الله يحدث عباده عن نفسه

الموضع القرآني 20

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض




أولًا: تقديم


حَمِدَ ربُّنا- تبارك وتعالى- نفسه على خلقه السموات والأرض، وجعله الظلمات والنور، وذمَّ الكفَّار الذين عدلوا آلهتهم بالله ربِّ العالمين، ومعنى يعدلون، أي: يُسوُّون.




وعرَّفنا ربُّنا بالأصل الأوَّل الذي خلقنا سبحانه وتعالى منه، فقد خلقنا بخلق أبينا آدم عليه السَّلام من طين، وأخبرنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنه جعل لنا أجلاً تنتهي حياتنا بانقضائه، وجعل لنا أجلاً آخر ينتهي فيه بقاؤنا في الأرض التي سيغيبنا فيها، ونقوم بعد الأجل الثاني المسمّى عند الله لله ربِّ العالمين، وأخبرنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- في آيات هذا النصِّ أنَّه المعبودُ الحقُّ لأهل السموات وأهل الأرض، وأعلمنا أنَّه يعلم بأسرارنا التي نخفيها، وأعمالنا التي نبديها، ويعلم كلَّ ما نقوم به.


ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة الأنعام


{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجلَّا وَأَجلَّ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 1- 3].


ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات في هذا الموضع


جعل الظلمات والنور: ظلمات الليل ونور النهار.
يعدلون: أي يسوُّون آلهتهم الباطلة المفتراة بالله ربِّ العالمين.
من طين: خلقنا من طينٍ بخلق أبينا آدم عليه السَّلام.
قضى أجلاً وأجلٌ مسمَّى عنده: الأجل ُالأولُ يتحقق بموت الواحد منَّا في هذه الحياة الدنيا، والأجل الثاني يتحقق عندما يبعثنا الله تعالى يوم القيامة.
تمترون: تشكّون.
تكسبون، أي: ما تعملون من خير أو شرٍّ.




رابعًا: شرح آيات هذا الموضع من سورة الأنعام


عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- في هذه الآيات البينات بنفسه عبر ثلاث نقاط:




1- الحمد لله خالق السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور:


حمد العليُّ الأعلى- تبارك وتعالى- نفسه على خلقه السموات والأرض، وجعله الظلمات والنور، والسموات والأرض مخلوقان عظيمان، والأرض موطننا الذي نعيش فيه، وقد جعل الله تعالى فيها الآيات البينات والحجج الظاهرات، ففيها الجبال والسهول والأنهار والبحار، وجعل الله فيها الحيوان والطيور والنبات، والسماء مخلوقٌ أعظم من الأرض، ونحن نشاهد شمسها وقمرها ونجومها، وحدَّثنا ربُّنا أنها سبعٌ، وهي مسكن الملائكة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].


وذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بالظلمات ظلمات الليل، والمراد بالنور نور النهار.


وقد ذمَّ الله تبارك وتعالى في خاتمة الآية الأولى الكفار بكونهم يعدلون أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم بالله ربِّ العالمين، {الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}. وهؤلاء الكفرة ضالُّون جاهلون إذ يسوُّون آلهتهم المخلوقة المربوبة الآفلة الضعيفة بالله ربِّ العالمين الذي خلق السموات والأرضين، وجعل الظلمات والنور، ومعنى {يَعْدِلُونَ} أي: يسوُّون آلهتهم بالله تعالى.


وقد نبهنا الإمام مجاهدٌ رحمه الله تعالى إلى أنَّ الآية الأولى من سورة الأنعام تردٌّ على ثلاثة أديانٍ، فقد أخرج أبو الشيخ من طرق عن مجاهد، قال: «في هذه الآية ردٌّ على ثلاثة أديان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فيها ردٌّ على الدهرية، {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} ردٌّ على المجوس الذين زعموا أنَّ النور والظلمة هما المدبِّران {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فيه ردٌّ على مشركي العرب ومن دعا من دون الله إلهًا» [الإكليل، للسيوطي: ص 117].


2- خلقنا ربُّنا تبارك وتعالى من طين:


بعد أن أخبرنا تبارك وتعالى بأنَّه وحده الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، أتبع ذلك بإخبارنا بالأصل الذي منه خلقنا، فالله خلقنا بخلق أبينا آدم عليه السَّلام من طينٍ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2].


وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عنه أبو موسى الأشعريُّ قال: «إنَّ الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسَّهل، والحزن، والخبيث، والطيب» [صحيح سنن الترمذي: 2355. وأخرجه الألباني في المشكاة: 100، وسلسلة الصحيحة: 1630].


وإذا علمنا أنَّ الله خلقنا من طينٍ، فإنَّه يجب علينا أن نعبد الله ونوحده ونثني عليه، ونمجِّده سبحانه على ما أنعم به علينا في خلقه السموات والأرض، وخلقنا من طينٍ، وقوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجلَّا وَأَجلَّ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] فالأجلُ الأول يتحقق بموت الواحد منا في الحياة الدنيا، أو يكون بموت الجميع عندما تقوم السَّاعة، والأجلُ الثاني يتحقق بالبعث والنشور، وقيام النَّاس لله ربِّ العالمين.


وقوله: {وَأَجلَّ مُسَمًّى عِنْدَهُ} أي: مخفيٌّ عنده، لا يطلع عليه نبيًا مرسلًا، ولا ملكاً مُقرَّباً، فإنَّ الله تعالى قال في السَّاعة: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجلَّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] وقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النازعات: 42- 44].
وقوله سبحانه: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام: 2] أي: تشُكُّون: وفي هذا توبيخٌ للكفرة الذين يشكٌّون فيما أخبرنا به العليم الحكيم من وقوع الساعة، وأنَّ ذلك حتم لازم لا شكَّ فيه.


3- الله- تعالى- هو المعبود الواحد في السموات والأرض:


عرَّفنا ربُّنا- سبحانه وتعالى- أنه هو المعبود وحده في السموات وفي الأرض {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] أي: هو معبود أهل السماء ومعبود أهل الأرض، وهذه الآية كقولة تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] وهو كقولنا: كان عمر بن عبد العزيز حاكم بلاد الشام، وحاكم الجزيرة العربية، وحاكم مصر، وحاكم العراق.


ومع أنَّ الله سبحانه هو معبود أهل السماء ومعبود أهل الأرض، فهو يعلم سرَّنا وجهرنا، لا يخفى عليه خافيةٌ من أمرنا، ويعلم سعينا وكسبنا {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3]، وإذا أيقنَّا أن الله يعلم سرَّنا وجهرنا، ويعلم كسبنا راقبناه، وأطعناه، بفعل ما أمرنا به، وترك ما نهانا عنه.


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- بنفسه

عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- بنفسه في هذه الآية وفق ما يأتي:


1- الله وحده خالق السموات والأرض، لم يشركه في ذلك أحدٌ سبحانه، وهو الذي جعل لنا الظلمات والنور.
2- هو الذي خلقنا من طينٍ، وذلك بخلقه أبينا آدم من طين.


3- جعل الله تعالى لنا فوق ظهر هذه الأرض أجلاً، ثم نموت، وجعل لنا أجلاً في باطن الأرض بعد موتنا، ثمَّ نبعث.
4- الله تعالى هو المعبود الواحد في السموات وفي الأرض، ليس للعباد معبودٌ سواه سبحانه، وكل ما يعبد غيره فهو باطلٌ لا يستحقُّ أن يعبد.


5- الله- تعالى- يعلم سرَّنا وجهرنا، ويعلم كلَّ ما نكسبه من خيرٍ وشرٍّ.


* * *
 
الموضع القرآني 21

الله تعالى له ما سكن في الليل والنهار





أولًا: تقديم


عرَّفنا العليُّ العظيم- سبحانه وتعالى- في هذه الآيات بنفسه، فهو المالك للسموات والأرض، ورحمته سبقت غضبه، وسيجمع العباد في يوم الدين، وله- سبحانه- ما سكن في الليل والنهار، وهو فاطر السموات والأرض، أي: خالقهما على غير مثالٍ سابقٍ، وهو الذي يُطعِم ولا يُطعَم، وهو-سبحانه- الضارُّ النافع، وهو القاهر فوق عباده.




ثانيًا: آيات هذا النص من سورة الأنعام


{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 12- 14].




ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع من الآيات


كتب على نفسه الرحمة، أي: أوجبها على نفسه.
وله ما سكن في الليل والنهار: السكون ثبوت الشيء واستقراره بعد تحركه.
فاطر السموات والأرض: خالقهما ومبدعهما على غير مثالٍ سابقٍ.






رابعًا: شرح آيات هذا الموضع


عرَّف الله تعالى عباده بنفسه في هذه الآيات الكريمات عبر النقاط التالية:




1- الله- تعالى- له ما في السموات والأرض:




أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوجِّه السؤال إلى المشركين الذين يعبدون الأوثان والأصنام قائلًا لهم: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 12] ثم أجاب سبحانه نفسَه بنفسِه قائلًا: {قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام: 12].


والعرب الذين كانوا يعبدون الأوثان كانوا يقرون بأنَّ الله تعالى هو وحده الخالق للسموات والأرض دون غيره، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84- 89] والكفار عندما يقرُّون بأن الله هو الخالق للسموات والأرض ومالكهما يتناقضون عندما يعبدون غيره، ولا يفردونه بالعبادة.


2- الله- تعالى- كتب على نفسِهِ الرحمة:




أخبرنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنه كتب على نفسه الرحمة، فقال: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12] أي: أوجب وفرض على نفسِهِ- سبحانه- الرحمة، روي أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمَّا قضى الله الخلق كتب كتابه، فهو عنده فوق العرش: إنَّ رحمتي غلبت غضبي» [البخاري: 3194. ومسلم: 2751]. وعن أبي هريرة أيضًا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزءٍ، فأمسك عند تسعةً وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءاً واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها، خشية أن تصيبه» [البخاري: 6000. ومسلم: 2752].




3- سيجمع الله- تعالى- عباده يوم القيامة:




أقسم ربُّ العزَّة- تبارك وتعالى- بنفسه الكريمة أنَّه سيجمع عباده يوم القيامة، لا يتخلَّف منهم أحد، ولا يُفلت منهم أحد {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنعام: 12] وهذا اليوم أمرٌ مستيقنٌ لا ريب فيه، ولا شكَّ فيه، والمؤمنون يصدِّقون بذلك من غير شكٍّ، ولذلك فإنَّ رب العزَّة قال: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام: 12] أما الذين يخسرون أنفسهم في ذلك اليوم بإدخال الله لهم النار فهؤلاء لا يؤمنون {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 12] وهذا الخسران هو الخسران الأعظم.




4- الله- تعالى- له ما سكن في الليل والنهار:




أخبرنا ربُّنا- سبحانه وتعالى- أنَّ {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَار} [الأنعام: 13]. أي: ما استقرَّ في الليل والنهار، وأصل السكون: ثبوت الشيء بعد تحركه.


وختم سبحانه وتعالى الآية بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 13] فالله- تبارك وتعالى- سميعٌ لأقوال عباده، لا يخفى عليه منها خافيةٌ، وعليم بأعمالهم وحركاتهم وما انطوت عليه قلوبهم.




5- الله – تعالى- وحده المعبود الذي يستحق العبادة:


أمر ربُّ العزَّة- تبارك وتعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوجِّه للمشركين سؤال إنكار، فيقول لهم: أغير الله أتخذ إلهًا ومعبودًا، وهو فاطر السموات والأرض، أي: خالقهما على غير مثالٍ سابقٍ، وهو سبحانه الذي يُطعِم ولا يُطعَم،{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14].




والمراد بقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} أي: هو الذي يرزق عباده، ولا يحتاج إلى من يرزقه ويطعمه، وهذه الآية كقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56- 57] وقوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى} [الحج: 37] وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يثني على ربه تعالى بأنه يُطعِم ولا يُطعَم ، فعن أبي هريرة قال: دعا رجلَّ من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم قال: فانطلقنا معه، فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه: قال: «الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم ، ومن علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكلَّ بلاءٍ حسن أبلانا، الحمد لله غير مودَّعٍ ربي ولا مكافأٍ ولا مكفورٍ ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعمنا من الطَّعام، وسقانا من الشَّراب، وكسانا من العري، وهدانا من الضَّلال، وبصَّرنا من العمى، وفضَّلنا على كثير ممن خلق تفضيلًا، الحمد لله رب العالمين» [قال فيه محقق ابن كثير (1013): صحيح، أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 315)، وابن أبي الدنيا في الشكر (ص: 15) وابن السني (ص: 485) وصححه ابن حبان: (5219). والحاكم: 1/ 546. على شرط مسلمٍ، ووافقه الذهبي].




والمعنى المراد بـ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أنه سبحانه خالقهما ومبدعهما، روى ابن جرير عن مجاهد، قال: سمعت ابن عباس يقول: «كنت ما أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها» [جامع البيان: 4/ 4143].




خامساً: كيف عرَّفنا رب العزَّة تبارك وتعالى بنفسه


عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- في هذه الآيات أنَّه سبحانه وتعالى:
1- له السماوات والأرض وما فيهما، لا يشركه في ذلك أحدٌ.
2- كتب على نفسه الرحمة، أي: أوجبها وفرضها، والله- تعالى- لا يجب عليه إلاَّ ما أوجبه على نفسه.
3- سيجمع الله عباده يوم الدين جميعًا، لا ينسى أحدًا، ولا يتخلف أحدٌ.
4- له ما سكن في الليل والنهار، فهناك من المخلوقات ما يسكن في الليل كالإنسان. وكثير من الحيوانات والطيور، وبعضها يكون سكونه في النهار.
5- الله تعالى وليُّ عباده، يتولى أمرهم، ويرعى شأنهم، ويرزقهم.
6- الله تعالى خالق السموات والأرض، وما فيهما وما بينهما.
7- الله تعالى هو الذي يطعم عباده وما خلقه من حيوانٍ وطيورٍ، وهو غنيُّ عن عباده، فليس بحاجةٍ إلى من يطعمه.




* * *[FONT=&quot][/FONT]​
[FONT=&quot]
[/FONT]
 
الموضع القرآني 22

الله الذي يتوفانا بالليل ويعلم ما جرحنا بالنهار





أولًا: تقديم


بيَّن الله تعالى لنا في آيات هذا النصِّ ما اختصِّ به نفسه، فعنده مفاتح الغيب لا يعلمها غيره، وهو العالم في البرِّ والبحر، وهو الذي يتوفانا بالليل ويعلم ما جرحنا بالنار، وهو القاهر فوقنا، ويرسل علينا من الملائكة من يحفظنا، ويحفظ أعمالنا، وغير ذلك مما سيأتي بيانه.




ثانياً: آيات هذا الموضع من سورة الأنعام


{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجلَّ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجلَّكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 59- 65].






ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع من الآيات


مفاتيح الغيب: جمع مفتح، وهو ال***** أو مخازن الغيب.
يتوفاكم بالليل، أي: بالنوم.
ويعلم ما جرحتم: ما جرحتم، أي: ما كسبتموه بجوارحكم من خير وشرٍّ.
القاهر فوق عباده: الغالب لخلقه الذي يقهرهم بقوته وجبروته.
حفظةً: الملائكة الذين يرسلهم الله علينا يحفظون أعمالنا.
توفته رسلنا، أي: قبضت روحه ملائكة الموت.
تضرعاً، أي: مظهرًا الضراعة، وهي الفقر والحاجة.
كرب: الكرب الآفة والمصاب.
أو يلبسكم شيعاً، أي: يبث فيكم الأهواء المختلفة.




رابعًا: شرح آيات هذا الموضع


عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- بنفسه في آيات هذا النص عبر النقاط التالية:




1- سعة علم الله تعالى وما اختصَّ الله بعلمه سبحانه:




عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى ما اختصَّ بعمله دون سائر خلقه، فقال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59].


ومفاتح الغيب خمسةٌ تضمَّنتها آية سورة لقمان، ففي الحديث عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمسٌ، ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]» [البخاري: 4778]. وسيأتي بيانها بحول الله وقوَّته في سورة لقمان.


والمفاتح: جمع مفتح، وهو ال*****، أو مخازن الغيب. والله سبحانه علمه واسعٌ لا يخفى عليه شيءٌ {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 59] أي: علمه محيطٌ بجميع الكائنات برِّيِّها وبحريِّها.


فلا يخفى عليه الذَّرُّ إما



تَراءَى للنَّواظِرِ أو تَوَارَى


وأعلمنا ربُّنا بأنَّه لا يخفى عليه شيءٌ، ولا يغيب عنه شيءٌ فقال: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] أي ما تسقط من ورقةٍ في الصحاري والبراري والأمصار والقرى إلا ويعلمها الله، وانظر إلى الأرض كم فيها من أشجارٍ، وكم على كلِّ شجرةٍ من أوراقٍ، وما من ورقةٍ في البراري والقفار، والحقول والحدائق والجبال تسقط إلا وعلم الله تعالى محيطٌ بها، وما ممن حبَّةٍ تندثر في تراب الأرض فتنبتُ، أو نبتةٌ تصفرُّ وتذوي وتموت إلا وعلم الله محيطٌ بها، وكلُّ ذلك مدوَّنٌ في كتابٍ مبينٍ، وهو اللوح المحفوظ.




2- الله تعالى يتوفانا بالليل ويعلم ما جرحنا في النهار:


أخبرنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنَّه يتوفانا بالليل، ويعلم ما جرحنا بالنَّهار، قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار} [الأنعام: 60] وتوفِّيه لنا في الليل، أي: بالنوم، لأنَّه يقبض سبحانه أرواحنا عن التصرف بالنوم، وهذا التوفي هو التوفي الأصغر، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجلَّ مُسَمًّى} [الزمر: 42].


وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار} أي: ما كسبتموه بجوارحكم من الخير والشر. وقوله تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي: يوقظكم في النهار من منامكم. وقوله: {لِيُقْضَى أَجلَّ مُسَمًّى} أي: ليقضي الله الأجل الذي سمَّاه لحياتكم، وذلك بالموت. وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي: إلى الله مصيركم ومعادكم، {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: يخبركم في يوم الدين بما عملتموه في الحياة الدنيا، ثم يحاسبكم، ويجزيكم عمَّا عملتموه.


وهذا الذي تضمنته الآية وإن كان خبرًا من الله عن قدرته وعلمه إلا أنَّ فيه احتجاجًا على المشركين الذين كانوا ينكروه قدرته على إحيائهم بعد مماتهم وبعثهم بعد فنائهم، فالذي يقبض أرواحهم بالليل، ويبعثهم في النار، ليبلغوا أجلاً مسمَّى، قادرٌ على إحيائهم بعد الموت [الطبري: 4/ 3202].


3- الله هو القاهر فوق عباده:




أعلمنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنَّه القاهر فوق عباده {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] أي: هو الغالب خلقه، العالي عليهم بذاته وقدرته، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61]. والحفظة الذين يرسلهم الله علينا الملائكة الذين يحفظون أجسادنا وأعمالنا، قال السُّدي في الحفظة: «هي المعقِّبات من الملائكة، يحفظونه، ويحفظون عمله» [الطبري: 4/ 3204].




وقد ذكر الله تعالى الملائكة الذين يحفظون العباد في قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]. وفي قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10- 11] وفي قوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17- 18].




«وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [الأنعام: 61] أي: إذا احتضر وَحانَ أجلُهُ {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي: ملائكةٌ موكلون بذلك، قال ابن عباس وغير واحدٍ: لملك الموت أعوانٌ من الملائكة، يخرجون الروح من الجسد، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} أي: في حفظ روح الموتى، بل يحفظونها، وينزلونها حيث شاء الله- عزَّ وجلَّ- إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجَّار ففي سجِّين عياذًا بالله من ذلك» [ابن كثير: 3/ 29].




وقوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]. أي: ردَّ الله الخلائق من الملائكة والجنِّ والإنس بالموت إليه، فالله مولاهم الذي يملكهم ويتولى أمورهم سبحانه، وهو أسرع الحاسبين، فيحكم فيهم- سبحانه- بعدله.




4- الله- تعالى- الذي ينجي عباده من ظلمات البر والبحر:




أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين سائلًا إياهم عن الذي ينجيهم من ظلمات البرِّ والبحر إذا أحاطت بهم {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 63].




