القبض والرد على من أنكر مشروعيته في النفل والفرض و فهم فول الامام مالك رحمه

صقر اليراع

:: عضو منتسِب ::
إنضم
8 أكتوبر 2011
المشاركات
57
نقاط التفاعل
4
النقاط
3
القبض والرد على من أنكر مشروعيته في النفل والفرض

بسم الله الرحمن الرحيم

الـمـقـــــــدمـــــــــــــة
إن الحمـــد للـــــه نحمـــــده ، ونستعـينـــه ، ونسـتـغـفــره ، ونعــــوذ بالله مــن شــرور أنـفـسـنـــا ، وسـيـئات أعمــــالـنا ، مـن يهــدي الله فـهــو الـمهـتـدي ، ومــن يضــلل فـلـن تـجــد لــه وليــا مــرشــدا ، وأشهـــد أن لا إلــه إلا الله وأشـهــد أن مـحـمــدا رســول الله صلى الله عليه وسلم .
أمـا بــعـــد :
فـلـما وقــع في هــذه الأعـصــار التي هـطـلت فيهـا سحـائب الرحمـــة على الـبــوادي والأمـصــار ، وأخـص بالذكـر بــلاد شمــال إفــريقـيـا ، الجــزائـر تونــس والمـغــرب الجــار الـذين اشــتــد إنـكـارهــم على مـن فـعـل سنة الـقـبــض وبُــولـغ في الـتشـنيـــع عـلـيـه حتى نـسـب إلى مـالا يحب أحــد أن ينـسـب إلـيــه ، وقد كنت ضُربت من بعض كبار السن المتعصبة جدا لمذهب الإمام مالك يوم رآني أصلي وأنا أقبض ، وكنت حينها صغير السن حدث هذا قبل أكثر من ربع قرن من الزمن ، ودارت الأيام وازددت تعلما – والحمد لله - وبقيت متمسكا بذلك ، أدعو إليه ، وإلى إحياء السنن ، وإماتة البدع ، وخاصة بدع الخرافات الصوفية ، إلى أن جاءت الفرصة فرسمـت في ذلك هــذا الـتقـيـيــد ، والذي يمكن أن يكون عليه المزيد من بعض مشايخنا الفضلاء أهل القول السديد فغن طالب العلم مهما تضلع في العلم فإنه تغيب عليه بعض المسائل ، وحقائق العلم ، والله يفتح على من يشاء من عباده ..
وقد اقتصرت في الغالب على نصوص أئمة المالكية حتى أحاجج به المتعصبة منهم فإنهم لا يقبلون إلا ما كان من رجال المذهب ، أو من كتبهم ، بل بعضهم يقبل قول المالكية ولا يقبل أن تقول له قال الله تعالى، قال رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويتهمك بالجرأة على القرآن والسنة ، ويقول : ليس لكم الحق أن تقولوا قال الله قال رسوله ، فأنتم لا تفهمون معنى ذلك ، وكأن الله خاطبنا بالألغاز ، أو أن العلماء الذين شرحوا الكتاب والسنة من غير المذهب لا يفهمون ما قاموا بشرحه وتعليمه ، ألا قاتل الله التعصب ، ومع مرور الوقت مع الصبر وجهود المشايخ- حفظهم الله - عندنا في الجزائر وطلبة العلم أثمرت تلك الجهود وأحييت كثير من السنن وماتت كثير من البدع - والحمد لله – بعد أن كان الحال على ما ذكرت .
وهذا جزء من رسالتي التي ضمـنـتــها ثـــلاثــة مـبـاحـث ، الأولان مـنـهــا توطــئة للـثــالـث ، وسميتـــها ب (( رســالـة الـقـبـض والـرد على مــن أنــكر مـشــروعـيتــه في الـنـفـل والـفــرض )) واقتصر هنا على إنزال مبحث واحد ، وهو القبض في الصلاة ، وأما المبحث الثاني والثالث وهما : التقليد وحكم التمذهب بمذهب واحد ، ومناقشة ما اشتملت عـليــه حجـج القوم الواهـيــة مــن الإخــلال . والإهمال لفقه الدليل فهذا طويل وأرجيه إلى وقت لاحق - إن شاء الله تعالى - لعل الله أن يمد في العمر وأنزله إتماما للفائدة واللــه ولي الإعـــانـة، والـمــوفــق للـصــواب والإبــانــــــة، وحـــده سـبــحـانــه.
الـمـبحــث الأول في حكــــم القـبــض في صــلاتي الـنـفــل والـفـرض :
اعلـــم أخـي ــ يرحـمــك الله ــ أن قـبــض الـيـســرى بالـيمــنى في قـيــام الـصــلاة هــو الثــابث عــن الـنبي الـكريم صلى الله عليه وسلم، ولـم يـذكــر أحــد مــن أصـحــابــه ولا الـتابعـين ، ولـم ينقــــــل لـنــا أحـــد مــن أصـحــاب الـســنن الـمـعـتمــدة سـنــة الإرســال أو الـســـدل ، وقـــد نقـــلـوا لنا كـل خيـر حـثنــا عـلـيـه الـمـصـطـفـى صلى الله عليه وسلم فـقــد نـقــلــوا لـنا قــولــه صلى الله عليه وسلم : << ما بعـث الله مـن نبي إلا كان حـقـا عـلـيـه أن يـدل أمـتـه على خيـر ما يعـلمــه ، ويحــذرها شــر ما يـعـلـمـه>> (1) ونـقـلـوا لـنا قــول عـمــر يصف بيان النبي صلى الله عليه وسلم : << قـام فـينـا رســول الله صلى الله عليه وسلم مـقـاما فـذكـر بــدء الخـلــق حتى دخـل أهــل الجـنـة مـنــازلهــم ، وأهــل النــار مـنــازلهــم ، حـفــظ ذلك مـن حـفــظه ونـسيــه مــن نسـيــه >> (2).
