أبو الطيب المتنبي هو أبو الطيب المتنبي الشاعر الأشهر. اسمه أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي، وإنما سمي المتنبي لأنه على ما قيل ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم. فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيدية فأسره وتفرق أصحابه وحبسه طويلا ثم استتابه وأطلقه وكان قد قرأ على البوادي كلاما ذكر أنه قرآن أنزل عليه، ومن ذلك: والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، أن الكافر لفي أخطار، امض على سنتك، واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن اللّه قامع بك زيغ من ألحد في الدين وضل عن السبيل. وكان إذا جلس في مجلس سيف الدولة وأخبروه عن هذا الكلام أنكره وجحده. ولما أطلق من السجن التحق بالأمير سيف الدولة بن حمدان ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلاثمائة ومدح كافور الأخشيدي وأنوجور بن الأخشيد وكان يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان وفي وسطه سيف ومنطقة ويركب بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق، ولما لم يرضه هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة خمسين وثلثمائة فوجه كافور خلفه عدة رواحل فلم تلحقه وقصد بلاد فارس ومدح عضد الدولة بن بويه الديلمي فأجزل صلته. ولما رجع من عنده عرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في عدة من أصحابه فقاتله فقتل المتنبي وابنه مجسد وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية في موضع يقال له الصافية من الجانب الغربي من سواد بغداد. ويقال إنه قال شيئا في عضد الدولة فدس عليه من قتله لأنه لما وفد عليه وصله بثلاثة آلاف دينار وثلاثة أفراس مسرجة محلاة وثياب فاخرة. ثم دس عليه من سأله أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة؟ فقال هذا أجزل إلا أنه عطاء متكلف، وسيف الدولة كان يعطي طبعا. فغضب عضد الدولة فلما انصرف جهز عليه قوما من بني ضبة فقتلوه بعد أن قاتل قتالا شديدا ثم انهزم فقال له غلامه أين قولك: والسيف والرمح والقرطاس والقلم شاعر العرب، الذي تجسدت في شخصيته صفات العرب، وفي شعره تجسدت مزايا الشعر الأصيل، ويقول نفر من المؤرخين لولا سيف الدولة لما كان المتنبي، ويقول آخرون لولا المتنبي لم يكن سيف الدولة، لُقّب بمالئ الدنيا وشاغل الناس، حتى قبل أنه لم يحز شاعر شهرة المتنبي، فقد كان أوسع شعراء العرب شهرة على الإطلاق وأعظمهم في رأي كبار النقاد والأدباء، ترجمت بعض أشعاره وآرائه في الحياة إلى اللغة الإنكليزية بعنوان رباعيات أبي الطيب المتنبي، هو أحمد بن الحسين أبو الطيب ، ولد بالكوفة في محلة تسمى كندة كان أبوه سقاء فيها، رافق أباه إلى بلاد الشام، ثم تنقّل في البادية وأخذ عن أهلها فصاحة اللفظ وبلاغة العبارة، حفظ الكثير من شعر العرب، فاق معاصريه على الإطلاق منذ نشئته كبير النفس عالي الهمة طموحا، حتى بلغ من كبر نفسه أن دعى إلى بيعته بالخلافة، وهو حديث السن، بل أدعى النبّوة، وقبل أن يستحفل أمره خرج لؤلؤ أمير حمص ونائب الأخشيد فسجنه حتى تاب عن دعوته فأطلقه ، لكن لقب المتنبي ظل لصيقا به، ومنذ ذلك الحين، سعى إلى طلب الثروة، والمقام الرفيع بشِعره، متقربا من ذي النفوذ والسلطان، ناظما فيهم المدائح، مترددا عليهم في مختلف المناطق، ولزم سيف الدولة بن حمدان، صاحب حلب تسع سنوات، غادرها إلى مصر، وحاكمها آنذاك كان كافور الأخشيدي، وكان المتنبي يطمح في ولاية، فلم يوله كافور، فزوى عنه وجه، فهجئه هجاء لاذعا، قصد بغداد ولم يمدّح الوزير المهلّبي لأنه كان يترفع عن مدح الملوك، غضب عليه عضد الدولة فأرسل إليه فاتك بن أبي جهل الأسدي مع جماعته وهو في طريقة للكوفة كان مع المتنبي جماعته أيضا، فتقاتل الفريقان فلما رأى أبو الطيب الدائرة عليه هم بالفرار، ويقال أن غلامه قال له : يا أبا الطيب أما أنت القائل الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم، فقال له المتنبي : قتلتني قتلك اللَّه، فرجع وقاتل حتى قُتل هو وإبنه مُحسَد وغُلامه مُفلح، دارت هذه المعركة التي قُتل فيها المتنبي بالنعمانية ، وكان عند مقتله في الحادية والخمسين من عمره . المتنبي شاعر عظيم خلد الإبداع اسمه على مر العصور فحيث ذكر فحول الشعراء وروائع الأبيات تطاير إلى السمع وجال بالخاطر ذلك العبقري الخالد أبو الطيب المتنبي . ليس غريبا على أبي الطيب أن يقع هذه المكانة السامية بين نوابغ الشعر وفحوله في القديم والحديث ولا أن يتفرد بالرئاسة ذلك لأنه رزق قريحة وعبقرية ونبوغا قل أن يتهيأ لمن قبله فضلا أن يقع نظيره لمن بعده مما جعله طرازا فريدا وجيلا كاملا من التميز والإبداع وإحكام الصنعة والتفنن الذي لا يضاهى فيه وهو ما حدا بابن رشيق القيرواني إلى أن يقول فيه عبارته الشهيرة " ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس " مع أنه ذكر قبلها عن أبي تمام والبحتري أنهما أخمدا ذكر خمسمائة شاعر كلهم مجيد وذكر قريبا منه الجرجاني في الوساطة . تميز المتنبي بالعلم فكان من علماء العربية كما ذكر ذلك مترجموه وهذا ما حدا ابن جني للعناية بشعره والتعصب في دفاعه عنه وصار في الطبقة الأولى من رواة شعره وتميز أيضا بالهمة العالية والطموح الكبير كما أنه عاش حياته على شعره يقتات منه ويتكسب عليه وكان فضل شعره على غيره أعظم من فضله عليه إذ قتله شعره وأما المذكورون في شعره فبات الناس يعرفون سيف الدولة وكافورا وضبة وفاتكاً الأسدي وغيرهم لأن المتنبي خلدهم في شعره بقصائده فيهم وحتى ما حفظه ديوانه من الهجاء كان عظيم الأثر في أولئك الذين هجاهم أبو الطيب فبقيت أسماءهم ليقرأ الناس فيما بعد سيرهم ويصححوا الصورة القاتمة التي صورهم فيها المتنبي كما هو الحال في الأستاذ كافور حين هجاه المتنبي خسة ولؤما حسب تعبير الذهبي . لم يكن المتنبي يصلح لشيء إلا للشعر فحياته الشعر وقوته الشعر وحتى موته فقد كان بسبب الشعر فهو صنيعة شعره وقتيله في آن واحد وهذا دليل على تفرد هذا الرجل في باب الشعر الذي ملك عليه حياته في جده وهزله وطربه وحزنه وكأن موعده