والمراد بالظلمات في الآية الشدائد والأهوال والكربات التي تحيق بالإنسان في البرِّ والبحر، والعرب تقول: عامٌ أسود، ويومٌ مظلمٌ، وقد اعتاد الإنسان حتى لو كان مشركًا إذا أحاطت به ظلمات البرِّ والبحر أن يدعو ربَّه تضرُّعًا وخفية، أي: يدعوه مظهرًا الضَّراعة، وهي شدَّة الفقر والحاجة إلى ربِّه، ويدعوه خفيةً، أي: سرّاً، وأعلمنا ربُّنا أنَّه يقول في مناجاته ربَّه {لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.




والإنسان عندما تحيط به المصائب العظام والكوارث التي لا يستطيع لها دفعًا يتوجَّه إلى ربه مخلصًا له الدين، لأنَّه في حالة الاضطرار يعلم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، وأنَّه لا ينجيه مما حلَّ به إلا الحيُّ القيوم، {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: 22- 23].




وقد تحدَّث بعض ركَّاب الطائرات عن حال الركاب عندما وقع خللٌ في طائرتهم، وهي تطير بهم في الفضاء، وتكاد تسقط بهم، وبيَّن كيف تضرَّعوا إلى ربِّهم مخلصين له الدين، لا فرق بين الفاسق والعالم بالله.




وأخبرنا ربُّنا- سبحانه- أنه وحده القادر على إنجاء عباده من الكوارث والكروب التي تحيط بهم، ولكنَّ هؤلاء بعد أن ينجيهم ربُّهم مما أصابهم يعودون إلى شركهم وكفرهم {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 64].






5- الله تعالى قادر على أن يأخذ عباده بعذابٍ يحيط بهم:




أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخوِّف الناس عذابه وانتقامه {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجلَّكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].




والعذاب الذي تهدَّد الله به عباده قد يكون آتيًا من فوقهم كعذاب قوم لوط، وعذاب أصحاب الفيل، وقد يكون بالصيحة أو الغرق أو الريح أو الحجارة، وقد يكون من تحتهم كالخسف والزلازل، وقد يكون بتسليط بعضهم على بعضٍ.




قال الربيع بن أنسٍ: «{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} يعني: يبث فيكم الأهواء المختلفة، فتصيرون فرقاً، يقاتل بعضكم بعضاً، ويخالف بعضكم بعضاً» [التفسير البسيط: 8/ 204].




ومن يقرأ التاريخ بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم يجد سجلاً حافلاً بما أصاب البشرية من خسفٍ وزلازل وبراكين وصواعق، وما ثار بين الناس من حروبٍ ذاق فيها بعضهم بأس بعضٍ، وقد وقع في هذه الأيام التي أكتب فيها تفسير هذه الآية [يوم الجمعة، الثامن من ربيع الأول عام 1432هـ الذي يوافقه الحادي عشر من شباط (مارس) 2011] زلزالٌ عظيم في اليابان، لم تصب بمثله تلك الديار منذ مائة وخمسين عاماً، وقد امتدَّت آثاره إلى دول كثيرة مجاورةٍ، وارتفعت أمواج البحر في بعض مدن اليابان إلى عشرة أمتار، ودخلت مياه البحر إلى العمران، وسقط ألوف القتلى، وانهارت العمارات، وخربت الأسواق، وثارت الحرائق، وأصبحت بعض المحطات الكهربائية النووية في خطر.




وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته أن لا يصيبها بالعذاب، فأعطاه اثنتين، ومنعه واحدة، ففي صحيح مسلم عن عامر بن سعد، عن أبيه، أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يومٍ من العالية، حتى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلَّينا معه، ودعا ربَّه طويلًا، ثم انصرف إلينا، فقال: «سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدةً، سألت ربِّي أن لا يهلك أمَّتي بالسَّنة، فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمَّتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها» [مسلم: 2890].




والذي أعطاه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يهلك أمَّته بعذاب عامٍّ أو بغرقٍ عامٍّ، أما أن يعذب طائفةً منهم بالعذاب، أو يهلك بعضهم بالغرق، فهذا قد وقع، ولا يزال مستمراً.




وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمَّتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنِّي سألت ربِّي لأمَّتي أن لا يهلكها بسنةٍ عامَّةٍ، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإنَّ ربِّي قال: يا محمد! إنِّي إذا قضيت قضاءً فإنَّه لا يردُّ، وإنِّي أعطيتك لأمَّتك أن لا أهلكهم بسنةٍ عامَّةٍ، وأن لا أسلِّط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها- أو قال: من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا» [مسلم: 2889].




وعن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] قال النبي صلى الله عليه وسلم «أعوذ بوجهك». فقال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجلَّكُمْ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك» قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا أيسر» [البخاري: 7406. وانظر الحديث رقم 4628].




وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65]، أي: كيف نبيِّن لهم آيات القرآن، {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} أي: يعلمون.






خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- بنفسه في هذه الآيات




عرَّفنا ربُّ العزَّة سبحانه وتعالى بنفسه في آيات هذا الموضع بما يأتي:
1- الله- تعالى- عنده مفاتح الغيب، وهي مفاتيحه وخزائنه، وقد بيَّن ربُّنا في سورة لقمان أنَّ مفاتح الغيب خمسٌ.




2- الله- تعالى- يعلم ما في البحر، وما في البحر من الأسماك والحيتان كثير، وكذلك ما في البرِّ من بني الإنسان والحيوان والطيور والنبات والأشجار لا يحصيه إلا الله، وعلم الله محيط به، لا يغيب عنه منه شيءٌ.




3- علم الله محيطٌ بالكبير والصغير، فكما علمه محيط بالأرض والسموات، فهو محيطٌ بأوراق الأشجار، ومحيطٌ بالحبِّ والنوى، فما تسقط من ورقةٍ من شجرة إلا يعلمها، ولا تسقط حبَّةٌ في ظلمات الأرض، ولا تنبت حبَّة، أو تذوي نبتةٌ إلا يعلمها، بل كتبها عنده في اللوح المحفوظ.






4- الله- تبارك وتعالى- الذي يتوفى أرواحنا بالليل، ويعلم ما اكتسبناه بجوارحنا بالنهار، وبعد انقضاء الليل يبعثنا في النهار، فنقوم فيه لأعمالنا , وتمضي أيام عمرنا، حتى ينقضي الأجل الذي حدَّده الله لنا في هذه الحياة، فيقبض أرواحنا ونعود إليه سبحانه.




5- الله- تبارك وتعالى- القاهر فوق عباده، فهو قهرهم بقدرته، وقهرهم عزَّةً وحكمًا، وهو سبحانه فوق عباده، مستو على عرشه، بائنٌ من خلقه، وعرشه سقف مخلوقاته.






6- الله- تعالى- يرسل علينا حفظةً من الملائكة يحفظوننا من أمر الله، ويرسل علينا حفظةً آخرين يدونون علينا أعمالنا وأقوالنا.






7- إذا جاء الموعد الذي حدَّده ربُّ العزَّة سبحانه لحياتنا، أرسل الله ملائكته المختصون بالموت، فقبضت أرواحنا.




8- الله- سبحانه وتعالى- هو الذي ينجينا من شدائد البرِّ والبحر.




9- الله- تبارك وتعالى- قادرٌ على أن يبعث علينا عذابًا من فوقنا، أو من تحت أرجلنا، أو يلبسنا شيعًا، ويذيق بعضنا بأس بعض.




***
 
الموضوع القرآني 23

إن الله فالق الحب والنوى






أولًا: تقديم



هذه الآيات الكريمات من سورة الأنعام ثاني مقطعٍ يواجهنا في الآيات التي يعرفنا الله – تبارك وتعالى – عن نفسه، ويسوق لنا ربنا – تبارك وتعالى – مشاهد كثيرة تعرفنا به، وتدلُّنا عليه، فهو خالق السموات والأرض، وهو الذي له الملك يوم القيامة وهو فالق الحبِّ والنوى، وهو الذي يخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميت من الحي، وهو فالق الإصباح، وهو الذي جعل لنا الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا، وهو الذي جعل لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمات البرِّ والبحر إلى غير ذلك مما حدثنا الله به في هذا المقطع الطويل من الآيات.






ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة الأنعام



{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ *وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ *فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ *فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْم إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ *وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ *وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ *وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ *إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ *فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعزَّيزِ الْعَلِيمِ *وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأنعام: 73 - 99 ].




ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات



الحقُّ: ضد الباطل, وخلق السموات والأرض بالحقِّ, خلقهما لمقصد صحيح, فقد خلقهما ربُّ العزَّة ليعبد.


الصور: بوق عظيم, ينفخ فيه إسرافيل عليه السَّلام, فتقوم الساعة, ثمَّ ينفخ فيه أخرى, فيقوم الناس لربِّ العالمين.


فالق الحبِّ والنوى, أي: شاقُّهما بالإنبات.
مخرج الحيَّ من الميت ومخرج الميت من الحيِّ: يخرج النبتة الحيَّة من الحبَّة الميتة, ويخرج الحبَّة الميتة من النبتة الحيَّة.
أنَّى تؤفكون, أي: كيف تصرفون عن الحقِّ.
فالق الإصباح: فالق ظلام الليل عن غُرة الصبح.
جعل الليل سكناً, أي: جعله ليسكن فيه للراحة.
والشمس والقمر حسباناً, أي: يجريان بحسابٍ مقدَّرٍ مُقنَّن.
فمستقرٌّ ومستودع: المستقرٌّ: الأرحام, والمستودع: أصلاب الرجال.
خضرًا : الخضرة التي تكون بالنبات.
متراكبًا, أي: بعضه فوق بعض.
طلعها: الطلع أول ما يرى من عِذق النخلة.
قنوانٌ دانيةٌ: قطوف قريبة.




رابعًا: شرح آيات هذا الموضع

هذه الآيات الكريمات تعرفنا بربِّنا- تبارك وتعالى- على النحو التالي:


1- الله تعالى هو خالق السموات والأرض:


الله وحده الذي خلق السموات والأرض, لا يشركه في ذلك أحد, وهما من أعظم المخلوقات, وفيهما ما لا يحصى من الآيات, وكان أهل الجاهلية يقرِّون بتفرد الله بخلق السموات والأرض وحده, ولا يجادلون في ذلك, {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض}.


2- يوم يقول كن فيكون:


في يوم القامة يقول ربُّ العزَّة: {كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقّ} أي: يقول ليوم البعث والنشور: {كُنْ فَيَكُونُ} أي: يكون كما يريده الله و{قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْك} أي: قوله تبارك وتعالى الحق الذي لا باطل فيه, وله الملك الذي لا نقص فيه, وفي ذلك اليوم {يُنْفَخُ فِي الصُّور} البوق العظيم الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السَّلام, فتقوم الساعة, ثم ينفخ فيه مرَّة أخرى, فإذا هم قيام ينظرون.




3- عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير:


عرَّفنا ربنا في خاتمة هذه الآية الكريمة بثلاث من صفاته الكريمة, فقال:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير} فهو سبحانه وتعالى عالم الغيب, وهو ما غاب عنَّا من أمره تعالى وأمر هذا الكون, وأمر ما فيه من مخلوقات, وعالم ما نشاهده من هذه الحياة, وهو الحكيم سبحانه في تشريعه, والحكيم في أفعاله, وهو سبحانه الخبير بكلِّ شيءٍ, لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.




4- الله- سبحانه- فالق الحبِّ والنوى:


أخبرنا الله- تعالى- عن نفسه أنَّه{فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون} ]الأنعام: 95[ أعلمنا- عزَّ وجلَّ- أنَّه يفلق حبَّ القمح والشعير والذرة ونحوها, ويفلق نوى التَّمر والخوخ والدراق ونحوها عندما تندثر في التراب, وينزل عليها الماء, فيخرج من الحبوب النبات, ومن النَّوى الأشجار, وقد فسَّر الله تعالى فلقه للحبِّ والنَّوى بقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} فمن الحبِّ والنوى الميت تخرج النَّبتة الحيَّة والشجرة الحيَّة, ومن النَّبتة الحيَّة, والشجرة الحية تخرج الحبوب والثمار الصلدة القاسية, {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} هذا هو ربُّنا- تبارك وتعالى- الذي يستحقُّ أن يعبد دون غيره, فكيف تصرفون عن الحقِّ بعد هذا البيان.


وفي هذا الذي أخبرنا به سبحانه- عن نفسه في هذه الآية حجَّة على المكذبين بالبعث والنشور, فالقادر على أن يفعل هذا بالنبات, قادرٌ على إحياء الناس بعد موتهم.




5- الله سبحانه فالقُ الإصباح:


عرَّفنا ربُّنا عزَّ وجلَّ على ثلاثة من أفعاله تدلُّنا عليه سبحانه {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانً} ]الأنعام: 96[.


أخبرنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أنه: «يفلق ظلام الليل عن غرَّة الصباح, فيضيء الوجود, ويستنير الأفق, ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه, ويجيء النهار بضيائه وإشراقه» ]ابن كثير: 3/ 61[.


وقد بيَّن سيد قطب رحمه الله تعالى العلاقة بين فلق الله الإصباح وفلقه الحبَّ والنوى, فقال: «وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبّة والنواة, وانبثاق النُّور في تلك الحركة, كانبثاق البرعم في هذه الحركة, وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركةٌ, ملحوظةٌ في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك.


وبين انفلاق الحبِّ والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلةٌ أخرى, إنَّ الإصباح والإمساء, والحركة والسكون في هذا الكون أو في هذه الأرض ذات علاقةٍ مباشرة بالنبات والحياة» ]في ظلال القرآن: 2/1157[.


وقوله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} أي جعل الله الليل الذي يغشى الأرض بظلامه ليسكن فيه الناس سكون راحةٍ, كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} ]يونس: 67[.


وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} أي: يجريان بحساب مقدَّرٍ مقنَّنٍ, لا يتغيَّر, ولا يضطرب, بل كلُّ منهما له منازل يسلكها في الصيف والشتاء, فيترتَّب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ]يس: 40[ والحسبان جمع حسابٍ, مثل ركبانٍ وركاب, وشهبان وشهاب, وقوله عزَّ وجلَّ {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعزَّيزِ الْعَلِيمِ} ]الأنعام: 96[ أي: هذا الذي ذكره سبحانه من فلقه الإصباح, وجعله الليل سكناً, وجعله الشمس والقمر حسباناً هو تقدير الله سبحانه الذي لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف, العليم بكلِّ شيءٍ فلا يخفى عنه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.


6- جعل الله لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر:


أعلمنا الله- تعالى- أنه جعل لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمات البرِّ والبحر {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ]الأنعام: 97[ وهذا مما امتنَّ الله به علينا في خلقه النجوم لنا, فسالكو القفار وراكبو البحار يهتدون بها في ظلمة الليل.


وختم سبحانه الآية بقوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ]الأنعام: 97[ أي: قد بيَّنا الآيات التي سبق ذكرها, لقوم يعلمون شرع الله, ليتدبروها ويعرفوا الحق ويتجنبوا الباطل.


7- أنشأ الله تعالى البشر كلَّهم من نفس واحدة:


امتنَّ الله علينا نحن البشر بخلقنا من نفسٍ واحدةٍ {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ]الأنعام: 98[ والنفس الواحدة التي يعود البشر كلُّهم إليها هي آدم عليه السَّلام, فمنه خلق الله زوجه حواء, وخلق بقية البشر من ذكرٍ وأنثى, إلا عيسى ابن مريم, فإنَّه خلق من أنثى هي أمُّه مريم من غير أبٍ, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} ]النساء: 1[.


وقوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} ]الأنعام: 98[ ذهب كثيرٌ من أئمة التفسير كابن مسعودٍ, وابن عباسٍ, وأبي عبد الرحمن السلميِّ, وقيس بن أبي حازمٍ, ومجاهدٍ, وعطاءٍ, وإبراهيم النخعيِّ, والضَّحاك, وقتادة, والسُّديِّ, وعطاءٍ الخراساني إلى أنَّ المستقرَّ: الأرحام, والمستودع: أصلابٌ الرجال ]ابن كثير: 3/62[.


وقد تقدَّم العلم اليوم واكتشف أنَّ الإنسان يوجد من الخليَّة الملقحة, يقول سيد قطب في تفسير قوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} «إنَّها اللَّمسة المباشرة في هذه المرة..., اللمسة في ذات النفس البشرية, النفس البشرية الواحدة. تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة, فنفسٌ هي مستودعٌ لهذه الخلية في صلب الرجل, ونفسٌ هي مستقرٌ لها في رحم الأنثى..., ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار, فإذا أجناسٌ وألوان؛ وإذا شياتٌ ولغاتٌ؛ وإذا شعوبٌ وقبائل؛ وإذا النماذج التي لا تحصى, والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة.


{قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} فالفقه هنا ضروريٌّ لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة, التي تنبثق منها النماذج والأنماط, ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار, وتوفير الأعداد المناسبة دائماً من الذكور والإناث- في عالم الإنسان- لتتم عملية التزاوج التي قدَّر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار, ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروفٍ تحفظ (إنسانيتهم) وتجعلهم أكفاء للحياة (الإنسانية)! » ]في ظلال القرآن: 2/1159 بشيء من الاختصار[.




8- إنزال الله- تعالى- الماء من السماء وإنبات النبات به:


حدَّثنا ربُّنا- تبارك وتعالى- عن إنزاله الماء من السماء وما يفعله هذا الماء عندما ترتوي به الأرض, فلو أنَّك مررت بأرضٍ يابسةٍ جرداء, جادها الغيث فروَّاها, ثم مررت به مرةً أخرى بعد فترةٍ ليست بالطويلة, فإنَّك ترى عجباً, ترى تلك الأرض الجرداء أصبحت مُعشوشِبةً خضراء, تراها تنبت, وتزهر, وتخرج حبَّها, وثمرها, ومن يحسن النظر إلى آثار المياه, ويحسن الوصف, يرينا منظراً رائعاً بديعاً, ولا أحد أحسن وصفاً من وصف ربِّ العباد, ومن تأمَّل في وصفه لآثار ما صنع المليك, يرى صورةً مبهجةٍ ذات زينةٍ ورونقٍ, يقول ربُّنا الحكيم العليم: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} ]الأنعام: 99[ وكلُّ ما علاك فهو سماءٌ, ومن ذلك الغمام الذي ينزل منه الماء, فأخرج الله سبحانه به نبات كلِّ شيءٍ, أي أخرج به جميع أنواع النبات, فلو أنك نظرت في القطعة الواحدة من الأرض التي غذاها الغيث, فإنَّك تجد فيها ما لا يحصى من النبات على شتى أنواعه وألوانه, وأخرج سبحانه من ذلك النبات خضراً, عبَّر عن الخضرة التي اتَّصف بها النبات بقوله: {خَضِراً}, وخضراً أرقُّ وألطف من كلمة: أخضر.


وأخبرنا العليم الخبير سبحانه أنَّه أخرج من ذلك النبات الخضر حباً متراكباً, وهذا الحبُّ المتراكب تراه فيما ينبته القمح والشعير والذرة ونحوها من السنابل, ويخرج من النخيل من طلعها قنوان دانيةٌ, والطَّلع أول ما يرى من عذق النخلة, الواحدة طلعةٌ, ويخرج لنا ربُّنا من طلع النخل قنونًا دانيةً, والقنوان العذق الذي يحمل الثَّمر, والعذق في النَّخلة بمثابة القطف من العنب, وهذه القنوان دانيةٌ, أي قريبة المتناول, وعندما نقف ننظر إلى النَّخل وقد تدلَّت قطوفه, وتهدَّلت, نراها كما وصف ربُّنا: {قِنْوَانٌ دَانِيَة}.


هذا الذي سبق ذكره مشهد وصفه مليكنا سبحانه لأرضٍ أنبتت النبات, ومشهد آخر يريناه في قطعةٍ أخرى يتمثَّل في الجنَّات, وهي {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} والجنات البساتين, وهي بساتينٌ من أعنابٍ, وقد يكون الشجر زيتوناً أو رماناً, وما أنبته الله من النبات, وما أخرجه من أشجارٍ قد يكون مشتبهاً, وقد يكون غير متشابه, وقد يتشابه النبات, وقد تتشابه الأشجار, وقد يكون التشابه في الشجر, قد يكون التشابه في الثمر, وقد يكون في الطَّعم, وقد يختلف ذلك كله, فلا تشابه فيه.


إنَّ هذا الوصف الرائع المبهج الممتع يأسرك, ويملك عليك نفسك, ولذا دعانا ربُّنا إلى النظر إليه بأبصارنا, ننظر إلى ثماره من النخيل والأعناب والزيتون والرمان, وننظر إلى ينعه, أي إلى نضجه, وكمال النظر وغايته أن يحصل الاعتبار بما نراه ونشاهده, فإذا هو آياتٌ للمؤمنين, تدلُّهم على ربِّهم, وتهديهم إليه سبحانه.


