الأمن والسياسة

عوماوي

:: عضو مُشارك ::
إنضم
2 سبتمبر 2008
المشاركات
491
نقاط التفاعل
2
النقاط
17
العمر
33
بسم الله الرحمن الرحيم
علاقة الأمن بالسياسة فى مصر قديمة ومعقدة، عرفت حضورا اختلف فى الدرجة والحدة من مرحلة إلى أخرى، فكان هناك «البوليس السياسى» قبل ثورة يوليو وأمن الدولة بعدها، وكان الأول يتحرك فى مساحة محدودة لمواجهة القوى غير الشرعية أو العنيفة، لأن الشرعى، على مشاكله، ضم حزب الوفد ومصر الفتاة والأحرار الدستوريين وأحزاب الأقلية والإخوان المسلمين، أما الثانى فكان هو جهاز أمن النظام الجمهورى، الذى لعب دورا كبيرا فى مواجهة أى حركة معارضة للنظام على مدار٦٠ عاما.

والمؤكد أن مصر عرفت حيوية سياسية قبل ثورة يوليو، اعتمدت فى جانب على المناخ شبه الليبرالى الذى عرفته البلاد، وفى جانب آخر على ثنائية قادرة على حشد الناس تقوم على النضال من أجل الاستقلال والدستور، فاهتم الناس بالسياسة، وانضموا للأحزاب والحركات السياسية، وبعد قيام ثورة يوليو التف أغلب المصريين حول جمال عبدالناصر، وشعروا بصدقه ونزاهته، ومع مجىء الرئيس السادات ظهر تيار واسع من المصريين مؤيد لخياراته السياسية فاعتبر السلام هو بوابة الخروج من الفقر وبداية عصر الرخاء، واعتبر أن من حق مصر أن ترتاح من الحروب بعد أن حررت أرضها المحتلة.
فقدرة أى نظام على اكتساب شرعية سياسية وسط الناس تخفف من الأعباء الملقاة على أجهزة الأمن، وحين تغيب أو تتآكل هذه الشرعية يتضخم دور الأمن لملء الفراغ الذى هجرته السياسة والعمل الأهلى والنقابى، وتصبح مهمته ليس فقط قمع السياسيين أو مواجهة التنظيمات المتطرفة والخارجة على الشرعية، إنما قمع كل شىء وإعادة ترتيب كل شىء أيضا.

فالمطلوب من الجميع أن يظلوا فى الغرف المغلقة حتى الأحزاب الشرعية، وغير مسموح لأحد أن يمارس العمل السياسى «بجد» وأن ينزل الشارع بغرض تداول السلطة مع النظام القائم، وبما أن الأخير تجمد فى مكانه، وغير قادر على منافسة أحد فى الشارع، فأصبح مثل التلميذ البليد فى حاجة إلى «برشامة» من أجل البقاء أو ادعاء النجاح.

وهنا يقوم جهاز الأمن بدور مضاعف عن المعتاد فى النظم غير الديمقراطية، فيعوض فشل الحكم السياسى، بإعادة ترتيب كل الملفات السياسية وغير السياسية فى البلاد، ويختار الأحوط فى كل القرارات التى تتعلق بمختلف صور النشاط الثقافى والفكرى والدينى دون أن يدرى أنه بذلك يسحب من البلد روحها ويفقدها قيمتها وبريقها.

ولأن الحكم غير مشغول بالسياسة ولا الفكر ولا الثقافة ولا حتى الإنجاز الاقتصادى، فنقل كل هذا التعثر على كاهل الأمن، الذى صارت مهمته التفاوض مع العمال المضربين بدلا من السياسيين الغائبين أو المغيبين، وإذا فشل فى مفاوضاته فسيكون الترهيب والترغيب بديلاً «تحت الطلب»، وتابع ملف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى ووضع معظمها تحت السيطرة، وإذا فشل بالحسنى، فسيستخدم العصا، وهو مسؤول عن تعمق الاحتقانات الطائفية، ولكنه قام بدوره الجديد واعتقل من ذهبوا لعزاء ضحايا جريمة نجع حمادى من الشباب.

إن انتقال دور الأمن إلى ملء مساحات غير مسبوقة فى تاريخ مصر المعاصر، وغير متعارف عليها حتى فى النظم غير الديمقراطية كان بسبب فشل سياسى غير مسبوق، فالأمن فى البلاد غير الديمقراطية مهمته مواجهة القوى الخارجة عن الشرعية، وحين تضم الشرعية الغالبية الساحقة من القوى والتيارات السياسية الفاعلة كما جرى مع حزب الوفد قبل ثورة يوليو، أو فى الاتحاد الاشتراكى بعدها، فستصبح مهمة الأمن فى هذه الحالة أبسط وقدرته على الإنجاز فى القضايا الجنائية أكبر، لأنه سيواجه قوى محدودة ومتطرفة خارجة عن الشرعية.

