هو أحد ثلاثة يمثلون أهم شخصيات إنسانية فيما قبل الميلاد ، والآخران هما أفلاطون وأرسطو .
وُلد في أثينا ، وعَلّم فيها ما لم يرض مشاهيرَها ، فحُكم عليه بالإعدام .
اجتمع له ما لا يجتمع إلا " للرجال الممتازين : الإعجاب والعداوة " !!! . وقد كان أثره من الأهمية والقوة بمكان حتى أنه ، سقراط ، يقسم الفلسفة اليونانية قسمين : ما قبل سقراط وما بعد سقراط .
ولما كان سقراط غير مهتمٍ بالكتابة ( = التأليف ) ، فقد تضاربتْ الروايات ، واختلفت المدارس الآخذة عنه ، لكن بالإمكان استقاء تاريخه من ثلاثة مصادر : أرسطوفان وأفلاطون وأكسانوفون . ويرى البعض أن لا نأخذ برواية الأول لكونه شاعر هزل . وأما الثاني ، فيعده البعض غير قريب من سقراط بما يكفي لأن يكتب ، بدقة ، عنه ، ثم إنه نُفي خارج البلاد ثلاثين سنة قبيل محاكمة سقراط . ومن ثم لا يبقى أمامنا إلا أفلاطون .
كان أفلاطون التلميذ المقرّب لسقراط ، تعلم منه ، وأخذ عنه ، وشهد محاكمته ، وحفظ له ما لم يحفظه غيره .
اهتم سقراط بالحكمة ، حيث فهمها على أنها " كمال العلم لكمال العمل " ؛ فعن العلم ، أخذ سقراط بمناهج السوفسطائيين ، لكنه لم يأخذ بشكوكهم ، ودرس الطبيعيات والرياضيات ، ثم تركهما ، لأنه رأى أن العلم هو " العلم بالنفس " لأجل تقويمها ، فكان أن أعلن شعاره " اعرف نفسك " . وعن العمل ، كان الرجل يقوّم مِزاجه ... وكان سقراط حاد المزاج ، وكان يقوّم جسمه ... وكان ذا جسمٍ قوي ، وذلك حتى ينصاعا لأوامر العقل .
لم تكن لسقراط مدرسة بالمعنى الحرْفي للكلمة ، بل كان يجتمع بالناس أينما اتفق ، يجادل بالدليل العقلي ، ويخطب ، ويشرح بعض ما كان " مُسَلّماً به " عند قومه عامة والشباب خاصةً ... حيث كان يرى فيهم " مستقبل الدولة " ، فكان يكثر الجلوس إليهم ، والاستماع منهم ، والنصح لهم محاولاً إصلاح ما أفسده السوفسطائيون ، مبَصّراً إياهم بالحق والخير ليهيئ للبلد " مستقبلاً طيباً على أيديهم " .
كان سقراط يرى في نفسه أنه " حكيم " ، لكن ليس بما قد يُفهم من الكلمة ، بل هو حكيم بما " يعلمه من جهله " ، بينما غيره " جاهلٌ يدّعي العلم " ، فراح سقراط يؤدي مهمة التوعية ، باذلاً الجهد العقلي اللازم لذلك دون مقابل ، وقد تجاوز الأربعين ، وقد بذل لوطنه مثل ذلك أيام الشباب ؛ فكان قد خدم في جيش بلاده ، ضمن المشاة ، مشتركاً في حربين العام 429ق.م و العام 422ق.م .
شغل سقراط منصب العضو الدائم في مجلس الشيوخ العام 406ق.م ، فأبدى فكراً سياسياً واعياً ؛ فقد كان صاحب موقف مستقل بين الديمقراطيين والأرستقراطيين .
أسس سقراط منهجاً جديداً في " الفهم الفلسفي " ، أسماه " التهكم والتوليد " ؛ أما التهكم فلا ينصرف إلى معنى السخرية ، بل كان سقراط يقوم بتصنّع الجهل متظاهراً بالتسليم بأقوال محدثه ، ثم يلقي الأسئلة ويعرض الشكوك كمن يطلب العلم والاستفادة ، بحيث ينتقل من أقوال الخصوم إلى أقوال لازمة عنها ، ولكنهم لا يُسَلّمون بها ، فيكون بذلك قد أوقعهم في التناقض ، ما يعني أنهم " جهلاء " ، وبذا أصبح معنى التهكم " السؤال مع تصنّع الجهل " أو هو " تجاهُل العالِم " . وقد أراد سقراط من ورائه تخليص عقل خصمه من " العلم الزائف " ، وإعداده لقبول " العلم الحقيقي " . وأما التوليد فأن يساعد خصمه ، بالأسئلة والاعتراضات مرتبة ترتيباً منطقياً ، على الوصول إلى الحقيقة التي أقر أنه يجهلها ، وهذا يعني أن التوليد هو " استخراج الحق من النفس " .
وجّه سقراط اهتمامه الأكبر لـ " الإنسان " ، فآثر أن يحصر فلسفته في دائرة الأخلاق باعتبار أنها أهم ما يميز الإنسان ، ولذا جاء القول " إن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض " ، بمعنى أنه " حوّل النظر من الفَلك والعناصر إلى النفس " .