أعد النظر في هذه الآية التي حدَّثتنا عن إنزال الماء من السماء, وفعل المليك سبحانه بالأرض التي ارتوت بالغيث {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ]الأنعام: 99[.




خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في هذه الآيات:


عرَّفنا ربُّنا ربُّ العزَّة- سبحانه وتعالى- في هذه الآيات بنفسه على النحو التالي:
1- الله- تبارك وتعالى- هو خالق السموات خلقاً كائناً بالحقِّ, فقد خلقهما سبحانه وتعالى لغايةٍ عظيمةٍ هي أن يعبد ويطاع سبحانه.
2- الله تعالى له الملك التَّام في يوم القيامة, فلا يملك أحدٌ معه شيئًا.
3- في يوم القيامة يأمر ربُّ العباد بالنفخ في الصور, فتقوم القيامة, ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون.
4- الله تعالى عالم الغيب والشهادة, وهو الحكيم في شرعه وفعله, وهو الخبير.
5- الله تعالى هو فالق الحبِّ والنوى, يخرج من الحبَّة الصماء النبتة الخضراء, ويخرج من النبتة الخضراء الحبَّة الصماء.
6- الله سبحانه هو فالق الإصباح, فبعد ظلمة الليل يثور الضياء, ولا يزال يتزايد, ويتوهجُّ حتى يملأ الضياء الكون.
7- جعل الله تعالى الليل لنا سكناً, ننقطع فيه عن الحركة, وتهدأ فيه أفعالنا, وقد جعل الله لنا النهار ننبعث فيه إلى العمل.
8- جعل الله سبحانه وتعالى لنا الشمس والقمر حسباناً, فبالشمس نعرف مقدار الليالي والأيام, وبالقمر نعرف مقدار الشهور والأعوام.
9- وجعل الله تعالى لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمات البرِّ والبحر, ونعرف مسارنا فوق ظهر أرضنا في أسفارنا, فكثير من الناس يعرفون طرقاتهم في أسفارهم بالنظر في النجوم الثابتة في ظلمة الليل.
10- الله تعالى هو الذي خلقنا بخلق أبينا آدم من نفسٍ واحدةٍ, فقد خلق منه زوجه حوَّاء. وخلق منهما جميع الرجال والنساء.
11- الله تعالى الذي أنزل الماء من السماء, فأخرج بذلك المطر نبات الأرض, فأخرج من ذلك النبات القمح والشعير والذرة وغيرها, يخرج من نبتها وسنابلها حبّاً متراكباً, نشاهده في القمح والشعير والذرة ونحوها, وأخرج لنا من أشجار النخيل من طلعها قنواناً دانيةً. يخرج لنا منها قطوفاً قريبة المأخذ, وجعل لنا فيما ينبته من الأشجار جناتٍ من أعنابٍ والزيتون والرمان, يشبه بعضه بعضاً أحياناً, وقد يختلف فلا يتشابه.
* * *
 
الموضع القرآني 24

الله تعالى الذي أنشأ جنات وعروشات

وغير معروشات





أولًا: تقديم


عرَّفنا ربُّنا العليُّ الأعلى سبحانه وتعالى بنفسه, فأخبرنا أنه أنشأ لنا جناتٍ معروشاتٍ وأخرى غير معروشاتٍ, وأنشأ لنا بساتين النخيل والزيتون والرمان, وأنشأ لنا من الأنعام حمولةً تحملنا وأثقالنا, وفرشاً, وهي التي ننتفع بألبانها ولحومها.




ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة الأنعام


{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ]الأنعام: 141-142[.

ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات


الجنات: البساتين التي يحفها الشجر, مأخوذةٌ من جنَّ إذا ستر, لأنَّها تستر بأشجارها من يكون تحتها.
معروشات: بساتين الأعناب القائمة على العروش, وهي الأعمدة.
غير معروشاتٍ, أي: الملقاة على الأرض.
مختلفاً أُكلُه: مختلفاً طعمه, فقد يكون حلواً أو مُراً أو حامضاً.
متشابهاً وغير متشابه: في المنظر أو الطعم, وقد تختلف فيهما.
ولا تسرفوا, أي: لا تبالغوا في الإنفاق حتى يضرَّ بكم.
حمولة وفرشاً: الحمولة الكبار من الإبل التي تحمل الأحمال, وقد يستعمل في الفرس والبغل والحمار, وفرشاً الصغار من الإبل, والبقر والغنم.
خطوات الشيطان: خطوات جمع خطوة, وهي طرقه المضلَّة.




رابعًا: شرح آيات هذا الموضع


عرَّفنا ربُّنا- سبحانه وتعالى- بنفسه تبارك وتعالى ببيان ما يأتي:




1- الله- تعالى- هو الذي أبدع لنا ما في الأرض من جناتٍ:


أعلمنا ربُّنا- العليُّ العظيم- أنه {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} ]الأنعام: 141[ أي: هو سبحانه الذي أنشأ لنا جنَّاتٍ معروشاتٍ وغير معروشاتٍ, والمراد بالمعروشات بساتين الأعناب المرفوعة على الأعمدة والعروش, وغير المعروشات ما لم يرفع, بل هو ملقى على الأرض.


والجنَّات: البساتين التي يحفُّها الشجر, مأخوذةٌ من جنَّ إذا ستر, لأنها تستر بأشجارها من يكون تحتها.


وقد تكون هذه الجنات من أشجار النخيل أو الزيتون أو الرمَّان, وقد يزرع بين الأشجار الحبوب من القمح والشعير والذُّرة, وقد يزرع فيها الرَّياحين وغيرها, وقوله: {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} أي: مختلفاً طعمه, فقد يكون حلواً, وقد يكون حامضاً, وقد يكون بين ذلك.


والزيتون أنواعٌ كثيرةٌ, متشابهةٌ فيما بينها, في منظرها وطعمها, وقد تختلف فيما بينها, ومثل ذلك يقال في الرُّمان, تتشابه في المنظر, وقد تختلف, وقد يكون من الرُّمان الحلو والحامض.


وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} ]الأنعام: 141[.


هذا الأمر الذي أمرنا به في الآية, وهو الأمر بالأكل من ثمار الأشجار من العنب والنَّخل والزيتون والرُّمان أمر إباحةٍ, وهو يأتي في مقابل ما حرَّمه أهل الجاهلية من الحرث, وأمرنا مع الأكل أن نؤتي حقَّه يوم حصاده, والحقُّ الذي أُمر المؤمنون بإيتائه حقٌّ غير مقدَّرٍ يخرجه صاحبه من ثمار الأعناب والنخيل والزيتون والرمان, وليس المراد به الزكاة, فهذه الآية مكَّيةٌ, ولم تكن الزكاة قد فرضت بعد, ولو كانت الآية في شأن الزكاة لما أمر فيها بإخراج نصيبٍ من بساتين الرُّمان, فإنَّ الرمَّان لا زكاة فيه, وكذا لا يصحُّ الاحتجاج بالآية على وجوب إخراج الزكاة من الزيتون, ومما يدل على أنَّ الآية ليست في الزكاة أن الزكاة لا تؤدَّى في يوم الحصاد.


وقوله: {وَلَا تُسْرِفُو} نهيٌ عن إخراج ربِّ المال ما يضرُّ به, وبمن يتولَّى الإنفاق عليه من الذُّريَّة والزوجة وغيرهم, وعلَّل النهي عن الإسراف بأنه {لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.


2- امتنانُ الله علينا بما خلقه لنا من الأنعام:


أعلمنا ربُّنا- تبارك وتعالى- في الآية السابقة أنَّه أنشأ جناتٍ معروشاتٍ وغير معروشاتٍ, ثم عطف عليها الآية التالية وهي قوله سبحانه: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ]الأنعام: 142[. أي: وهو الذي أنشأ جناتٍ معروشاتٍ وغير معروشاتٍ, وأنشأ حمولةً وفرشاً من الأنعام, فالله- سبحانه- هو الذي رزقنا أنواع الحبوب والأشجار وأنواع الأنعام, والحمولة: الإبل الكبار التي يرُكب عليها, ويُحمل عليها, والفرش الصغار من الإبل, والبقر والضأن والمعز مما لا يُحمل عليه, سمَّى صغار الإبل والغنم والبقر فرشاً لقربها من الأرض, فهي كالفرش, وقيل: الفرش ما يفرش على الأرض حين الذبح, وقال ربُّ العزَّة في الحمولة من الإبل التي يحمل عليها الأثقال: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} ]النحل: 7[ وقال {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} ]يس: 72[.


وقوله تعالي{كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي كلوا مما رزقكم الله من الجنات, ومن الأنعام سواءً كانت حمولةً أو فرشاً, ولا تحرِّموا على أنفسكم شيئًا, ولا تجعلوا منه للأصنام شيئًا.


وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} نهانا عن اتباع خطوات الشيطان, فإننا إذا اتَّبعنا خطواته أضلَّنا وأدخلنا النَّار, فهو عدوُّنا الذي كاد أبانا آدم وأمَّنا حوَّاء, والخطوات: جمع خطوةٍ, وهي طرقه المضلِّة, ومنها تلك التشريعات التي يحلُّ بها ما حرَّم الله, ويحرِّم ما أحلَّ, كما بيَّن الله تعالى ذلك في آيات النصِّ السابق.


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا العلي الأعلى سبحانه بنفسه




عرَّفنا ربُّنا وهو أكرم الأكرمين بنفسه في هذه الآيات الكريمات ببيان ما يأتي:
1- الله- تبارك وتعالى- هو الذي أنشأ في أرضه الواسعة لعباده جناتٍ من الأعناب, بعضها معروشة, وأخرى منها غير معروشة.
2- وأنشأ لهم جناتٍ من النخيل, والنخيل أنواع وأشكال, وقد يزرع في بساتين النخيل الزروع فيما بين الأشجار.
3- والله- تعالى- هو الذي أنشأ لنا الجنات من الزيتون والرمان, وبعض هذه قد تتشابه أشجارها, وبعضها تتشابه ثمارها في منظرها أو في طعمها, وقد لا تتشابه في شيءٍ من ذلك.
4- الله- تبارك وتعالى- هو الذي أنشأ لنا من الأنعام حمولةً وفرشاً, فالحمولة كبار الإبل التي تحملنا وتحمل أثقالنا, والفرش صغار الإبل والبقر والغنم التي جعلها الله لننتفع بلبنها ولحومها وأصوافها وجلودها.
* * *
 
الموضع القرآني 25

تمكين الله تعالى لنا في الأرض




امتنَّ الله- تبارك وتعالى- على الناس في هاتين الآيتين بأن مكَّن لهم في الأرض, فعليها نبني مساكننا, ونتَّخذ من سهولها جنات وبساتين, ونستفيد من نباتها وحيواناتها وأسماكها وطيورها, ونتَّخذ من ذلك كله معايش, أي: ما يمكننا من المعيشة... في الحياة الدنيا, {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} ]الأعراف: 10[.


وتمكين الله تعالى لنا في الأرض بأن جعل الأرض صالحةً لحياتنا, وأوجد فيها ما يقيم حياتنا, وأقدرنا على السَّعي فيها, والاستفادة من خيراتها, وقوله تعالى: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} أي: قليلاً ما تشكرونه على ما أنعم به عليكم.


وامتنَّ الله علينا بأنَّه خلقنا بخلق أبينا آدم عليه السَّلام من تراب, ثمَّ صوره بعد ذلك, وبعد أن خلق آدم وصوَّره نفخ فيه من روحه, وأسجد له ملائكته, {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} ]الأعراف: 11[ وخلق الله تعالى سبحانه كلَّ واحد منَّا في رحم أمه, ثمَّ صوَّره فيه, ولذا فإنَّ من أسمائه سبحانه المصور.


* * *
 
الموضع القرآني 26

الله تعالى الذي خلق السموات

والأرض في ستة أيام




أولًا: تقديم


عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- في هذه الآيات بنفسه, عرَّفنا أنَّه خلق السموات والأرض في ستة أيام, وعرَّفنا باستوائه على عرشه وأنه بائنٌ من خلقه, وأنَّه يغشى الليل النهار, وأنَّه سخَّر الشمس والقمر والنجوم, وأنَّه يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته, وأنَّه يسوق السحاب إلى البلد الميت فيحييه.




ثانيًا: آيات هذه الموضع من سورة الأعراف


{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ]الأعراف: 54-57[.




ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات


استوى على العرش: معنى استوى علا وارتفع واستقرَّ, أما كيفية الاستواء فلا يعلمه إلا الله تعالى, والعرش سرير ملك الله تعالى, وهو أعظم مخلوقاته سبحانه.
يغشى الليل النهار, أي: يغطيه, ويستره.
يطلبه حثيثاً, أي: يطلب الليل النهار في غاية السُّرعة.
أقلَّت: حملت.
الثقال: ثقلها بسبب ما تحمله من المياه.
الميِّت: القاحل الممحل.




رابعًا: شرح آيات هذا الموضع


عرَّفنا الله ربُّنا في هذه الآيات بنفسه تبارك وتعالى, حتى لو أنَّك سألت فقلت: من ربنا ؟ لكانت الآيات جواباً عن السؤال, وإنَّ صيغة الآيات لتدلُّ على أن مراد الله تعالى بالآيات هو تعريف عباده بنفسه, اقرأ طليعة الآيات في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ]الأعراف: 54[ وأقرأ خاتمة هذه الآية {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وتدبَّر ما قرأته ستجد صدق ما ذكرتُه.
وقد عرَّفنا ربُّنا بنفسه تبارك وتعالى من خمسة أوجه, هي:




1- خلقه سبحانه السموات والأرض في ستة أيام:


أخبرنا ربُّنا- سبحانه- أنه وحده الذي خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما في ستة أيام, وهذه الأيام تبدأ من يوم الأحد, وتنتهي في يوم الجمعة, وهذه الأيام من أيام الله تعالى, ولا ندري طولها, وقد أعلمنا ربُّنا تبارك وتعالى أنَّ يوماً عنده كألف سنةٍ من سنواتنا, وأعلمنا ربُّنا أنَّ مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنةٍ من سنوات الدنيا {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} ]الأعراف: 54[.


2- استواء ربِّنا جلَّ جلَّاله على العرش:


{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ]الأعراف: 54[ العرش في لغة العرب سرير الملك, قال تعالى في كرسي ملكة سبأ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} ]النمل: 23[ وقال نبي الله سليمان: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ]النمل: 38[ وقال الله تعالى في عرش نبيِّ الله يوسف {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} ]يوسف: 100[ والعرش أعظم مخلوقات الله تعالى, وهو لله تعالى سرير ملكه وقد وصفه الله تعالى بأنَّه عظيم {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ]التوبة: 129[ ووصفه بأنَّه مجيدٌ في قوله {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} ]البروج: 15[.


وكان عرش الله في الأزل علي الماء {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ]هود: 7[. ويحمل عرش ربِّنا في يوم القيامة ثمانيةٌ من الملائكة {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ]الحاقة: 17[. وهؤلاء الملائكة الذين يحملون العرش في يوم القيامة يسبِّحون بحمد ربِّهم {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} ]غافر: 7[. وفي يوم القيامة ترى الملائكة حافِّين من حول العرش يسبحون بحمد الله {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} ]الزمر: 75[ وقد ضلَّ قومٌ كثيرون في تعريف عرش الرحمن, والنصوص التي سقناها تدلُّ على أنَّ عرش الرحمن سريرٌ عظيمٌ كريمٌ مجيدٌ, استوى عليه الرحمن ومعنى استوى في اللغة العرب: ارتفع, واستقرَّ وعلا.




3- يغشي الله تعالى الليل النهار يطلبه حثيثاً:


عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنه {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} ]الأعراف: 54[ أي: يجعل الليل غشاءً وساتراً للنهار ومغطياً له, وفي الآية محذوفٌ دلَّ عليه المقام, أي: يغشي النهار الليل أيضًا, فيأتي ضوء النهار ويغشى ظلام الليل, فيذهبه, ويحلُّ محلَّه, كما قال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعزَّيزِ الْعَلِيمِ} ]يس: 37-38[.


وقوله تعالى: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي: يطلبه طلباً حثيثاً مسرعاً غاية الإسراع فلا يمهله لحظةً ]العذب النمير: 3/381[.


4- جعل الله الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره:


وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} أي: أنَّ الله خلق السموات والأرض, وخلق الشمس والقمر والنجوم, وجعلهن مسخراتٍ بأمره, أي: في طلوعهنَّ وغروبهنَّ وحركاتهنَّ, كلُّ ذلك مقدَّرٌ وفق ما يريده الله ويحدِّده.


والله تعالى {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} فالخلق له كلُّه وحده, والأمر له كلُّه وحده. وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: تبارك وتقدَّس, وأصل تبارك تفاعل إذا كثرت بركاته وخيراته.


وبعد أن عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- بنفسه أمرنا أن ندعوه تضرعاً وخفية, وأمرنا أن ندعوه خوفاً وطمعاً, فالدعاء هو العبادة كما صحَّ في الحديث, والله هو الذي يستحقُّ أن يعبد.


وقد أمرنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أن ندعوه تضرُّعاً وخفيةً في قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ]الأعراف: 55[ ومعنى {تَضَرُّعًا} أي: متذللين بخشوعٍ واستكانةٍ, ومعنى {وَخُفْيَةً } أي: سراً وهمساً, ندعوه راجين رحمته خائفين عذابه. والدعاء الذي أمرنا الله به هو العبادة, وقد كان دعاء الصالحين خفيةً, فزكريا عليه السَّلام {نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} ]مريم: 3[.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فالله لا يحبُّ المعتدين, لا في الدعاء ولا في غيره, ومن الاعتداء في الدعاء رفع الصوت بالدعاء, أو الدعاء بأن يؤتى الداعي مقام الملائكة ومقام الرُّسل والأنبياء, ومن ذلك ما رواه أبو داود أنَّ عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: «اللهم إنِّي أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها» فقال: أي بنيَّ, سل الله الجنَّة, وتعوذ به من النَّار, فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّه سيكون في هذه الأمَّة قومٌ يعتدون في الطهور والدُّعاء» ]صحيح سنن أبي داود: 87[.


وأمرنا ربُّنا أن ندعوه سبحانه خوفاً وطمعاً {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ]الأعراف: 56[.


أمرنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أن ندعوه جامعين بين الخوف منه والطَّمع في ثوابه.


وجمع الله- تعالى- بين الخوف والطَّمع, ليكون العبد خائفاً راجياً, كما قال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} ]الإسراء: 57[ فإنَّ موجب الخوف معرفة سطوة لله وشدَّة عقابه, وموجب الرجاء معرفة رحمة الله وعظيم ثوابه, قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} ]الحجر: 49-50[. ومن عرف فضل الله رجاه, ومن عرف عذابه خافه.


ويستحب أن يكون العبد طول عمره يغلب عليه الخوف, ليقوده إلى فعل الطاعات وترك السيئات, وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت, لقوله صلى الله عليه وسلم : «لا يموتنَّ أحدكم إلاَّ وهو يحسن الظَّن بربِّه» ]التسهيل, لابن جزي: 2/35[.


5- إرسال الله- تعالى الرياح بشرًا بين يدي رحمته:


ذكر الله تعالى في الآية التالية وجهًا خامساً عرَّفنا فيه بنفسه, فقال: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ]الأعراف: 57[.


أعلمنا سبحانه أنَّه هو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته, فترى بعض الناس يكونون في جوٍّ صافٍ, فتهبُّ عليهم الرياح نديَّةً رطبةً, فيقولون لك: هذه الرياح تبشِّر برحمة الله, أي: بالمطر, فلا يمضي طويل وقتٍ, حتى ترى السحاب الثقال آتٍ من بعيدٍ, تسوقه الرياح, فتهطل الأمطار, فيحيي الله بذلك المطر بلادًا ميتة, يحييها بالنبات, ومثل هذا الإحياء للأرض الميتة بالمطر, يحيي يوم القيامة العباد, فإذا شاء الله إحياء الخلق في يوم القيامة أنزل عليهم مطرًا كمنيِّ الرجال, فينبت الناس من الأرض,حتى إذا تمَّ خلقهم نفخ في الصور, فعادت أرواح الناس إلى أجسادهم, فقاموا لربِّ العالمين.

خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات

عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في هذه الآيات بإيراد الأمور التالية:
1- خلق الله ربُّنا تبارك وتعالى السموات والأرض في ستة أيام, ولولا أنَّ الله تعالى أعلمنا بهذا العلم ما علمناه, ونحن لا ندري بمدَّة كلِّ يوم من هذه الأيام, فلم يصحَّ فيه آيةٌ ولا حديثٌ, فربنا أعلم به.