أما حين تضم الشرعية حكماً لا يعنيه الناس من قريب أو بعيد، ويضم مجموعة من رجال الأعمال المتحالفين مع بعض الغلابة والمغلوب على أمرهم، ويصبح من هم خارج هذه «الشرعية» عشرات الآلاف من المحتجين غير السياسيين الذين لم يجدوا إطارا شرعيا يقنن عملية التفاوض بينهم وبين الحكومة، ويجعل دور الأمن حارساً لهذه المفاوضات لا الراعى الحصرى لها، وتضم جماعة محظورة قانونا هى الإخوان المسلمين وحزب الوسط، والكرامة وحركة كفاية وتيار البرادعى واستقلال القضاء وآلاف المدونين والشباب المحبط والمهمش كل هؤلاء خارج الشرعية ومطلوب من الأمن أن يحبسهم على مقاس شرعية مفككة وغير ملهمة، وليس لديها مصداقية أمام كثير من رجال الأمن أنفسهم.

إن من المؤكد أن جانباً كبيراً من هذه المشاكل «الأمنية» كان يمكن حلها بالسياسة إذا كان فى مصر حكم سياسى، فإعطاء رخصة قانونية لحزب الوسط كان ربما هو الطريق لشق صفوف الإخوان ومواجهتهم بالسياسة لا الاعتقال، وإن الآلاف الذين شطبهم الأمن من قوائم الترشيح فى الانتخابات العمالية كانوا يمكن أن يكونوا همزة وصل لها مصداقية بين السلطة والمحتجين تتلافى أحداث المحلة فى ٢٠٠٨ وغيرها.

إن البلاد التى انتقلت من نظام التعددية المقيدة إلى الديمقراطية الكاملة، اعتمدت على نظم لها شرعية سياسية فاعلة، وقادرة على استقطاب أغلب القوى الرئيسية فى ساحة العمل السياسى الشرعى، كأن نقول مثلا إن فى مصر ثلاثة أو أربعة أحزاب مدنية سيسمح لها فقط بتداول السلطة، أو أن هناك تيارين فى الحزب الوطنى يمكن أن يؤسسا حزبين حقيقيين من داخل النظام، ويتنافسا على السلطة، وبعد فترة يتطور النظام ويصبح قادرا على دمج قوى أخرى وهكذا.

ولكن هذا المسار لم يحدث فى مصر، فقد حرس الأمن الجمود الكامل، ولايزال حريصا على ألا يخرج من تفاصيل المشهد (مطاردة النشطاء وتجهيز الملفات أو تلفيقها وغيرها) وينظر ولو قليلا لحصيلة الصورة الحالية، ويقارن دوره فى فترات سابقة بدوره الحالى، و«شكل» قياداته القديمة وكفاءة كثير منهم مقارنة بنظرائهم الحاليين، ليكتشف صعوبة الوضع الحالى حتى لا نقول كارثيته.

صحيح أن كثير من رجال الأمن استفادوا من هذا الوضع غير السياسى، وصاروا نوابا فى البرلمان يتحفون الشعب المصرى بآراء ما أنزل الله بها من سلطان، وبعضهم صاروا عمداء لكليات الحقوق ومحافظين، إلا أن كعكة المغانم لم تعد تكفى حتى لمن اقتسموها، فما بالنا بالمتفرجين.



وفى كلتا الحالتين كانت مهمة الأمن متعارفاً عليها كما كان الحال فى كل النظم غير الديمقراطية، وتقوم على أن النظام القائم مصدر الشرعية الوحيد، وأن مهمة الأمن الحفاظ عليه، لأنه يعنى الحفاظ على الاستقرار والنظام العام، وبما أن مصر عرفت نظما كانت لديها مشاريع سياسية نجحت فى جذب غالبية الناس حولها، فإن مهمة الأمن كانت هى حصار التنظيمات «المناوئة» ومواجهتها كما جرى مع الإخوان المسلمين والشيوعيين وبعض الليبراليين فى عهد عبدالناصر، وظل دوره هو مواجهة تنظيمات مناوئة، وليس شعباً «مناوئاً»، وهما أمران مختلفان تماما.


 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top