالات الأربعة الكبرى، التي تقع خارج أوروبا، ونعنى بها: الشرق الأوسط والشرق الأقصى، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، كانت في موقف واحد مشترك حتى عام 1947، أي أنها كانت لا تزال بعيدة عن نطاق الحرب الباردة، وإن كان بعضها أقرب إليه من الآخر. فلما أقحمت الحكومة الأمريكية نفسها في النزاع الأوروبي، كانت لا تزال ترجو مع هذا أن يظل الجزء الباقي من العالم بمنأى عن هذا النزاع. والواقع أن السياسة الأمريكية، خارج أوروبا، كانت واضحة في عدد من البرامج قبل برنامج النقطة الرابعة الذي نبع من خطاب الرئيس ترومان الافتتاحي الذي ألقاه في يناير عام 1949، ومثل برنامج المعونة الفنيـة لمنظمة الأمم المتحدة. ولم يكن للأمريكيين في ذلك الوقت أية خطط للتدخل السياسي في آسيا، أو لإقحام الدول المتحالفة في الحرب الباردة.
من أهم أحداث هذه الفترة من الحرب الباردة: الانقلاب الذي حدث في تشيكوسلوفاكيا في فبراير 1948. كانت تشيكوسلوفاكيا الدولة الوحيدة من دول المجال السوفيتي التي ظلت محتفظة بنظامها الديموقراطي حتى آخر عام 1947، على الرغم من أن جميع حكوماتها التي تولت الحكم في أعقاب الحرب ظلت تحرص على علاقاتها الوثيقة بالاتحاد السوفيتي، ولكن العلاقات الوثيقة لم تكن تكفي في نظر الروس لاعتبار تشيكوسلوفاكيا دولة صديقة يؤمن جانبها. لذلك صدرت الأوامر للشيوعيين التشيكيين بالقيام بالانقلاب المعروف في 25 فبراير 1948. وطبق النظام الشيوعي في البلاد منذ هذا التاريخ. وفي الوقت الذي نجح فيه "مشروع مارشال" أن يؤدي إلى خلق عالم يقوم على أساس الكتلتين، لم تستطع دول أوروبا الغربية أن تبقى محايدة بين عملاقين كبيرين، لذلك التزمت هذه الدول بالكتلة الأمريكية. وبهذه الطريقة استطاع الرئيس ترومان أن ينشئ الكتلة عام 1949، من طريق إنشاء معاهدة حلف شمال الأطلسي (انظر ملحق قرار فاندنبرج). وبهذه الطريقة وجدت أمريكا نفسها، لأول مرة منذ عام 1953، عضواً في تحالف دائم، وقد استطاع مشروع مارشال أن يجعل الولايات المتحدة الأمريكية تضمن إعادة الحياة الاقتصادية الصحيحة لأوروبا. واستطاعت منظمة حلف شمال الأطلسي ربط الولايات المتحدة الأمريكية بأوروبا الغربية من أجل دفاعهم المشترك. وكانت هذه الخطوط منطقية ونهائية بالنسبة لسياسة الاستعداد التي كان ترومان قد بدأها قبل ذلك بعامين.
[2][1] أنشئ منظمة الكومنفورم في أكتوبر 1947، رداً على مشروع مارشال.. وكان ستالين وراء إنشاء هذه المنظمة بهدف نشر الدعاية الشيوعية، وجعل مركزها الرئيسي في بلجراد، وقد حُلت عام 1955، وكلمة Cominform هي اختصار The Communist Information Bureau.