مع المجد والعلياء إنما كان على صهوة الشعر لا غيره ولو أنه دخل في شيء من المناصب التي كان يطمح لها لانصرف عن الشعر وتجويده انشغالا بذلك المنصب . اختلف النقاد والمؤرخون كثيرا في حياة أبي الطيب العاطفية وهل كان عاشقا أو محبا خاصة وأن شعره في الأغلب مشوب بالجفاف العاطفي والسائر من شعره في باب الغزل والنسيب قليل جدا إذا ما قيس بشعره في المدح والحماسة والفخر والرثاء والهجاء ويمكن التأكد من ذلك بمراجعة مختارات البارودي وغيرها ولمحمود شاكر كلام فريد في بابه عن حياة المتنبي العاطفية أورده في بحثه المطول عن المتنبي والذي طبع فيما بعد كتابا حافلا مملوءا بنفس الباحث المتمكن وحاز عليه جائزة الملك فيصل في الأدب . كان المتنبي كحال أغلب العظماء نابغا في حياته حتى في أوساط خصومه فهذا ابن خالويه وهو عصريه ومن كبار مناوئيه يذكر في ترجمته لولدي سيف الدولة : أبي المكارم وأبي المعالي أنهما كانا يحفظان من شعر الشاعر المعروف بالمتنبي كذا وكذا قصيدة وقام بتعيينيها بأسمائها ولم يذكر أنهما يحفظان لغيره من العصريين شيئا وبالرغم من العصبية الكبيرة التي كان يبديها ابن خالويه ضد المتنبي إلا أنه لم يقدر على كتمان هذا الأمر كما أن ابن العميد كان في حالة من السخط والازدراء للمتنبي وعندما مات له قريب وصلته رسائل التعازي وكان ما يزيد على خمسين رسالة منها مبدوءة بشعر للمتنبي في رثاء خولة أخت سيف الدولة يقول فيه : طوى الجزيرة حتى جاءني خبر .... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا ..... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي فأقر حينها ابن العميد أن هذا الرجل قد بلغ مبلغا عظيما لا يمكن معه التصدي له . اختلف النقاد قديما وحديثا في المتنبي وفي درجة شعره فتعصب له الأكثرون كابن جني والمعري وتحاماه بعضهم ووقفوا ضده فاتهموه بالسرقة كما فعل ابن وكيع في المنصف وحطوا عليه كثيرا والحق أن المتنبي شاعر عبقري في طبعه يكتب فيبدع حين تكون قريحته متهيئة للإبداع وخلق الفكرة وتارة تضعف قريحته فينحدر بشعره إلى الحضيض وهذا هو شأن العباقرة ليسوا على درجة واحدة من الكمال في الإنتاج وهو الفرق بين الشاعر المطبوع والشاعر المصنوع فالمطبوع يجري الشعر على لسانه جري الماء في الوادي فيقع شعره في الغالب درجة واحدة من السهولة واليسر وأما المصنوع فهو الذي يستخرج المعاني والألفاظ في الشعر وينقب عنها تنقيبا . وأحسن وصف لشعر أبي الطيب هو ما قاله ابن العديم : وكان أبو الطيب شاعرا مشهورا مذكورا محظوظا من الملوك والكبراء الذين عاصرهم والجيد في شعره لا يجارى فيه ولا يلحق والرديء منه في نهاية الرداءة والسقوط . كما أن الناقد الأديب والكاتب الفذ القاضي الجرجاني له كتاب بلغ به الغاية في الجودة أسماه بالوساطة بين المتنبي وخصومه أتى فيه على شعر المتنبي والجدل الدائر حوله وأنصفه فيه إنصافا لا يبلغه فيه أحد وجمع فيه مع العلم بالنقد والمعاني لغة راقية وأسلوبا جزلا يعين على التعلم والاحتذاء . هناك جانب مهم في خلود شعر أبي الطيب غفل عنه الكثير من مترجميه ذلكم هو خصومه وعداواته والحرب التي وقعت حوله وحول شعره ولم تكن هذه الحرب لولا براعته في نفس الأمر إلا أنها ترسخ التقدم وتصنع المجد لأن قد يكون الشخص مجيدا بارعا ولكن لا يتهيأ له أن يدور السجال حوله وحول فكره فيخمل ذكره ويذوي أثره أما من رزق المداولات حول فكره وذاته وبرز خصومه إلى ميدان النقد والتحامل مع قوّة قريحته وإحكام نتاجه فهذا قد رزق أعظم أسباب الخلود فلن ينفك في ذكره خصومه ومحبوه على السواء واعتبر ذلك في غير المتنبي تجده واضحا أتم الوضوح كما هو حال أحمد بن حنبل وابن حزم والمعري وأبي حيان التوحيدي والشاطبي وابن مالك النحوي وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب والرافعي والعقاد وطه حسين وغيرهم فأعظم هبة يسديها إليك الخصوم والمناوئون أنهم يصنعونك ويهيئونك للمجد والعلياء دون وعي أو شعور منهم وهذا ما جعل أبا الطيب يُطفئ شموس كثير من الشعراء الذين لا يقلون عنه براعة ونبوغا كأبي تمام والبحتري والشريف الرضي وأبي العلاء وابن هانئ الأندلسي . كان لأستاذنا الكبير علي الطنطاوي رحمه الله رأي في أبي تمام حيث كان يفضله في شعره على شعر أبي الطيب المتنبي وأنا ميال إلى رأي أستاذنا فأبو تمام شاعر عظيم فتح الباب لمن بعده وقد أغار المتنبي على كثير من شعره وحاذاه وحاكاه وسرق منه بل كان يصحب معه ديوان أبي تمام في سفره وحضره ولكن السعادة والخلود أقدار مقسومة فلم يجر من شعر أبي تمام في مجموعه ما يوازي مجموع أبيات قصيدة واحدة للمتنبي ويبقى المتنبي ذلك الشاعر الثائر الذي أعاد الناس إلى دوحة الشعر بعد أن نفروا منه إلى سطور النثر ومجالس المناظرات وأسفار الأخبار . إذا أردت أن تعرف المزيد عن المتنبي فإن هناك الكثير من الكتب التي قيدت حياته ودرست شعره كما فعل الجرجاني في الوساطة بين المتنبي وخصومه وكتب عنه ابن وكيع كتابا أسماه المنصف لكنه لم ينصف فيه المتنبي وكان شديد التحامل عليه وقام المعري بشرح شعره وهو مطبوع في أربعة مجلدات وجود المقريزي ترجمته في كتابه المقفى الكبير ومن المعاصرين كتب عنه محمود شاكر كتابا حافلا ضخما اسمه المتنبي وكتب عنه طه حسين مع المتنبي وللدكتور عبد الوهاب عزام ذكرى أبي الطيب وللميمني زيادات شعر المتنبي وغيرها من الدراسات والكتب والبحوث التي تحتاج إلى رصد ببلوغرافي خاص بها لكثرتها . ومن مفاريده الخالدة : وأسمع من ألفاظه اللغة التي ..... يلذ بها سمعي وإن ضُمنت شتمي لا يُعجبن مضيماً حسن بزته ..... وهل تروق دفينا جودة الكفن قد كنت أشفق من دمعي على بصري ..... فاليوم كل عزيز بعدكم هانا ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ..... عدوا له ما من صداقته بد نحن بنو الموتى فما بالنا ..... نعاف ما لا بد من شربه الحب ما منع الكلام الألسنا ..... وألذ شكوى عاشق ما أعلنا وكم من عائب قول صحيحا ..... وآفته من الفهم السقيم إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ..... أن لا تفارقهم فالراحلون هم يا من يعز علينا أن نفارقكم ..... وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سركم ما قد قال حاسدنا ..... فما لجرح إذا أرضاكم ألم أبو الطيب المتنبي هو شاعر العرب الكبير الذي عاش في القرن العاشر الميلادي والذي كان ولا يزال"مالئ الدنيا وشاغل الناس". لقد عبر بشعره عن ما يختلج في نفس الإنسان العربي من أنف واعتزاز وحزن واكتئاب. ولا ينطبق هذا التعبير على زمن المتنبي فحسب بل تجاوز زمنه ليعبر عن ويتناجى مع اختلاجات النفس العربية في كل مكان وزمان وفي أفراحها وأتراحها. حظي شعر المتنبي باهتمام وقراءة وشرح لم يحظ به أي شاعر آخر لا في الجاهلية ولا في صدر الإسلام ولا في أي عصر بعده. ولقد أقترح بعض نقاد الشعر القدماء بأن أجمل بيتا للشعر قالته العرب هو بيت المتنبي في الغزل: لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت وهن منك أواهل ففي دنيا الادب والفن الرفيع كوكبان شكسبير الكوكب الغربي، و ابوالطيب كوكب الشرق ونجمه الساطع المضيء الخارق لحجب الازمنة وتفاصيل ما تكنه الامكنة من ألغاز واسرار : لقد عاش المتنبي في زمن مضطرب من التاريخ العربي لا يقل اضطرابا عن زماننا هذا. كذلك مر هو شخصيا بأحداث حياتيه ومشاكل عاطفية جله –إنعكست في شعره- لابد وأن كان لها تأثير على مزاج المتنبي وصحته النفسية فأن ما هو معروف عن سيرة حياته فهو القليل المأخوذ عن روايات منقولة ومختلف فيها في كثير من الأحوال. والد المتنبي كان سقاءا ليس ذي صيت وشأن ووالدته توفيت في صباه ونعرف القليل عنهما إذ لم يتناولهما شعره. ويبدو أن المتنبي قد تربى على يد جدته بعد أن قضى فترة من طفولته في البادية. ولقد ذكر جدته في شعره مسميا إياها أما ونعرف عنها أنها من صلحاء النساء العربيات في الكوفة ولقد رثاها المتنبي حين ماتت في غيابه بقصيده مشهورة مطلعها : ألا لا أرى الأحداث مدحا ولا ذما فما بطشها جهلا ولا كفها حلما وإذا كان المتنبي قد عاش فترة انهيار الحضارة العربية الإسلامية فقد جعله ذلك يسعى لإنقاذ روح هذه الحضارة ومن خلال شعره لقد هاجم القرامطة الكوفة عام 312 هـ/927 م مما جعل عائلته تنتقل إلى بلدة السماوة هرباً حيث عاش سنتين قبل رجوعه إلى الكوفة عام 315هـ ولم يبق طويلاً إذ توجه إلى بغداد في عام 316هـ (928م) ومنها إلى اللاذقية ومنها الى مختلف مدن الشام. أعتقل وأودع السجن في العام 322هـ [934م] حين أتهم بإدعاء النبوة بسبب أبيات قالها ثم أطلق سراحه أثر تدخل أحد الأمراء...وفي رواية ا خرى وانتهى به. سجنه لؤلؤ والي الأخشيديين على حمص بعد أن أحس منه بالخطر على ولايته، وكان ذلك ما بين سنتي 323 هـ ، 324 هـ . خرج أبو الطيب من السجن منهك القوى . . كان السجن علامة واضحة في حياته، وكان جدارا سميكا اصطدمت به آماله وطموحاته، وأحس كل الإحساس بأنه لم يستطع وحده أن يحقق ما يطمح إليه من تحطيم ما يحيط به من نظم، وما يراه من فساد المجتمع. تزوج في العام 329هـ[940م] على الأرجح من شامية أنجب منها ولده الوحيد محسد. أستمر بالانتقال بين الشام ومصر إلى أن أستقر به المقام في حلب عند أميرها سيف الدولة الحمداني الذي جعله شاعره المفضل سجل مفاخر ومعارك هذا القائد العربي إلى أن أوقع الحاسدون بينه وبين سيف الدولة وكان موقفه مع ابن خالوية بحضور سيف الدولة واعتداء ابن خالوية عليه ولم يثأر له الأمير أصابته خيبة الأمل، وأحس بجرح لكرامته لم يستطع أن يحتمل فعزم على مغادرته ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب والعتاب الصريح، ووصل العتاب إلى الفراق. وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 هـ ومنها:. لا تطلبن كريمــا بعد رؤيته ** .إن الكرام بأسخــاهم يدا ختموا ولا تبــال بشعر بعد شاعره ** قد أفسد القول حتى أحمد الصمم هذه نبذه بسيطه عن شاعرنا الكبير.. أبو الطيب المتنبي... ولي عوده لأكمال رحلة الشاعر الى مصر وموقف الملك كافور الإخشيدير منه
فر الى نجد ثم إلى الكوفة التي بلغها في 351هـ [962م].توجه بعد ذلك إلى بغداد ومنها سافر إلى بلاد فارس حيث وصل أرجان بشيراز في عام 354هـ [965م] حيث مدح عضد الدولة البويهي الذي أجزل العطاء اليه. توجه في نفس العام إلى بغداد ثم منها إلى الكوفة حيث قتل في الطريق إليها عند دير العاقول على يد أقارب رجل يدعى ضبة كان المتنبي قد هجاه. قتل مع المتنبي أبنه المحسد وكل من كان معه من خدم ومرافقين وتناثرت كتبه وأوراقه وبينها ديوان أبي تمام شاعر المتنبي المفضل وقد رثاه الطبسي بقوله :
ما أرى الناس ثاني المتنبي أي ثانٍ يُرى لبكرِ الزمان
هو في شعره نبيٌ ولكن ظهرت معجزاته في المعاني
أما بدر فلم يكن هو ذاك، ثم ما كان يدور بين حاشية بدر من الكيد لأبي الطيب، ومحاولة الإبعاد بينهما مما جعل أبا الطيب يتعرض لمحن من الأمير أو من الحاشية تريد تقييده بإرادة الأمير، كان يرى ذلك استهانة وإذلالا عبر عنه بنفس جريحة ثائرة بعد فراقه لبدر متصلا بصديق له هو أبو الحسن علي ابن أحمد الخراساني في قوله :
لا افتخار إلا لمن لا يضام مدرك أو محارب لا ينام
وعاد المتنبي بعد فراقه لبدر إلى حياة التشرد والقلق ثانية، وعبر عن ذلك أصدق تعبير في رائيته التي هجا بها ابن كروس الأعور أحد الكائدين له عند بدر.
وظل باحثا عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حط رحاله في إنطاكية حيث أبو العشائر ابن عم سيف الدولة سنة 336 هـ وعن طريقه اتصل بسيف الدولة سنة 337 هـ وانتقل معه إلى حلب.
في مجلس هذا الأمير وجد أفقه وسمع صوته، وأحس أبو الطيب بأنه عثر على نموذج الفروسية الذي كان يبحث عنه، وسيكون مساعده على تحقيق ما كان يطمح إليه. فاندفع الشاعر مع سيف الدولة يشاركه في انتصاراته. ففي هذه الانتصارات أروع بملاحمه الشعرية. استطاع أن يرسم هذه الحقبة من الزمن وما كان يدور فيها من حرب أو سلم. فيها تاريخ واجتماع وفن. فانشغل انشغالا عن كل ما يدور حوله من حسد وكيد، ولم ينظر إلا إلى صديقه وشريكه سيف الدولة. فلا حجاب ولا واسطة بينهما، وكان سيف الدولة يشعر بهذا الاندفاع المخلص من الشاعر ويحتمل منه ما لا يحتمل من غيره من الشعراء. وكان هذا كبيرا على حاشية الأمير .