وعــن سلمــان الـفارسي t قـال :>> قال بعــض المـشـركين وهــو يـسـتهـزئ : إني أرى صاحـبــكم يعـلمـكــم كل شيء حتى الـخــراءة.قال سلمان: أجــل << (3).
ومـن حـديث أبي ذر الـغـفــاري رضي الله عنه قال :<< لـقــد تـوفي رســول الله eوما مـن طـائر يقـلب جـناحـيـه في الـسمــاء إلا ذكــر لـنـا مـنــه عـلمــا >>(4). فإذا كان هــذا في الأمــور الـدنـيـويــة كما في حديث أبي ذر ،فـكيــف بما تعـبــدنا الله بـه ، وعـلى هــذا يسـتحيــل أن يكــون الســراج المـنيــر الــذي أخــرج الله بـه الأمــة مــن الظـلـمـات الى النــور قــد أهـمـل شـيئــا أوحــاه الله لـه ليـتعـبدنا بــه ، والـصــلاة بكـل أركانهاوواجباتهــا، وشروطها ومـسـتـحـبـاتـها مـن أهــم الأمــور التي تعـبــدنا الله بهــا.
ويـسـتـحيــل كـذلك أن تــكـون الـقــرون المـفضــلـة الـذيـن أختـارهــم الله لصحبــة نـبيــه ثـم الــذيـن شهــد لهــم الرســول eبالأفـضلـيـــة والـخيـريــة تــركــوا شـيئــا تـعـبــدنا الله بــه ، أو سـنــة سـنـهــا لنا رســول الله e، ولايعـتــقـد مـسلــم عاقـل عــرف حـال الـقـوم ، وقــدرهــم خــلاف هــذا .
والــذي نـقــلــوه لـنـا في هــذا الـبـاب ، والمــوجود في الـصحــاح كما سـنذكــره إن شــاء الله تعـالى هـو الـقـبــض ، ولم ينقــل لنا غـيــره ، بل نـقـلـوا لـنـا الـنهي عــن الإرســال أو الـســدل كما سنبينه، ولـم يظـهــر الـخــلاف في هــذه الـمــسـألــة إلا بـعــد عـصــر إمـام دار الهـجــرة الـقــائل : كل يؤخــذ مـنــه ويـرد عليــه إلا صاحـــــب هــذا الـقـبـر، وأشار بيده إلى قبر النبي صلى الله عليك وسلم .(5)وقال غــيـره مـن أرباب الـمــذاهــب:خــذوا مـن الـذي أخــذنا، ولم يقــل أحــد مـنــهم هــذا مــــذهـبي ألــزم بـه أحـدا، بل قـد صـح عــن مـالك نـفـســه أنــه قـال : لهـارون الرشـيــد لما طـلـب مـنــه أن يجـعــل الـمــوطـأ في جمـيـع الأمـصــار ، لا تفـعـل ، وعــلل ذلك بقـولـه : أن صـحــابة مـحـمــد رضي الله عنهم تفــرقــوا وكـل واحــد مـنــهم أخــذ عـلمـا لم يأخــذه غـيــره ، ولـعــل مـع بعـضهــم ما لم يبلغـنــا ، فاتـرك الـنــاس يعملــون بمـا وصلهــم وصــح عـنــدهـم مــن حــديث رســول الله صلى الله عليه وسلم.(6) وهاهــو –رحمه الله - يعـمـل بهــذا الـمـبــدأ ، فـقــد كان يـومـا يتوضــأ والليث بـن سـعــد-رحمه الله- ينظــر إلـيـه ، فـلمـا أتى عـلى غـســل الرجـلـيــن لم يخــلل بيـن أصابــع رجلـيــه ، فـقــال لـه اللـيـث : إنا عـنــدنا سـنــة في ذلك . فأخــذ بهــا مـالك –رحمه الله - وأصـبــح يـقــول بـها . وهـكــذا قال الـشــافـعي رحمــه الله : إذا صــح الــحديث فـهــو قـولي أقــول بـه ، وأديـن الله بـه بل كل واحــد مـــن هـؤلاء أصحاب الـمـذاهـب يحــذر طــلابه أن ينتصــروا لـقــولـه خـوفا أن يـكــون خــلاف الــصــواب .
وهــذا الإمــام أحمــد إمــام أهــل الـسـنــة رحمـه الله يـقــول لأصـحــابـه: إذا وجـدتم قـولي يخـالـف الحــديـث فاضـربـوا بقـولي عـرض الحــائط وخــذوا بالحــديث .
ومـن أسـباب الخـلاف بيــن الـعــلمـاء أن بعضهـم لما كانـت تـعـرض لـه قـضـيـة يرجح قـول المـذهب ؛ولو كان خلاف الحـق في تلك المـسـألـة لأنه يرى إما أن القول الآخر ضعيف، أو لـيـس في المــســألـة نـص، أو لم يصـلــه القول الآخـر الـذي مـعـه الدليـل، أو وصلــه ولكـنـه يعارض العـقـل والقـيـاس عنده، أو وصلــه الـدلـيل ولكـن توقـف فـيـه، أو وصلـه القـول الثـاني بالدليل ولكن تعصب لأنـه لايقـبـل غـير قـول مـذهـبـه،(7).
وهـذا الأخيــر هــو أكبــر شــر وقـع فيـه كثيـر مـن طلبـة الــعلـم فـضلا عـن العــامـة، وقدتعجـبت كثيـرا لبعض هـؤلاء الـطـلـبــة الـذيـن درســوا الـشريـعـة وتحصـلـوا على شهـادات جامعية عاليـة،وتبيـن لهم الحق كالـشـمــس في ضحاهـا أثناء دراسـتهــم لكنهــم تعصـبــوا لخــلافـــه ، ورموا به وراء ظهورهم ،خوفا على تفويت مكسب، أو ضياع منصب ،أو انتقاد متعصب متحزب .