المبحث الثالث :سياسة الاستقطاب والاحتواء الروسية ـ الأمريكية الفترة من 1947-1950


أولاً: سياسة الاستقطاب الروسية : 1. تشيكوسلوفاكيا: كانت تحكم تشيكوسلوفاكيا حكومة ائتلافية، حاولت بقدر استطاعتها أن تحتفظ بسياسة متوازنة بين الكتلتين المتنافستين، حتى أنها قبلت دعوة الغرب لحضور مؤتمر باريس، إلا أن الزعيم السوفيتي ستالين هددها بأن ذلك يعتبر عملاً غير ودي تجاه الاتحاد السوفيتي، وخرقاً لميثاق الصداقة وتبادل المساعدة الذي عقد بين الدولتين. وبدأت الدسائس تعمل على إثارة الخلافات بين أعضاء الحكومة الائتلافية ـ فبراير 1948ـ وثارت أزمة بين أعضاء الوزارة غير الشيوعية ووزير الداخلية الشيوعي، الذي قرر فصل ثمانية من كبار رجال الشرطة في براج Prague ، وعين مكانهم عدداً من الشيوعيين، وعندما اعترض الوزراء غير الشيوعيين على هذا الإجراء وطلبوا وقفه، رفض الوزير الشيوعي فقدموا استقالتهم احتجاجاً على ذلك، وحدثت أزمة وزارية حادة. وظهر اهتمام الحكومة الروسية واضحاً عندما أرسلت إلى براج نائب وزير الخارجية الروسي "فاليريان زورين" ليكون على مقربة من الأحداث التي تجرى في تشيكوسلوفاكيا نتيجة لتلك الأزمة، وكانت الأحزاب غير الشيوعية قد طالبت بإجراء انتخابات جديدة اعتقاداً منها أن الشيوعيين سيخسرونها حتماً. إلا أن الرئيس إدوارد بنيش Eduard Benes لم يتحمس لهذا الطلب وتردد في قبوله لعلمه بمدى قوة الاتحاد السوفيتي، كذلك تردد زعماء الح------ الاشتراكي الديموقراطي، وثارت قلاقل قابلها البوليس بإلقاء القبض على الزعماء المعروف عنهم معارضة الحكم الشيوعي واتهمهم بالتآمر ضد الدولة. ولم يستطع الحلفاء الغربيون أن يتدخلوا لمصلحة الأحزاب غير الشيوعية فقد فوجئوا بما يحدث في تشيكوسلوفاكيا ووقعوا في حيرة من أمرهم فهم يعلمون أن "الجيش الأحمر" قريب من مركز الأحداث وأنه يستطيع التدخل بكل سهولة. وفي الوقت نفسه كانت الصحافة والإذاعة في تشيكوسلوفاكيا كلها في يد الشيوعيين، وكلها تنادى بما يطالب به زعماؤهم من ضرورة تكوين حكومة جديدة شيوعية، لا تضم أحداً من الأحزاب الأخرى، وأن تقوم هذه الحكومة دون إجراء أي انتخاب واضطر الرئيس "بينش" أن يذعن لهذا الرأي في 23 فبراير 1948، وتألفت حكومة جديدة استولى فيها الشيوعيون على جميع الوزارات الهامة، وتركت بعض الوزارات لعدد قليل من ممثلي الأحزاب ـ وضاع الأمل نهائياً في أن تحتفظ تشيكوسلوفاكيا بمظهرها الديموقراطي. وفي 10 مارس 1948 وجد وزير الخارجية " جان ماساريك" Jan Mazarik ملقى ميتاً في فناء وزارة الخارجية؛ حيث سقط من النافذة ولم يعرف على وجه اليقين هل انتحر، أو قتل، وألقيت جثته، أو أنه، كما أعلن، فقد توازنه وهو يطل من النافذة. وكانت وفاة ماساريك ـ وهو ابن محرر تشيكوسلوفاكيا الرئيس السابق توماس ماساريك Tomas Masaryk ـ الحادث الختامي للمأساة التي تعرضت لها البلاد في فترة انتقالها إلى الكتلة الشيوعية، أما الرئيس "بنيش" فقد استقال بعد شهور قليلة لضعف صحته، وظل معتكفاً إلى أن أدركته المنية.
