نقول: هؤلاء الذين يجدون مثل هذه الأشياء ينبغي أن يعرضوا ما رأوه على لجنةٍ من العلماء الذين لهم بصر في التفسير، ثم ينظرون فيها بعد ذلك ويقررون، هل هذا مما يحتمله النص القرآني أو لا؟ هل هذا من الفهم الذي لا يعارض أقوال السلف، كما قيل: " إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن"
(1)، فيكون من ضمن المعاني التي تحتملها الآية، ثم يقيّدون العبارة التي يعبّر بها، فلا يعبّر بعبارات فيها شيء من المجازفة وتهاويل ضخمة وعبارات واسعة، إنما العلماء هم الذين يدقّقون في عباراتهم وفي كلامهم فيقول مثلاً: وهذا على أحد القولين، قد يكون له قول أو احتمال، أو هذا مما تحتمله الآية ولا يقطع به، أو أن هذا من المعاني الصحيحة التي تدخل في الآية وهو لا يعارض قول السلف، المهم أن يعبر بالعبارة الملائمة الدقيقة المناسبة التي يعرفها العلماء، فهذه هي الطريقة التي نتخلص فيها من كثيرٍ من هذا التقحّم.
ولو أن الناس انضبطوا في هذا لاستراحوا من كثيرٍ من الخلط، لكن المشكلة حينما يكون عندنا قناعات بأن من حق كل إنسان أن يتكلم؛ لأننا أحياناً إذا تربينا في بعض الأجواء مثل في أوروبا فهكذا أنت تعبّر عن رأيك كما تشاء وحتى لو كان ذلك في القضايا الشرعية التي تحتاج إلى فقه وعلم!!
تلقي محاضرة في بلد من البلدان الأوروبية في أمر يتعلق بأصول الدين، فتفاجأ أن أكثر من نصف العدد ممن لا يظهر على كثيرٍ منهم سيما الاستقامة والتدين قد رفعوا أيديهم، فتظن أنهم سيسألون، ثم تفاجأ أن كل واحد من هؤلاء عنده اعتراض وعنده وجهة نظر وعنده مداخلة يريد أن يذكرها، وهكذا حتى في هذه القضايا بلا خطام ولا زمام ولا ضوابط ولا خلفية، وهكذا حتى تشعر أنك مع أناس بينك وبينهم مسافة طويلة تحتاج إلى أن يفهمونها حتى يعرفون هذه القضية ولماذا قال السلف فيها هذا القول، ولماذا قلنا: إن هذا من أصول أهل السنة والجماعة، وهكذا لربما أثرت تلك الأجواء في أوروبا في الانفتاح وحرية التفكير والتعبير حتى أردنا أن نجعل ذلك عندنا، وهذا هو السر الذي يجعل بعض الكتاب في الصحف يكتبون أعمدة وأشياء يتكلم عن حقائق شرعية وقضايا وثوابت مسلمة يريد أن يبدي فيها نظره ورأيه، نسأل الله السلامة والعافية.
الإعجاز العددي:
علماء المسلمين-رحمهم الله- تكلموا على عدد حروف القرآن، وعدد الآيات، وعدد السور، وعدد الكلمات، وتكلموا على عدد النقط في القرآن، وتكلموا أيضاً على المرات التي يتكرر فيها الحرف الواحد من الألف إلى الياء، فلما يتكلمون على حرف الألف –مثلاً- يأتون بعدد الكلمات في القرآن التي تبدأ بحرف الألف، ثم يسردونها في مجلدات -وهي موجودة ومطبوعة- فيذكرون الحرف كم مرة تكرر؟ وكم عدد الكلمات التي تبدأ بهذا الحرف في جميع القرآن، ويذكرون منتصف القرآن بعدد الحروف، وربع القرآن وسدس القرآن وعشر القرآن وواحد من ستين، وواحد من ثلاثمائة وستين، وهكذا يذكرون كل ذلك بالحروف، ويذكرون ذلك أيضاً بالكلمات، فإذا أردت أن تقف على الكلمة في نصف القرآن، أو ربع القرآن، أو ثمن القرآن فكل هذا بالكلمات وبالآيات موجود، ويتفننون في هذا غاية التفنن، ويوجد لهم مؤلفات كثيرة في هذا، وهذا مثال واحد منها وهو من أصغرها أتيت به؛ لخفة حمله.
خذ مثالاً آخر: يقولون: كل ما في القرآن من (أَلَّا)، فهو في المصحف حرف واحد إلا عشرة أحرف، بمعنى أن كل ما ورد من (ألّا) فهي بهذا الشكل إلا عشرة مواضع تكتب هكذا مفصولة (أَنْ لَا) وهذا نحتاجه نستفيد منه في عدِّ الكلمات وعدِّ الحروف.
ويقولون: كل ما في القرآن من ذكر النعمة فهو بالهاء إلا أحد عشر موضعاً تكون بالتاء المفتوحة، ويقولون: كل ما في القرآن من ذكر (الكلمة) فهو بالهاء إلا ثلاثة مواضع تكون بالتاء المفتوحة، وكل ما في القرآن من ذكر (المعصية) هو بالهاء إلا في موضعين بالتاء المفتوحة.
ويقولون: كل ما في القرآن من ذكر (إنما) فهو حرف واحد في المصحف إلا الذي في الأنعام:
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ [(134) سورة الأنعام].