لقــد ظهــر في عصرنا تحزب المســاجـد وتسييسهــا تبعا للحزبية المقيتة ، كما ظهر تحجيم الإسلام على القومية أو الجهوية على غرار الطائفية أو المذهبية القديمــة ، فإذا جاءهـم مـن ينصحهــم ويعـلمـهــم فإن كان على طريقـتهــم ومـنخرط في حزبهــم قبلـوه وجلســوا لـه يستمعــون في خضوع وخشــوع حتى لو جاءهــم بمـنكر من القــول ،والأحاجي ، والقصص ، أما إن كان يخالفهـم في حزبيتهــم وطريقتهـم نبـذوه ، ووقـفــوا لـه بالمرصــاد وافـتــروا عـليـه الأكاذيب، وأشاروا إليه بأصابــع الاتهــام ، ليشـوهوا بذلك سمعتـه ، وينفــروا النــاس مـن دعــوته ولــو كان من العلماء وطلاب العلم المعروفين بالعلم ، فإنه لا يمكن لسلفي أن يقوم بدرس في مسجد للإخوان المسلمين ، ولا للصوفيين ، ولغيرهم كل ذلك خــوفـا أن ينصـرف عنهـم الأنصـــار، ووجوه الناس للسنة ، ويظـهــر للناس أنهــم مخالـفــون للسنـن والأثار، فـينكـشف بذلك عن باطلهـم الـقـنــاع ، ويظـهــر عليهم ناصــر الحــق بكـثرة الأتبــاع - زعمــوا- فـيسـيـطر على المـسجــد ويبــدل طـريقـتهــم ودينهــم وحق فيهم قول الله تعالى مخبرا عن فرعــون لملأه عن موسى قال : {{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}} (26) سورة غافر.
ومــن خالفهــم في مـنهجهــم ذلك ، وعمـل بما تبيـن لـه مـن الحــق مـتبـعا أو مـنتسبـا للـسـلف الصـالـح ســواء في باب الاعـتقـــاد أو الـعـبادات التي تخـالـف الـمـذهـب ،قالوا وهابي ، أو ظاهري غال متشدد ، أو خالفهم في بعض المعاملات التي تخالف سبيلهم وطريقهم المنتهج، عادوه ونسبــوه إلى ما لا يحب أحــد أن ينسـب إليه، فـطـالب الحــق مـن مـظانـه لديهـم مـفـتــون ، ومؤثـره عـلى ما ســواه مـغـبـــون ، نصبــوا لمـن خالفـهــم في طريقـتـهـم الحـبــائل وبغــوا لـه الـغــوائـل ، ورمـوه عــن قـوس الجهــل والعـنــاد ، وقالــوا لإخــوانهــم ومن على طريقتهم أجمعوا أمركم لا يفسدون عليكم دينكم كما قـال فـرعــون لمــلأه في مـوسى : {{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}} (26) سورة غافر.
وعـلى هــذا نتــج الــخــلاف واحـتــدم الـنـزاع حـتى في الـمـذهــب الـواحـــد ، فأين الذين ينادون بوجوب التقليد بحجة الحفاظ على وحدة الأمة الواحدة في القطر الواحد والعلماء يذكرون في المسألة الواحدة أكثر من أربعة أقوال في نفس المذهب ، بل إن بعض المسائل فيها أكثر من عشرة أقوال في مذهب مالك ، وعلى سـبيــل المـثــال لا الحصر هــذه المســألــة ،" الـقـبـض أو وضــع اليمـنى على الـيـســرى في الـصــلاة" .
إن هؤلاء الذين ينادون بهذا المطلب ،(( وجوب التقليد حفاظا على وحدة الأمة )) يناقضون أنفسهم فهاهم يخالفون مذهب مالك في عقيدته ، وسلوكه ، ففي العقيدة ينتهجون عقيدة الأشعري قبل رجوعه إلى مذهب السلف ، وفي السلوك ينتهجون طريقة الجنيد ، فهل تتحقق الوحدة بهذا الخلط ، وإن كنا حقا نريد الوحدة فلماذا لا نأخذ بعقيدة مالك ، وسلوكه وأخلاقه ، وقد كان حريصا جدا على الأخذ بكتاب ربنا وسنة نبينا وذلك ما تعبدنا الله به ؟ فهل كانت عقيدة مالك مخالفة للعقيدة الصحيحة ؟ وهل كان سلوكه وخلقه منحرف عن منهاج النبوة حتى لا ترتضونه ، وهذا واضح في قول ابن عاشر : في فقه مالك وعقد الأشعري ، وطريقة الجنيد السالك ..
وهنا أقول: لا أجد كلمة أصف بها عملهم هذا أحسن من كلمة قالها إمام المفسرين ابن جرير الطبري في كتابه التفسير (ج1 / 213 ) يصور بها تناقض من يرد عليه قال: (( ثم نقض من قوله فأسرع نقضه ** وهدم ما بنى فأسرع هدمه )).
وهذه المسألة ( القبض في الصلاة ) هي من دين الشيعة الروافض الذي يقوم دينهم على محض البدعة والضلالة ، ويرون أنه ناقض للصلاة ، والمسألة فـيهــا أربعـــة أقــوال في مــذهــب مالك مـذكــورة في مـشـاهـير كـتب أئمــة المـذهــب ، كـمخـتـصــر ابن الـحاجـب ، والـتمـهيــد والاستذكار لحافــظ المـغرب ابن عـبد البــر ، والمدونة الكبرى لابن القاسم ، والمنتقى للباجي، والدخيرة للقرافي وغـيرهـــم، واليك هــذه الأقــوال على سبيل الإجمال ، ونكتفي بالقول الأول وبالله الـتـوفـيـــق .
القــول الأول: الاسـتحــاب ، بمعنى السنة.
الـثــاني : الـكـــراهـــة والتفريق بين النفل والفرض .
الــثالـث : الجـــواز بمعنى الإباحة.
والـرابــع : المـنــع .