2. بولندا: عاشت بولندا في كفاح دائم مع جيرانها، من الدول الطامعة في أراضيها. وعلى الأخص روسيا وألمانيا. وعند بداية الحرب العالمية عام 1939، انقسمت بولندا إلى ثلاثة قطاعات، القطاع الأول انضم إلى الاتحاد السوفيتي، الذي عزمت حكومته على الاحتفاظ به ضمن حدوده الأصلية، وكان ذلك عندما اتفق الروس مع هتلر على تقسيم بولندا عام 1941، والقطاع الثاني وقع تحت سيطرة الألمان "وارسو"، والقطاع الثالث خضع للسيطرة البريطانية الأمريكية. ولكن في عام 1941 هاجم "هتلر" الاتحاد السوفيتي ووصل إلى مشارف موسكو، وقَّع ستالين مع حكومة المنفي البولندية، التي اتخذت مقرها في لندن" اتفاقية صداقة وتعاون، إلى أن تغير الوضع الح--------- وبدأت الجيوش النازية في التقهقر، وتقدم الجيش الأحمر الروسي مخترقاً الحدود البولندية، وبرزت أطماعهم في بولندا، ففي ربيع عام 1943 أعلن الألمان أنهم كانوا قد اكتشفوا في المنطقة التي يحتلونها في بولندا مقبرة جماعية لعدد كبير من الضباط البولنديين الذين أسرهم الروس، وقد لقوا مصرعهم في مجزرة دبرها السوفيت عندما دخلوا بولندا عام 1939، واقترح الألمان أن يتولى الصليب الأحمر التحقيق في هذا الحادث البشع. وما أن وصل النبأ إلى حكومة المنفي البولندية حتى طالبت من جانبها بالتحقيق، وكان هذا الطلب الذي أصرت عليه حكومة المنفي مفاجأة للاتحاد السوفيتي، فأعلنت حكومته قطع علاقاتها الدبلوماسية معها، ولم تعد تعترف بعد ذلك بحكومة المنفي البولندية. وكانت مشكلة بولندا تشغل بال الحلفاء في الوقت الذي دارت فيه رُحى الحرب ضد هتلر، وهم في حاجة لمساعدة روسيا شريكتهم في الحرب ضده، وفي مؤتمر طهران "نوفمبر 1943" قبل تشرشل وروزفلت أن يبقى الجزء الشرقي من بولندا في يد الاتحاد السوفيتي، على أن تعوض بولندا بنصيب من الأرض الألمانية تمتد حتى نهر أودر. وفي يوليه 1944، أنهى الجيش الأحمر الروسي احتلال جزء كبير من بولندا الشرقية، وعُينت حكومة من البولنديين الموالين للشيوعية، وتؤيدها الحكومة السوفيتية، وجعلوا مقرها في مدينة "لوبلن" Lublin، وكانت تلك الحكومة العميلة مكلفة بإدارة المناطق التي غزاها الجيش الأحمر. وذلك في الوقت الذي استنكرت فيه الحكومة السوفيتية نشاط البولنديين المقيمين في لندن؛ لأنهم كانوا يمثلون المقاومة البولندية للاحتلال السوفيتي. والواقع أن الحكومتين البريطانية والأمريكية كانتا تحثان المعارضة البولندية في لندن على السعي إلى الوصول إلى اتفاق مع الروس من جهة، ومع الحكومة البولندية التي أقامها الروس لإدارة منطقة الاحتلال الروسي في بولندا من جهة أخرى، واستجاب لهم رئيس حكومة المنفي البولندي "ستانسلو ميكولاجيك" Stanislaw Mikolajczyk، وذهب إلى موسكو ليقوم بتلك المحاولة التي نصحته بها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وفي أثناء وجوده في موسكو قامت في "وارسو" التي كان الألمان لا يزالون يحتلونها ثورة عنيفة لمقاومة الألمان، وذلك بقصد الإسراع في تحرير العاصمة البولندية على يد الثوار البولنديين، معتقدين أنه لو تمكنت القوات البولندية التي كانت موالية لحكومة المنفي في لندن من السيطرة على "وارسو" عند وصول الجيش الأحمر عليها لأصبح من السهل