وكان أبو الطيب يزداد اندفاعا وكبرياء واحتقارا لكل ما لا يوافق هذا الاندفاع وهذه الكبرياء . . في حضرة سيف الدولة استطاع أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرما مميزا عن غيره من الشعراء. وهو لا يرى إلى أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة إلى المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده إلى أنه مطمئن إلى إمارة عربية يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره قاعدا وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضا هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحيانا بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه . . . ولربما احتمل على مضض تصرفاته العفوية إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان. وهذا ملكان يغري حساده به فيستغلونه ليوغروا صدر سيف الدولة عليه حتى أصابوا بعض النجاح، وأحس الشاعر بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر وصديقه الأمير. ولربما كان هذاالاتساع مصطنعا إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما، وأحس أبو الطيب بأن السقف الذي أظله أخذ يتصدع، اعتاده قلقه واعتادته ضجراته وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وكان موقفه مع ابن خالوية بحضور سيف الدولة واعتداء ابن خالوية عليه ولم يثأر له الأمير أصابته خيبة الأمل، وأحس بجرح لكرامته لم يستطع أن يحتمل فعزم على مغادرته ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب والعتاب الصريح، ووصل العتاب إلى الفراق. وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 هـ ومنها:
لا تطلبن كريمــا بعد رؤيته إن الكرام بأسخــاهم يدا ختموا
ولا تبــال بشعر بعد شاعره قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
البحث عن الأمل :
فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية سيف الدولة. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلبا، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، ولذا بقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة من كافور حتى كادت الصلة تعود بينهما، فارق أبو الطيب حلبا إلى مصر . . وفي قلبه غضب كثير، وكأني به أطال التفكير في محاولة الرجوع إلى حلب وكأني به يضع خطة لفراقها ثم الرجوع إليها ولكن لا يرجع إليها شاعرا فقط إنما يزورها ويزور أميرها عاملا حاكما لولاية يضاهي بها سيف الدولة، ويعقد مجلسا يقابل سيف الدولة . . من هنا كانت فكرة الولاية أملا في رأسه ظل يقوي وأظنه هو أقوى الدوافع . . دفع به للتوجه إلى مصر حيث كافور الذي يمتد بعض نفوذه إلى ولايات بلاد الشام . .
وفي مصر واجه بيئة جديدة، ومجتمعا آخر، وظروفا اضطرته إلى أن يتنازل في أول الأمر عما لم يتنازل عنه، وهو عند سيف الدولة . . ثم هو عند ملك لا يحبه، ولم يجد فيه البديل الأفضل من سيف الدولة إلا أنه قصده آملا، ووطن نفسه على مدحه راضيا لما كان يربطه في مدحه من أمل الولاية، وظل صابرا محتملا كل ذلك. وأخذ يخطط إلى أمله الذي دفعه للمجيء إلى هنا، ويهدأ كلما لاح بريق السعادة في الحصول على أمله، وهو حين يراوده نقيض لما يراه من دهاء هذا الممدوح الجديد ومكره تنعصر نفسه، ويحس بالحسرة على فراقه صديقه القديم. وفي هذه البيئة الجديدة أخذ الشعور بالغربة يقوى في نفسه بل أخذ يشعر بغربتين غربته عن الأهل والأحبة وعما كان يساوره من الحنين إلى الأمير العربي سيف الدولة، ويزداد ألمه حين يرى نفسه بين يدي أسود غير عربي إلا أنه حين يتذكر جرح كبريائه يعقد لسانه ويسكت . . وغربته الروحية عمن حوله والتي كان يحس بها في داخله إحساسا يشعره بالتمزق في كثير من الأحيان . . وظل على هذا الحال لا تسكته الجائزة، ولا يرضيه العطاء، وظل يدأب لتحقيق ما في ذهنه ويتصور أنه لو حصل عليها لحقق طموحه في مجلس كمجلس سيف الدولة تجتمع فيه الشعراء لمدحه فيستمع لمديحه وإكباره على لسان الشعراء بدلا من أن يؤكد كبرياءه هو على لسانه، ولربما كان يريد إطفاء غروره بهذا إلا أن سلوكه غير المداري وعفويته التي رأيناها بابا سهلا لدخول الحساد والكائدين بينه وبين الحاكم الممدوح، ثم حدته وسرعة غضبه وعدم السيطرة على لسانه. كان كل ذلك يوقعه في مواقف تؤول عليه بصور مختلفة وفق تصورات حساده ومنافسيه . . وأكاد أعتقد أنه كان مستعدا للتنازل عن كل جوائزه وهباته لمن كان يتصور أنه كان يريد أن يتربع على عرش الشعر من أجل جائزة كافور وعطائه، ثم يصوره بصورة تشوه إحساسه وتزور مشاعره . . وذلك هو الذي يغيظه ويغضبه ويدفعه إلى التهور أحيانا وإلى المواقف الحادة . . كل ذلك يأخذ طابعا في ذهن الحاكم مغايرا لما في ذهن الشاعر . .
هكذا بدأت المسافة تتسع بينه وبين كافور . . وكلما اتسعت المسافة كثر في مجالها الحاسدون والواشون، وكلما أحس الشاعر، ولو وهما، بأزورار كافور عنه تيقظت لديه آفاق جديدة لغربته، وثارت نفسه وأحس بالمرارة إحساسا حادا . . لقد كان هو يحس بالحق، وبأنه لم يطلب فوق حقه، ولم يتصرف بما هو خطأ لأنه لم يصدر منه تجاوز على حق أحد إلا أنه هذا التصور البريء في ذهن الشاعر بعيد عن واقع الصورة التي في ذهن حاشية كافور، وما يصل إلى كافور من أقوال عن الشاعر وعادة المتملقين من الوجهاء يتوصلون إلى الحاكم بواسطة حاشيته وإغراء بعض أفرادها بأن يكونوا جسورا بينهم وبين سيدهم . . هذه الجسور قد تقطع عند الحاجة بين الحاكم وبين خصومهم . . . أما أبو الطيب فلم يكن يحسن هذا اللون من التظاهر ولم يكن يفكر بهذا اللون من التصور، وإنما كان صريحا بكل شيء في رضاه وسخطه صريحا بما يرغب دون احتيال ولا محاورة، فما دام يشعر بالحق طالب به دون تأجيل.
هذه الصراحة كثيرا ما أوقعته في مواقف حرجة، عند سيف الدولة، وهنا أيضا عند كافور، لذا صارت للمتنبي صورة الغول في نفس كافور، وبأنه المخيف الذي سينزو على ملكه إذا أعطاه ما يمكنه من ذلك، وهكذا ظل الشاعر يرغب، ويلح في رغبته، وظل كافور يداوره ويحاوره، وهو لون من الصراع الدرامي بين حاكم يحسن الاحتيال والمداورة وشاعر صريح لا يحسن من ذلك شيئا حتى وصل الشاعر إلى حالة لم يستطع بعدها أن يبقى صامتا، وشعر كافور برغبته في مغادرته فظن أن تشديد الرقابة عليه وإغلاق الحدود دونه سيخيفه ويمنعه من عزمه، ويخضعه كما يفعل مع غيره من الشعراء بالترهيب حينا والذهب حينا آخر . . إلا أن أبا الطيب لم يعقه ذلك كله عن تنفيذ ما عزم عليه بعد أن أحس باليأس من كافور، ولذعه الندم على ما فعل بنفسه في قصده إياه . .