1 ــ الاسـتحــباب أو السنية : اسـتـحـبـاب الـقـبـض في الـفـرض والـنـفـــل وترجـيحـــه فـيهـمـا عـلى الإرسـال أو الســـدل (8).وهــذا الـقــول نسـبـــوه لمـالك في الواضحـــة ، واخـتاره غـير واحــد مــن المـحــقـقـيــن: كالإمــام أبي الحــسـن اللخمي، والحــافـظ الإمـام الـفـاضل أبي عمــر بن عـبد الـبــر، والـقـاضيين أبي بكــر بن العــربي، وأبي الولـيــد بن رشـد وعـده في مـقــدماتــه مــن سـنــن الـصــلاة ، وتبعــه في ذلك الـقـــاضي عـيــاض في قــواعـــده .
وكذا الــقـرافي في كـتاب الـدخيــرة (9) قال فـيـه: بأنــه مــن السنــن المـشـهــورة ثــم ذكــر بعــض ما فـيــه مــن الخــلاف ومــن اصـطـلاحــه فـيــه تقـديــم المـشهـــور على غـيــره ، والمـشهــور هو ما اشـتهــر بيـن الـمحـــدثيــن والـفـقـهـــاء ، والأصــولييــن مــن حديث رســول الله صلى الله عليه وسلم .
وكذلك مـثل ما في الدخيرة ونسـبـه لابن جزي في قـوانينــه ، ونسـبــه القـاضي عياض في الإكمال للجمهـــور ، وهــو أيــضا في الدخيـــرة للقــرافي والمـيـزان للشعـراني أن هــذا الـقــول هــو قول الأئمـــة الثـــلاثــة :الشــافعي ، وأبي حـنيفــة وأحمــد بن حنبـــل ، وزاد ابن عـبــد الــبــر في الاسـتــذكار نسـبتــه لـسـفـيــان الـثــوري وإسحــاق بن راهويه وأبي ثــور وداود بن علي وأبي جعفر الطبري ، وجمـيــع أهــل الحديث ، وغـيرهــم مــن أئمــة الـمـذاهـــب التي ظـهرت في ذلك الوقت .بل عليه الإجماع ولم يعرف عند المتقدمين ذلك في أثر ثابت صحيح ، ولكن القوم لا يقبلون إلا ما كان من رجال المذهب وكتبهم ، فهذه كتبهم تخالف ما أنت عليه .
قال ابن عبد البر-رحمه الله -: لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف ، وهو قول الجمهور من الصحابة ، والتابعين ، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره .(10).قلت : وهذا إجماع .
قـال الـقـبــاب في شــرح قــواعـــد القــاضي عـياض : قـال اللخمــي : إن الـقـبــض مـسـتحب للحديث الثابث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في الـبخـــاري ومـســلم والمـوطأ. قلت : والسنن والمسانيد ،وسيأتي أن شاء الله .
و إذا كان هــذا الحديث ثابث في الـبخــاري ومـسلم والمــوطأ ،وغـيرهــم مـن الصحــاح فـكيف نتــرك الثابث عن الرسول المـبلــغ عــن الله ونعمــل بخــلافــه ولـو كان هذا اجـتهــــاد مــن إمــام عظـيــم مهمــا كانت مكــانتــه في الـعلــم ، وعـلـيــه فإننا لا نسـتــطـيع أن نتــرك سنـــة رســول الله صلى الله عليه وسلم إلى قــول أحـــد من الناس، وصــدق الإمام مالك إذ قال: أو كلمـــا جاء رجــل أجـــدل مــن رجــل تركنا ما جاء بــه جـبــريل لرســول الله صلى الله عليه وسلم إلى جـــدل هــؤلاء .(11) قال اللخمــي : إنــهــا وقـفــة العـبــد الـذلـيــل لـربـــه .
وحـديث البــخـاري المـشــار إلـيــه هــو مـا رواه في باب وضــع الـيمـنى عـلى الـيـســرى في الصـــلاة عــن عـبـد الله بن مـسـلمــة عـن مـالك عـن أبي حـازم عـن سـهــل بن سـعـــد قـال : كان الـنّاس يؤمــرون أن يضــع الرجــل الـيــد الـيمـنى على ذراعــه الـيســرى في الصــلاة .(12) قال أبو حازم : لا أعـلمــه إلا ينمي ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم.
قـال: وقـولـه كـان الــنّاس يؤمــرون. هــذا حـكمــه الـرفــع لأنــه محمــول على أن الآمــر لهـــم بـذلك هــو النبي e. وأما قـول أبي حـازم : لا أعـلمـــه أي سهــل بن سعـــد إلا يَنمي .. بفـتــح اليــاء وسكــون الـنــون وكسر المـيــم ، وفي روايـة إسمــاعيل بن أبي أوس عـن مالك بالبنــاء للمـفعـــول : < يُـنمـي > والحــديث على هــذا مرســل لأن أبا حازم لم يعـيــن مــن رواه قال أهــل اللغـــة نمـيت الحديث إلى غـيري رفـعـتـــه وأسـنــدتــه إلـيــه .
قـال ابن حجــر رحمــه الله (13): وفي اصطــلاح أهــل الحـديث إذا قـال الــراوي نمـيت فمــراده يرفــع ذلك الى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقـيـــده .


واعـتــرض بعـضهــم على هــذا الحـديث وقـال : إنــه معــلول لأنــه ظــن أبي حـازم .

قال ابـن حجــر : ورُد بأن أبا حازم لو لـم يقــل لا أعلمــه .. الخ لكــان في حكــم المـرفــوع لأن قــول الصحــابي كنا نؤمــر بكــذا يصــرف بـظــاهـره إلى مــن لـه الأمــر والنــهي وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأن الصحــابــي في مـقــام تعـريــف الشــرع فـيحمـــل على مــن صــدر عـنــه الـشـــرع ، ومـثلـه قـول عائشــة رضي الله عـنهــا : كـنا نؤمــر بقـضــاء الصــوم ولا نؤمــر بقضــاء الصــلاة ،فإنــه محمــول على أن الآمــر بذلك هــو النبي صلى الله عليه وسلم . وروى البيهقي أنــــه لا خـــلاف في ذلك بــيــن أهــل الــنـقــل .والله أعـلــــــم .(14).