عليهم مفاوضة الروس وعملائهم من مركز القوة. ولكن ثورة "وارسو" انتهت بالهزيمة والفشل بعد أن استمرت شهرين، قتل فيها عدد وفير من الضحايا وهرب ما يقرب من 350 ألف بولندي. ولم يسع الحكومتان البريطانية والأمريكية سوى الضغط على الزعيم البولندي "ميكولاجيك" لكي يكون أكثر واقعية، بحيث يقبل مطالب الحكومة السوفيتية، خوفاً من تفاقم الموقف بين روسيا والحلفاء في ذلك الوقت العصيب. وقد عرضت المسألة البولندية على مؤتمر يالتا في فبراير 1945، وأجلت لاجتماعات سان فرانسيسكو في أبريل، وبوتسدام في يوليه. وقد أقر المؤتمرون في اجتماعاتهم ما قام به الروس في بولندا، على أن يترك الحل النهائي لمؤتمر الصلح. ووافقوا كذلك على تكوين حكومـة مؤقتة في بولندا، ولكن الواقـع أن تلك الحكومـة كانت ألعوبـة في يـد الحكومة السوفيتية. وبعد عامين أجريت الانتخابات في ذلك الجو المشحون بالخلافات السياسية، فحصل الشيوعيون على أغلبية ساحقة، وانهزم ح------ رئيس الوزراء "ح------ الفلاحين" فقدم استقالته وغادر البلاد، وخلا الجو للسيطرة الشيوعية، وتحكم السوفيت في شؤون بولندا. والواقع أن قصة بولندا كانت مأساة أودت بكرامة الحلفاء الغربيين الذين تخلوا عن التزاماتهم تجاه البولنديين، مع أن البولنديين قدموا لهم أثناء الحرب ضد دول المحور مساعدات فعَّالة، وعلى الأخص عندما اشترك الجيش البولندي والقوات الجوية البولندية في الحرب معهم في الميدان الإيطالي. وفي الوقت نفسه أعلن زعماء السوفيت بوضوح لجميع دول أوروبا الشرقية أنهم لن يقبلوا أو يتحملوا في المستقبل أي تدخل من الدول الغربية في شؤون أي دولة يعتبرونها داخلة في منطقة نفوذهم. وقد ظهر أن تشرشل رئيس الوزراء البريطاني كان موافقاً على ذلك باعتباره نوعاً من تقسيم النفوذ، وقد سبق أن قال لستالين عندما زار موسكو في عام 1944- كما جاء في مذكراته "دعنا نتفق على شؤون البلقان، إن جيوشكم موجودة في رومانيا وبلغاريا ونحن لنا مصالح وبعثات ووكلاء هناك، ومن واجبنا أن ------نع أي خلاف ينشب بيننا حول تلك المسائل، ولا بأس لدينا أن يكون لكم تسعون في المائة من السيطرة في رومانيا، في مقابل أن يكون لنا تسعون في المائة من السيطرة والنفوذ في اليونان. وأن نقتسم النفوذ في يوغسلافيا والمجر، وأن يكون للاتحاد السوفيتي خمسة وسبعون في المائة في بلغاريا". والواقع أن تشرشل كان مغالياً في تفاؤله عندما ظن أن الروس سيقبلون منح الغرب نصف النفوذ في المجر والربع في بلغاريا لأنهم كانوا مصرين على الاحتفاظ بكل السيطرة والنفوذ في جميع دول أوروبا الشرقية ـ فيما عدا اليونان ـ وفعلاً لم تعبأ حكومة الاتحاد السوفيتي بما يجري في اليونان حتى أنهم لم يحركوا ساكناً عندما قدمت الحكومة البريطانية مساعدتها الفعالة ضد الشيوعيين في اليونان ما بين عامي 1947 و1949. كانت اليونان، وال------سا، وفنلندا ويوغسلافيا هي الدول الوحيدة التي استطاعت أن تفلت من قبضة الروس الحديدية، أما بقية دول شرق أوروبا فقد خضعت، وأصبحت منذ عام 1948 في منطقة النفوذ الروسي. واضطرت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية أن تعترفا على مضض بما فرضه الاتحاد السوفيتي من نفوذ في المجر ورومانيا وبلغاريا.