ويقولون: كل ما في كتاب الله -عز وجل- من ذكر (أمَّن) فهو موصول إلا في أربعة مواضع (أم مَّن)، ويقولون: كل شيء في القرآن فيه ذكر الربا فهو بالواو إلا في موضعٍ واحد:
وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا [(39) سورة الروم] فهو بالألف الممدودة.
وكل شيء في القرآن (فيما) فهو كلمة واحدة موصولة إلا أحد عشر موضعاً (في ما)، وكل ما في القرآن (مما) فهو موصول إلا ثلاثة مواضع (من ما)، وكل ما في القرآن (بئس ما) فهي مفترقة إلا في ثلاثة مواضع (بئسما) كلمة واحدة، وهكذا، ويذكرون عدد النقط والكلمات.
وعدد آيات القرآن فيه خلاف كثير جداً بين العلماء، لكن بناءً على أي شيء هذا الخلاف؟ هل يوجد أحد منهم ينكر آية من القرآن؟
حاشا وكلا بل القرآن محفوظ كما أنزله الله -عز وجل- من فوق سبع سماوات لم يتغير منه حرف واحد، ولكن العلماء يختلفون في هذا لأسباب كسبب القراءات والأحرف، فالبسملة هل تعد من السورة أم لا؟ بينهم خلاف في هذا؟ فهي في بعض الأحرف من السورة، وفي بعض الأحرف ليست منها، وكله حق من عند الله -عز وجل- والقرآن نزل على سبعة أحرف.
كذلك أيضاً: هناك سورة الفاتحة هل البسملة آية منها؟
الفاتحة سبع آيات:
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [(87) سورة الحجر] فإذا قلنا: الفاتحة سبع آيات والبسملة آية منها فيكون قوله:
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [(7) سورة الفاتحة] كله آية، وإذا قلنا: إن البسملة ليست بآية من الفاتحة وإنما هي آية مستقلة -للفصل بين السور- فتكون الآية السابعة فصل في ذلك الموضع، تقول:
اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ* غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [(5-7) سورة الفاتحة].
فبعضهم يرى أن الآيتين آية واحدة باعتبار أن البسملة آية من الفاتحة، وبعضهم يقول: لا، فليس هناك زيادة ولا نقص في القرآن، لكن باعتبار العد بحسب الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، فهم يختلفون في العدد من عهد أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- للاعتبار الذي ذكرته لكم آنفاً.
الخلاف في عدد الآيات:
أجمعوا على أن القرآن ستة آلاف ومائتا آية (6.200) واختلفوا في الزائد، فابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ستة آلاف ومائتا آية وسبع عشرة آية (6.217)، والعد عند أهل المدينة من القراء يقولون: (6.214) وأربع عشرة آية، وبعضهم يقول: وعشر آيات (6.210)، وأهل مكة يقولون: عشرون آية (6.220)، يعني أن الخلاف في الزائد على ستة آلاف ومائتين، هل هو عشرة أو سبعة عشر، أو عشرون أو ست وثلاثون كما عند الكوفيين، وعند البصريين خمس، وعند بعضهم أربع آيات، وبعض البصريين يقول: تسع عشرة آية، وعند الشاميين ستة وعشرون آية، وهكذا...
هذا اختلاف في العدد عند القراء، بناءً على اعتبارات ذكرتها آنفاً، هل البسملة من كل السور أو من الفاتحة أو آية مستقلة؟ وكذلك أيضاً في فصل بعض الآيات، فأحياناً الحروف المقطعة في أوائل السور بعضهم يعتبرها تابعة لما بعدها فالجميع آية، وبعضهم يفصل، لكن هل هذا من عند أنفسهم؟
الجواب: لا، هذا بحسب اختلاف الأحرف وتفاوت الأحرف التي نزل القرآن عليها، وكله حق، وكل مرجع ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الرواية والتلقي، وكله ثابت وكله حق، فما زيد فيه حرف واحد وما نقص منه حرف واحد:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [(9) سورة الحجر]، إذن: عدد الآيات العلماء مختلفون فيها.
الخلاف في عدد الكلمات:
كذلك عدد الكلمات العلماء مختلفون فيها، فابن مسعود يقول: سبع وسبعون ألفاً وتسعمائة وأربعة وثلاثين كلمة (77.934)، ومجاهد وسعيد بن جبير يقولان: (77.437) آية، وعطاء بن يسار يقول: (79.277)، ويزيد الضرير يقول: عددها: (76.000).
هذا الاختلاف ليس بناءً على نقصٍ أو زيادة في كتاب الله -عز وجل-، وإنما يختلفون أحياناً في الكلمة مثل: (إنما) هل هي كلمتين أو كلمة واحدة؟ ومثل: (بئس ما) هل هي كلمة واحدة أو كلمتين؟ فمن عدها كلمتين زاد عنده العدد، ومن عدها كلمة واحدة نقص.
وعلى كل حال فلمؤدى أو الحصيلة واحدة من جهة أن القرآن هـو هـو لا زيادة فيه ولا نقصان، لكن يختلف فيه نظر علماء العدد.
الخلاف في عدد الحروف:
أجمعوا على أن عدد الحروف في القرآن: ثلاثمائة ألف (300.000) حرف، واختلفوا في الكسر الزائد على ذلك، فابن مسعود يقول: الزائد أربعة آلاف وسبعمائة وأربعون حرفاً (4.740) وحمزة القارئ المعروف يقول: الزائد ثلاثة وسبعون ألفاً ومائتان وخمسون ألف حرفاً (73.250) وعاصم يقول: الزائد ثلاثة وستون ألفاً وثلاثمائة ونيف وهكذا.