ثــم قال ابن حجــر: فإن قـيـــل لــو كان مــرفــوعا ما احتاج أبو حازم إلى قــولـه لا أعلمــه .. الخ فالجـــواب : أنــه أراد الانتــقـال إلى التـصريـــح فالأول لا يـقال لــه مـرفــوع ، وإنمــا يقــال لــه في حــكم المـرفـــوع .(15).
وحديث مـســلم هــو ما أخــرجــه في باب وضــع اليمـنى على الـيــســرى في الـصــلاة ، عــن وائل بن حُــجــر رضي الله عنه أنــه : << رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، وضــع يــده اليمـنى عـلى الـيـســرى .. >> بعد تكبيرة الإحــرام .(16)
وحــديث مالك في المــوطــأ هـو ما أخــرجـه في باب وضـع الـيـديـن إحداهـمـا على الأخــرى في الصــلاة من حديث أبي المـخارق البصــري أنـه قال : مــن كــلام النبـوة : << إذا لم تستح فافـعــل ما شئت ، ووضــع الـيــدين إحــداهما على الأخــرى في الصــلاة يضــع اليمـنى على اليسرى ... >> (17).
قال ابن عــرفــة: يســتحـب أن يقــبض في الـفـريـضـة والـنــافـلــة .
وقال ابـن رشـــد: وهــو الأظـهـــر لأن النّــاس كانــوا يؤمــرون بــه في الــزمـن الأول، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفـعـلــه.أهـ .
ونـقــل ابن عــرفــة أيضــا عـن ابن العــربي أنـه قال : كــره مالك وضــع الـيــدين إحداهمـا على الأخــرى في الصــلاة وقـال أنــه ما سمــع بشئ في تفـسـيــر قــولـه تعالى : }{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}} (2) سورة الكوثر { (18).
قلت : يقـصـد وضــع الـيدين إحداهما على الأخــرى عـنــد النحــر في الصــلاة أو فوق النحر.(19) ونسبه للشافعي.قـال ابن العـربي : والصحـيــح أن ذلك ــ يعـني الـقـبــض ــ يفـعــل في الـفـريـضـة ومـسـتحــب .
وذكــر في سـنــن المهـتــدين عـن ابن عـبــد البــر أنــه قال : لا وجــه لكــراهـة وضــع اليمـنى على الـيســرى في الصــلاة ، لأن الأشيـــاء أصلهـــأ الإبــاحـة (20) ولم ينــه الله ولا رســوله عــن ذلك فلا مـعـنى لمــن كــره ذلك هــذا لو لم ترو سـنيتــه عن رســول الله صلى الله عليه وسلم ، فـكيف وقـد صــح عـنــه فـعــلـه ، والحــث عـلـيــه والأمـــر بــه (21).
قال ابن حـجــر : قـال ابن عـبد الـبــر : لم يأت غـيـــر القـبـــض عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم تثبت سـنــة ســـواه ، وهـو إجمـــاع الصحــابـة وجمـهــور التابعـيــن وهـو الــذي ذكره مالك في المــوطأ ولم يحــك ابن المـنــذر في إجماعـه وغـيره ممــن لم يحـك غـير الـقـبــض عـن مالك ، يرون أن غيره لم يصــح عـن مالك ، والله أعلـــم .
قال أبو الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق المغربي في رسالته " الحجة المبينة لصحة فهم عبارة المدونة "(37 – 43).إذا أراد شخصا أن يفهم كلاما فهما صحيحا موافقا لغرض المتكلم به فلينظر إلى دلالة السياق والسباق .قلت : ولفهم ما أراد مالك لابد من ذكر كلامه كاملا تحت الباب المعنون له .فقد ذكره تحت باب :>> الاعتماد في الصلاة والاتكاء ووضع اليد على اليد << وهذه عبارة المدونة كاملة (ج1/74): قال ابن القاسم :وسألت مالكا عن الرجل يصلي إلى جنب حائط فيتكئ على حائط ؟ قال : أما في المكتوبة فلا يعجبني ، وأما في النافلة فلا أرى بذلك بأسا.قال ابن القاسم : والعصا تكون في يده بمنزلة الحائط ، قال : وقال مالك : إن شاء اعتمد ، وإن شاء لم يعتمد ، وكان يكره الاعتماد ، وقال في ذلك على قدر ما يرتفق به ، فلينظر ما هو أرفق به فليصنعه .قال : وقال مالك: في وضع اليمنى على اليسرى في الفريضة .قال : لا أعرف ذلك في الفريضة ، ولكن في النوافل إذا طال القيام ، فلا بأس بذلك يعين به على نفسه .

قال أبو الفضل :هذه عبارة المدونة بتمامها التي منها فهم المالكية كراهية وضع اليمين على الشمال في المكتوبة ، واختلفوا في سببها على أقوال حكها صاحب المختصر-ويقصد به خليل بن إسحاق في قوله في مختصره (ص18)-:وهل يجوز القبض في النفل أو إن طوّل ، وهل كراهته في الفرض للاعتماد ، أو خيفة اعتقاد وجوبه ،أو إظهار خشوع ، تأويلات- وسيأتي بيانها- إن شاء الله – ثم قال أبو الفضل : ولا بد أن أحد متقدمي شراح المدونة فهم منها الكراهة ، ثم تبعه المتأخرون تقليدا من غير تمحيص ، ثم تعصبوا لارسال اليدين في الصلاة ، حتى زعم زاعم منهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسلها في صلاته ، وهو كذب يستوجب لعنة الله ،وعذابه ،وزعم آخر منهم : أن وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة منسوخ ، وهذا أيضا كذب بحت .