 
المجر: كان معظم زعماء المجر قد اتصلوا بالنازية الألمانية وانضموا إلى "هتلر"، وعندما اقتحم الروس المجر، عاملوا المجريين أسوأ معاملة، ثم اتبعوا هناك نفس السياسة التي اتبعوها في رومانيا، وفي فبراير 1947، حدث انقلاب أثناء وجود رئيس الوزراء في الخارج، وقام الروس بالتدخل المسلـح، وأجبروا رئيسها المعارض للشيوعيين "فيرنيس ناجي" Ferenc Nagi وزعيـم ح------ الفلاحين على الاستقالة. وفي ظل الإرهاب الشيوعي أجريت الانتخابات، وأغلقت الصحف المعارضة للشيوعية، وأُلغي ح------ الفلاحين المعارض، وبطبيعة الحال كانت نتيجة الانتخابات التي أجريت تحت حكم الإرهاب فوزاً ساحقاً للشيوعيين وتألفت في عام 1949 حكومة شيوعية بحتة، وفي العام التالي صدر الدستور المجري الذي وضع على ------ط الدستور السوفيتي.
4. رومانيا: كانت رومانيا قد دخلت الحرب العالمية الثانية في صف دول المحور، ولكن الظروف أجبرتها بعد ذلك إلى الانضمام للروس، عندما دخل الجيش الأحمر أراضيها. وأخذت السلطات الروسية تعمل على استمالة أنصار لها من بين موظفي الحكومة الرومانية، الذين اعتنقوا الشيوعية. ثم أجبر الروس الملك مايكل الأول Michael I على تأليف حكومة يتقلد فيها الشيوعيون أهم المناصب الحيوية في الدولة، كوزارة الداخلية والعدل، والاقتصاد القومي. وأصبح البوليس حراً في إلقاء القبض على كل خصوم الشيوعية في البلاد ومحاكمتهم، والزج بهم في السجون، وإسكات المعارضة نهائياً. وقرر خصوم النظام الشيوعي الجديد في رومانيا أن يتوجهوا بالنداء إلى الدول الغربية لكي تتدخل لمصلحتهم، إلا أن إنجلترا وأمريكا لم تفعلا لهم شيئاً، واكتفتا بالاحتجاج ورفض الاعتراف بحكومة النظام الجديد في رومانيا. وفي عام 1946 بدأ الخلاف يدب بين الروس والدول الغربية، وتعرض زعماء المعارضة في رومانيا للاعتقال ومصادرة أموالهم ومنع اجتماعاتهم. وفي أوائل عام 1948 قُضي على المعارضة والمعارضين وأجبر الملك "مايكل الأول" على التنازل عن العرش، وبذلك أصبحت رومانيا دولة شيوعية تدور في فلك الاتحاد السوفيتي.
5. بلغاريا: أما في بلغاريا فقد كان من السهل أن يحقق الروس أهدافهم، فالبلغاريون لهم صلة قوية وصداقة تقليدية بالروس منذ أن ساعدهم قيصر روسيا سابقاً على الحصول على استقلالهم عن الدولة العثمانية، ومع أنهم دخلوا الحرب في صف الألمان ضد دول الحلفاء، إلا أن زعماءهم رفضوا رفضاً قاطعاً أن يقبلوا ما عرضه النازيون عليهم من وجوب إعلان الحرب ضد الاتحاد السوفيتي. وجرت انتخابات في بلغاريا عام 1945 أسفرت عن فوز الشيوعيين فوزاً ساحقاً نتج عنه تدعيم السيطرة الشيوعية وإلغاء الملكية. وفي عام 1946 تمكن الشيوعيون من تحطيم خصومهم من أحزاب المعارضة، وصدر الدستور البلغاري على ال------ط السوفيتي كما حدث في المجر، ولم تلبث المعارضة أن تحطمت بعد أن صودرت صحفها وسقط أعضاؤها في الانتخابات المزيفة، ولما أعلنت الجمهورية اشتد البطش بزعماء المعارضة فمنهم من سجن، ومنهم من حكم عليه بالإعدام، وقامت الحكومة الشيوعية البلغارية بتصفية خصومها نهائياً في عام 1948.