2- استوى ربُّنا- تبارك وتعالى- على عرشه استواءً يليق بجلاله سبحانه وتعالى, وعرشه سبحانه سرير ملكه, وهو أعظم مخلوقاته, والاستواء معلومٌ والكيف مجهولٌ, والإيمان به واجبٌ, والسؤال عن الكيف بدعةٌ.


3- الله تعالى يغشي الليل النهار, فبعد ضياء النهار يأتي الليل الذي يكسو الأرض بظلامه.


4- سخَّر ربُّ العزَّة لعباده الشمس والقمر والنجوم بأمره, ولو لم يخلق الله تبارك وتعالى لنا هذه المخوقات لما صلحت حياتنا فوق ظهر هذه الأرض.


5- الله- تبارك وتعالى- له الخلق والأمر, فالله تعالى هو الذي أنشأ هذا الوجود من العدم, وكما له الخلق له الأمر بنوعيه الديني الذي يحوي الشرائع, والقدري الذي يكون به الخلق.


6- الله- تبارك وتعالى- الذي يرسل الرياح الرَّطبة الندية بين يدي السحاب الثقال الممتلئ بالمطر, ويسوق الله تلك الرياح تبشِّر بقرب رحمة الله بنزول المطر, ويرسل الله تعالى السحب المحمَّلة بالمطر إلى بلد أمحلت أرضه, وجفت مياهه, ومات نباته, وذوت أشجاره, فأحياه الله, فنما زرعه, واخضرَّ شجره, وخرجت ثماره, وكما أحيا الله الأرض بالماء الهاطل من السماء, يحيي العباد في يوم المعاد.


* * *
 
الموضع القرآني 27

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها




أولًا: تقديم


عرَّفنا ربُّنا العليُّ الأعلى في هذه الآيات أنَّ له الأسماء الحسنى, وعرفنا بأنَّه استأثر بعلم الساعة, وعرفنا بأنه خلقنا من نفسٍ واحدةٍ, وخلق منها زوجها, وبثَّ من آدم وحواء جميع من خلق من بني آدم.




ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة الاعراف

تتكون آيات هذا الموضع التي عرَّفنا الله تبارك وتعالى فيها بنفسه من ثلاث آيات, وهذه الآيات الثلاث وردت متفرقةً في سورةٍ واحدةٍ هي سورة الأعراف.


الآية الأولى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ]الأعراف: 180[.


الآية الثانية قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجلَّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ]الأعراف: 187[.


الآية الثالثة قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ]الأعراف: 189[.




ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات


الحسنى: تأنيث الأحسن, وأسماء الله تعالى كلُّها حسنى, وهي أفضل من كلِّ شيءٍ في الحسن والجمال.
ذروا: اتركوا ودعوا.
يلحدون: الذين يميلون عن القصد ويجورون عنه.
ملكوت: ملك.
الساعة: يوم القيامة.
مرساها: وقت وقوعها.
لا يجلِّيها, أي: لا يوجدها, ولا يظهرها لوقتها إلا الله.
ثقلت: عظمت.
بغتةً, أي: فجأة.
كأنك حفيٌّ عنها, أي: كأنك عالم بها, أو كأنك استقصيت أخبارها.
من نفس واحدة: نفس آدم عليه السَّلام.




رابعًا: شرح آيات هذا الموضع

عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- بنفسه في هذه الآيات الثلاث ببيان ما يأتي:




1- الله- تعالى- له الأسماء الحسنى:


عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنَّ له الأسماء الحسنى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ]الأعراف: 180[. والحسنى: تأنيث الأحسن, وهي صيغة تفضيلٍ, وأسماء الله تعالى أحسن شيءٍ, وهي أفضل من كلِّ شيءٍ في الحسن والجمال, وأسماء الله تدلُّ على صفات كماله وجلاله تبارك وتعالى.


وأسماء الله التي أنزلها ربُّنا في كتابه وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم تسعةٌ وتسعون اسماً, فعن أبي هريرة رضي الله عنه, أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لله تسعةً وتسعين اسماً, مائةً إلا واحداً, من أحصاها دخل الجنَّة» ]البخاري: 2736. مسلم: 2677[.


وفي رواية: «لله تسعةٌ وتسعون اسماً من حفظها دخل الجنَّة, وإن الله وترٌ يحبُّ الوتر» ]البخاري: 6410. مسلم: 2677, واللفظ لمسلم[.


وأسماء الله- تعالى- التي علَّمها بعض خلقه, أو استأثر بها في علم الغيب عنده أكثر من ذلك, فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أصاب أحداً قطُّ همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهمَّ, إنِّي عبدك, ابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماضٍ فيَّ حكمك, عدلٌ فيَّ قضاؤك, أسألك بكلِّ اسمٍ سمَّيت به نفسك, أو أنزلته في كتابك, أو علَّمته أحداً من خلقك, أو استأثرت به في علم الغيب عندك, أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي, ونور صدري, وجلاء حزني, وذهاب همِّي- إلا أذهب الله همَّه وحزنه, وأبدله مكانه فرحاً, فقيل: يا رسول الله, أفلا نتعلَّمها؟ فقال: «بلي, ينبغي لمن سمعها أن يتعلَّمها» ]قال محقق تفسير ابن كثير: جيد. أخرجه أحمد (2/391 و452) وأبو يعلى (5297) والحاكم (1/509) وابن حبان (972) من طرق عن فضيل بن مرزوق به, وإسناده صحيح[.


وقوله تعالى: {فادْعُوهُ بِهَا} ]الأعراف: 180[ أي: فادعوه بهذه الأسماء, فيدعو المرء بالأسماء التي تناسب حاله, فيقول: يا الله, يا رحمن, يا رحيم, يا أحد, يا فرد, يا صمد, يا قويُّ, ولا يدعو الله بغير أسمائه, فلا يقول: يا سخيُّ, يا شيء, يا فاهم, يا جلد.


وقوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ]الأعراف: 180[, وقوله {وَذَرُوا} معناه: اتركوا, وصيغة الأمر هنا للتهديد, وأصل اللَّحد: الميل عن القصد والجور عنه.


والذين يلحدون في أسماء تعالى الذين يميلون فيها عن الحقِّ, فمن أسماء الله تعالى: الواحد, {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} ]الصافات: 4[. وقد ألحد المشركون في هذا الاسم: فقالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ]ص:5[.



ومن إلحادهم اشتقاقهم اسم اللات لصنم من أصنامهم من اسم: الله, واشتقاقهم العُزَّى من اسم العزيز, واشتقاقهم مناة من المنان.


وقوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: سيجزيهم ربُّ العزة تبارك وتعالى يوم القيامة جزاء ما كانوا يعملونه في الدنيا, ويدخل في ذلك إلحادهم في أسمائه.

2- لا يعلم وقت وقوع الساعة إلا الله تعالى:


سأل كفار قريشٍ رسولنا صلى الله عليه وسلم عن الوقت الذي تقع فيه الساعة, فأمر الله تعالى رسوله أن يخبر النَّاس أنَّه لا يعلم وقت وقوعها إلا الله سبحانه:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجلَّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ]الأعراف: 187[.


والساعة التي سأل كفار قريشٍ الرسول عن وقت وقوعها هي يوم القيامة, والساعة في الأصل تطلق على كلِّ وقتٍ من الزَّمن, وغلب إطلاقها على يوم القيامة, وكان كفار قريشٍ يسألون عنها إنكاراً لها, كما قال تعالى: {يَسْتَعْجلَّ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} ]الشورى: 18[, وقال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ]الملك: 25[ وقوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} أي: متى يكون وقوعها.


وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للسائلين {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجلَّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} ]الأعراف: 187[. أي: قل لهم: إنَّما علمها عند الله, و {إِنَّمَا} أداة حصرٍ, أي: علمها عند الله, فلا يعلمها لا ملكٌ مقربٌ, ولا نبيٌّ مرسلٌ, وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل عندما جاءه وهو في جمع من الصحابة, فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان, ثم سأله عن الساعة, قال في الجواب: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» فالمسئول وهو أفضل الأنبياء والرسل لا يعلم متى تقع والسائل وهو جبريل وهو أفضل الملائكة لا يعلم أيضًا متى تكون, وقوله: {لَا يُجلَّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} أي: لا يوجدها ويظهرها في وقتها أحدٌ غيره وقوله تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ]الأعراف: 187[. أي: عظمت على أهل السموات والأرض, لأنَّ ما فيها من الأهوال لا تطيقه السموات والأرض, ولا أحد ممن فيهما, فمن ذلك انشقاق السماء , وانتشار النجوم, وتكوير الشمس, وتسيير الجبال.


وقوله تعالي: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} ]الأعراف: 187[ أي: لا تقوم الساعة على الناس إلا فجأةً, وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أنَّ الساعة تقوم والناس في أعمالهم وأشغالهم, فتأخذهم من غير إمهال, فعن أبي هريرة رضي الله عنه, أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتَّى تطلع الشمس من مغربها, فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون, فذلك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} ]الأنعام: 158[ ولتقومنَّ الساعة وقد نشر الرَّجلان ثوبهما بينهما, فلا يتبايعانه ولا يطويانه, ولتقومنَّ الساعة وقد انصرف الرَّجل بلبن لقحته فلا يطعمه, ولتقومنَّ الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه, ولتقومنَّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» ]البخاري: 6506. مسلم: 2954. واللفظ للبخاري[.


وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} ]الأعراف: 187[ أي: يسألونك عن الساعة, كأنَّك استحفيت عنها, أي: علمت وقتها, أو كأنَّك عالم بها, قد عرفت بها, واستقصيت أخبارها.


وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ]الأعراف: 187[, أمر الله تعالى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للنَّاس السائلين عن وقت الساعة مؤكِّداً ما سبق أن أخبرهم به أنَّ علم وقت الساعة استأثر الله بعلمه, كما قال ربُّ العزَّة: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} ]الأحزاب: 63[.


ولذا فإنَّ الذين حدَّدوا وقتاً لوقوعها من أهل العلم خالفوا الآيات والأحاديث الصحيحة المبيِّنة أنَّ وقت الساعة أمره إلى الله عزَّ وجلَّ, لا يعلمه غيره.


3- خلق الله تعالى الناس جميعاً من آدم, وخلق من آدم زوجه حواء:


أعلمنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنَّه خلقنا من نفس واحدة, وجعل من هذه النفس الواحدة زوجها, ليسكن إليها {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ]الأعراف: 189[. والنفس الواحدة التي خلق الناس جميعا منها آدم عليه السَّلام, والزوج الذي جعله الله من آدم حواء, ومعنى: {وَجَعَلَ} خلق. وقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} أي: ليسكن الرجل إلى زوجته, ويطمئنَّ إليها, كما قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} ]الروم: 21[.


وقد جعل الله- تعالى- من هذين الزوجين: آدم وحواء الرجال والنساء جميعاً{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} ]النساء: 1[.


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات:

عرَّفنا ربُّنا في هذا الموضع من الآيات بنفسه ببيان ما يأتي:
1- الله تعالى له الأسماء الحسنى التي لا أحسن منها, وأمرنا ربُّنا أن ندعوه بهذه الأسماء.
2- الله تعالى استأثر بعلم وقوع الساعة, فلا يعلم بوقت وقوعها ملكٌ مقربٌ ولا نبيٌّ مرسل.
3- الله تعالى الذي خلق الناس جميعاً من نفسٍ واحدةٍ, وخلق من هذه النفس الواحدة زوجها حواء ليسكن إليها.
* * *
 
الموضع القرآني 28

الله الذي يحيي ويميت




عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- بنفسه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} ]التوبة: 116[.


عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- في هذه الآية الكريمة أنَّ له ملك السموات والأرض, ومالك السموات والأرض هو خالقهما الذي لم يشركه أحدٌ في خلقهما, وكان أهل الجاهلية يقرون بهذه الحقيقة, فلا يجعلون لله شريكاً في خلقه السموات والأرض, قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ]المؤمنون: 84-89[.


وعرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنه يحيي ويميت سبحانه, فهو مما اختُصَّ به, لا يشركه في ذلك أحد, كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ]المالك: 2[.


وعرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنه ليس لنا من دونه من وليٍّ ولا نصير, فهو الذي يتولى أمرنا سبحانه, فهو يحفظ أجسادنا وأنفسنا, ويردُّ العاديات عنَّا, وهو الذي يمدُّنا بالطعام والشراب, ويشفينا إذا مرضنا, وهو-سبحانه- الذي ينصرنا إن نحن جاهدنا في سبيله, مبتغين وجهه في جهادنا.


* * *
 
الموضع القرآني 29

الله الذي خلق السموات والأرض




أولًا: التقديم

عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- في آيات هذا النص بنفسه سبحانه وتعالى, فهو خالق السموات والأرض في ستة أيام, وهو الذي استوى على العرش سبحانه, وهو الذي يدبِّر كونه, ولا يشفع أحد عنده إلاَّ من بعد إذنه, وقد أخبرنا ربُّنا- سبحانه- بما أخبرنا به, وأمرنا بعبادته وحده لا شريك له.


وعرَّفنا ربُّنا- سبحانه- أنَّ مرجع جميع العباد يوم الدين إليه, فهو- سبحانه- وحده الذي يبدأ الخلق في الدنيا, ثم يعيده في الآخرة, ليحاسب العباد عما قدَّموه, وأعلمنا سبحانه أنه هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً, وقدَّر القمر منازل لنعلم عدد السنين والحساب, وهو الذي قدَّر اختلاف الليل والنهار, وما خلق في السموات والأرض من مخلوقات لآياتٍ لقومٍ يتقون.


ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة يونس

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} ]يونس: 3-6[.




ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع


استوى على العرش: أي: ارتفع وعلا واستقرَّ, وعرش الرحمن سرير ملكه سبحانه, وهو أجلُّ مخلوقاته.


ما من شفيعٍ إلا من بعد إذنه, أي: لا يشفع عنده أحد إلا بعد أن يأذن الله له.
بالقسط: بالعدل.
جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً: جعل الله الشعاع الصادر عن الشمس ضياءً, لأنَّ الشمس مشتعلةٌ, وجعل الشعاع الصادر عن القمر نوراً, فالقمر ليس مشتعلاً, ونوره انعكاسٌ لضوء الشمس عليه.
اختلاف الليل والنهار: تعاقبهم, إذ هب أحدهما جاء الآخر

رابعًا: شرح آيات هذا الموضع

حدَّثنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- عن نفسه في هذه الآيات, وعرفنا على فعله في خلقه, وبيَّن لنا بما يأتي:




1- الله- تبارك وتعالى- خلق السموات والأرض في ستة أيام:


عرَّفنا ربُّ العزَّة بنفسه تبارك وتعالى فقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ]يونس: 3[.


وعرَّفنا الله تعالى في هذه الآية والآيات التالية لها بنفسه سبحانه, حتَّى لو أنَّ واحداً سألك: من ربُّك؟ صح أن تجعل هذه الآيات جواباً.


وأوَّل أمر عرَّفنا تبارك وتعالى أنَّه فعله سبحانه خلقه السموات والأرض في ستَّة أيام, وهذه الحقيقة مبثوثةٌ كثيراً في كتاب الله الكريم, فقد خلق سبع أرضين, وخلق سبع سمواتٍ, وخلقهما في ستة أيامٍ, والله تعالى أعلم بمدَّة كلِّ يوم من هذه الأيام, والسموات والأرض من أعظم آيات الله, وفيهما من المخلوقات والدلائل والآيات ما يبهر العقول, ويشغل القلوب.


2- استواء ربُّنا على عرشه وتدبيره الأمر:


وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} العرش أعظم مخلوقات الرحمن, وقد استوى الرحمن عليه سبحانه, استواءً يليق بجلاله, ليس كمثله شيء, وهو السميع البصير, وقوله {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أخبر ربُّ العباد سبحانه وتعالى أنه سبحانه يدِّبر الأمر في كونه, فهو قائمٌ سبحانه وتعالى على كلِّ شيءٍ, لا فرق بين الصغير والكبير, كما قال سبحانه: {لَا يَعزَّبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} ]سبأ: 3[ وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ]هود:6[, وقال: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ]الأنعام: 59[.


3- لا يشفع أحدٌ عند الله إلا بإذنه:


وقوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} أي: لا يشفع عنده ملكٌ مقربٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ إلا من بعد أن يأذن الله تعالى له, كما قال ربُّ العزَّة سبحانه وتعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ]النجم: 26[. وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ]البقرة: 255[, وشفعاء المشركين آلهة المشركين التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} ]يونس: 18[.


وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أشار ربُّ العزَّة سبحانه إلى نفسه بقوله: {ذَلِكُمُ} وأمرنا بعبادته وحده لا شريك له, قائلاً: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.


4- مرجع الناس جميعاً إلى الله تعالى:


عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنَّ مرجع الناس جميعاً إليه {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} ]يونس: 4[.


أخبرنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنَّ مرجعنا جميعاً إليه, وهذا وعد حق لا يتخلَّف بحالٍ من الأحوال, كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} ]مريم: 94-95[.


وقوله: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: يبدأ خلق العباد في الحياة الدنيا, ثم يعيد خلقهم في الحياة الآخرة.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} أي: يثيب المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحة بالعدل والجزاء الأوفى, {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُون}
أي: ويجزي الذين كفروا بالله ورسوله, بإسقائهم شراباً تناهى حرُّه, ويذيقهم العذاب الأليم في النار بسبب كفرهم وضلالهم.


5- الله تعالى الذي خلق لنا الشمس ضياء والقمر نورا:


عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنه هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً, فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ]يونس: 5[.


يخبرنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنه جعل الشعاع الصادر عن الشمس ضياءً, وشعاع القمر نوراً, ففاوت بينهما لئلا يشتبها, وجعل للشمس سلطاناً بالنهار, وسلطان القمر بالليل, وقدَّر القمر منازل {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} فأول ما يبدو صغيراً, ثم يتزايد نوره وجرمه, حتى يكتمل, ويصبح بدراً, ثمَّ يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأوَّل في تمام الشهر, وبالشمس تعرف الأيام, وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام, قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ]يس: 39-40[. وقال: {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعزَّيزِ الْعَلِيمِ} ]الأنعام: 96[.


وقوله تعالى: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} لم يخلق ربُّ العزَّة ذلك عبثاً, بل لحكمةٍ عظيمةٍ, وحجَّةٍ بالغةٍ, كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ]ص: 27[. وقوله تعالى: {يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ]يونس: 5[ أي: نُبيِّن الحجج والأدِّلة {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.


6- من الآيات الدالة على الله- تعالى- اختلاف الليل والنهار:


آخر ما عرضه ربُّنا علينا في تعريفنا بنفسه قوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} ]يونس: 6[.


والمراد باختلاف الليل والنهار, أي: تعاقبهما إذا ذهب هذا جاء هذا, وهذا كقوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} ]يس: 40[, وقال: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} ]الأعراف: 54[.


وقوله تعالى : {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: أي: من الآيات الدالة على عظمته تعالى, وهذا كقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ]يوسف: 105[ وقوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} ]يونس: 101[, وقوله: {يَتَّقُونَ} أي: يخافون الله تعالى.


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه

عرَّفنا ربُّنا عزَّ وجلَّ بنفسه- تبارك وتعالى- ببيان ما يأتي:
1- الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام.
2- الله استوى على العرش بعد خلقه السموات والأرض, والعرش سرير ملكه.
3- الله قائم على الكون يدبر أموره, ويصرِّف شؤونه.
4- لا يشفع عند الله أحدٌ يوم القيامة إلا بعد أن يأذن له.
5- مرجع العباد جميعاً إلى ربِّ العزة في يوم القيامة.
6- الله الذي ابتدأ خلق عباده في الحياة الدنيا, ثم يعيد إحياءهم بعد موتهم يوم القيامة.
7- الله تعالى يحاسب عباده يوم القيامة, والذين كفروا لهم عذاب أليم.
8- الله هو الذي جعل لنا الشمس ضياء, لأنه منبعث عن اشتعال الشمس, وجعل لنا القمر نوراً, لأنه انعكاسٌ لنور الشمس, وقدَّر القمر منازل, لنعلم عدد الشهور والأعوام.
9- الله الذي خلق الليل والنهار, وجعلهما يتعاقبان, يذهب هذا ويأتي هذا, وخلق في السموات والأرض كثيراً من الآيات.
* * *
 
الموضع القرآني 30

الله تبارك وتعالى الذي يرزقنا من

السماء والأرض




عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- في هاتين الآيتين بنفسه, فقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ]يونس: 31-32[.