وبلغني عن شيخنا بالإجازة الشيخ أبي شعيب الدكالي : أنه قال متحديا لمن يتعصب لارسال اليدين : من وجد حديثا ولو ضعيفا يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مرسلا يديه ،* فلينقشه على رخامه وأنا أعطيه بوزنها نصبا* .
وهذا أشد ما يكون في التحدي .ثم بين المراد بعبارة المدونة فقال : وإذا تأملنا عبارة المدونة ، مع ملاحظة السياق وجدناها معنونة بعنوان الاعتماد في الصلاة والاتكاء ووضع اليد على اليد .
فهذا موضوع بحثها ، وجرى الكلام فيها عن المصلي يتكئ على حائط ، وعن الاعتماد في الصلاة عموما وقول مالك : إن شاء اعتمد وإن شاء لم يعتمد إلى قوله : وقال مالك في وضع اليمنى على اليسرى في الفريضة : << لا اعرف ذلك في الفريضة >> فهم منه بعض شراح المدونة كراهة وضع اليمنى على اليسرى في المكتوبة ، وهذا باطل لوجهين .
أحدهما : أن سياق الكلام وموضوع البحث الاعتماد والاتكاء في الصلاة، فإدخال حكم الكراهة هنا يأباه السياق ، ولا يقبله ، إذ يصير تقدير الكلام على هذا الفهم الباطل : وقال مالك : إن شاء اعتمد وإن شاء لم يعتمد ، وكان لا يكره الاعتماد ، وقال في ذلك على قدر ما يرتفق به ، فلينظر ما هو أرفق به فليصنعه ، وقال مالك في وضع اليمنى على اليسرى في الفريضة قال : لا أعرف ذلك الوضع في الفريضة من سننها فهو مكروه . والكلام على هذا التقدير يكون في غاية الركاكة ، لأنه لا رابط يربط بين الاعتماد في الصلاة ، وبين الحكم على القبض بالكراهة .
والآخر : أن مالكا يعرف القبض مشروعا في الصلاة ، وروى فيه حديثين في الموطأ ، فكيف يقول هنا لا أعرفه ؟ هذا تهافت لا يليق بمقام مالك ، ولا يصح أن يفهم من كلامه أو ينسب إليه .
إذن فالمعنى الذي أراده مالك بقوله : لا أعرف ذلك في الفريضة ، أي لا أعرف الاعتماد على القبض في الفريضة ، لأنه يفعل استنانا فيكره قصد الاعتماد معه أيضا ، يؤيد هذا قوله : ولكن في النوافل إذا طال القيام فلا بأس بذلك أي بقصد الاعتماد يعين به على نفسه ، لأن النوافل يتوسع فيها .قلت : قصده يتجوز فيها ما لا يتجوز في الفريضة / أما التوسع بحيث يأتي بشيء غير مشروع فلا كالاعتماد فإنه غير مشروع وهو يقدر على الوقوف ، إلا عند فقدان الاستطاعة عليه .
لم يقصد مالك إلا هذا بدلالة السياق التي هي أساس في فهم أي كلام ، وعلى هذا لا يجوز أن ينسب إلى مالك كراهة القبض في الفريضة اعتمادا على هذه العبارة التي فُهمت على غير ما قصد بها ، ويؤيد ما قلناه أن سحنونا ختم الترجمة بما رواه عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن غير واحد من الصحابة أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم واضعا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة ، ليبين أن الإمام مالكا قصد الاعتماد ، لا وضع اليمين على الشمال .
وقـد ذكـرت فـيما سبـق نـص مـالك في الـمـوطـأ، مـن حـديث عبد الكريـم بن أبي الـمخارق الـبصـري، وهو وإن كان ضعـيـفـا حتى قيل أنـه أضعـف رجال المـوطـأ فقد توبـع على هذا في الـمـوطأ أيـضا،والحـديث لـه شـواهد أخرى، ذكــرها مالك في المـوطأ وغـيره كحديث وائل ابن حجر عند مسـلم، ـوأبو حازم في البخاري والموطأ، وحديث وهـلب الـطـائي عنـد الـتـرمـذي فـقد قال: كـان رســول الله صلى الله عليه وسلم يؤمـنــا فيأخـذ شمـالـه بيـمـيـنــه.(22).
قال ابـن حـجــر- رحمــه الله-( الفتح (ج2/ 262-263 ): قـال الـعـلمـــاء : الحكمــة في هــذه الهـيئــة أنــه يحــصــل بـهــا عـــدم اشـتغــال الـيـدين وهــو أقــرب الى الـخـشـــوع وأمـنــع مــن العـبــث وهــذا ما نقـلـــه الـنــووي رحمـه أيـضا ، وكأن البــخــاري لاحــظ ذلك فـعـقـبــه بالخـشــوع ، ومــن اللـطـائف قـول بعضهــم القـلب موضـــع النيــة ، والعــادة أن مــن أحـترز على شـيء جــعـل يـديـه عـليــه يعـني عـلى الـقـلـب .
وقال القـاضي عـياض -رحمــه الله - في الإكمــال
frown.gif
23)ذهـب جمهــور الـعـلمــاء مــن أئمــة الفـتــوى إلى أخــذ الـشمــال باليمـيــن في الـصــلاة ، وأنــه مــن سـننــهـا وتمــام خـشوعهــا وضـبطـهــا عن الحــركــة والعـبـث ، ورأت طائفـة إرســال الـيـديـن في الصــلاة مـنـهم الليث وهــو الـقـول الآخـر لمـالك في الـمـدونــة، ثم قـال : والآثـار بـفـعــل النبي صلى الله عليه وسلم والحـث عـليــه صحـيـحـة. ثم قال : والاتـفــاق حاصــل على أنــه لـيــس بواجـب.