ثانياً: سياسة الاستقطاب والاحتواء الأمريكية: 1947-1950: كان عام 1947 من أهم الأعوام الحاسمة في تاريخ الحرب الباردة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية كانت حكومة الرئيس ترومان ترى وضع سياسة جديدة تتلخص في مصطلح سياسي جديد هو "الاحتواء"، وذلك لأنها رأت أن الاتحاد السوفيتي مصمم على سياسة التوسع بغير حدود وأن هذه السياسة السوفيتية يجب أن تقاوم بكل وسيلة ممكنة، للدفاع عن الشعوب التي يهددها الخطر الشيوعي، ولذلك كانت السياسة الأمريكية ما بين عامي 1947 و1950 لها وجهان، الأول تدعيم القوة العسكرية وتطويرها بحيث تجابه أي تهديد أو مغامرة عسكرية سوفيتية، والوجه الآخر هو مد يد المعونة للعالم غير الشيوعي الذي لم يخضع للتوسع السوفيتي، ومساعدة شعوبه من الناحية الاقتصادية والاجتماعية؛ بحيث تستطيع الوقوف في وجه التوسع السوفيتي الذي يتخذ من استقطاب العناصر الشيوعية المحلية في تلك البلاد؛ لكي تقوم بثورات وانقلابات بتشجيع ومساعدة من موسكو، وعندما تدرك الحكومة السوفيتية أنها فشلت في استقطاب المزيد من شعوب العالم سوف تعيد النظر في سياسة التوسع وبسط النفـوذ في كل مكان تصل قبضتها إليه. وقد سبق أن أشرنا إلى تلك المساعدات الأمريكية، ومنها المساعدات التي قدمت إلى تركيا واليونان، تطبيقاً لمذهب ترومان الذي ينص على أن السياسة الأمريكية "من واجبها أن تساعد الشعوب الحرة؛ لتقاوم المحاولات التي تقوم بها الأقليات المسلحة في بلادها، أو محاولات الضغط الخارجية". ولذلك بدأ مشروع مارشال منذ أواخر عام 1947 في العمل على منح المعونات الاقتصادية على نطاق واسع؛ لإعادة بناء الاقتصاد الوطني في قارة أوروبا. ثم أدت خطورة الموقف بين الكتلتين في عام 1948 إلى تأسيس منظمة حلف شمال الأطلسي NATO في سبتمبر 1949، وتعهد الولايات المتحدة الأمريكية باشتراك القوات الأمريكية في الدفاع عن أوروبا، كما أصدر الرئيس ترومان في عام 1949، برنامج المساعدة الفنية للأقطار المتخلفة، وهو البرنامج الذي أطلق عليه "النقطة الرابعة"، وهكذا كانت سياسة الاحتواء في طريقها إلى التطبيق الفعلي.
1. يوغسلافيا: كان رد الفعل السوفيتي هو الإسراع في تدعيم السيطرة الشيوعية على دول أوروبا الشرقية كما رأينا، والضغط على رؤسائها بعدم الاشتراك في مشروع مارشال. وانصاع أولئك الرؤساء لأوامر موسكو ما عدا يوغسلافيا، التي رفض رئيسها جوزيف بروز تيتو Josip Broz Tito، كل المحاولات السوفيتية لجعل حكومته تحت السيطرة الروسية المباشرة، وعلى الرغم من أنه كان من أشد المتحمسين للشيوعية، إلا أنه كان شديد الحرص على استقلال بلاده، ومنع تسلل عملاء الاتحاد السوفيتي، الذين كانت مهمتهم تدعيم تضامن دول أوروبا الشرقية مع الكتلة الشيوعية بزعامة روسيا، ووجدت الحكومة السوفيتية أن تصرفات تيتو سوف تضر أبلغ الضرر بسياستها، واتهمته بخيانة المبادئ الشيوعية، وعرضت الأمر على منظمة الكومنفورم في اجتماعها الذي عقد في بوخارست عام 1948، حيث تقرر طرد يوغسلافيا من المنظمة، ومن الكتلة الشيوعية، ووجهت المنظمة نداء إلى الشعب اليوغسلافي أن يتخذ ما يراه مناسباً لإصلاح الموقف، والواقع أن هذا النداء كان يحمل معنى واحد، هو التحريض على القيام بثورة ضد الرئيس اليوغسلافي تيتو. ومن المؤكد أن ستالين كان يتوقع إما