وعاودته ضجراته التي أحس بها وهو عند أكثر أصدقائه إخلاصا وحبا وظل يخطط إلى الهرب، ويصر على تحدي كافور ولو بركوب المخاطر حتى وجد فرصته في عيد الأضحى، وخرج من مصر، وهجا كافورا بأهاجيه المرة الساخرة .
الاضطراب واليأس :
إن تحدي أبي الطيب لسلطة كافور في هروبه وركوبه كل المخاطر، ثم هذه الطاقة المتفجرة من السخط والغضب في هجائه، كل ذلك يدل على مبلغ اليأس والندم في نفسه، ويبدو لي أنه كان حائرا حين فارق سيف الدولة، وحاول أن يمنع نفسه من التوجه إلى كافور إلا أنه رجح أمر توجهه إلى مصر بعد إطالة فكر . . . ويبدو أنه كان قد فكر بهذه النتيجة اليائسة من ملك مصر لذا نراه وكأنه أراد أن يتقدم من نفسه على ارتكابه خطيئة التوجه إليه واحتمالها مدحه، والتقيد بأوامره حينا. فهو حاول بأي وجه أن يشعر بالانتصار على هذه السلطة، نجده تحداه في هروبه، ثم نقرأ هذا الفخر بالشجاعة والفروسية في اقتحام المخاطر في طريقه إلى الكوفة في مقصورته :
ضربت بها التيه ضرب القمار إمــا لهـذا وإمــا لـذا
إذا فزعت قدمتـها الجيــاد وبيض السيوف وسمر القنا
فلمـا انحنـا ركزنـا الرماح فـوق مكــارمننا والعمل
وبتنــا نقبـــل أسيافنــا ونمسحها من دماء العــدى
لتـــعلم مصر ومن بالعراق ومن بالعواصم أني الفتــى
عاد إلى الكوفة وهو أشد الحاجة إلى الاستقرار إلا أنه لم يستطع الإقامة فيها طويلا، فذهب إلى بغداد حيث مجلس المهلبي الذي يجتمع فيه جماعة من الشعراء والأدباء، وكان المهلبي يطمع بمدح أبي الطيب فلم يحصل إلا على زيارة الشاعر لمجلسه.
أزور أبو الطيب من جو الخلاعة والمجون الذي يحيط بالمهلبي ويظهر لي أنه كان منذ نزوله الكوفة كان يفكر في صديقه الحمداني وبأسباب الصلة به. فالشاعر لم يرد أن يتورط بمدح المهلبي والبويهيين في بغداد لكي يحافظ على العلاقة بينه وبين سيف الدولة لما كان بين سلطة بغداد وحلب من عداء.
ثم أن أبا الطيب في هذه المرحلة التي ينال فيها من الشهرة والمجد لم يجد ما يحققه من مدحه للمهلبي، بل كان يراه أقل منه شأنا وأدبا . . وظل صامتا حتى عن رد الشعراء الذين حرضهم المهلبي عليه فهجوه أقذع الهجاء، فلم يجبهم، وكذلك حرض الحاتمي عليه فكانت تلك المناظرة الحاقدة التي سجلها الحاتمي في رسالته الموضحة. فكان أبو الطيب وقورا حينا وحادا أحيانا، ويغضي عن كل ذلك أوانا، وكان مكتفيا في لقاء محبي شعره وطالبي أدبه في دار صديقه علي بن حمزة البصري الذي كان قد نزل فيها.
عاد إلى الكوفة بعد أن أقام في بغداد سبعة أشهر، ويظهر أنه أراد أن يبتعد عن هذا الجو الصاخب فيها ليستقر في مكان يفكر فيه بعقد أسباب الصلة بأمير حلب. وفعلا وصلت إليه هداياه وأرسل إليه شعرا ولم يطق الإقامة في الكوفة لما كان فيها من الحوادث الدموية بسبب هجوم القرامطة عليها، واشترك المتنبي في الدفاع عنها. وعاودته الرغبة إلى الرحيل إذ كان يجد فيه متنفسا عن قلقه ولما جاءته رغبة ابن العميد من أرجان في زيارته رحل إليه ومنه إلى عضد الدولة في شيراز. وكأن رحلته هذه كانت لقتل الفراغ الذي أحس به بعد طول معاناة ولامتصاص التمزق الذي كان يعانيه، وربما كان في نفسه غرض آخر هو تقوية صلته بعضد الدولة وذوي الجاه كابن العميد ليقوى مركزه في بغداد بل ليكون أقوى من صاحب الوزارة فيها الذي حرض من لديه من الشعراء على هجائه. وكان عضد الدولة يقيم بشيراز ويتطلع لخلافة أبيه للحكم في بغداد، وبحاجة لشاعر كبير يقدمه للناس ويعرفهم بخصاله. وفي طريق عودته إلى بغداد كان مقتله قريبا من دير العاقول 354 هـ وكان مع المتنبي جماعة من أصحابه وابنه محسد وغلامه مفلح اللذان قتلا معه على يد فاتك بن أبي جهل الأسدي وجماعته.
لقد جرى شعر المتنبي مجرى الأمثال الشعبية لما فيه من بلاغة وحكمه وفهم ومحاكاة للطبيعة الإنسانية ومن بعض الأبيات التي جرت مجرى الأمثال:
-ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
-ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدمُ
-والهجر أقتل لي مما أراقبه أنا الغريق فما خوفي من البللِ
-,إذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كاملُ
-إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ,إن أنت أكرمت اللئيم تمردا
-أعز مكان في الدنا سرج سابحٍ وخير جليس في الزمان كتابُ
-من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميتٍ إلامُ
-ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماءا الزلالا
-عيد باية حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد
-على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارمُ أنا الذي نظر الأعمى إلى أدَبي *** وأسمعتْ كلماتي من به صمَمُ
الدكتور طه حسين واحد من أكبر نقاد التاريخ الأدبي العربي في النصف الأول من القرن العشرين علّق في كتابه "مع المتنبي" بأن قراءة ديوان المتنبي تعطي الإنطباع بأنه ضحك مرة واحدة فقط في حياته وذلك في شبابه حين مر برجلين قتلا جرذا وأخذا يفتخران بضخامة جسمه حين قال:
: لَقَــد أَصبَــحَ الجُــرَذ المسَــتغيرُ **أســيرَ المنَايــا صَــريع العَطـبْ
رَمـــاه الكنـــاني والعـــامِري ** وتَـــلاهُ لِلْوَجــهِ فِعْــل العَــرَبْ
كِـــلا الرجُـــلَيْنِ اتَّــلى قَتْلــه ** فَأَيُّكمـــا غَـــل حــرا الســلَبْ
شرح المعري:
الجرذ: فأر البيت الكبير. المستغير: طالب الغارة ، أو طالب الغيرة وهي الميرة ، و"صريعَ" و" أسيرَ": نصبَا بخبر" أصبح".
يقول: قد أصبح الجرذ الذي كان يغير في البيوت. أي ينْقل الميرة ،حليف الهلاك، صريع الموت.