وعـن عـلي رضي الله عنه أنـه قال في قولـه تعالى: }{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}} (2) سورة الكوثر {. مـعـنــاه وضـع اليمـنـى عـلى الـيـســرى في الـصــلاة على الـصــدر عـنـــد الـنـحـــر . وهــذا مـعـنى قـول ابن الـعــربي : أن مـالكا ما سمــع بشيء في هــذه الآيـــة ، وهـنـا تتقــرر لدينــا قـاعــدة هـامـة مـن قـواعــد الخــلاف بيــن الأئمــة آلا وهي : عــدم بلــوغ الحـديـث أو الـسـنــة أو الآثار لجمـيــع الأئمــــة ، فـمـنهــم مـن بلـغــه فـعـمــل بـه ومـنـهـم مـن لم يبلــغـه فـإما اجـتــهـد رأيـه أو قـاس عـلى عمــوم مـن العمــومـات أو بلغــه لكـنــه توقـف فـيـه ، وقـيل : في مـعـنـى النحــر غـيـر هــذا مـن نحـر الأضحيـة وصــلاة الـعـيـد ، وقـيـل نحــر البـُـدن بمـنى وصــلاة الصـبــح بجمــع . انـتهى كلامــه رحمه الله .
ويرجــح الـقـبــض على الـســدل أيـضا نــص الأئمــة كما في الــمـواق لابـن عرفــة على أن ما اختـلـف في مـشـروعـيتــه هــو أرفـع درجـة مـن المـباح .
قال عـزالـديـن بن عـبـد الـســلام رحمــه الله في قـواعــده : إن كان الـخــلاف في الـمـشروعـية فالـفـعــل أفـضــل ممــا كرهــه أحــد الأئمــة ورآه غـيــره ، فـفـعـلــه أفـضــل كرفــع الـيــدين في التـكـبيـرات ، قال : وإنما قـلنـا هـذا لأن الـشــرع يحـتاط لـفـعــل المـنــدوبات كما يحـتــاط لفـعــل الـواجـبــات .
وهــذا مـقـتضى قــول مالك وغـيــره ، فإن مالك نــص في الـمـوطـأ على أن نـذر المـباح لا يوفي بـه ، وذهـب فـيمــا كـرهــه هــو واسـتحـبـه غـيـره أنــه يلزم الـوفاء بـه ، وألا تــراه كــره هــدي المـعـيـب ونــذره والإجــارة على الحــج مـع قــولـه يلزم نـذره ، وتنفـيــذ الوصـيـة بالحــج ترجـيــحا للمخـتــلف في مـشـروعـيتــه على المـبــاح .
ومـقـتضى هــذا كما قال الشـيــخ عـلي الأجهــوري : مـوافـقــة قـول مالك لما ذكــره عـز الديــن بن عبد الـســـلام ، كما أن مـقـتضــاه أيـضا أن فـعــل الـقـبـــض أفـضــل مـن تركـه لانــدراجــه في هــذه الـقـاعـــدة الأصـولـيــة .
ومما يرجحه أنه رواية الجمهور من أصحاب مالك ، وراية الجماعة مقدمة على رواية الواحد كما هو مقرر لأن الواحد مهما كان حافظا فهو عرضة للوهم والنسيان الذي هو طبيعة الإنسان ولأنه قد تدخل عليه مسألة في أخرى بخلاف الجماعة المتعددة .
ومما يرجحه أيضا أن الوضع هو الذي كان عليه مالك في نفسه فإنه كان يقبض إلى أن لقي الله تعالى كما ذكره الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر ، وما كان عليه الإمام في نفسه يقدم على غيره .
ومما يرجحه : أنه الموافق ليهئة الصلاة وموضوعها من الخضوع والتذلل كما ورد الحديث وما كان موافقا للشيء يقدم على غيره كما هو مقرر في محله ومن أجل هذا بل من أجل صحة الدليل وحده رجحه أئمة المذهب المفتى بقولهم على اختيارهم وترجيحهم .فممن رجحه سحنون صاحب المدونة فأنه عقب النص بالحديث الوارد في ذلك كما سبق إشارة منه إلى الترجيح على عادته المعروفة عند الفقهاء .
قلت : فلا معني للكراهة مع ثبوت الدليل ممن صاحب الشريعة الذي أمرنا بإتباعه وحده والاقتداء به ، في كل صغير وكبير ، وإذا جرى نهر الله بطل نهر معقل ، وإذا ثبت الأثر بطل النظر ، ولا اجتهاد مع النص ، إنما هو الاتباع وترك الرأي والابتداع .
ولا معني للتفريق بين الفريضة والنافلة ، إذ لا دليل على التفريق ، وما ذكروه كله تخمينات لا تقوم على حجة ،والحجة في كتاب الله وسنة رسوله ، وقد قضت السنة بالقبض في الصلاة ، فريضة كانت أو نافلة ، ولو قالوا بتركه في النافلة ومشروعيته في الفريضة من باب التجوز في النافلة مما لا يجوز تركه في الفريضة لكان له وجه ، ولكن القوم عكسوا القضية فكرهوه في الفريضة واستحبوه في النافلة ، فهذا التفريق باطل إذ الاستحباب والكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل ، ولا دليل عند القوم وإنما هي الآراء ، والتقليد بالتعصب مع قلة الإنصاف .




والقوم ليس بهم الغيرة على مذهب مالك ، فالسلفيون هم أسعد الناس بمالك ، وإنما هي الأهواء تتجارى بهم لأنهم إذا ضاق عليهم المذهب خرجوا إلى غيره ، وتتبعوا الرخص من كل مذهب .. ولو جئتَ لتحصيَ عليهم مخالفاتهم للمذهب لجمعت مجلدا ..

وهذا القاضي منور بن سعيد البلوطي رحمه الله يقول معرضا بمثل هؤلاء : عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلا هكذا قال مالك ، فإن قلت : قال رسول الله . قالوا : وقد قاله ابن القاسم الثقة الذي على قصد منهاج الهدى هو سالك ، فإن عدت ، قالوا : هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك ، قلت : هذا هو طريق التعصب والتقليد الأعمى ومذهب كل هالك .