وقد وجَّه ربُّ العزة سبحانه في هاتين الآيتين جملةً من الأسئلة التقريرية يدلُّ الإقرار بها على استحقاق الله تعالى وحده أن يعبد دون سواه, فقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} ]يونس: 31[.


وجَّه الله- تبارك وتعالى- في هذه الآية خمسة أسئلةٍ, كلُّها يدلُّ على أن الله سبحانه هو المستحقُّ لما سأل عنه, فالمشركون وإن كانوا يشركون بتوحيد الألوهية, لكنَّهم يقرُّون بتوحيد الربوبية, ولا يشركون به معه غيره, فهم يقرُّون بأنَّ الله وحده الذي ينزل لهم الرزق من السماء, فهو الذي ينزل الماء من السماء, وينبت النبات من الأرض, وهم يقرُّون من غير خصامٍ أنَّه سبحانه الذي يملك السمع والأبصار, وخصَّ السمع والأبصار بالذكر لما فيهما من الصنعة العجيبة, والقدرة الباهرة العظيمة, وهو سبحانه الذي يخرج الحيَّ من الميت, فالإنسان الحيُّ أخرج من النطفة, والطير من البيضة, والنبات من الحبَّة {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} أي: يخرج النطفة من الإنسان الحيِّ, والبيضة من الطير, والحبَّة من النبات, {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أي: من يقدِّر الأمور ويقضيها.


ولما كانت إجابة مشركي قريش لا تختلف في أنَّ الله هو الفاعل لذلك وحده لا شريك له قال عزَّ وجلَّ: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ]يونس: 32[.


ومن نظر في إجابة المشركين علم من هذه الإجابة أنَّه يلزمهم من الإقرار بتوحيد الربوبية الإقرار بتوحيد الألوهية, وإلاَّ وقعوا في التناقض, يقول الله تعالى: فذلكم الله الذي أقررتم باستحقاقه ما أقررتم به هو ربُّكم الحقُّ الذي يستحقُّ أن يعبد دون غيره, فإن عبدتم غيره فقد ضللتم, فأنَّى, أي: فكيف تصرفون عن الحقِّ إلى الباطل!!
 
الموضع القرآني 31

الله تعالى الذي جعل لنا الليل

لنسكن فيه




عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في آيات هذا النصِّ, فقال سبحانه: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ]يونس: 66-68[.


قرَّر ربُّ العزَّة- تبارك وتعالى- أنَّ {لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} ]يونس: 66[ أي: له السموات والأرض ومن فيهما, ومن ذلك ما يزعم الكفار أنَّهم يعبدونه, من الشمس والقمر والنجوم والأصنام والأوثان, فكلُّها مخلوقةٌ مربوبةٌ لله رب العالمين, ولذلك فإنَّ المشركين لا يدعون على الحقيقة آلهةً من دون الله تعالى {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} وإنَّما يتبعون الظنَّ, فالشمس ليست في الحقيقة إلهاً, واللات ليست في الحقيقة إلهاً, والعزَّى ليست إلهاً, ومناة ليست إلهاً, ولكنَّها في الحقيقة حجارةٌ أو أشجارٌ, أو صورةٌ لمخلوقاتٍ, لا تضرُّ ولا تنفع, وقوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أي: يكذبون.


وعرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنه {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ]يونس: 67[.


جعل الله الليل لعباده ليسكنوا فيه, أي: يستريحون فيه مما عانوه في النهار من تعبٍ ونصبٍ وإعياء, قال القرطبي: «{وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي: مضيئاً, لتهتدوا به في حوائجكم, والمُبصر الذي يُبصر, والنهار يُبصر فيه, وقال قطرب: يقال: أظلم الليل, أي: صار ذا ظلمة, وأضاء النهار وأبصر, أي: صار ذا ضياءٍ وبصرٍ, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ} أي: علاماتٍ ودلالاتٍ, {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: سماع اعتبارٍ» ]تفسير القرطبي: 4/659[.


أكذب الله- تعالى- المشركين في نسبتهم الولد إلى ربِّ العزَّة سبحانه, فقال: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ]يونس: 68[.


أخبرنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنَّ الكفرة المشركين زعموا كاذبين أنَّ الله تعالى اتخذ ولداً, فاليهود قالوا: عزيرٌ ابن الله, والنصارى قالوا: المسيح ابن الله, وعرب الجاهلية, قالوا: الملائكة بنات الله, وقد نزَّه ربُّ العزة نفسه عن الولد بقوله: {سُبْحَانَهُ} وقوله تعالى: {هُوَ الْغَنِيّ} أي: هو الغنيُّ عن الولد, {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي: له كلُّ ما في السموات والأرض فإنَّه مملوكٌ, خاضعٌ له, يسبِّح له, ويدعوه وحده, فأنَّى يكون له ولدٌ سبحانه.


وقوله تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} أي: هل عندكم من دليلٍ وحجَّةٍ وبرهانٍ يدلُّ على أنَّ العزير أو عيسى أو الملائكة أولاد الله تعالى, إنَّ دعواهم دعوى باطلةٌ, لا تقوم على دليلٍ, ولا حجَّةٍ ولا برهانٍ, ولذلك فإنَّ قولهم قولٌ قائمٌ على الجهل {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.


وهؤلاء الجهلة الضالُّون الذين يفترون على الله الكذب بنسبتهم الولد إلى الله تعالى لا يفلحون, ولا يفوزون {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} ]يونس: 69[. وقد أعلمنا ربُّنا- سبحانه وتعالى- أنَّه سيمتِّع هؤلاء الذين افتروا عليه الكذب متاعاً قليلاً في هذه الحياة, ثم يقبض أرواحهم, ويصيرون إليه, ثم يذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم وضلالهم {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} ]يونس: 70[.
* * *
 
الموضع القرآني 32

أرزاق الدواب على الله تعالى




عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- على نفسه في هاتين الآيتين, فقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ]هود: 6-7[.


عرَّفنا ربُّنا- سبحانه وتعالى- أنَّه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ]هود: 6[.والدابة كلُّ حيوانٍ يدب على الأرض, فيدخل فيه الإنسان والحيوان والطيور, وحقيقة الرزق: ما يتغذَّى به الحيوان الحيُّ, ويكون فيه بقاء روحه, ونماء جسده.


وقد أعلمنا ربُّنا عزَّ وجلَّ في هذه الآية أنَّه متكفلٌ بأرزاق المخلوقات التي تدبُّ على الأرض, صغيرها وكبيرها, بحريِّها وبريِّها, {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}, أي: يعلم مسارها في النهار, ومأواها في الليل, وقوله: {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ]هود: 6[ فالله- تعالى- يعلم ذلك, وقد كتبه في كتابٍ مبين, أي: في اللوح المحفوظ.


وعرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ]هود: 7[.


هذا العلم الذي حوته هذه الآية من العلم الذي لا يعلمه البشر إلا من قبل الوحي الإلهيِّ الربانيِّ, وقد أعلمنا ربُّنا في هذه الآية أنَّه خلق السموات والأرض في ستة أيامٍ, والله أعلم بمقدار تلك الأيام, وأخبرنا ربنا عزَّ وجلَّ أن عرشه كان على الماء, فالعرش الذي استوى عليه كان مخلوقاً قبل السموات والأرض, وكان هذا العرش على الماء, فالماء كان موجوداً قبل السموات والأرض وقد جاءت عدَّة أحاديث تدلُّ على ما دلَّت عليه الآية, وفيها مزيدٌ من التفصيل, فمن ذلك ما رواه البخاري عن عمران بن حصينٍ رضي الله عنه, قال: دخلت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب, فأتاه ناسٌ من بني تميم, فقال: «اقبلوا البشرى يا بني تميم». قالوا: قد بشَّرتنا فأعطنا- مرتين- ثمَّ دخل عليه ناسٌ من أهل اليمن, فقال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميمٍ».


قالوا: قد قبلنا يا رسول الله, قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر, قال: «كان الله ولم يكن شيءٌ غيره, وكان عرشه على الماء, وكتب في الذِّكر كلَّ شيءٍ, وخلق السَّموات والأرض». فنادى منادٍ: ذهبت ناقتك يا بن الحُصين. فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السَّراب, فو الله لوددت أنِّي كنت تركتها. ]البخاري: 3192[.


وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنةٍ» وقال: «وعرشه على الماء» [مسلم: 2653].


وقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي: ليختبركم أيُّكم أحسن عملًا، ولم يقل : أيكم أكثر عملًا، ولا يكون العمل حسنًا حتى يكون خالصًا لله عزَّ وجلَّ وعلى شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمتى فقد العمل واحدةً من هذين الشرطين بَطُلَ وحَبِطَ.


* * *
 
الموضع القرآني 33

الله تبارك وتعالى رفع السموات

والأرض بغير عمد




أولًا: التقديم(1)
ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة الرعد
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجلَّ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وأَنْهَارًا ومِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 2-4].

ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات

بغير عمدٍ: الأعمدة الأساطين الذي يقوم عليها البناء.
استوي على العرش، أي: علا وارتفع واستقرَّ، وعرش الرحمن سرير ملكه.
مدَّ الأرض: وسَّعها وبسطها.
رواسي: الرواسي الجبال.
الزوجان: الزوج الواحد، والزوجان الاثنان.
يغشى، أي: يغطي.
قطع متجاورات: أراضٍ يجاور بعضها بعضًا.
نخيل صنوان وغير صنوان: الصنوان جمع صنو، وهنَّ النخلات يجمعهن أصل واحد، وغير صنوان، أي: متفرقات.


رابعًا: شرح آيات هذا الموضع

عرَّفنا ربُّنا -عزَّ وجلَّ- بنفسه في آيات هذا الموضع، فقال: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَي عَلَى العَرْشِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجلَّ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2].


أعلمنا ربُّنا -عزَّ وجلَّ- أنَّه وحده الذي رفع السموات بغير عمدٍ، والسموات كما أخبرنا -سبحانه- في غير موضع في كتابه سبعٌ بعضها فوق بعض، وقد أخبرنا ربُّنا في هذه الآية أنه {رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي: رفعها بغير عمدٍ، أي بغير أساطين نراها، وقيل: رفعها بأعمدة لا نراها.


والسماء الدنيا محيطةٌ بالأرض من جميع جهاتها، والسماء الثانية محيطة بالسماء الأولى، {ثُمَّ اسْتَوَي عَلَى العَرْشِ} [الرعد:2] أي: استوى -سبحانه- على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته، ومعنى استوي علا واستقرَّ وارتفع، ومعنى الاستواء معلومٌ، ولكن كيفية الاستواء مجهولةٌ.


وقوله: {وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجلَّ مُّسَمًّى} [الرعد: 2] أي: ذلَّل سبحانه الشمس والقمر، وجعلهما يجريان إلى قيام الساعة، والشمس والقمر أظهر الكواكب السيارة، وإذا جاء يوم القيامة، فإن الشمس تكوُّر ويذهب ضوؤها، والقمر يخسف ويزول، وقوله:{يُدَبِّرُ الأَمْر} يدبر أمور الآخرة والدنيا وحده سبحانه، بغير شريك، ولا ظهير، ولا معين، وقوله:{يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2] أي: يبين الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرة الله، لعلكم توقنون بلقاء ربكم إذا فصَّل لكم الآيات.


وكما أعلمنا ربُّنا عزَّ وجلَّ بما سبق بيانه في السموات والأرض والشمس والقمر أعلمنا سبحانه بأنه {وهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وأَنْهَارًا} [الرعد: 3] أخبرنا سبحانه أنَّه مدَّ الأرض، أي: جعلها متسعةً ممتدةً في الطول والعرض، {وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وأَنْهَارًا} [الرعد: 3] أي: أرسى الأرض وثبَّتها بالجبال {ومِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3] والزوج يطلق على الاثنين وعلى الواحد المزاوج للآخر، والمراد بالزوج الواحد، ولهذا أكَّد الزوجين بالاثنين لدفع توهم أنه أريد بالزوج هنا الواحد، فالثمرات زوجان منها الحلو والحامض، والأبيض والأسود، {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الرعد: 3] أي: جعل كلاً منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا، فإذا ذهب هذا غشية هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر، {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: يتفكرون في آيات الله، أي: في مدِّ الأرض، وإرسائها بالجبال، وما جعله فيها من الثمار، وتعاقب النور والظلمة.


وأخبرنا ربُّنا العليُّ الأعلى سبحانه أنَّ {وفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4].


أخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه جعل في الأرض قطعًا متجاوراتٍ، أي: أراضي يجاور بعضها بعضًا، وفاوت بين هذه الأراضي، فجعل بعضها أرضًا طيبةً تنبت العشب، وتحفظ الماء، وجعل قطعةً مجاورة سبخةً مالحةً لا تنبت، وجعل قطعةً ثالثةً صخريةً صلدةً قاسية، وقد تتفاوت الأرض في ألوانها، وهي متجاورة، فتكون هذه بيضاء، وهذه سوداء، وهذه حمراء، وقد تكون الأرض جنانًا متنوعةً، أي: بساتين متنوعة، فتكون جناتٌ من أعنابٍ وزرعٍ، ونخيل صنوانٍ وغير صنوان، يسقى بماء واحد، أي: تكون الأرض الواحدة تنبت أشجاراً شتى، فيها الخوخ والكمثرى والتفاح والبرتقال، ويحمل بعضها أكثر من بعضٍ، ويكون بعضها حلواً، وبعضها حامضاً.


وقوله: {ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ} والصنوان جمع صنو، وهنَّ النخلات يجمعهن أصل واحد، {وغَيْرُ صِنْوَانٍ} أي: نخلًا متفرقًا، كلُّ واحدة على حدة، يسقيها ماءٌ واحدٌ، {ونُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} أي: وتختلف طعومها فيما بينها، فهذا حلو، وذاك حامض، وهذا مِزٌّ{إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: أن ما يُحدِّث عنه ربُّ العزَّة من هذه الجنات والزروع آياتٌ لقومٍ يعقلون أي: ما يُتحدَّث عنه، وما يرونه بأبصارهم.


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه تبارك وتعالى

عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات بإعلامنا سبحانه أنه:
1- خلق السموات الهائلة الكبيرة الواسعة بغير أعمدة نراها، وكذلك الأرض جعلها سابحة في الفضاء.
2- استوي سبحانه تبارك وتعالى على عرشه، وهو سرير ملكه استواءً يليق بجلاله، لا يشبهه استواء المخلوقين، وليس كمثله شيء.
3- سخَّر الله تعالى لنا الشمس والقمر، وجعل كلاً منهما يجري إلى أجلٍ محدَّدٍ.
4- الله - تبارك وتعالى - هو الذي مدَّ الأرض وبسطها، وجعل فيها جبالًا رواسي تثبتها، وجعل فيها الأنهار التي تسقي العباد والزروع.
5- الله - تعالى - الذي أنشأ ما لا يعدُّ من الأشجار في بقاع الأرض، تخرج أنواع الثمار.
6- الله تعالى يغشي الليل النهار، أي: يغطيه بظلامه، وذلك عندما ينقضي النهار، ويأتي الليل.
7- الله تعالى هو الذي جعل في أرضنا قطعًا من الأراضي متفاوتة فيما بينها، فبعضها ذو خصوبة، وبعضها لا خصوبة فيه، وقد يكون غنيًا بالمعادن، وبعضها من ترابٍ وأخرى من صخورٍ.
8- الله - سبحانه وتعالى - جعل لنا في أرضنا جناتٍ من أعناب، والأعناب أنواع شتَّى تختلف في طعومها وألوانها، وتختلف في زمن نضجها، وجعل لنا ما لا يحصى من الزرع من القمح والشعير والذرة والعدس وغيرها، والله تعالى جعل لنا النخيل صنوانًا متشابهةً فيما بينها، وغير صنوانٍ، أي: مختلفة فيما بينها، وهي مع ذلك كله تسقى بماء واحد.
* * *[FONT=&quot][/FONT]​
[FONT=&quot] [/FONT]

[FONT=&quot] [/FONT]
[FONT=&quot] [/FONT]

http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=1723894&page=3#_ftnref1[FONT=&quot]([FONT=&quot][1][/FONT]) [/FONT][FONT=&quot]لم تتم كتابة هذا التقديم وترك مكانه بياضًا، بسبب وفاة المؤلف.[/FONT]
 
الموضع القرآني 34

الله يعلم ما تحمل كلَّ أنثى وما

تغيض الأرحام وما تزداد




أولًا: تقديم

عرَّفنا ربُّنا - تعالى - بنفسه في هذه الآيات، ومن ذلك أنه يعلم ما تحمل كلُّ أنثى في هذا الكون الواسع العريض، ويعلم كلَّ ما يجري في الأرحام، ويعلم السر المكنون في الصدور، والحركة الخفية في جنح الظلام، ويعلم كلَّ مستخفٍ بالليل وكلَّ سارب وهامس وكلَّ جاهر، وحدَّثنا ربُّنا عن الملائكة المعقبات التي تحفظ الإنسان من أمر الله، وحدَّثنا الله تعالى عن البرق والسحاب والرعد، وهي مظاهر صنعها الله تعالى في هذا الكون الواسع العريض لحكمٍ يعلمها الله تجري في هذا الكون الواسع الكبير.


وعرَّفنا ربُّنا سبحانه أنَّ له الدعوة الصحيحة الوافية، وهي دعوة الحقِّ دعوة التوحيد، ودعوة الكفار التي تتجه إلى الأصنام دعوة باطلة ضائعة.



وضرب الله المثل للكفار الذين يدعون غيره بطالب الماء الذي يوجِّه يديه إلى الماء فلا يبلغ الماء فاه.


ويعلمنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ سبحانه - أنَّ كلَّ من في الكون خاضع لله ساجدٌ له طوعًا وكرهًا، وهو سبحانه ربُّ السموات والأرض، فكيف اتخذوا من دونه آلهة لم يَشْرَكوا الله في خلق الأرض والسماء، فالله هو الخالق لكلِّ شيءٍ وهو الواحد القهار. وضرب ربُّ العباد مثلًا للحقِّ والباطل، فالباطل هو الغثاء الذي يحمله السيل عندما تهطل الأمطار في الوديان والشعاب، ومثله مثل الزبد الذي يظهر على صهارة المعادن التي تذاب ليصاغ منها الحلي كالذهب والفضة، والحقُّ هو الماء الهاطل من السماء الذي يسير في الوديان والشعاب، وهو الذهب والفضة الذين يوقدون عليه النار.


ثانيًا آيات هذا النص من سورة الرعد

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ومَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ ومَا تَزْدَادُ وكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ ومَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وإذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ ومَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن والٍ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا ويُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * ويُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ والْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ويُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ * لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ ومَا هُوَ بِبَالِغِهِ ومَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ * ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ والآصَالِ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا ولا ضَرًا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ والنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ * أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ومِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:8-17].


ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات

تغيض الأرحام: تنقص بذهاب بعض ما فيها.
وما تزداد، أي: تنمو الأرحام وتكبر في أثناء فترة الحمل.
مستخف بالليل، أي: مستتر به على وجه الخفاء.
سارب: ظاهر بارز.
الثقال: السحاب الممتلئ بالماء.
دعوة الحق: الدعوة الصحيحة القائمة على التوحيد.
بقدرها، أي: سالت الأودية بحسب ما تتسع له.


رابعًا: شرح هذا الموضع من الآيات

عرَّفنا ربُّنا في هذه الآيات بنفسه سبحانه، وبيَّن لنا أنه الذي فعل ما يأتي:


1- الله يعلم ما تحمل كل أنثى:


أعلمنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أنه {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ومَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ ومَا تَزْدَادُ وكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] وكم في الأرض من أنثى من النياق والبقر والغنم والخيل والحمير والغزلان وغيرها مبثوثةٌ في هذه الأرض الواسعة العريضة بعضها يقوم بأعماله في ظلمة الليل، وبعضها ينشط في وضح النهار لا يستخفي من أحد، وعلم الله يحيط بها، وبما تحمله في بطونها، فما تغيض الأرحام، أي: تنقصه فإن الله يعلمه، وما تزداد أرحامها فإنه يعلمه، وكلُّ شيءٍ عنده بمقدارٍ.


ومن جملة أنثى الحيوان الذي يدخل في الآية، ويحيط به علم الله أنثى الإنسان. وقوله تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ} [الرعد:9] والغيب ما غاب عنا في هذا الكون الواسع العريض، وهو لا يُحصى كثرة، والشهادة ما نشاهده من البشر والبحار والأنهار والحيوان والشمس والقمر والنجوم وغيرها، وهو قليلٌ بالنسبة لما غاب عنا، ويستوي في علم الله تعالى علمُ ما غاب عنَّا، وما نشاهده، فهما في علمه سواء، والله تعالى هو {الكَبِيرُ المُتَعَالِ} والله هو الكبير، فلا أحد أكبر منه، وهو المتعالي، أي: العالي على كلِّ شيء، فلا شيء أعلى منه.