شرح البرقوقي :تلاه صرعاه، يقال تله يتله تلا فهو متلول، وتليل: صرعه، قال تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين) أي صرعه كما تقول كبه لوجهه. يقول: رماه هذان الرجلان اللذان أحدهما من بني كنانة والآخر من بني عامر، وصرعاه لوجهه، كما تفعل العرب بالقتيل.
شرح المعري :
كِلاَ الرجلين": أي كل واحد منهما. و"اتَّلى": افتعل من الولاية، أي ولى واحد منهما قتله، و"حُرَّ السلب": خالصه. و"غلّ": أي خان في الغنيمة.
يسخر منها ، ويقول: قتلتما هذا الشجاع فأيكا خَان في سَلَبه ، ففاز به دون صاحبه، فإني لاَ أرى سلبه ظاهرًا.
هذه احدى القصائد لأبو الطيب المتنبي التي تضم بين أبياتها الحكمة والفخر والروعه...
لغز المتنبي الكبير
النص: ولفهارد هاينريش
ترجمة وتقديم: حسام الدين محمد (ناقد عربي يقيم في لندن) :
ما هو معنى كلمة المتنبي، والثاني: لماذا أعطي هذا الاسم لهذا الشاعر بالذات ؟
هل ادعى المتنبي النبوة فعلا...أم هو تلفيق تاريخي لصق بجسد الذاكرة..!!؟؟
قام في أواخر أيامه بنشر عدة تفسيرات كان المقصود منها ازالة العار والاحراج الذي يسببه هذا اللقب، الشيء الذي جعل منه هدفا سهلا للاستهزاء ضمن قسم من أعدائه. المصادر التي تتناول المتنبي تضم، على أية حال، على الأقل، قصة واحدة يقترب فيها شاعرنا من الاقرار بالحماقة التي ارتكبها، في محادثة بين المتنبي والمحسن التنوخي (توفي 384/ 994)، جرت في الأهواز عام 354/965 قبل شهور قليلة من وفاة شاعرنا المفاجئة، يقول التنوخي:
:
كان يتردد في نفسي أن أسأل أبا الطيب المتنبي عن تنبيه والسبب فيه، وهل ذلك اسم وقع عليه على سبيل اللقب، أو أنه كما كان يبلغنا، فكنت استحيي منه لكثرة من يحضر مجلسه ببغداد، وأكره أن أفتح عليا بابا يكره مثله.
فلما جاء الى الأهواز، ماضيا الى فارس، خلوت به وطاولته الأحاديث وجررتها الى أن قلت له: أريد أن أسألك عن شيء في نفسي منذ سنين، وكنت أستحيي خطابك فيه من كثرة من كان يحضرك ببغداد، وقد خلونا الآن، ولابد أن أسألك عنه. وكان بين يدي جزء من شعره عليه مكتوب: "شعر أبي الطيب المتنبي".
فقال: تريد أن تسألني عن سبب هذا؟ وجعل يده فوق الكتابة التي هي "المتنبي" فقلت: نعم.
فقال :هذا شيء كان في الحداثة أوجبته صبوة ، فما رأيت (تلميحا) ألطف منها لأنه يحتمل المعنيين في أنه كان تنبأ واعتمد الكذب، أو أنه كان صادقا، إلا أنا اعترف بالمتنبي على كل حال قال: ورأيت ذلك قد صعب عليه، وتابع التنوخي. فاستقبحت أن استقمي وألزمه الافصاح بالقصة فأمسكت عنه .
فإن رواية التنوخي تقترح علينا خيارات متعددة :
1/ فهو يمكن أن يكون لقبا محضا وبسيطا بالمعنى الأدبي دون ارجاع الى معناه الحقيقي.فشاعرنا قد ادعى انه حصل على لقبه هذا بسبب بيت من أوائل شعره: "أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود" والشاعر بوضوح يعني بالقول انه مثل النبي صالح، الذي لم يكن مقبولا من قومه، ثمود، الذين ارسل لهدايتهم، يشعر هو أيضا بالوحدة وقلة التقدير في جماعة باءت بالضلال التام،للبيت أن يكون كافيا ليؤهله للقب المتنبي، لأن هذه ممارسة معروفة ضمن الشعراء العرب: العديد من المؤرخين ومنهم ابن الكلبي (توفي 204/819) ومناطقة مثل السكري (توفي 257/888) عرف عنهم انهم رتبوا قوائم كاملة لشعراء لقبوا بناء على كلمة أو فكرة في أحد أبياتهم ومن المحتمل جدا أن المتنبي استخدم هذه الطريقة لشرح لقبه
2/الاحتمال الثاني الذي يلمح التنوخي اليه هو افتراض أن الشاعر في نقطة معينة من ماضيه ادعى كونه نبيا _إما، كما يقول التنوخي صراحة، كدجال ودعي، أو كشخص آمن حقيقة برسالته. ونتيجة عدم وجود اعتراف من الشاعر نفسه، فإن الجواب على هذا السؤال غير ممكن تقريره( والقصة المضحكة التي تصوره بهذه الصورة مؤسسة على حالة خطأ بهوية الشخص) .
المحاولة الأخرى لشرح سلوك المتنبي تأتي من الباحث العظيم والعالم البيروني (توفي بعد 442/ 1050) الذي يعرض تفسيره في "رسالة التعلل بإزالة الوهم في معاني نظوم عالي الفضل" .مناقشة البيروني في لقب المتنبي كما تم الاستشهاد بها من قبل كمال الدين بن العديم:
ان المتنبي لما ذكر في القصيدة التي أولها:
"كفى أراني ويك لومك ألوما".. النور الذي تظاهر لاهوتية في ممدوحه، وقال:
"أنا مبصر وأظن أني حالم" ودار على الألسن، قالوا: قد تجل لأبي الطيب ربه! وبهذا وقع في السجن، الذي ذكره في شعره: "أيا خدد الله ورد الخدود".
.المقطع من القصيدة التي تم تجريم المتنبي عليها والذي يستشهد به المتنبي يجري وفق هذا الترتيب.
يا أيها الملك المصفى جوهرا
من ذات ذي الملكوت اسمى من سما
نور تظاهر فيك لاهوتيه
فتكاد تعلم علم ما لن يعلما
ويهم فيك اذا نطقت فصاحة
ويهم من كل عضو منك أن يتكلما
أنا مبصر وأظن أني نائم
من كان يحلم بالاله فاحلما
كبر العيان علي حتى انه
صار اليقين من العيان توها
الصورة واللغة في هذا المقطع يظهران بوضوح مبالغة كبيرة، الى درجة تجديفية. فالشاعر يقوم بالتلميح أن الممدوح هو مثل اله أو هو الاله نفسه هذه القصيدة تثير الشكوك حقيقة، وهذه الكلمات ممجوجة في مديح بشر. السبب (بالنسبة له) أنه أراد استمالة الممدوح لكشف اعتقاداته الدينية (مذهبه) فلو قبل بهذا الوصف، فسوف يعرف أن اعتقاده فاسد، واذا لم يوافق على المدح، فسوف يعرف أن اعتقاده ليس عدائيا .
نحن لا نعرف الكثير من الممدوح بالقصيدة. لقد كان شخصا يدعى أبا الفضل
(هذا كل ما نعرف من اسمه). ويقول المصدر عنه، انه أضل المتنبي بعد أن ضل هو نفسه .