والقوم في دعواهم هذه – الأخذ بمذهب مالك وحمل الناس عليه- متناقضون غير صادقين ، والدليل على ذلك قولهم : في فقه مالك وعقد الأشعري ... وطريقة الجنيد السالك .
فهم يقولون مذهب مالك لكن لا يأخذون منه إلا الفقه ، أما عقيدة مالك فهي غير مرضية عندهم ، وكذلك سلوك وأخلاق مالك . ولا يفوتني أن أطرح عليهم هذا السؤال وهو : على أي قول تحملون الناس إذا وجدتم في المذهب أكثر من عشرة أقوال كما هو الحال في كثير من المسائل ؟ فهل تحملون الأمة على قول واحد ؛ أم ستقولون اختلاف علماء المذهب رحمة ؟ فإذا كان الحال هكذا فلما لم تجعلوا اختلاف الصحابة رحمة تسع الأمة ، قال ابن عبد البر في التمهيد : ألا ترى أن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا وهم الأسوة فلم يعب واحد على مخالفه ، ولا وجد عليه في نفسه ، إلى الله الشكوى وهو المستعان على أمة نحن بين أظهرها تستحل الأعراض إذا خولفت في أمر يسوغ الخلاف يه.. قلت ما أجمل هذا الكلام الذي نختم به هذا المقام . وصلى اللهم على محمد وآله الكرام ، وأصحابه خير الأنام ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى دار السلام . آمين . آمين . آمين .
الهوامش :
1- رواه مـســلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2 - رواه الـبخــاري.
3 - رواه مـســلم وأحمـــد.
4 - رواه مـســلم
5 - السير (ج8/93).
6 – نفس المصدر.
7 – أنظر رفع الملام عن الأئمة الأعلام فإنه مفيد.لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-
8-وذكر بعض المالكية رواية سنية القبض في الفرض والنفل :أنها الأظهر ، لأن الناس كانوا يؤمرون به في الصدر الأول .والمشهور في كتب المتأخرين من المالكية : أن وضع اليدين تحت الصدر ، فوق السرة ، مندوب للمصلي المتنفل ، وكذا للمفترض ، إن قصد بالوضع الاتباع ، أو لم يقصد شيئا ، أما إن قصد الاعتماد والاتكاء على يديه بوضعهما كره له ذلك.
9 - الذخيرة (ج 2/229).
10 – أنظر الفتح (ج2/ 224)ونيل الأوطار (ج2/ 201).
11 – ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء (ج8 / 99).
12 – الفتح (ج2/ 262 /ح رقم 740 )وأحمد في السند (ج5/336 )ومالك في الموطأ وشرحه تنوير الحوالك (ج1/ 133).
13– الفتح (ج2 /263 ).
14- الفتح (ج2/262 ).
15-نفسص المصدر.
16 – صحيح مسلم (ج1/ 301 /ح 401 )ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي .
17 – موطأ مالك وشرحه تنوير الحوالك للسيوطي (ج1/ 133)عبد الكريم ضعيف متروك باتفاق أهل الحديث قاله ابن عبد البر في التمهيد ، وعنه الزرقاني في شرح الموطأ (ج1/320 )وأخرج البخاري الجملة الأولى منه (ك الأنبياء ،وك الأدب (ج7/ 100)كما رواها أو داود أنظر صحيح أبي داود للألباني (ح3012)وصحيح ابن ماجة (ح4183)والصحيحة (ح684)وصحيح الجامع (ح2226)، ورواه ابن حبان في صحيحه (ج3/13-14 ) مع الإحسان عن ابن عباس رضي الله عنهمابلفظ :<< إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر سحورنا ، ونعجل فطورنا ، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في الصلاة >>وراه الطبراني في الكبير بلفظ :<< ثلاث من أخلاق النبوة … وضع اليمين على الشمال في الصلاة >> كما في المجمع (ج2/105)وقال روي مرفوعا والموقوف صحيح والمرفوع في رجاله من لم أجد من ترجمه )). قلت: الموقوف كما هو ظاهر ، له حكم الرفع أيضا .
18 ـ فقد ورد تفسير هذه الآية عن علي ، فقد ذكر القرطبي في تفسيره (ج20/220) عن علي قال فيها : >> وضع اليمين على الشمال في الصلاة << أخرجه الدارقطني ،قال ابن كثير في تفسيره لا يصح ،وقد رأيت الشيخ ناصر في بعض كتبه أو سمعته في بعض فتاويه يصحح هذا الأثر عن علي . وقد ذكر ابن جرير الطبري ثلاثة أقوال في الآية وقال: أصحها أولها وهو أن النحر معناه ذبح المناسك ،وهذا ما رجحه ابن كثير أيضا (ج4/559).
19- أنظر الذخيرة (ج2/229).
20 – وقوله الأصل الإباحة بل يقال :الأصـل في الـعبـادة المـنـع والتوقف، ولم يأت دليـل يرفــع المـنـــع ويجيز مشروعية الــسـدل.
21 - قـلــت: إذا لا معنــى لمــن خــالف الـصحيــح الثابت عــن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن الـقــاســم عــن مـالك الإرســال وعـنــه التـفـرقــة بيــن الـفريــضة والـنـافـلـة قال: وقال مالك في وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة قال : لا أعرف ذلك في الفرضة ولكن في النوافل إذا طال القيام فلا بأس بذلك يعين به على نفسه
* - بل ثبت عنه النهي عن السدل.
* -هكذا وردت نصبا بالنون ، ولعل الصواب ذهبا بالذال المعجمة .
22- حسن صحيح ، صحيح الترمذي (ج1/80/ح252)وصحيح ابن ماجة(ح809)، وقال أبوعيسى الترمذي : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة .
23 - المثنوني والبتار لأبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق المغربي (ص16-17).
وكتب: محب العلم والإنصاف على طريقة صالح الأسلاف
أبو بكر يوسف لعويسي
جيجل: المرة الأولى / 1415هـ
والثانية على الحاسوب 29/ رمضان/1428 هـ منقول

 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top