رضوخ تيتو لأوامر موسكو، أو أن يقضى عليه الشعب اليوغسلافي. ولكن تيتو كان على ثقة من نفسه ومن شعبه، فلم يذعن للضغط السوفيتي، وبين لح------ه الشيوعي، ولشعبه حقيقة موقفه ضد تحكم الاتحاد السوفيتي، وبذلك أثار موجة من الشعور الوطني في جميع أنحاء يوغسلافيا لتأييده تأييداً شعبياً كاملاً، وذلك في الوقت الذي هاجمته الكتلة الشيوعية في الدول التي كانت تعمل بتوجيه من السوفيت، بل فرضت ضده المقاطعة الاقتصادية، وألغت جميع المعاهدات التي كانت تنص على تقديم المساعدات ليوغسلافيا، بل ووضعت بعض القوات على حدودها، وفي آخر عام 1949 طرد الاتحاد السوفيتي السفير اليوغسلافي والقائم بأعمال السفارة اليوغسلافية من موسكو، ومع كل هذه الإجراءات العنيفة التي اتخذها السوفيت ضد الرئيس تيتو، فقد ظل صامداً ونظامه سائداً، رغم أنه كان لا يزال يقر بأنه شيوعي ماركسي ملتزم. وتحت تأثير الظروف التي مر بها، بدأ ينظر نحو الغرب، إلا أن كثيراً من الساسة الغربيين ارتابوا في صدق نيته، وظنوا بأنه سياسي مخادع، وأن أية مساعدة تقدم إليه إ------ا تُعد مساعدة لحكومة شيوعية كغيرها من حكومات أوروبا الشرقية، إلا أن حكومة الرئيس ترومان رأت خلاف هذه النظرة، وأن تقديم المعونة لنظام تيتو مسألة مفيدة وتستحق النظر، وفي عام 1949 قرر بنك الاستيراد والتصدير تقديم قروض ليوغسلافيا بلغت 55 مليون دولار، وتلقى تيتو كذلك مساعدة مالية من البنك الدولي. وعلى الرغم من معارضة الكونجرس الأمريكي واصلت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تقديم مساعداتها ليوغسلافيا سنين متتالية، ومنذ بداية عام 1951 قدمت لها المساعدات العسكرية، وبذلك نجحت الدول الغربية في توسيع هوة الخلاف بين الاتحاد السوفيتي وواحدة من أهم الدول الشيوعية في أوروبا الشرقية، وكان انفصال يوغسلافيا عن المجتمع الشيوعي من أكبر الضربات التي وجهت للمعسكر الشرقي.
2. حصار برلين: اشتدت الحرب الباردة بين الكتلتين في منتصف عام 1949، وذلك بعد الضربة الأليمة التي تلقاها الاتحاد السوفيتي على يد تيتو في يوغسلافيا، أضف إلى ذلك الأحداث التي كانت تجرى في ألمانيا، حيث وضع الحلفاء لألمانيا الغربية نظاماً لا يقره الاتحاد السوفيتي، وهو إحكام الصلة بين مناطق الاحتلال الغربي وبرلين الغربية واستخدام عملة ألمانيا الغربية في ذلك الجزء من برلين. لذلك قرر الاتحاد السوفيتي فرض الحصار على برلين، وقطع طريق الاتصال بينها وبين سلطات الاحتلال الغربي، حتى لا تنجح إقامة دولة ألمانية مستقلة مسلحة ومعادية للاتحاد السوفيتي. وقطعوا الطريق الذي تستخدمه السلطات الغربية للوصول إلى برلين، وحالوا ومنعوا وصول الطعام والغاز والكهرباء والضرورات الأخرى التي كانت تصل بانتظام إلى القطاع الشرقي. ولم تلجأ سلطات الاحتلال الغربية إلى استخدام القوة في فتح الطريق، بل فضلت استخدام الطريق الجوي لخرق الحصار الروسي، ووضعوا الروس في مأزق المعتدي إذا ما أطلقوا النار على طائرات الحلفاء، وذلك في الوقت الذي بعثت الولايات المتحدة الأمريكية بعدد من الطائرات المقاتلة إلى المطـارات الحربية في إنجلترا لتدعيم القوات الأمريكية المسلحة هناك. وقد نقل السلاح الجوي الأمريكي والبريطاني ما بين عامي 1948 و1949 أطنان من الطعام والوقود والضرورات الأخرى إلى برلين "مليون