فإن نظرة أعمق الى الشعر نفسه تكشف حقيقة مهمة لم تستثر اهتماما كافيا في المناقشات عن اعتقادات المتنبي المبكرة، رغم أنه واضح تماما، فما يصفه المتنبي هو تجلي شخص بشري كاشفا عن الوهيته،
(لكن ليست هناك رابطة واضحة بين قصيدته في أبي الفضل و"تنبيه". )
وكما يشرح ابن جني الأمر "اعتاد أن يقول أنه في هذه الأبيات سمي المتنبي". المؤرخ ابن الثعالبي في "يتيمة الدهر في محاسن العصر fprivate "يعلق ابن جني بشكل مختلف نوعا ما:
سمعت أبا الطيب يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي:
«أنا معدن الندى ورب القوافي وسم العدى وغيظ الحسود أنا في أمة.. الخ».
وفي هذه القصيدة نفسها يقول أيضا:
"ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود" والبيت الأخير المذكور، الوارد في القصيدة في موضع أسبق، هو بالطبع مشابه بالمعنى لبيت "صالح في ثمود" والشاعر الشهير والمعجب بالمتنبي ابو العلاء المعري (توفي 449/1057) في كتابه "معجزة أحمد" وهو شرح على ديوان المتنبي، يقول ان بعض الناس ادعوا أن هذا البيت هو سبب لقبه.
تقليد يزعم أبو العلاء المعري في "رسالة الغفران" انه سمعه: حيثما سئل (المتنبي) عن حقيقة لقبه، فإنه كان يجيب أنه اشتق من "النبوة" او «الجزء البارز من الأرض»، وربما اخترعها المعري، الذي يعرف بالتأكيد أنه حتى كلمة "نبي" اعتبرها بعض اللغويين مشتقة من هذا الجذر اللغوي. وبهذا المعنى فإن لقب شاعرنا سيعني "المبرز والأعلى من غيره".
القصة الثانية يستقصيها ابن العديم (شاكر، 267.2- 228) وصولا الى المؤرخ والفيلسوف الشهير مسكويه (توفي 426/ 1010)، الذي يشير الى أن المتنبي سئل (بحضوره على ما يبدو): «على من تنبأت ؟ قال: على الشعراء. فقيل:
لكل نبي معجزة، فما معجزك ؟ قال:
هذا البيت، ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد .رغم ان هذا البيت لا يهز القاريء باعتباره نموذجا فريدا لا يضاهي في الشعر ، فإن المرارة والاحتجاج اللذين يعتليء البيت بهما يرنان فيه بالرؤية المعتمة التي يرى الشاعر فيها الى مجتمعه المعاصر له، ولهذا فإنه ليس من دون سبب أن شاعرنا اختار هذا البيت بالذات ليقوم بنوع من المجاز
يقول العلامه محمود شاكر رحمه الله تعالى عن المتنبي وحبه لاخت سيف الدوله الحمداني( وقد استوقفنا ، ونحن نتتبع شعرالرجل على طريقتنا ومذهبنا ،الفرقُ الكبير الكائن بين شعره الأول ،وشعره الذي قاله في حضرة سيف الدولة ، فعدنا نجدد الرأي لذلك ، ونقرأ مابين كلمات الرجل من المعاني ،ونستنبط من روائع حكمه وبلاغته ما يهدينا الى السبب الأكبر في هذا التجويد الفذّ الذي غلب به الرجل على شعراء العربية، فاستروحنا في شعر الرجل نفحة من نفحات (المرأة)التي تكون من وراء القلب تصنع للشاعر المبدع بيانه ،وتتخذ من فنها النسوي مادة تهيئها لفن صاحبها وعبقريته ونبوغه .فأتممنا الأمر على ذلك ،ورجعنا إلى شعر أبي الطيب وما وقفنا عليه من أسرار نفسه ،وتمثلنا المرأة بينهما وهي دائبة تصنع له بيانه وتهيء له فنه ،فاستوى الأمر على ذلك ، وطلبنا الدليل ،فدلنا على المرأة التي سكنت قلب أبي الطيب وهو في ظل سيف الدولة وجعلته حكيم الشعراء وشاعر الحكماء كان صاحب الحكمة ابو الطيب يصنع حكمته بالتدبر في معرفة نفسه،واستبطان أسرارها وإدراكها،فلما جاءته (المرأة) وارادت كبرياءه على الخضوع لها والتصرف بأمرها ،وقعت نفس هذه المرأة بأسرارها واحداثها بين نظرات أبي الطيب النافذه المتولجة إلى ما وراء الواقع والحسّ الملموس ،وبين نفسه بأحداثها وأسرارها وما انطوت عليه وما تجللت به. ولما كانت نفس المرأة المحبوبة هي تمام نفس الرجل المحب وتكملتها ،كانت دراسة الحكيم المحب لنفسه المكمّلة التامة بالمرأة المحبوبة ،إنما هي دراسة للكون كله ، فإن العاشق لا يرى الدنيا بأسرارها إلا بعيني من يعشق ، وهي على ذلك الدنيا المترامية ، بعد ان كانت قبل عشقه محصورة في دائرتها من نفسه الناقصة غيرالتامة .والحب القوي النافذ الذي يتملك حواس المحب ويغلب عليها ،هو بطبيعته امتداد بهذه الحواس الى غايات بعيده لم تكن تصل اليها قبل غَلَبَتهِ على القلب والنفس والفكر فلهذا حين احب ابو الطيب - الرجل الثائر المتكبر الشاعر الحكيم البياني الفكر واللسان - كان امتداد نفسه وتراميها الى غايات بعينها من الرجوله والثورة والكبرياء والحكمة والفكر ،ولم يستطع ان يكون ، بعد ان غلب الحب قلبه وتفاسح به ،شاعرا غَزِلا رقيق البيان ، وهذا هو السر عندنا في ضعف مادة الغزل عند ابي الطيب ، وقوة مادة الحكمة وما اليها ،مما هو من طبيعته المتأصله فيه ، وليس يصح عندنا ان لايكون ابو الطيب عاشقا صبّا متدلّهاً ، مالم نجد في شعره غزلا ولا انينا وحنينا وبكاءً وفي الموضوع القادم ان شاء الله ساذكر الادلة والبراهين على حب المتنبي
لما ماتت اخت سيف الدولة الصغرى ، وقف ابو الطيب يعزيه ويرثيها ، ويسلّيه ببقاء أخته الكبرى( خوله) وذلك يوم الاربعاء للنصف من شهر رمضان سنة 344هجريه ، وبعد سبع سنوات من مقامه في حضرة سيف الدولة ، فأنشده قصيدته التي أولها :
إن يكن صبر ذي الرزيئة فضلا .. تكن الأفضل الأعز الأجلاّ
وطفق يمدح سيف الدولة بمناقبه مما يصلح لهذا الموضع من العزاء ، إلى أن قال:
أين ذي الرقة التي لك في الحر ب إذا استكره الحديدُ وصلاّ؟ أين خلفتها غداة لقيت ال روم، والهام بالصوارم تُفلى قاسمتك المنون شخصين جورا جعل القِسم نفسه فيه عدلا فإذا قست ما اخذن بما غا درن، سرّى عن الفؤاد وسلّى وتيقنت ان حظك اوفى ، وتبينت ان جدّك اعلى
