مقدمة
قبل الخوض في غمار التأمين من المسؤولية للمهنيين، يحسن بنا بادئ ذي بدء أن نعرف التأمين أولا من كونه نظريو ونظام ذا أسس وقواعد تقودنا لتأثيرات اقتصادية واجتماعية مهمة تدخل في نسيج المجتمع الحي، يتفرع عنها غالبا عقد يبرزها وينظمها من خلال صبغة قانونية محددة.
فالتأمين كما عرفه الدكتور عبد الرزاق السهوري حيث يبرزه في ثوبه الحقيقي ويبين أنه ليس إلا تعاونا منظما ودقيقا يبين عدد كبير من الناس معرضين جميعا لخطر واحد حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة الى بعضهم، تعاون الجميع على مواجهته بتضحية قليلة يبذلها كل منهم يتلاقون بها أضرارا جسيمة تلحق بمن نزل الخطر به منهم لولا هذا التعاون.
وشركة التأمين ليس في الواقع من الأمر إلا الوسيط الذي ينظم هذا التعاون على أسس فنية صحيحة... فالتأمين إذا هو تعاون محمود، تعاون على البر والتقوى، يبر به المتعاونون بعضهم ويتقون به جميعا شر المخاطر التي تهددهم.
وبالنسبة للتأمين من المسؤولية فهو يهدف إلى تأمين المؤمن له من الرجوع عليه بالمسؤولية، فالضرر المؤمن منه هنا ليس ضررا يصيب المال كما في التأمين على الأشياء، بل هو ضرر ينجمع عن نشوء دين في ذمة المؤمن له بسبب تحقق مسؤوليته التقصيرية ولعل من أهم خصائص التأمين من المسؤولية أنه لا يقتصر على طرفين اثنين وهما المؤمن والمستأمن بل نراه يمتد الى شخص ثالث وهو الذي لحق به الضرر فالعلاقة قائمة بين المؤمن والمستأمن من جهة وبين المؤمن والمضرور من جهة أخرى.
و المسؤوليات التي إعتاد الإنسان أن يتعرض لها فيؤمن نفسه منها عديدة، فقد يؤمن نفسه من مسؤوليته عن حوادث سيارته وقد يؤمن نفسه من مسؤوليته عن الحريق أو عن إمتداده الى الأجزاء المجاورة وقد يؤمن نفسه من مسؤوليته عن نشاط أثناء المهنة كالتأمين على نشاط الأطباء والمحامين والذي هو موضوع دراستنا.
وعادة ما يكون محل التأمين من المسؤولية غير معين فهو تأمين من مسؤولية لم تحقق بعد، حتى يعرف مداها، ولذلك يعمد المؤمن له في أكثر الأحيان الى تعيين حد أقصى يطالب به المؤمن إذا تحققت مسؤوليته وفي أحيانا أخرى يعمد الى تأمين غير محدد يعوض بموجبه تعويض كاملا أي كان مدى مسؤوليته التي تحققت.
وقد جوبه التأمين من المؤولية في الماضي لإعتراضات مؤداها أن من شأن هذا التأمين أنه يغري على الإهمال والتقصير ما دام التأمين يخطي ذلك، كما أن من شأنه أن يساعد على إزدياد دعاوى المسؤولية إزديادا كبيرا، لا من حيث الإغراء على الإهمال والتقصير فحسب بل ايضا من حيث تشجيع المضرور على رفع دعوى المسؤولية منذ أن وجد أمام المؤسر الى جانب المسؤول المشكوك في يساره بالإضافة الى أن القضاء يميل غالبا الى الحكم بالتعويض للمضرور و السخاء عليه في ذلك مادامت شركات التأمين هي التي من هذا التعويض من خزانتها، بيد أن تلك الإعتراضات لم تلقي آذان صاغية عند أنصار التأمين التجاري ذلك أن المضرور يستطيع في رأيهم بفضل هذا التأمين أن يحصل على حقه كاملا.
وكان قبل ذلك يصعب عليه الحصول على حقه من المسؤول متعثرا بين مما طلته وإعساره ثم إن المؤول نفسه وجد في التأمين ملاذا يرفع عن كاهله عبئ المسؤولية التقيل، بل يقيه الإفلاس والخراب إذا ثقل هذا العبئ.
لذلك رجحت في التطبيق المعاصر كفة التأمين من المسؤولية الى حد أن جعله التشريع الوضعي في بعض أنواعه إجباريا كما هو في التأمين من حوادث السيارات.
وبالنسبة للتأمين في الجزائر يمكن تلخيصه في كلمة وهو ما يسمى بالتعريف الإجبارية، إذ أن نسبة التأمين الطاغية في الجزائر على مجمل التأمينات هو التأمين على حوادث السيارات والذي يقدر بـ 45% وبالنسبة لمؤسسات التأمين العامة تقدر نسبتها بــ 77% أما مؤسسات التأمين الخاصة فهي 23%.
وكما سبق وأشرنا أن الإنسان قد يؤمن نفسه عن مسؤوليته عن نشاط أثناء المهنة كالتأمين على نشاط الأطباء والتأمين على نشاط المحامين إذن ما مدى ومسؤولية الطبيب والمحامي أثناء تأديتهما لهاتين المهنتين وإلى مدى يستطعان التأمين منها؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه مقسمين في ذلك هذا الموضوع الى مايلي:
الفصل الأول: مسؤولية الطبيب المهنية والتأمين عنها
المبحث الأول: المسؤولية المدنية عن الأعمال الطبية في الفقه والقضاء
المبحث الثاني: مسؤولية الطبيب المهنية في القانون الفرنسي
المبحث الثالث: مسؤولية الطبيب العقدية عن فعل الغير
المبحث الرابع: مسؤولية الطبيب والصيدلي
المبحث الخامس: مسؤولية الطبيب الجزائية
الفصل الثاني: مسؤولية المحامي المهنية والتأمين عنها
المبحث الأول: المسؤولية المهنية للمحامي بين الشريعة والقوانين
المبحث الثاني: العنصر الأخلاقي في مسؤولية المحامي عن أخطائه المهنية
المبحث الثالث: مسؤولية المحامي المدنية والمهنية والجزائية
المبحث الرابع: مسؤولية المحامي المهنية والمدنية بين النظرية والتطبيق.