وأعلمنا ربُّنا سبحانه وتعالى أنَّه يستوي في علمه الجهر والعلانية {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ ومَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10] أعلمنا ربُّنا أنه يستوي في علمه الذي يسر قوله ويخفيه، ومن يجهر به ويبديه، كما يستوي عنده سبحانه المُستخفي في ظلمة الليل، والساربُ الظاهرُ في وضح النهار، كلاهما في علمه سواء.


2- له معقباتٌ من بين يديه ومن خلفه:


أعلمنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّ لكلِّ واحدٍ منَّا {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]، والمعقبات ملائكةٌ وضعهم رب العزة على كلِّ واحدٍ من البشر يحفظونه من أمر الله تعالى، فلا يصل إليه سوء لا يريد الله أن يصل إليه، فإذا جاء العبد ما قدَّر الله أن يصل إليه خلُّوا بينه وبين قدر الله، وهذه الملائكة غير الملائكة الذين يحفظون على العبد أعماله صالحها وطالحها.


وقوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] أي: لا يزيل الله النعم التي أنعم بها على عباده في أنفسهم وفيما حولهم حتى يعملوا بمعاصيه، ويهجموا على ما حرَّمه عليهم، عند ذلك يسلبهم الله نِعَمه، ويحلُّ بهم نِقَمه، وتتبدَّل أحوالهم.


وقوله تعالى: {وإذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ ومَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن والٍ} [الرعد:11] أي إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يحل بقومٍ نِقَمه، فلا يستطيع أن يردَّ عليه أحدٌ مراده، لا من الأنس ولا من الجنِّ ولا من الملائكة، وليس لمن حلَّ بهم العذاب والٍ يتولاهم، ولا حامٍ يحميهم، ويمنع عنهم العذاب.


3- الرعد يسبح بحمد الله والملائكة يسبحون من خيفته:


أعلمنا ربُّنا - تبارك وتعالى أنَّه {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا ويُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد:12] أعلمنا ربُّنا -تبارك وتعالى -أنَّه هو الذي يرينا البرق خوفًا وطمعًا، والبرق اللمعان الذي يظهر في السحاب، والله تعالى يرينا البرق فنخافه، لأنه قد يتحول إلى صاعقةٍ، وقد يكون نذيرًا بسيل مدمر، {وطَمَعًا} لأنه قد يأتي بالخير، فقد يأتي بالمطر الذي يحيي الأرض بعد موتها، وقد يجري الأنهار، ويغذو العيون، ويجعلها تتدفق.


والله - تبارك وتعالى - ينشئ السحاب والثقال، ينشئ السحاب الممتلئ بالماء ويصرفه إلى مختلف بقاع الأرض، فتحمل السحابة الماء فتسقي العباد والدواب والأرض، وأخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أن الرعد يسبح بحمده والملائكة من خيفته {ويُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ والْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13] فهذا الصوت المدوِّي الذي يأتي من الرعد هو تسبيح بحمد الله، وتسبح {الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} وأخبرنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أنه {يُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ} أي أن الله تعالى يرسل الصواعق على من يشاء أن يصيبه بها {وهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ} [الرعد: 13] والذين يجادلون في الله أهل الشرك، يجادلون في وحدانيته، وفي استحقاقه العبادة.


4- الله -تبارك وتعالى - له دعوة الحق:


أخبرنا -ربُّنا -تبارك وتعالى - أنَّ {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ ومَا هُوَ بِبَالِغِهِ ومَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ} [الرعد:14].


أخبرنا الله - عزَّ وجلَّ - أن له دعوة الحقِّ، ودعوة الحقِّ دعوة التوحيد القائمة على: لا إله إلا الله، والذين يدعون من دون الله الآلهة من الأصنام والأوثان وغيرهم لا تستجيب هذه الأصنام لدعوتهم {إلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ ومَا هُوَ بِبَالِغِهِ} إلا كالذي يقف في أعلى البئر أو النهر ويبسط كفيه إلى الماء، يريد أن يصعد الماء إلى فمه، وليس في الماء خاصية أن يصعد إلى أعلى، ويستجيب إلى ما يريده الإنسان، ولذلك قال: {ومَا هُوَ بِبَالِغِهِ} أي: لن يصعد الماء إلى فمه، وكذلك هذه الآلهة التي يدعونها من دون الله تعالى، لا تسمع دعاءهم، ولا تجيب نداءهم، {ومَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ} أي: وما دعاء الكافرين إلا في ضياع، فالآلهة التي يدعونها لا تسمع ولا تجيب، ودعاء الكافرين بذلك يكون ضائعًا.


وأخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه {ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ والآصَالِ} [الرعد:15] أخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه يسجد له من في السموات والأرض طوعًا، وهؤلاء هم الملائكة ومؤمنو الأنس والجنِّ، {وكَرْهًا} وهم الكفار والمنافقون في حالات الخوف والاضطرار، والله أعلم بطريقة سجودهم كرهًا، وهذا كقوله تعالى: {ولَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا} [آل عمران: 83]، أي: وله يسجد ظلال الناس بالغدوِّ في الصباح وبالآصال، والآصال جمع أصيل، أي : في آخر النهار عند انكسار الأشعة وامتداد الظلال.


5- الله تعالى رب السموات والأرض ورب كل شيء وخالق كل شيء:


أمر الله - تبارك وتعالى - أن يسأل المشركين، ويقول لهم: {مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا ولا ضَرًا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ والنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ} [الرعد:16]. أمر ربُّ العزَّة سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل المشركين، ويقول لهم: من ربُّ السموات والأرض صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا ينتظر إجابتهم، بل يسارع بالإجابة ويقول: {اللَّهُ} ثم أمره أن يتبع السؤال الأول بسؤال ثانٍ، ويقول{أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا ولا ضَرًا} يقول لهم: إذا كان الله تعالى هو خالق السموات والأرض، فكيف تتخذون من دون الله أولياء، أي : شركاء، وهؤلاء الشركاء لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، فالآلهة التي يعبدونها من دون الله أصنامٌ لا تنفع ولا تضر، ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع السؤالين السابقين بثلاثة أسئلة أخرى، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ} يريد بالأعمى المشرك الكافر، والبصير المؤمن الموحِّد، والجواب: أنهم لا يستويان، وقوله: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ}أي: هل تستوي الظلمات والنور، والجواب أنهم لا يستويان، والسؤال الأخير {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِه}أي: جعلوا أنداداً يعبدونهم معه، وقوله: {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} والجواب: أنَّ هذه الآلهة الباطلة التي جعلوها شركاء لله تعالى في عبادته، لم تشركه في الخلق، ولذلك قال ربُّ العزة:{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}قل لهم: إنَّ الله تعالى هو وحده خالق كلِّ شيء فهو خالق ما في السموات والأرض وما فيهما، وما بينهما، وهو خالق آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وهو الواحد، أي: في ربوبيته وألوهيته وفي أسمائه وصفاته، وهو الذي قهر عباده ومخلوقاته بعزَّته وجبروته.


6- مثل ضربه الله للحق والباطل والإيمان والكفر:


قال ربُّ العزَّة تبارك وتعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]، قال ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة.


«وهذا مثلٌ ضربه الله للحقِّ والباطل والإيمان به والكفر، يقول تعالى ذكره: مثل الحقِّ في ثباته والباطل في اضمحلاله مثل ماء أنزله الله من السماء إلى الأرض{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}يقول: فاحتملته الأدوية بمثلها، الكبير بكبره، والصغير بصغره، {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا}يقول: فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنزله الله من السماء زبدًا عاليًا فوق السيل، فهذا أحد مثلي الحقِّ والباطل، فالحقُّ هو الماء الباقي الذي أنزله الله من السماء، والزبد الذي لا ينتفع به هو الباطل.


والمثل الأخر: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} يقول جلَّ ثناؤه: ومثل آخرٌ للحق والباطل، مثل فضَّةٍ أو ذهبٍ يوقد عليها الناس في النَّار طلب حليةٍ يتخذوها أو متاع، وذلك من النحاس والرصاص والحديد، يوقد عليه ليتَّخذ منه متاع ينتفع به {زَبَدٌ مِثْلُهُ}يقول تعالى ذكره: ومما يوقدون عليه من هذه الأشياء زبدٌ مثله، بمعنى: مثل زبد السيل لا يُنتفع به ويذهب باطلًا، كما لا يُنتفع بزبد السيل، ويذهب باطلًا، ورفع «الزبد» بقوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} ومعنى الكلام: ومما يوقدون عليه في النار زبدٌ مثل زبد السيل في بُطولِ زبدِهِ، وبقاء خالص الذهب والفضة. يقول الله تعالى:{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} يقول: كما مثَّل الله الإيمان والكفر في بُطولِ الكفر وخيبة صاحبه عند مجازاة الله بالباقي النافع من ماء السيل وخالص الذهب والفضة، كذلك يُمثِّلُ الله الحقَّ والباطل. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} يقول: فأما الزبد الذي علا السيل، والذهب والفضة والنحاس والرصاص عند الوقود عليها، فيذهب بدفع الرياح وقذف الماء به، وتعلُّقه بالأشجار وجوانب الوادي. {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ}من الماء والذهب والفضة والرصاص والنحاس، فالماء يمكث في الأرض فتشربه، والذهب والفضة تمكث للناس {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} يقول: كما مثَّل هذا المثل للإيمان والكفر، كذلك يُمثِّل الأمثال» [تفسير ابن جرير الطبري: 6/4720].


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا تعالى بنفسه في هذه الآيات

عرَّفنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ –بنفسه في هذه الآيات، عرَّفنا بأنه الفاعل لما يأتي والمتصف بما يأتي:


1- علم الله تعالى محيطٌ بكلِّ أنثى في هذه الأرض، فهو يعلم ما تحمل كلُّ أنثى في رحمها، ويعلم ما تنقصه الأرحام، كما يعلم نمو الرحم وزيادته.


2- علم الله محيطٌ بما غاب عنَّا وما نشاهده والله تعالى الكبير المتعالي.


3- يستوي في علم الله ما أسررنا به وأخفيناه، وما أظهرناه وأبديناه، كما يستوي في علم الله الساتر لنفسه في ظلمة الليل، والمظهر لنفسه في وضح النهار.


4- وكَّل الله تعالى بنا ملائكة يحفظوننا، فلا يصل إلينا إلاَّ ما قدَّر الله أن يصل إلينا.


5- الله تعالى هو الذي خلق البرق، فنراه خائفين طامعين، وهو الذي ينشئ السحاب الثقال.


6- الرعد يسبِّح بحمد الله، والملائكة تسبح من خيفة الله تعالى، وقد يرسل الله تعالى الصواعق، فيصيب بها من شاء إصابته بها.


7- الله تعالى له دعوة الحقِّ القائمة على التوحيد، والذين يدعون من دون الله من الأصنام دعوتهم باطلة.


8- كل من في السموات والأرض يعبدون الله، ويسجدون له، طائعين أو كارهين، وكما يسجدون له تسجد له ظلالهم في الصباح والمساء.


9- الله تعالى المتفرد سبحانه بخلق السموات والأرض، وكفار قريش كانوا يقرون بذلك، ولذا فإنهم يتناقضون عندما يتخذون من دون الله أولياء.


10- ضرب الله تعالى مثلًا للحقِّ والباطل، بالماء الهاطل من السماء، فسالت الأودية والشعاب كلُّ بقدره، فاحتمل السيل الذي سالت به الوديان زبدًا رابيًا، ومثل ذلك الزبد الزبدُ الذي يظهر على صهارة الخامات المعدنية مثل خامات الذهب والفضة وغيرها التي يوقدون عليها النار، فالزبدُ الذي يحمله السيل والزبدُ الذي يعلو الصهارة يذهبُ ويزولُ، أما ما ينفع الناس، وهو الماء فيمكث في الأرض.
* * *
 
الموضع القرآني 35

بعض ما سخره الله للإنسان




عرَّفنا ربُّنا – تبارك وتعالى – بنفسه في الآيات التاليات {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:32-34]


عرَّفنا ربُّنا – تبارك وتعالى – أنَّه خلق السموات بنجومها وشموسها وأقمارها، وجعلها سقفًا محفوظًا، وجعلها سبعًا طباقًا، وخلق الأرض بجبالها وسهولها، وحيوانها ونباتها، وأنزل سبحانه الماء من السماء , فأخرج به أزواجًا من نباتٍ شتى ما بين ثمارٍ و زروعٍ، مختلفة الألوان والأشكال، والطعوم والروائح والمنافع، وسخر لنا الفلك، وهي السفن لتجري في البحر بإرادته ومشيئته، فتحملنا وتحمل أثقالنا، وسخَّر لنا الأنهار تشقُّ الأرض من قطر إلى قطرٍ وجعل ماءها شرابًا لنا، ولحيواناتنا، ونباتاتنا، وسخَّر لنا ربُّنا سبحانه الشمس والقمر دائبين، يسيران، ولا يقرّان ليلًا ولا نهارًا، وسخَّر لنا الليل والنهار، أحدهما لمنامنا وراحتنا، والآخر يبعثنا فيه، لنعمل ونقوم بمهامنا، وقد جعل ربُّنا سبحانه الشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتقارضان، فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول، ثمَّ يأخذ الآخر من هذا فيقصر.


وآتانا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – من كلِّ ما سألناه إياه {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} لقد آتانا الله تبارك وتعالى من كلِّ ما سألناه واحتجنا إليه من أنواع الطعام وأنواع الشراب وأنواع الفواكه وأنواع اللباس، وأخبرنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – أننا لا نستطيع إحصاء نعمه التي أنعم بها علينا {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} ومع كثرة النعم التي أنعم بها على عباده، فإنَّ الإنسان كثير الظلم لنفسه، فبدل أن يقابل النعم بالشكر لله الواحد الأحد، إذا هو يقابلها بالكفر{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} وظلومٌ وكفَّارٌ صيغتان من صيغ المبالغة أراد الله تعالى بهما إظهار مدى ظلم الإنسان وكفره.


* * *
 
الموضع القرآني 36

خلق الله الإنسان من نطفة




أولًا: تقديم

عرَّفنا ربُّنا – تبارك وتعالى – في هذه الآيات بنفسه، وحدَّثنا بنعمه التي أنعم بها علينا في الأرض والسماء، ومن ذلك خلقه الأرض والسماء، وخلقنا من نطفةٍ ضعيفةٍ، وخلق لنا الأنعام، لتكون لنا مأكلًا، وصوفها ملبسًا، ونركبها في حاجاتنا، وتحمل أثقالنا.


وخلق لنا ربُّنا الخيل والبغال والحمير لنركبها، ونتجمل بها، وأنزل لنا الماء من السماء لنشرب منه، ونسقي منه دوابَّنا، ونروي زروعنا، وسخَّر لنا الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، وبثَّ لنا في الأرض ما نحتاج إليه من المنافع والمصالح , وسخَّر لنا البحر لنأكل منه اللحم الطريَّ، ونلبس مما يخرج منه من حليِّ، ونسيِّر فيه سفننا لتحملنا وتحمل تجاراتنا، وثبَّت الله العظيم الكريم سبحانه أرضنا بالجبال الرواسي، وسيَّر لنا فيها الأنهار، وجعل لنا فيها الممرات والطرقات نسير فيها مشرِّقين ومغربين، وجعل لنا فيها العلامات التي تهدينا في أسفارنا، وهدانا بالنجوم في ظلمات الليل، وهو ربُّنا تبارك وتعالى الذي لا يعدُّ ولا يحصى خلقه، ولا تعدُّ نعمه، وهو العالم بنا لا يخفى عليه شيءٌ مما نسرُّ به ونخفيه، ولا ما نعلنه ونبديه سبحانه.


ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة النحل

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 3-23].


ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات

الأنعام: الجمال والأبقار والأغنام.
النطفة: الحيوان المنوي الذي يخلق منه الإنسان.
تريحون وتسرحون: تريحون بالعودة إلى منازلكم، وتسرحون عندما تنطلقون إلى المرعى.
جائر: ظالمٌ ضالٌّ.
تسيمون: ترعون أنعامكم.
ذرأ: بثَّ ونشر.
مواخر: تشقُّ عباب الماء.
تميد: تميل وتضطرب.
لا جرم: حقّاً.

رابعًا: شرح هذه الآيات

هذه الآيات مقطع طويل من الآيات، عرَّفنا ربُّنا –تبارك وتعالى –بنفسه فيها عبر النقاط التالية:


1- خلق الله - تبارك وتعالى السموات والأرض بالحق:


عرَّفنا ربُّنا –عزَّ وجلَّ– أنَّه {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل:3] وعرَّفنا سبحانه وتعالى أنَّه خلق السموات والأرض خلقًا كائنًا بالحقِّ متصفًا به، وقد سبق أن بيَّنت فيما مضى في سورة الحجر أنَّ الحق هو الذي جعل السموات والأرض معبدًا تتجاوب أرجاؤه بالتقديس والتسبيح والتحميد، ويتردَّد فيه الدعاء، وتقام فيه الصلاة، وقد نزَّه الله تعالى نفسه عمَّا يشركون، أي ما يشركونه به من الأوثان والأصنام.


وأخبرنا سبحانه وتعالى أنه {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:4] أي خلقه، من حيوانٍ منويٍّ ضعيفٍ، فلما نما وكبر وأصبح إنسانًا خاصم ربَّه الذي خلقه، وكذَّبه، وحارب رسله، كما قال عزَّ وجلَّ {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:77-79].


وقد روى بسر بن جحاشٍ قال: بصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفه، ثمَّ قال: «يقول الله تعالى: ابن آدم، أنَّى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه ؟ حتَّى إذا سوَّيتك, فعدلتُك مشيت بين بُرديك, وللأرض منك وئيدٌ, فجمعت ومنعت, حتَّى إذا بلغت الحلقوم, قلت: أتصدَّق؛ وأنَّى أوان الصدقة» ]قال محقق ابن كثير (3114): أخرجه ابن ماجه وأحمد وصحح البوصيري إسناده في الزوائد, وانظر «الصحيحة» (1099)[.


وأعلمنا سبحانه وتعالى أنَّه خلق لنا الأنعام, لمصالح كثيرةٍ حدَّثنا ربُّنا عنها {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ]النحل: 5-8[.والأنعام هي الإبل والبقر والغنم, وقد جعل الله تعالى لنا فيها الدفء, فالبشر يصنعون من أصوافها وأوبارها وأشعارها ملابس يتجملون بها, ويصنعون ملابسهم التي تقيهم البرد, ويصنعون منها خيامهم التي تؤويهم في الحرِّ والقرِّ, وجعل لنا فيها منافع كثيرةً, وجعل لحمها طعاماً لنا, وجعل لنا فيها جمالاً حين نريح وحين نسرح, أي حين نرجع بها من المرعى عشياً, {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي: غدوة حين نبعثها إلى المرعى, {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} والأثقال تتمثل بالأمتعة وأنواع البضائع والأثاث التي يرغب الناس بنقلها من مكانٍ إلى مكان, تحملها الإبل إلى بلادٍ بعيدة, لم نكن بالغيها إلا بشقِّ الأنفس, نسافر بها إلى الحجِّ والعمرة, أو ننتقل للتجارة أو الزيارة أو السياحة, وعقَّب ربُّنا- تبارك وتعالى- على ذلك بقوله: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} لرؤوف رحيم بكم, ومن أجل ذك سخر لكم هذه الأنعام.


ثم أخبرنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنَّه سخَّر لنا {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ]النحل: 8[. فالخيل والبغال والحمير تستعمل لأمرين: الأول: ركوب بني آدم لها. والثاني: أنَّ في اقتنائها وركوبها زينةً يستمتع بها أصحابها, وقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: من الوسائل التي يركبها العباد, ويتخذونها زينة, وقد يسَّر الله للبشر اختراع السيارات والطيارات (والقطارات), وطوروا السفن, وسيخترع البشر أنواعاً أخرى لمزيد من الانتفاع بها.


وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ} ]النحل: 9]. ذكر الله تعالى الحيوانات من الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير, وذكر ما فيها من المنافع, ثمَّ ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه, فبيَّن أنَّ منها السبيل القاصدة, وهي الطريق الموصلة إليه, وهي طريق الحقِّ, وهي متمثلة في دين الإسلام الذي سلكه أنبياؤه ورسله وأتباعهم, {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} وهذا شامل للطرق الضالة كلها, وهي اليهودية والنصرانية والبوذية والهندوسية والمجوسية والشيوعية, وغيرها من طرق الضلال والغواية, وأعلمنا ربُّنا في خاتمة الآية أنه لو شاء لهدانا أجمعين, ولكنَّه قضى بتدبيره وحكمته أن نكون مختلفين.