ونصف طن"، وذلك لسد حاجة جميع السكان المدنيين والعسكريين في المناطق التي فرض الروس عليها الحصار. وهكذا نجح الحلفاء الغربيين في تحطيم الحصار الروسي بعمل سلمي فريد في نوعه، ودون مواجهة عسكرية لا يعرف مدى نتائجها، واضطر الروس إلى فك الحصار في مايو 1949. ولو كتب لهم النجاح في تلك العملية لسددوا بذلك ضربة موجعة للحلفاء. وقد وصف الجنرال لوشيس كلاي Lucius Clay ، أحد كبار قادة الحلفاء، الموقف بقوله "عندما تسقط برلين في يد الروس سيعقبها سقوط ألمانيا الغربية، فإذا أردنا أن ------نع عن أوروبا خطر الشيوعية وجب علينا ألا نتزحزح عن مواقعنا"، وفعلاً لم يتزحزح الأمريكيون ولا البريطانيون أو الفرنسيون عن مواقعهم في برلين الغربية، وكان النصر حليفهم في تلك الحرب الباردة. وبعد الانتخابات في ألمانيا الغربية في شهر أغسطس 1949، أُعلن قيام جمهورية ألمانيا الاتحادية في 20 سبتمبر، وتقرر أن تكون العاصمة في "بون" وانتخب "كونراد أدناور" Konrad Adenauer مستشاراً للجمهورية، ومنذ ذلك الحين تباعد الأمل في إعادة توحيد ألمانيا، وظل الشطر الشرقي منها في قبضة الاتحاد السوفيتي، وانضمت ألمانيا الغربية إلى المعسكر الغربي، وتحددت علاقات هذه الدولة الجديدة بالدول الغربية بعدة تنظيمات تشريعية كانت تمس السيادة الألمانية إلا أنها كانت لا تقارن بقبضة السوفيت على ألمانيا الشرقية، وفي الوقت نفسه شعر السكان في ألمانيا الغربية بأن أراضيهم التي تمثل الجزء الأكبر من ألمانيا قد نجت من الوقوع في الكتلة الشيوعية. ولما كان المستشار "أدناور" هو زعيم الح------ الديموقراطي المسيحي الحاكم، فقد كانت سياسته الخارجية هي نفس السياسة التي وافق عليها الح------، وهي بناء الاقتصاد القومي لألمانيا الاتحادية وربط هذا الاقتصاد بالوحدة الاقتصادية لأوروبا الغربية، حتى يضمن الحماية الأمريكية العسكرية وانضمت بلاده فعلاً إلى حلف الأطلسي الذي أسسه الحلفاء وهو الحلف العسكري الذي انضمت إليه كل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورج والدا------ارك وأيسلندا وإيطاليا والبرتغال. ولم تقتصر الحرب الباردة على دول أوروبا وحدها، بل تسربت منها إلى جميع أرجاء العالم، وعلى الأخص في آسيا، حيث انتصر الشيوعيون في الحرب الأهلية الصينية في عام 1949، وظهرت الصين الشيوعية في آسيا ماردًا يهدد الاستعمار الغربي في الشرق الأقصى، وكان ذلك الحدث الخطير بداية للدور الثاني من الحرب الباردة، وهو أخطر دور في تاريخ ذلك الصراع.
 
baraka alaho fik dima rai3a merci ma belle
 
يعطيك الصحة :music_whistling::music_whistling::music_whistling::music_whistling::music_whistling::music_whistling::music_whistling::thumbup1::thumbup1::thumbup1::thumbup1:
مني ليك يا مجتهدة وربي ينجحك ديما
 
يعطيك الصحة :music_whistling::music_whistling::music_whistling::music_whistling::music_whistling::music_whistling::music_whistling::thumbup1::thumbup1::thumbup1::thumbup1:
مني ليك يا مجتهدة وربي ينجحك ديما

شكرا اخي الكريم
والنجاح انشاء الله لينا ك
 
مشكوووووووووووووور
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

المواضيع المشابهة

لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top