فابو الطيب يطلب من سيف الدولة ان يقيس اخته الصغرى التي ماتت ، الى اخته الكبرى التي بقيت له ،فاذا فعل ذلك كان سلوى له وتسرية للهم عن قلبه ، ولا ندري كيف يتفق لشاعر يرثي امراة محجبة ماتت ، أن يذكر اخرى -وتكون اختها - ويعزي اخاها بهذا العزاء الغريب ؟ ثم يزيد في قوله له : انك اذا فعلت ذلك الذي دللتك عليه ( تيقنت) ان حظك في بقاء هذه الكبرى اوفى من حظ الموت في اخذ الصغرى؟ وكيف يُيقّن ابو الطيب سيف الدولة من حسن حظه ببقاء الكبرى ، الا اذا كان هو على يقين من ذلك ؟وكيف يكون على يقين من ذلك ، الا وهو يعرفها معرفة تفضي به الى هذا اليقين؟ ثم مضى ابو الطيب في القصيدة كلها يمدح سيف الدولة ، ولم يتعرض لهذه الفتاة اخته الصغرى الا في موضع آخر ، اذ يقول
خِطبة للحِمام ليس لها ردّ ، وإن كانت المسماة ثكلا وإذا لم تجد من الناس كفئاً ذات خدر، ارادت الموت بعلا
فالعجب ان يكون هذا عزاءً ....، فان ابا الطيب قد قدم الكبرى في المنزلة ، فكان اولى إذن ان تموت الكبرى ، اذ هي ولا شك عند ابي الطيب افضل من هذه الصغرى التي لم تجد من الناس كفئا يكون لها زوجا ، فاختارت الموت بعلا لها !! وهذا التناقض يدلنا على ان الرجل كانت قد اقترنت في عينه صورة الكبرى بصورة الصغرى ، فاضطرب قوله ولم يمض على سَننٍ ونهج ، وذلك لا ضطراب نفسه الذي اضهر مافي قلبه وكشف عنه في تدفقه حين ذكر هذه الكبرى فقال فيها البيتين فاذا قست .....الخ)
ثم نبين ان شاء الله موقف شاعرنا لما ماتت الحبيبه( خوله) بعد ذلك
فلما ماتت الكبرى وهي ( الحبيبة)خوله اخت سيف الدوله ،في سنة 352 هجريه ، اي بعد ذلك بسنوات ثمان، وكان ابو الطيب يومئذ بالكوفه ، فورد عليه خبرها، فكتب الى سيف الدولة قصيدة فيها 44 بيتا، منها 31 في ذكر خولة هذه ، و6 ابيات في ذكر الدنيا ونكدها، ولم يذكر سيف الدولة الا في7 ابيات منها، هذا مع ان القصيدة التي رثى بها الصغرى، لم يذكر فيها الصغرى مفردة، الا في بيتين ....وذكر الكبرى ومعها الصغرى في ثلاثة ابيات ، وجعل بقية القصيده ، وعدتها 42 بيتا ، في مدح سيف الدوله ، الاقليلا في الحكمه والحياة اليس هذا عجيباً
وكان الفرق بين القصيدتين بيّناً واضحاً لا خفاء فيه ،وكانت الثانية في رثاء خوله عاطفة قد اخذها الحزن وغلبها البكاء يقول ابو الطيب ، وافتتحها بخطاب خوله:
يا اخت خبر اخ يا بنت خير اب * كناية بهما عن اشرف النسب ِ
أُجلّ قدرك ان تُسمى مؤبنة ً * ومن يصفك فقد سماك للعربِ
لا يملك الطرب المحزون منطقهُ * ودمعهُ وهما في قبضة الطربِ
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر* فزعت فيه بآمالي الى الكذبِ
حتى اذا لم يدع لي صدقه املا * شرقت بالدمع حتى كاد يشرقُ بي
كأن خولة لم تملأ مواكبها * ديار بكر ولم تخلع ولم تهبِ
ارى العراق طويل الليل مذ نعيت * فكيف ليلُ فتى الفتيان في حلبِ
يظن ان فؤادي غير ملتهب ! * وان دمع جفوني غير منسكبِ !
بلى وحرمة من كانت مراعية ً * لحرمة المجد والقصاد والادبِ
ومن مضت غير موروث خلائقها * وان مضت يدُها موروثة النشبِ
ولا ذكرتُ جميلا من صنائعها * الا بكيتُ ولا ودّ بلا سببِ
وقد غلب ابا الطيب بيانه في البيتين:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر* فزعت فيه بآمالي الى الكذبِ
حتى اذا لم يدع لي صدقه املا * شرقت بالدمع حتى كاد يشرقُ بي
فصرح فيهما بكل ما يضمر لخوله من الحب . انظركيف جعل الخبر يطوي الجزيرة كلها يقصده وحده دون غيره ، وقد خصص ذلك بقوله(حتى جاءني) وفي هذا من غلبة الحب على قلب ابي الطيب ما جعله يرى ان هذا الخبر بموتها- الذي سمعه وهو بالعراق، وكان قد علمه الناس ولا شك - لم يقطع ارض الجزيرة الا ليبلغه هو ، والحب دائما يخص ويضيّق بمثل ذلك ،ولا يرى فيه الشركه ، ولو تساوى الناس جميعا في المشاركه فيه او العلم به . ثم ان ابا الطيب نسب الفزع الذي لحقه الى آماله ، اذ كانت آماله كلها في الحياة بعد حبه لخولة متعلقة بها وبحياته ، فلما جاءه الخبر بموتها فزعت آماله هذه أملاً أملاً الى الشك في الامر الواقع ، والى طلب الحيلة في رده وتكذيبه ، عسى ان تجد لها متعلقا تستمسك به . فلما اخفقت الآمال املا املا ، وقطّعها الخبر الذي سمعه بالصدق واليقين ،سقطت نفس الرجل ولم تستمسك على رجولتها وقوتها ، وغرقت في دمعها حتى شرقت به . وهذه حالة في الحب القوي العنيف الذي يستولي على القلب ، ولا يجعل للحياة بآمالها معنىً اذا فقد من يحب ، او اساء من امْره مايسوءه . فهذا من ابي الطيب دليل على ان كلامه هذا ليس كلام شاعر يرثي اخت صديقه واميره ،وانما هو كلام قلب محب مفجوع قد تقطعت آماله من الدنيا بموت حبيب قد فجعته المنية فيه .
ومثل ذلك في الدلالة على ما اصاب قلب ابي الطيب من الفجيعه التي تخصه بموت (خوله) قوله:
ارى العراق طويل الليل مذ نعيت * فكيف حال فتى الفتيان في حلبِ ؟
يظن ان فؤادي غير ملتهب *وان دمع جفوني غير منسكبِ
فليس يطول الليل على شاعر من اجل اخت اميره ،وانما يطول عليه من اجل حبيبته التي فاته بها الموت. ثم زاد ابو الطيب في الدلالة بقوله : ان سيف الدولة يظن ان فؤاده غير ملتهب ، وان دمعه غير منسكب ، وما لسيف الدولة ولهذا ؟ أيحبّ سيف الدولة ان يلتهب قلبه وينسكب دمعه من اجل اخته ، او يسوءه اذا لم يكن ذلك كذلك؟
ان سيف الدولة كان على علم بما كان بينهما من المحبة من المحبة الغالبة على امرهما ، وانه كان قد وعد ابا الطيب عِدَةً لم يفِ له بها في ان يزوجه اخته هذه ، وكان ذلك سرا بينهما ، اتصل بعض خبره بابي فراس الحمداني ، فكان ذلك سببا للعداوة الباغية بين الرجلين . ولولا علم سيف الدولة بذلك لما استباح ابو الطيب لنفسه ان يكتب هذه القصيدة الى سيف الدولة ، على كثرة الاشارات فيها الى امره وامر خولة والحب الذي بينهما.