2- إنزال الله- تبارك وتعالى- الماء من السماء لينبت به الزرع:


أعلمنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنه {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ]النحل: 10-11[.
ذكر الله- تعالى- نعمته على عباده في إنزاله الماء من السماء, والمراد به إنزاله من السحاب, وقد جعل من هذا الماء النازل من السماء شراباً يشرب منه العباد ودوابُّهم ومواشيهم, ومنه تتغذى الآبار وتتدفق العيون, ومنه ما يسقي الزرع والشجر الذي فيه تسيمون أنعامكم, أي: ترعونها فيه, تقول العرب: الإبل السائمة.


وبهذا الماء الواحد ينبت لنا ربُّنا الزرع والزيتون والنخيل والأعناب, ثم قال: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي: ويخرج لكم غيرها من الثمرات, كالتفاح والبرتقال والخوخ وأنواع الفواكه, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: فيما حدثنا الله من سقينا بالماء النازل من السماء, وما ينبت به من الزروع والثمار, لآيات دالة على الله تعالى, ولكن لقوم يحسنون التدبر والتفكر والاتعاظ بهذه الآيات.


3- سخَّر الله- تبارك وتعالى- لعباده الليل والنهار والشمس والقمر:


عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- أنه سخَّر لنا ما شاء من مخلوقاته {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} ]النحل: 12-13[.


ذكر الله- تبارك وتعالى- النعم التي لا تقوم حياتنا من غيرها, ذكر أنَّه سخَّر لنا الليل والنهار, يتعاقبان, ويتقارضان, والشمس والقمر يدوران, وسخر لنا النجوم وبثَّها في أرجاء الفضاء, وجعلها لنا نوراً وضياء, وجعلها لنا علاماتٍ نهتدي بها في ظلمات الليل, وقد حدَّثنا في غير هذا الموضع عن مساراتها ومنازلها.


وقوله تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ]النحل: 12[ أي: في ذلك آيات لقوم يعقلون دين الله- تبارك وتعالى- ويفقهون حججه, وقوله: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أخبرنا ربَّنا عمَّا ذرأه في أرضنا من الأمور العجيبة والأشياء المختلفة من الحيوانات المختلفة والنبات والمعادن والجمادات على اختلاف أشكالها وألوانها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي: آياتٌ دالةٌ على الله سبحانه لقومٍ يذَّكرون آلاءه ونعمه, فيشكرونها.



4- الله- تبارك وتعالى- الذي سخر لعباده البحر:


الله تبارك وتعالى:{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}.


حدَّثنا ربُّنا- تبارك وتعالى- عن تسخيره البحر لنا, والبحر في هذه الأرض أكثر من اليابسة, وقد سخَّر لنا هذا البحر الشاسع الواسع المتلاطم بالأمواج, وجعل فيه الأسماك والحيتان, وأحلَّها لعباده, ولحمها طريٌّ صالحٌ للأكل, وجعل فيها الحليَّ التي نستخرجها من البحار, كما قال ربُّ العزَّة: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ]الرحمن: 22[. ومن الآيات البحرية مسير الفلك في البحر, وهي السفن التي تمخر بصدرها عباب البحر,وقوله:{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لتركبوا الفلك, وتسيروا فيها, متنقلين من قطرٍ إلى قطر, ومن بلادٍ إلى بلاد, لطلب الرزق, وزيارة الأصحاب والأقارب والأحباب, {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرونه على نعمة وإحسانه وفضله.



5- ألقى ربُّ العزَّة الجبال في الأرض ليثبتها وأجرى فيها الأنهار:


أعلمنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنَّه {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ]النحل: 15-16[ خلق الله تعالى الأرض فمادت, فأرساها وثبَّتها بالجبال, وسيَّر فيها الأنهار تسقي العباد والبلاد, وجعل فيها الطرق والممرات تخترق الجبال, وينتقل الناس فيها في أسفارهم, كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} ]الأنبياء: 31[.


وجعل ربُّنا في الأرض علاماتٍ يستدلُّ بها المسافرون على ما يقصدونه في أسفارهم, وتكون العلامة جبلاً شامخاً, أو رابيةً مدببة, أو صخرةً مفلطحةً, أو هوةً سحيقةً, أو غير ذلك.


وكما جعل لنا علاماتٍ نهتدي بها في جنبات الأرض, جعل لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمة الليل, {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} فكثيرٌ من الناس يستطيعون تحديد مشارق الأرض ومغاربها في الليل بالتعرف على مواقع النجوم.

6- استحقاق الله تعالى العبادة وحده:


أعلما ربُّنا- تبارك وتعالى- أنَّه وحده الخالق دون غيره بقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ]النحل: 17[ فالله الذي خلق الخلق في الأرض وفي السماء هو الذي يستحقُّ أن يعبد وحده, فغيره لا يخلق شيئًا.


وعقَّب الله- تبارك وتعالى- على هذا السيل الذي ساقه من النعم الكثيرة الوافرة بقوله:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ]النحل: 18[ أي أنَّ العباد لا يستطيعون عدَّ نعم الله على عباده, وقد تكون في النعمة الواحدة نعمٌ كثيرة, ولذلك لا يستطيع العباد الوفاء بنعم الله كلِّها, فمن فضل الله- تبارك وتعالى- علينا أنَّه يرضى عنَّا, وإن لم نستطع أن نفيه حقَّ النعم كلِّها, و{إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ولذلك يغفر لنا ما وقع منا من تقصير في شكر نعمه.


{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ]النحل: 19[. أخبرنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- في خاتمة هذا النصِّ أنه يعلم ما نسره ونخفيه, وما نعلنه ونبديه, فعلمه بنا محيط, لا تخفى عليه خافية من أعمالنا وأقوالنا وخطرات قلوبنا.


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا على نفسه في هذه الآيات

1- الله- تبارك وتعالى- الذي خلق السموات والأرض.
2- الله- تبارك وتعالى- خلق الإنسان من نطفةٍ ضعيفة, ثم أصبح لله خصيماً.
3- خلق الله- تبارك وتعالى- لنا الأنعام, نصنع من أوبارها وأصوافها ملابسنا, التي تدفئنا, ولنا في لحومها وألبانها منافع كثيرةٌ, ومنها نأكل, ولنا فيها جمالٌ حين نذهب للراحة في المساء, وحين نغدو بها في الصباح, وتحملنا وتحمل أثقالنا إلى بلدٍ لم نكن بالغيه إلا بشقِّ الأنفس.
4- الله تعالى هو الذي خلق لنا الخيل والبغال والحمير لنركب فوق ظهورها, وجعل لنا فيه زينةً وجمالاً.
5- الله تعالى الذي أنزل لنا من السماء ماءً نشرب منه, ونسقي منه دوابنا, ويخرج به الشجر الذي نطلق فيه أنعامنا لتأكل منه.
6- ينبت الله بالغيث الذي ينزله من السماء الزرع والزيتون والنخيل والأعناب, ويخرج لنا به من كلِّ أنواع الثمار.
7- الله- سبحانه- الذي سخَّر الليل والنهار, وجعلهما يتعاقبان ويتقارضان, وخلق لنا الشمس والقمر, لنعلم عدد الأيام, ونعلم الشهور والأعوام.
8- أخرج الله تعالى لنا من الأرض شتى أنواع الفواكه والخضراوات, وجعلها مختلفة الألوان فذا ذهبيٌّ, وهذا فضيٌّ, وهذا أسود, وهذا أخضر , وهذا أصفر.
9- خلق الله تعالى البحر وسخَّره لنا, وخلق لنا فيه الأسماك والحيتان, لنأكل منه اللحم الطريَّ, وجعل فيه اللؤلؤ والمرجان, لنستخرجها من البحر, ونجعلها حليةً نتحلى بها.
10- خلق لنا ربُّنا السفن, لتسير بنا في البحار, وتحمل أثقالنا فيه, ولنسافر فيه لتجارتنا إلى مختلف بقاع الأرض
11- ألقى الله تعالى الجبال في الأرض كي لا تميد بنا, وكي تثبت وتستقرّ.
12- خلق الله لنا الأنهار تسير في الأرض مشرقةً ومغربةً, تسقينا وتسقي الدوابَّ والحقول والأشجار.
13- جعل الله تعالى ممراتٍ بين الجبال, وفي الهضاب والآكام, كي نعبُر عَبرَها عندما نتحرك من مكان إلى مكان.
14- الله يعلم ما نسرُّه ونخفيه في قلوبنا وضمائرنا, وما نظهره ونبديه من أقوالنا.
15- الآلهة التي يعبدها المشركون آلهةٌ باطلةٌ, فهي مخلوقةٌ مربوبةٌ, تُخْلَقُ ولا تَخْلُقُ, وهي ميتةٌ ليس فيها حياةٌ, وما تدري متى البعث والنشور.
16- الله- تعالى- هو الإله الواحد الذي يستحقُّ أن يعبد وحده دون غيره.
* * *
 
الموضع القرآني 37






{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}



الله تعالى هو الذي أحيا العباد بعد أن كانوا أمواتاً, ثم يميتهم في الحياة الدنيا, ثم يوم القيامة يحييهم جميعاً, ويوقفهم بين يديه, ويحاسبهم على ما قدموه في دنياهم.


وكان كفار قريش وعامة العرب يكذبون بقدرة الله على البعث والنشور, وأعلمنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- في هذه الآيات أن الكفار قد أقسموا على أنَّ الله لا يبعث الذي يموت, فقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ]النحل: 48[. فالكفار من قريشٍ يكذِّبون بالبعث والنشور, وليؤكدوا قولهم هذا أقسموا بالله {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: بحلفهم أغلظ الأيمان, وقد ردَّ الله تعالى عليهم قولهم هذا بقوله: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} أي: بلى, أي سيبعث الله كلَّ من يموت, وبعث الناس يوم القيامة وعد على الله, لا بدَّ منه,{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون أنَّ بعث العباد أمر يسير على الله, لا يعجزه من ذلك شيءٌ.


ثم بيَّن ربُّ العزَّة سبحانه الغرض من بعث العباد, فقال سبحانه: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} ]النحل: 39[ أي: ليبين الله تعالى لعباده ما كانوا يختلفون فيه في الحياة الدنيا, وأعظمه اختلافهم في التوحيد, واختلافهم فيما كانوا يعبدونه من دون الله تعالى:{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} أي: وليعلم الذين كفروا أنهم كاذبين فيما أقسموا عليه أنَّ الله تعالى لا يبعث من يموت, ولذلك فإنَّ زبانية النار تقول لهؤلاء المكذبين بالبعث والنشور, وهي تدعُّهم إلى النار:{هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} ]الطور: 14-16[.


ثم بيَّن لنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنَّ أمر بعث العباد في يوم المعاد سهل يسير عليه سبحانه, {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ]النحل: 40[ فالله- تبارك وتعالى- إذ أراد أن يخلق شيئًا, فإنما يقول له: كن, فيكون كما أراده الله تبارك وتعالى, فالله لا يعجزه شيءٌ, وليس هناك شيءٌ يأمره الله فيرفض, ولا يطيع.


وقد جاء في الحديث أنَّ الذين زعموا أن الله تعالى لا يبعث من يموت, قد كذبوا على الله تبارك وتعالى, فعن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: كذَّبني ابن آدم, ولم يكن له ذلك, وشتمني, ولم يكن له ذلك, أمَّا تكذيبه إياي أن يقول: إنِّي لن أعيده كما بدأته, وأمَّا شتمه إياي أن يقول: اتَّخذ الله ولداً, وأنا الصمد الذي لم ألد ولم أُولد, ولم يكن لي كفؤاً أحدٌ» ]البخاري: 4975[.
* * *
[FONT=&quot] [/FONT]
 
الموضع القرآني 38

لله يسجد ما في السموات وما في الأرض




أولًا: تقديم

عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- بنفسه في هذه الآيات الكريمات, عرَّفنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أنَّ الظلال تسجد له, وتسجد له الدوابُّ, كما تسجد له الملائكة في السموات العلا, والله تعالى معبودٌ واحد, وله الدين وحده لا شريك له, والنعم التي في أنفسنا أو التي تحيط بنا فمن الله وحده, وكفار العرب كانوا يدعون الله وحده إذ أصابهم الضرُّ, فإذا رفعه عنهم أشركوا.


وكفار العرب كانوا يجعلون لمن يعبدون نصيباً من رزقهم الله, وتلك جريمةٌ سيسألهم الله عنها يوم القيامة, وكفار العرب كانوا يجعلون لله البنات, فيقولون: الملائكة بنات الله, ويكرهون أن يرزقوا البنات, فإذا رزق أحدهم بالأنثى إما أن يبقيها حيَّةً على هون, أو يقتلها بأن يدسَّها في التراب.


ثانيًا: آيات هذا الموضع

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيمُ} ]النحل: 48-60[.


ثالثًا: غريب الآيات

يتفيأ ظلاله: دوران الظلِّ ورجوعه من موضع إلى موضع.
فارهبون: فخافون.
تجأرون: ترفعون أصواتكم متضرعين إلى الله, لعلَّه يرفع الضرَّ عنكم.
واصباً: دائماً.
تفترون: تكذبون وتختلقون.
يشتهون: يختارون.
كظيم: الكظيم الذي امتلأ غيظاً وحنقاً, فلا يتكلم.
يتوارى من القوم: يتغيب عن قومه.
أيمسكه على هونٍ, أي: يبقيه حياً وهو يشعر بالذلة والهوان.
مثل السوء: صفة السوء.
المثل الأعلى: الصفة العليا التي لا نقص فيها.


رابعًا: تفسير هذه الآيات الكريمات


عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- بنفسه في هذه الآيات الكريمات, ببيان ما يأتي:


1- أمر الله تعالى عباده أن ينظروا إلى ما خلق من شيء:


وجَّه الله- تبارك وتعالى- أنظار عباده إلى النظر إلى ما خلق من شيءٍ يُتفيَّؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجَّداً لله, فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ]النحل: 48-50[.


قال ابن جريرٍ في تفسيره: «أو لم ير هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من جسمٍ قائمٍ شجرٍ أو جبلٍ أو غير ذلك يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل, يقول: يرجع من موضع إلى موضع, فهو في أوَّل النهار على حال, ثم يتقلَّص, ثم يعود إلى حالٍ أخرى في آخر النهار» ]تفسير الطبري: 6/4988[.


وقال ابن الجوزي: «قوله تعالى:{إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} أراد من شيء له ظلٌّ, من جبلٍ, أو شجرٍ, أو جسمٍ قائمٍ {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} وهو جمع ظل, وإنما جمع وهو مضاف إلى واحد, لأنه واحدٌ يراد به الكثرة. قال ابن قتيبة: ومعنى يتفيَّأ ظلاله: يدور ويرجع من جانبٍ إلى جانب, والفيء: الرجوع, ومنه قيل للظل بالعشيِّ: فيئٌ لأنه فاء عن المغرب إلى المشرق.


قال المفسرون: إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة, كان الظلُّ قُدَّامك, فإذا ارتفعت كان عن يمينك, فإذا كان بعد ذلك كان خلفك, وإذا دنت للغروب كان على يسارك, وإنما وحّد اليمين, والمراد به: الجمع, إيجازاً في اللفظ, كقوله تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ]القمر: 45[, ودلّت «الشمائل» على أن المراد به الجميع, وقال الفراء: إنما وحَّد اليمين, وجمع الشمائل, ولم يقل: الشمال, لأنَّ كل ذلك جائز في اللغة» ]زاد المسير: 4/452[.


وقوله تعالى:{سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي: يسجدون لله رب العالمين, وهم داخرون, أي: صاغرون.


ثم أخبر ربُّ العزَّة- سبحانه- عن سجود الدواب والملائكة لله تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} ]النحل: 49[. وهذا الكون كل ما فيه يسجد لله ربِّ العالمين, كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} ]الرعد: 15[, وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} ]الحج: 18[, ونحن نعلم أن المخلوقات التي عدَّها ربُّنا وغيرها تسجد له حقيقةً, ولكننا لا نعرف كيف تسجد, كما قال الله تعالى في تسبيح الكائنات {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ]الإسراء: 44[.


وقد كانت الجبال والطير يسبحن مع نبي الله داود عليه السَّلام {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} ]الأنبياء: 79[ وأخبرنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنَّ الرعد يسبح بحمده {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} ]الرعد: 13[.


وأخبرنا ربُّنا العليم الحكيم سبحانه أنَّ الملائكة تسبح بحمده وهم لا يستكبرون, وأنهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ]النحل: 50[. فالملائكة الكرام مع ما أعطاهم من قوى وقدراتٍ, لا يملك مثلها أحد من أهل الأرض يخافون ربَّهم من فوقهم, وهم يديمون طاعة ربِّهم, وكلُّ ما أمرهم به فعلوه من غير تقصير.


2- نَهْيُ الله عباده عن اتخاذ إلهين اثنين:


نهى الله- تعالى- عباده أن يتخذوا إلهين اثنين, وقرَّر سبحانه وتعالى أنَّ الإله الذي يستحقُّ العبادة إلهٌ واحدٌ {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} ]النحل: 51[.


نهى الله تبارك وتعالى عن اتخاذ إلهين اثنين, ثم أثبت أنَّ الإلهية منحصرة في إلهٍ واحدٍ, وهو الله سبحانه, ثمَّ أمر الله سبحانه بالخوف منه وحده {فإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي: ولا تخافوا المعبودات الباطلة التي كان يعبدها المشركون.


وقوله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ]النحل: 52[ أي: هو مالكهما وخالقهما سبحانه, {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} ]النحل: 52[ أي: الدينونةُ لله ربِّ العالمين, وقوله: {وَاصِبًا}, أي: دائماً, ومنه قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} ]الصافات: 9[ أي: دائمٌ.


وقوله تعالى:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} ]النحل: 52[ أغير الله تتقون عذابه وعقابه؟ ثم قرر ربُّ العزَّة في خطابه عباده أنَّ كلَّ النعم التي تحيط بنا هي من ربِّنا وحده سبحانه, {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ]النحل: 53[. والنعم قد تكون دينية, وهي معرفة الحقِّ والعمل به, وإما دنيوية نفسانية أو بدنية, أو هي خارجية وهي تتمثل في الأولاد والأزواج والزروع والحرث ومتاع الدنيا, ونعم الله تعالى تحتاج إلى شكر.


وقوله:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} ]النحل: 53[, أي: إذا أصابتنا المصائب, ونزلت بنا الدوائر, فإلى الله تعالى نجأر, أي: ترفعون أصواتكم مستغيثين به سبحانه متضرعين له, لعلمكم أنَّه وحده الذي يستطيع رفع الضرِّ عنكم.


وأخبرنا عن حال الكفار إذا رفع الضر عنهم, فقال:{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} ]النحل: 54[. أي: إذا رفع ربُّ العزَّة الضرَّ الذي نزل بعباده سبحانه {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي: إذا جماعةٌ من العباد الذين أخلصوا دينهم في حال نزول الضرِّ بهم يشركون في حال رفعه الضرَّ عنهم, وهذا الذي فعله هؤلاء أمر مستغربٌ منه, متعجبٌ منه, فهؤلاء بعد أن وحّدوا كفروا {لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ]النحل: 55[ أي: ليكفروا بما آتاهم الله تعالى من كشف الضرِّ, وقوله: {فَتَمَتَّعُوا}أي: بدنياكم, فإنَّها قليلةٌ فانيةٌ و {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عندما تصيرون إلى يوم الدين, وينزل بكم العذاب.


3- كفار أهل مكة يجعلون لأصنامهم نصيباً مما رزقهم الله تعالى:


أخبرنا ربُّنا العليم الحكيم أنَّ مشركي أهل مكَّة {يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} ]النحل: 56[. أخبرنا ربُّنا تبارك وتعالى أنَّ هؤلاء الكفار يجعلون للأصنام والأوثان التي لا تعقل, ولا تعلم, ولا تضر, ولا تنفع, يجعلون لها نصيباً من أموالهم وأنعامهم التي رزقهم الله تعالى إياها,{تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} أقسم ربُّ العزَّة سبحانه وتعالى بذاته الكريمة, على أنَّهم سيسألون يوم القيامة عما كانوا يفترونه, وهذا السؤال سؤال توبيخ وتقريع, والمراد به أن يعترفوا على أنفسهم في ذلك اليوم, لأنَّ سؤال التوبيخ هو الذي لا جواب لصاحبه إلا ما يظهر فيه فضيحته.
وقوله: {تَفْتَرُونَ} أي: تقوَّلونه على الله تبارك وتعالى.