عاصر سقراط السوفسطائيين ، الذين كانوا يروْن أن الإنسان " شهوة وهوى ، وأن القوانين قد وضعها المشرّعون لقهر الطبيعة ، وأن هذه القوانين متغيرة بتغيّر العُرف والظروف ، فهي نسبية غير واجبة الاحترام لذاتها ، ومن حق الرجل القوي ، بالعصبية أو بالمال أو بالبأس أو بالدهاء أو بالجدل ، أن يستخف بها ". فكان أن أعلن أن الإنسان " روحٌ وعقل ، وهذا العقل له ان يسيطر على الحس ويدبره ، والقوانين العادلة صادرة عن العقل ومطابِقة للطبيعة الحقة ، وهي صورة من قوانين غير مكتوبة ، رسمها من أوجد الكون في قلوب البشر ، فمن يحترم القوانين العادلة يحترم العقل والنظام الإلهي ، ومن يحتلْ ليخالف هذه القوانين ، ولا يعاقب في هذه الدنيا ، فإنه مأخوذ بالقصاص العدل ، لا محالة ، في الحياة المقبلة " .
رفع سقراط شعار " الفضيلةُ علمٌ والرذيلةُ جهلٌ " . وكان يقصد أن الإنسان يريد الخير دائماً ، ويهرب من الشر بالضرورة ، فمن تبيّن ماهيته ، وعرف خيره بما هو إنسان ، سعى إليه ، الخيرَ ، حتماً ، أما الشهواني فهو رجلٌ جهلَ نفسه ، وجهل خيره ، ولا يعقل أنه يرتكب الشر عمداً .
غضب على سقراط ساسةٌ وخطباء وشعراء ، حيث أبان للعامة فراغ رؤوسهم من الفكر الجاد المثمر ، وأبان بطلان ما يدعونه من حكمة وعلم وخبرة ، فكان أن صوّره أرسطوفان في " السُحُب " رجلاً له نفوذ كبير على الشباب تحديداً ، وأنه يعيش مع تلاميذه ليعلمهم الكفر بالآلهة ، وتغليب الباطل على الحق . ثم طالب أرسطوفان بإحراق المدرسة التي ينتمي إليها سقراط ومريدوه ، وكذا ... " قتل سقراط نفسه " .
قدم عريضة الدعوى ضد سقراط ثلاثة رجال ... هم : أنيتوس ، أحد كبار رجال الإعمال . وملاتوس ، أحد شعراء المدينة غير المشهورين . وليقون ، أحد خطباء المدينة . وتضمنت الدعوى أن سقراط " ينكر آلهة المدينة ، ويفسد الشباب " ... حيث لم يكن سقراط يؤمن بتعدد الآلهة ، وكان يدعو الشباب إلى عدم التقليد ، وإلى ضرورة التفكير الحر غير المستند لا إلى نقل ولا إلى تقليد .
أبان كثير من الملابسات أن أسباب الاتهام شخصية وسياسية ؛ فقد كان سقراط ، علاوة على كشفه جهل كثير من الشعراء والخطباء ، صاحب موقف من الديمقراطية في ثلاثة أمور : المساواة المسرفة ، واعتمادها العدد ، والاتنخاب بالقرعة .
تألفت المحكمة من جمع من " النوتية والتجار ، المتأثرين بالنزعات الشعبية والتيارات الفجائية " !!! ، ودافع سقراط عن نفسه ، مبيناً أنه لا ينكر وجود مدبر للكون ، وأنه لا يدعو الشباب للعصيان ، بل للطاعة القائمة على الفكر الحر المستقل . ثم قال لأعضاء المحكمة " إنه يفوّض الأمر لهم ، لكنه يرفض أن يستعطفهم ، أو يتنزل إلى ما يتنزل إليه غيره من ضروب الاسترحام المألوفة في المحاكم الشعبية كالبكاء والاستبكاء " .
ولم يكن هذا السلوك المحترم ليعجب أعضاء المحكمة ، فأدانوا سقراط ، وحكموا عليه بالإعدام شرباً للسم ، فقال لهم : والآن فقد حان وقت الرحيل ، أنا إلى الموت وأنتم لتستأنفوا الحياة ، أينا مصيره أفضل ؟ العلم عند الله .
سهل بعض تلاميذ سقراط له الهرب ، وأمّنوا له حياة طيبة في مدينة تساليا ، وكان الفرار مستطاعاً ، وكذا كان العرف يعذر الفارَّ في مثل هذه الحال ، لكن سقراط رفض الهرب كما يفعل العبيد ، لما يمثله الهرب من " خروج على قوانين بلاده ، والقوانين سياج الدولة ، في ظلها ينشأ الأفراد ، فإن كان الأثينيون قد ظلموه ، فبأي حق يستهين هو بالقوانين ويظلمها ؟ ثم كيف يهرب وهو لم يغادر أثينا قط إلا للحرب من أجلها ؟ ، وحتى لو هرب فهل يكون الأجانب أوسع صدراً من مواطنيه ؟ " .
" جاء أحدهم بالسم ، مسحوقاً في كأس ، فتناولها سقراط بثبات ، ودعا الإله أن يوفقه في هذا الرحيل من العالم الفاني إلى العالم الباقي . شرب السم دفعةً واحدة دون تردد ولا اشمئزاز ، وأخذ يتمشى في الغرفة ، حتى أحس ثقلاً في قدميه ، فاستلقى على ظهره كوصية صاحب السم . وبدأت البرودة تنتشر في جسمه ، حتى بلغت القلب ، فرجف رجفة ، ثم أطبق أقريطون فم سقراط وعينيه " .