4- كان أهل الجاهلية ينسبون لله سبحانه البنات وينسبون لأنفسهم الذكور:


أخبرنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنَّ قبائل من عرب الجاهلية كانوا يجعلون البنات لله, ويجعلون لأنفسهم ما يشتهونه:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} ]النحل: 57[. وهذا من إفكهم وضلالهم, فقد كانوا يزعمون أنَّ الملائكة بناتُ الله تعالى الله عما يقولون {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ]الصافات: 151-154[.


وقوله تعالى{وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} أي: يختارون لأنفسهم الذكور, ويأنفون من البنات, وأخبرنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنه {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ]النحل: 58-59[.


أخبرنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أن الواحد من أهل الجاهلية إذا رزقه الله تعالى بالأنثى, وبُشِّر بها, امتلأ قلبه غيظاً, وأصابه النكد والهمُّ, وتغيَّرت ملامح وجهه, وتعكَّرت, وظهرت عليه علامات الاكتئاب, وأصبح كظيماً, والكظيم الذي امتلأ غيظاً وحنقاً, فلا يتكلم. وتراه {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِه} أي: تراه يتغيَّب عن قومه, ويختفي منهم, من سوء العار الذي بشِّر به, وأصبح الواحد منهم بين حالين تجاه هذه الوليدة, الأولى: أن يمسكها على هونٍ, أي: على هوانٍ, والثانية: أن يدسَّ هذه الوليدة في التراب, وهذا الذي كان يعرف عند أهل الجاهلية بالوأد, يقتلون الصغيرة بدفنها حيَّةً.


وقال ربُّ العزَّة سبحانه معقباً {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} والحكم الذي حكموا به, وذمَّهم الله تعالى به هو نسبتهم البنات اللواتي يكرهونهن إلى ربِّ العزَّة, ألا بئس الحكم الذي حكموه. من جعل البنات لله ولهم الذكور.


وقرَّر ربُّ العزَّة- سبحانه وتعالى- أنَّ {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيمُ} ]النحل: 60[. قرر- سبحانه- أنَّ هؤلاء القوم الذين نسبوا إلى الله- تعالى- البنات, وهم لا يؤمنون بالآخرة لهم مثل السوء, أي: صفة السوء, ومن أمثلة السوء التي يستحقها هؤلاء ما ضربه الله من الأمثال للأصنام وعبدتها, والله تعالى له المثل الأعلى, أي: الصفة العليا, فالله تعالى كمالٌ لا نقص فيه, فالله تعالى واحدٌ أحدٌ, فرد صمدٌ, لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفواً أحد, والله واحد في ذاته, واحد في صفاته, لا يشبهه شيءٌ, ولا يماثله شيءٌ, سبحانه.


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات الكريمات

عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في هذه الآيات الكريمات بتقرير ما يأتي:
1- الظلال تسجد لله تعالى, ظلال الناس والأشجار والجبال وغيرها.
2- الله تعالى هو الإله الذي لا يستحقُّ العبادة غيره, فلا يجوز للبشر أن يعبدوا غيره.
3- الله تعالى له ما في السموات وما في الأرض, لا يَشركُه معه فيهما غيره, وله سبحانه الدين وحده, فلا يجوز الدينونةُ لغيره.
4- كلُّ النعم التي في الإنسان, والنعم التي تحيط بالإنسان في الأرض وفي السماء من الله تعالى وحده.
5- المشركون يفردون الله بالالتجاء إليه إذا أصابهم الضرُّ, فإذا رفع الله عنهم ما أصابهم من الضرِّ أشركوا.
6- يجعل المشركون مما رزقهم ربُّهم تبارك وتعالى من الحبوب والثمار والأنعام نصيباً لآلهتهم, يتقربون إليهم بها, وليسألنَّهم الله تعالى يوم القيامة عمَّا يفترونه ويختلقونه.
7- يزعم كفار العرب أنَّ الملائكة بنات الله, في الوقت الذي يكرهون نسبة البنات إليهم, فإذا بشِّر أحدهم بالأنثى ظلَّ وجهه مسوداً وهو كظيم.


* * *
 
الموضع القرآني 39

إيحاءُ الله تعالى إلى النحل




أولًا: تقديم

عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- في هذه الآيات بنفسه, وذلك ليرقِّق بها قلوبنا, ويصفِّي بها نفوسنا, ويمضي بنا إلى نور الإيمان, فمن ذلك إنزاله الماء من السماء, فيحيي به الأرض بعد موتها, وإخراجه اللبن من بطون الأنعام لبنًا سائغًا للشاربين, وأخرج لنا من ثمرات النخيل والأعناب لنتخذ منه سكراً ورزقاً حسناً, وأخرج لنا من بطون النحل عسلاً صافياً, فيه شفاء للناس, وهو خلقنا ثم يتوفانا, وقد نردُّ إلى أرذل العمر كي لا نعلم من بعد علمٍ شيئًا.


وفضَّل الله- تعالى- بعضنا على بعضٍ في الرزق, وجعل الله تعالى لنا أزواجًا, وجعل لنا منهن بنين وحفدةً.


ثانيًا: آيات هذا الموضع

{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} ]النحل: 65-72[.


ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات

الأنعام: الإبل والبقر والغنم.
الفرث: ما يبقى في كرش الأنعام بعد هضمها الطعام.
خالصاً: صافياً لا تخالطه الشوائب.
سائغاً: يتقبله شاربه ويتذوقه.
يعرشون, أي: ما يصنعونه من العرائش القائمة على الأعمدة والجدران.
سبلُ ربك: السبل الطرق التي يسير فيها النحل.
أرذل العمر: أسوؤه وأدناه.
حفدة: الأحفاد أولاد الأولاد.


رابعًا: تفسير آيات هذا الموضع من سورة النحل

عرَّفنا ربُّنا- تبارك وتعالى- بنفسه في آيات هذا الموضع ببيان ما يأتي:


1- الله- تعالى- أنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها:


أخبرنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- أنَّه{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ]النحل: 65[ أنزل الله- تبارك وتعالى- من السماء ماءً, أي: من السحاب, فأحيا به الأرض بعد موتها, فإنَّك تمرُّ بالأرض, فتراها يابسةً خاشعةً, فإذا جادها الله تعالى بالغيث تراها وقد أينعت وأنبتت, واكتست جنباتها بالخضرة والزهور, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: إنَّ في ذلك لآيةً تدلُّ على وحدانية الله تعالى, وقوله: {يَسْمَعُونَ} أي: يسمعون كلام الله تعالى, ويفقهون ما يتضمنه من العبر, ويتفكرون في خلق السموات والأرض.


2- إسقاءُ الله- تعالى- لنا مما في بطون الأنعام لبناً خالصاً للشاربين:


قال سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} ]النحل: 66[«فهذا اللبن الذي تدرُّه ضروع الأنعام مم هو؟ إنه مستخلصٌ من بين فرثٍ ودمٍ, والفرث ما يتبقى في الكرش بعد الهضم, وامتصاص الأمعاء للعصارة التي تتحول إلى دم, هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم, فإذا صار إلى غدد اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب, الذي لا يدري أحد كيف يكون.


وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دمٍ, وتغذية كلُّ خليةٍ بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم, عمليةٌ عجيبة فائقة العجب, وهي تتم في الجسم في كلِّ ثانيةٍ, كما تتم عمليات الاحتراق, وفي كلِّ لحظة تتمُّ في هذا الجهاز الغريب عمليات هدمٍ وبناءٍ مستمرة, لا تكف حتى تفارق الروح الجسد..., ولا يملك إنسان سويُّ الشعور أن يقف أمام هذه العمليات العجيبة لا تهتف كلُّ ذرَّةٍ فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الجهاز الإنساني, الذي لا يقاس إليه أعقد جهازٍ من صنع البشر, ولا إلى خلية واحدة من خلاياه التي لا تحصى.


ووراء الوصف العام لعمليات الامتصاص والتحول والاحتراق تفصيلات تدير العقل, وعمل الخلية الواحدة في الجسم في هذه العملية عجبٌ لا ينقضي التأمل فيه.


وقد بقي هذا كله سراً إلى عهد قريب, وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من فرثٍ ودمٍ لم تكن معروفة لبشر, وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلاً على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة , وما يملك إنسانٌ يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل , ووجود حقيقةٍ واحدةٍ من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن , فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة.


والقرآن – يعبر هذه الحقائق العلمية البحتة – يحمل أدلة الوحي من الله في خصائصه الأخرى لمن يدرك هذه الخصائص ويقدرها ؛ ولكن ورود حقيقة واحدة على هذا النحو الدقيق يفحم المجادلين المتعنتين » [ في ظلال القرآن 4/2180].


3-أخرج الله لنا من ثمرات النخيل والأعناب سكراً ورزقاً حسناً :


ومن آيات الله تبارك وتعالى الدالة على بديع صنعه, وعجيب أمره ما أخرجه لنا من ثمرات النخيل والأعناب نتخذ منه سكراً ورزقاً حسناً {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:67]. فثمار النخيل يصنع منها المسكرات , وكانت الخمر في أوَّل الإسلام حلالاً , ثم حُرِّمت , وقوله : {وَرِزْقًا حَسَنًا} فيها إشارةٌ إلى أنَّ الخمر غير داخلةٍ في الرزق الحسن , والرزق الحسن هو في تناول ثمار النخيل , وصنع ألوان الطعام من تلك الثمار , فمن ذلك صناعة التمر والزبيب واستخراج الدبس منهما, وأنواع العصير , وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} إنَّ فيما أخرجه ربُّنا – تبارك وتعالى – من ثمرات النخيل والأعناب آياتٌ, وليس بآيةٍ واحدةٍ تدلُّ على بديع صنع الله, والذي يفقه هذه الآيات هم الذين يعقلون عن الله كلامه, ويحسنون النظر إلى ما خلق من آياته.


4-أخرج الله تعالى لنا من بطون النحل شراباً مختلفاً ألوانه فيه شفاء للناس:


أخبرنا ربُّنا – عزَّ وجلَّ – أنَّه {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:68-69].


وقد فسَّر سيِّد قطب رحمه الله تعالى هذه الآيات بقوله: «والنحل تعمل بإلهامٍ من الفطرة التي أودعها إياها الخالق, فهو لونٌ من الوحي تعمل بمقتضاه, وهي تعمل بدقةٍ عجيبةٍ يعجز عن مثلها العقل المفكر سواءً في بناء خلاياها. أو في تقسيم العمل بينها, أو في طريقة إفرازها للعسل المصفى.


وهي تتخذ بيوتها – حسب فطرتها – في الجبال والشجر وما يعرشون, أي: ما يرفعون من الكروم وغيرها, وقد ذلَّل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وفي طبيعة الكون حولها من توافق , والنصُّ على أنَّ العسل فيه شفاءٌ للناس قد شرحه بعض المختصين في الطبِّ, شرحاً فنياً, وهو ثابتٌ بمجرد نصِّ القرآن عليه؛ وهكذا يجب أن يعتقد المسلم استناداً إلى الحقِّ الكليِّ الثابت في كتاب الله» [في ظلال القرآن: 4/2181].


وقد جاءت أحاديث كثيرةٌ تدلُّ على أنَّ العسل فيه شفاءٌ للناس, فمن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدريُّ أنَّ رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: أخي يشتكي بطنه, فقال: «اسقه عسلاً» ثمَّ أتى الثانية, فقال: «اسقه عسلاً» ثمَّ أتاه الثالثة فقال : «اسقه عسلاً» ثمَّ أتاه فقال: قد فعلت , فقال: «صدق الله, وكذب بطن أخيك, اسقه عسلاً», فسقاه فبرأ [البخاري: 5684, ومسلم:2217].


وعن عائشة صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ الحلواء والعسل [البخاري: 5431.مسلم:1474مطولاً].


وعن ابن عباس رضي الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفاء في ثلاثةٍ: في شرطةِ مِحْجمٍ, أو شربةِ عسلٍ, أو كيَّةِ نارٍ, وأنا أنهى أمتي عن الكيِّ» [البخاري:5681].


وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه , قال: سمعت رسول الله رضي الله عنه يقول: «إن كان في أدويتكم – أو يكون في شيءٍ من أدويتكم – خيرٌ, ففي شرطةِ مِحْجمٍ, أو شربةِ عسلٍ, أوى لذعةٍ بنارٍ توافق الدَّاء, وما أُحبُّ أن أكتوي» [البخاري:5683.مسلم2205].


5- الله – تبارك وتعالى- خلقنا ثم يتوفانا:


أخبرنا ربُّنا –عزَّ وجلَّ- سبحانه أنَّه خلقنا من العدم, ثم يتوفانا سبحانه, أي يميتنا, وقد يردُّ بعضنا إلى أرذل العمر, وأرذل العمر الشيخوخة, وبلوغ الإنسان حالةً لا يعلم فيها شيئًا, كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].


وكان الرسول رضي الله عنه يدعو ربَّه أن لا يردَّ إلى أرذل العمر, فعن أنس بن مالك أن الرسول كان يدعو: «أعوذ بك من البخل والكسل, وأرذل العمر, وعذاب القبر, وفتنة المحيا والممات» [البخاري: 4707- ومسلم: 2706].


6-فضَّل بعضنا على بعضٍ في الرزق :


قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل:71].


خاطب الله – نبارك وتعالى – المشركين به غيره قائلاً لهم: الله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق الذي رزقكم في الدنيا, فما الذين فضَّلهم الله على غيرهم {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم} فهم لا يرضون بأن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواءٌ, قال قتادة في تفسير الآية: «وهذا مثلٌ ضربة الله, فهل أحد منكم شاركه مملوكه في زوجته, وفي فراشه, فتعدلون بالله خلقه وعباده؟ فإذا لم ترض لنفسك هذا, فالله أحقُّ أن ينزَّه منه من نفسك ولا تعدل بالله أحدا من خلقه» [تفسير الطبري: 6/5017].


وقوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: جحدوا نعمة الله عندما جعلوا لأصنامهم من الحرث والأنعام نصيباً.


7-جعل الله – تبارك وتعالى – لنا من أنفسنا أزواجاً وجعل لنا من أزواجنا بنين وحفدة:

خاطب ربُّ العزَّة عباده قائلاً لهم: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72].


امتنَّ الله – تبارك وتعالى – على عباده من البشر بأنَّه خلق لهم من أنفسهم أزواجاً, وقد خلق الله – تبارك وتعالى- لآدم من ضلعه زوجاً له, وهي أمُّنا حواء كما قال – تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1].


وجعل لنا ربُّنا من أزواجنا {بَنِينَ وَحَفَدَةً} أي جعل لنا منهنَّ الأولاد, وجعل لنا الحفدة, وهم أولاد الأولاد, ورزقنا {مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي: من الطعام والشراب واللباس, ثمَّ ذمَّ ربُّ العزَّة – تبارك وتعالى – المشركين لإيمانهم بالباطل من الأصنام والأوثان, وكفرهم بنعم الله, أي: عندما يصرفون العبادة لغير الله من الآلهة الباطلة {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} .


8-ذمَّ الله – تعالى – المشركين لعبادتهم غيره:


ذمَّ ربُّ العزَّة المشركين بعبادتهم ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل:73] فهذه الآلهة الباطلة لا تملك شيئًا من الرزق في السماوات والأرض, فلا تملك أن تنزل المطر من السماء, ولا تملك أن تخرج الزرع, ولا تُدرَّ الضرع, ولا تملك دفع الشرِّ عن عابديها, ولا تملك جلب الخير لهم, {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} أي: هذه الأصنام لا تملك شيئًا من ذلك لأنفسها فهي ضعيفةٌ عاجزة.


ونهى الله – تعالى – المشركين عن ضرب الأمثال لله تبارك وتعالى:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:74]. أي: فلا تجعلوا لله أنداداً ولا أشباهاً وأمثالاً, فإنَّ الله – تبارك وتعالى – يعلم أنَّه واحدٌ لا شريك له, وأنتم لا تعلمون ذلك.


9-ضرب الله – تبارك وتعالى - مثلين للإله الحقِّ والإله الباطل:


ضرب الله – تبارك وتعالى – مثلين للإله الحقِّ وللإله الباطل {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل:75].



قال مجاهد في هذه الآية: «كلُّ هذا مثل إله الحقِّ, وما يُدعى من دونه من الباطل, وقال السُّديُّ: هذا مثلٌ ضربه الله للآلهة, يقول: كما لا يستوي عندكم عبدٌ مملوك لا يقدر من أمره على شيءٍ, وعبدٌ حرٌّ قد رُزق رزقاً حسناً, فهو ينفق منه سراً وجهراً, لا يخاف من أحدٍ, فكذلك أنا والآلهة التي تدعون, ليست تملك شيئًا, وأنا الذي أملك وأرزق من شئت, وهذا القول هو اختيار الفراء والزجاج, قال: بيَّن الله لهم أمر ضلالتهم وبعدهم عن الطريق في عبادتهم الأوثان, فذكر أن المالك المقتدر على الإنفاق, والعاجز الذي لا يقدر أن ينفق لا يستويان, فكيف يسوَّى بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تعقل, وبين الله الذي هو على كلِّ شيءٍ قديرٍ, وهو رازقٌ جميع خلقه» [تفسير الواحدي:13/142].


وضرب الله – تبارك وتعالى – مثلاً آخر, فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجلَّيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76].



وذهب مجاهدٌ والسدِّيُّ وقتادة إلى أنَّ هذا المثل كسابقه ضرب الله تعالى فيه مثلاً لإله الحقِّ والأصنام والأوثان, وهذا القول هو اختيار الفراء والزجاج وابن قتيبة. [تفسير الواحدي: 13/147].


والأبكم: الأقطع اللسان, وهو العييُّ بالجواب, الذي لا يحسن وجه الكلام, لأنَّه لا يفهم وجه الكلام, ولا يُفهم عنه. وقوله: {لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ} أي: لا يقدر على شيء من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه {وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ} أي: هو ثقلٌ, أي: عيالٌ على مولاه وصاحبه, {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي: أينما يرسله ويبعثه لا يأت بخير, لقلة فهمه, وقصور إدراكه {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: هل يستوي هذا الأبكم الذي هذه صفاته, هو والرجل السويُّ القادر على النطق, التامُّ العقل, الذي يحسن التدبير والعمل, الذي يأمر بالعدل, وهو على صراطٍ مستقيم, أي: على الدين القويم.
والجواب: أنهما لا يستويان.


10-الله – تبارك وتعالى- محيط علمه بالسموات والأرض:


ثم أخبرنا ربُّنا- ربُّنا تعالى-أن له: {غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل:77].


فالله – تبارك وتعالى – العليم الخبير مطلعٌ على كلِّ ما غاب عنكم من غيوب السماوات والأرض لا يخفى عليه شيءٌ من أمورهما, ومن جملة هذه الغيوب التي لم يُطْلع ربُّنا عليها أحداً, لا ملكاً مقرَّباً, ولا نبياً مرسلاً, زمن وقوع الساعة, وقد أخبرنا ربُّنا عزَّ وجلَّ عن قدرته على وقوع الساعة, فإذا شاء إيقاعها, كان وقوعها في مثل لمح البصر, أو هو أقرب من ذلك, لأنَّه يقول لها: كن, فتكون كما يريده الله تعالى, والله تعالى على كل شيءٍ قديرٍ.


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات:

عرَّفنا ربُّنا في هذه الآيات بإعلامنا ما يأتي:
1. أنزل الله – تعالى – الماء من السماء بالمطر, فأحيا به الأرض بالنبات.
2. أخرج الله تعالى لنا اللبن من الأنعام من بين فرثٍ ودم, ليكون لنا شراباً نافعاً مفيداً.
3. أخرج الله تعالى لنا من النخيل والأعناب الثمار النافعة لتكون لنا رزقاً.
4. أخرج الله تعالى لنا من بطون النحل شراباً مختلفاً ألوانه, فيه شفاء للناس.
5. الله تعالى هو الذي خلقنا, ثم يتوفانا, وبعضنا قبل الوفاة يردُّ إلى أرذل العمر حتى لا يعلم من بعد علم شيئًا.
6. الله – تعالى – فضَّل بعضنا على بعضٍ في الرزق.
7. الله – تعالى – جعل لنا من أنفسنا أزواجاً, وجعل لنا من أزواجنا بنين وحفدةً, ورزقنا من الطيبات.
* * *
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top