تفسيرسورة البقرة

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
مررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررسي
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 120-123[/font]


﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ

التفسير:
﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ خطاب موجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن أهل الكتاب لن يرضوا عنه حتى يتخلى عن دين الحق ويتّبع ملتهم الباطلة، وهو خطاب موجه إلى أمة الإسلام بالتبعية، وذهب الجمهور إلى أن ملة الكفر واحدة.

﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ فاليهود يزعمون أن التوراة هي هدى الله، والنصارى يزعمون أن الإنجيل هو هدى الله، فحسم الله الأمر وبين أن الهدى منحصر في الإسلام، من باب قصر الصفة على الموصوف، وتأكد ذلك في قوله تعالى: ﴿ثُمَّجَعَلْنَاكَعَلَىشَرِيعَةٍمِّنَالْأَمْرِفَاتَّبِعْهَاوَلَاتَتَّبِعْ أَهْوَاءالَّذِينَلَايَعْلَمُونَ(18)﴾ الجاثية.
﴿وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ أكبر هوى تحريف التوراة والإنجيل، فمن يتبعه بعد أن جاءه العلم عن طريق الوحي فليس له من يرعاه ويدفع عنه عذاب الله، وهذا تحذير قبل أن يقع فيه.

﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ُأوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ إشارة إلى بعض اليهود والنصارى الذين أسلموا أمثال عبد الله بن سلام يتلون القرآن الكريم بتدبر وفهم ودون تحريف فهم مؤمنون حقا.

﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُون﴾ يتوعد الله الكافرين بالقرآن بالخسران المبين في الدنيا والآخرة.

﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ يتكرر هذا الخطاب كثيرا، يبدأ به الله ويستعرض تاريخهم الأسود ويفضح جرائمهم... ثم ينتهي بما بدأ، يذكرهم بنعمه الكثيرة وأنه فضّلهم على سائر الأمم في زمانهم.

﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ يذكر الله عباده بيوم القيامة يوم لا يدفع أحد عذاب الله عن أحد، ولا يقبل منه فداء ولا وساطة، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْيَوْماًلاَّتَجْزِينَفْسٌعَننَّفْسٍشَيْئاًوَلاَ يُقْبَلُمِنْهَاشَفَاعَةٌوَلاَيُؤْخَذُمِنْهَاعَدْلٌوَلاَهُمْيُنصَرُونَ (48)﴾ البقرة.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 124-129[/font]


﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

تتناول هذه الآيات المسائل الآتية:
¨نفي الاعتزاز بالنسب.
¨إبراز معالم أساسية في التصور الإسلامي.

﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُإيذان بأن ابتلاء إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام تربية وإعداد له.
وتعني كلمة "أبرهم" بالسريانية والعبرية الأب الرحيم، وإبراهيم بن تارح بن ناحور بن ساروغ... بن سام بن نوح.

﴿بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ ابتلاه الله بأوامر تكليفية منها: ذبح إسماعيل عليه السلام، بناء البيت العتيق، الصلاة، الزكاة، كسر الأصنام، الهجرة... فأدّاهن على التمام والكمال.

﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ أكرمه الله بالإمامة في الدين، وهي مكانة لا ينالها إلا الصالحون العادلون.

﴿قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ رغبة صالحة من إبراهيم أن ينال أبناؤه هذا الخير، لكن الله حسم الأمر فلا يناله الظالمون منهم.
وبهذا تسقط دعاوى اليهود والنصارى في استئثارهم بالجنة دون غيرهم لمجرد كونهم أبناء إبراهيم وحفدته وهم ورثته وخلفاؤه﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى...(111)﴾ البقرة، ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِين(135)﴾ البقرةَ، كما تسقط دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام، فالفاصل الحقيقي هو العقيدة.

﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ جعل الله الكعبة مرجعا للناس ينجذبون ويتشوقون إليها.

﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّىروى البخاري أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية موافقة له: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾.

﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ أمر تعالى إبراهيم وإسماعيل أن يطهّرا البيت الحرام من الأقذار الحسية كالدماء... والمعنوية كالشّرك والمفاسد والبدع... للملازمين الصلاة فيه.

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِدعا إبراهيم ربّه أن ينزّل في البلد الحرام الأمن على النفس والعرض والمال، ويرزق أهله من جميع الثمار.

﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُفالكفار يستفيدون من الرزق في الدنيا وهو قليل، لكن مآلهم جهنم وساء مصيرهم.

﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُمشهد رائع لبناء الكعبة الشريفة مع الدعاء، فالله إذ يسمع دعاءهما يعلم إخلاصهما في عملهما.

﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ دعاء أن يجعلهما خاضعين لله منقادين لحكمه، وكذلك ذريتهما.

﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُطلبا من الله أن يعلمهما مناسك الحج وأن يتوب عليهما، وكذلك يجب أن يكون حال المؤمن، ينشغل بالصالحات ويدعو الله بالمغفرة.

﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ دعا سيدنا إبراهيم عليه السلام أن يبعث الله في الأمة المسلمة رسولا منهم يعرفونه سلوكا وأخلاقا.

﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْمن وظائف الرسول تلاوة آيات القرآن، وتعليمه للناس القرآن الكريم والسنة النبوية، وتربيتهم وتطهيرهم من الشرك.

﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُفالله لا يُقهر لأنه صاحب القدرة المطلقة، وهو حكيم لأنه يضع الأمور في نصابها.

وقد استجاب الله دعاء إبراهيم الخليل ببعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 130-137[/font]


﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ(135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(137)ُ


تتناول هذه الآيات:
¨ عقيدة التوحيد.
¨ ضرورة بناء الأمجاد وعدم الاكتفاء بمآثر الأجداد.

﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ فمن يتخلى عن ملة الخليل إبراهيم فقد أذل نفسه واستخف بها وامتهنها، فالعزة في الإسلام والذلة في الكفر.

﴿وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ﴾ اختاره الله على سائر الخلق واصطفاه بالنبوة والإمامة في الدنيا، والله يصطفي من يشاء لتبليغ دينه وخدمته، وجعله من المقربين في الآخرة.

﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أمره الله أن يستسلم له فلم يتأخر عن الاستجابة لأمر ربه.

﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أوصى إبراهيم ذريته بملته، وبها وصى يعقوب (هو إسرائيل) بنيه مخبرا إياهم أن الإسلام هو الدين الذي اصطفى الله تعالى، فعليهم أن يعيشوا بالإسلام وللإسلام إلى الموت، لكن اليهود لم ينفذوا وصيته.
وقد جاء في الدعاء المأثور الذي رواه أبي بن كعب: (أصبحنا على فطرة الإسلام و كلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين).

﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ توبيخ لليهود الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية، فنفى دعواهم وأكد الوصية الصحيحة.

﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ سؤال للإطمئنان على بقاء بنيه أوفياء للعهد، فطمأنوه أنهم لن يتركوا عبادة الله تعالى ولن يخرجوا عن ملة الآباء والأجداد، مؤكدين على عقيدة التوحيد والخضوع لله.

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ إشارة إلى إبراهيم وخلفه، فلكل ما كسب من العمل، ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ الأنعام 164.

﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ يدعي أهل الكتاب أنهم على الهدى فيدعون الناس إلى ملتهم.

﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِين َ﴾ تأكيد على أن الهدى هو ملة إبراهيم فقد كان مسلما ولم يكن مشركا.

﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ دعوة الله إلى الإيمان بما أنزل في القرآن الكريم وما أنزل على الأنبياء وما جاء في التوراة والإنجيل... دون التفريق بين جميع الأنبياء، مع الانقياد الاختياري لأحكام الله.

﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ فإن استجاب أهل الكتاب لدعوة الإيمان فقد اهتدوا، وإن أعرضوا فقد أعلنوا العداء لله ولرسوله وللمؤمنين، وإن فعلوا ذلك فالله سيكفي رسوله والمؤمنين شرهم ومكرهم، وهو سميع بما يقولون، عليم بما يمكرون ويفعلون.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 138-143 [/font]


﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ(138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ(139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(143)

﴿صِبْغَةَ اللَّهِوهياستعارة تفيد ظهور الدين في المؤمن كظهور الصبغ على الثوب.

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً أسلوب استفهامي يفيد حسن صبغة الإيمان التي يضفيها على المؤمنين.

﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَإعلان عن إفراد الله بالعبودية.

﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْقل يا محمد لليهود كيف تجادلون فتزعمون أنكم أبناء الله وأحباؤه، فالله رب الجميع.

﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَفلا أحد يتحمل نتائج عمل غيره، تأكيدا لقوله تعالى: ﴿...وَلاَتَزِرُوَازِرَةٌوِزْرَأُخْرَى...(164)الأنعام.

﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُيزعم أهل الكتاب أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى، فشهد الله أنهم كانوا مسلمين.

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِكتمان الشهادة جريمة كبرى، فقد أخفى أهل الكتاب بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم الواردة في التوراة والإنجيل.

﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَفالله مطلع على أعمالهم.

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَتأكيد على أن كل إنسان رهين عمله.

﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَاإشارة إلى اليهود الذين أثاروا الجدل عند تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وكان ذلك قبل غزوة بدر بشهرين.
وقد وصف الله تعالى أولئك بالسفهاء.

﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُفجميع الجهات ملك لله سبحانه وتعالى.

﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍيهدي الله من يشاء إلى السبيل الموصل إلى سعادة الدارين.

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًاجعل الله أمة الإسلام تتميز بالوسطية وهي مركز بين طرفي النقيض: الإفراط والتفريط، لتقيم الشهادة على جميع الأمم السابقة، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدا على الجميع.

﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِفقبلة المسلمين الأولى هي بيت المقدس جعله الله كذلك امتحانا للمسلمين، ليمحص الذين يتمسكون بالإسلام عن الذين ينقلبون عنه ويكفرون به.

﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُتحويل القبلة أمر شاق وامتحان عسير بعدما ألف المسلمون الصلاة إلى بيت المقدس قبلة المرسلين، أما الذين آمنوا سلموا لأمر الله.

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْفالله لا يضيع أجر من صلى إلى بيت المقدس ومات قبل تحويل القبلة ردا على مزاعم اليهود الذين قالوا بضياع أجر صلاة من مات قبل ذلك.

﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌإعلانا وبيانا لحب الله عز وجل للناس.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 144-150[/font]


﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ(145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ(147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(150)

﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَايخاطب الله تعالى نبيه الكريم يخبره أنه تعالى يعلم تردد نظره إلى السماء تشوقا لتحويل القبلة، وأن عليه أن ينتظر نزول الوحي الذي يحمل له الأمر بتغيير القبلة إلى ما يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم، فالكعبة بناها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وليخالف قبلة اليهود والنصارى.

﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِمجيء الأمر بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، كان ذلك في الشهر 16 أو 17 من الهجرة قبل غزوة بدر بشهرين، حيث كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي الظهر أو العصر بمسجد بني سلمة، فغير القبلة وغيرها المسلمون أيضا، وقد سمي هذا المسجد بمسجد القبلتين.
﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُأمر الله جميع المسلمين بالتوجه إلى المسجد الحرام.

﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْتأكيد أن النصارى واليهود يعلمون أن أمر التحويل أمر إلهي ولكنهم يفتنون الناس بالشبهات، منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي حول القبلة لما تهواه نفسه فمكة أرضه ومسقط رأسه، ويزعمون ضياع أجر الصلاة لمن صلى إلى القبلة الأولى...
﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَفالله عليم بما يكيده أعداء الدين، من مكائد وما يبثونه من شبهات.

﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَيجزم الله أن أهل الكتاب لا ينقصهم الدليل والحجة ليؤمنوا ويتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه الجحود والكفر.

﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْيؤكد الله عز وجل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتبع قبلة أهل الكتاب بعد مجيء الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة.

﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍفلا اليهود يتبعون قبلة النصارى، ولا النصارى يتبعون قبلة اليهود.

﴿وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَينهى الله تعالى نبيه الكريم أن يتبع أهل الكتاب بعدما آتاه البرهان ولو فعل لكان من الظالمين، وقد جاءت الآية على سبيل الافتراض والتقدير، وهو نوع من التهييج للثبات على الحق.

﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَفاليهود والنصارى يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة يقينية مثلما يعرفون أبناءهم، لورود البشارات في كتبهم المقدسة، لكن أحبارهم ورهبانهم يخفون الحق عن علم وعرفان.

﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَتأكيد للرسول عليه الصلاة والسلام على أن كل ما أوحي إليه من أمر القبلة وغيرها مصدره الله تعالى، وينهاه أن يكون من الشاكين.

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَالكل أمة وجهة تتخذها، ولقد تعددت الوجهات في دنيا الناس.

﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِدعوة للمؤمنين أن يبادروا إلى الصالحات.

﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًافالموت يدرك جميع العباد، فيجمعهم الله دون استثناء ليوم الحساب.

﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌتأكيد على قدرة الله المطلقة.

﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِفحكم التوجه للكعبة حكم واحد في السفر والحضر.

﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَتأكيد على صدق الوحي بما فيه تحويل القبلة، وأن الله لا يغفل عما يصدر من الخلق من أقوال أو أفعال.

﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْتكرار للمرة الثالثة التوجه للقبلة، فهو أول حكم نسخ في القرآن، حتى لا يكون لليهود أو النصارى أو المشركين حجة، فقالت اليهود عن محمد صلى الله عليه وسلم: كيف ينكر ديننا ويستقبل قبلتنا؟، وقال عنه المشركون: يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته.

﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَأمر الله تعالى المؤمنين ألا يخافوا من الكفار وكيدهم، وأن يفردوه بالخشية، ثم أخبرهم بتمام نعمة الهداية عليهم.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 151-157[/font]


﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ(152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ(154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ(157)

تناولت هذه الآيات المسائل التالية:
¨بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.
¨بيان دور الرسول صلى الله عليه وسلم.
¨الذكر.
¨الشكر.
¨الصبر.

﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْأرسل الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العالمين في قوم يعرفونه حق المعرفة.

﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَحدد الله تعالى وظيفة رسوله صلى الله عليه وسلم منها:
- تلاوة القرآن الكريم على عرب الجاهلية.
- تطهيرهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية.
- تعليمهم القرآن الكريم والسنة المطهرة والحكمة.

ولقد كانت بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام استجابة لدعوة إبراهيم الخليل ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) البقرة.

﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْأمر الله تعالى المؤمنين بذكره، وقال في موضع آخر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41) الأحزاب، وفي حديث قدسي فيما يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذ ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) البخاري، والذكر هو التخلص من الغفلة والنسيان لقوله تعالى: ﴿وَاذْكُررَّبَّكَ فِينَفْسِكَتَضَرُّعاًوَخِيفَةًوَدُونَالْجَهْرِمِنَالْقَوْلِبِالْغُدُوِّ وَالآصَالِوَلاَتَكُنمِّنَالْغَافِلِينَ(205)الأعراف،﴿...وَاذْكُررَّبَّكَ إِذَانَسِيتَ...(25) الكهف، وهو أنواع منه:
- ذكر الأسماء والصفات.
- ذكر الأوامر والنواهي.
- ذكر النعماء والآلاء.
- ذكر الوعد والوعيد.

﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ أمر الله تعالى عباده بشكره، والشكر هو اعتراف بفضل الله ونعمه في كل حال، وعدم استعمالها في معصيته بكلمة لسان وخفقة قلب، ونهاهم عن كفر النعم.

وقد علمنا الله تعالى حمده في كل وقت، عند قراءة الفاتحة في الصلاة، وعند الركوع (سمع الله لمن حمده)، (ربنا ولك الحمد)، والحمد كلام أهل الجنة ﴿وَسِيقَالَّذِينَاتَّقَوْارَبَّهُمْإِلَى الْجَنَّةِزُمَرًاحَتَّىإِذَاجَاؤُوهَاوَفُتِحَتْأَبْوَابُهَاوَقَالَلَهُمْ خَزَنَتُهَاسَلَامٌعَلَيْكُمْطِبْتُمْفَادْخُلُوهَاخَالِدِينَ(73) وَقَالُواالْحَمْدُلِلَّهِالَّذِيصَدَقَنَاوَعْدَهُوَأَوْرَثَنَاالْأَرْضَ نَتَبَوَّأُمِنَالْجَنَّةِحَيْثُنَشَاءفَنِعْمَأَجْرُالْعَامِلِينَ(74) الزمر.

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾أمر الله المؤمنين بالصبر والصلاة وتوطين أنفسهم على ذلكلمواجهة المصائب والجهاد وأداء الفرائض...، وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة تجديدا لقوته، وكان يقول لمؤذنه بلالا: (أرحنا بها يا بلال)، وحينما كان يتلقى أذى الكفار كان يصبر ويدعو الله تعالى: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، فالصبر على الأذى ضروري لمواصلة السير إلى الله والثبات عليه، لذلك قال أحد العلماء: [كونوا كالشجر، ترمى بالحجر، وتقذفهم بأحلى الثمر].

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَتأييدا ومعونة ومعية وتثبيتا لهم، ويأجرهم الله بلا حساب: ﴿...إِنَّمَايُوَفَّىالصَّابِرُونَأَجْرَهُمبِغَيْرِحِسَابٍ(10)الزمر.

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌتحضير للأمة المسلمة المقبلة على بذل الأرواح، فلا يقال للشهداء قتلوا بل استشهدوا.
والجهاد شريعة قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَشهد الله أن الشهداء أحياء يرزقون في الجنة، قال تعالى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون (169)َ آل عمران.

﴿و َلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِإعلان الله - على سبيل التمثيل - عن امتحان خلقه بشيء من الخوف والفقر وفقد عزيز...، وفي ذلك تعبئة روحية إضافية لمواصلة المسير.
ابتلى الله أحد عباده الصالحين بشتى الأمراض فصبر وشكر وقال: [الحمد لله الذي ترك لي قلبا شاكرا و لسانا ذاكرا]، فكان ينظر إلى النعم المتبقية لا إلى النعم المسلوبة.

﴿وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَأمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبشر الصابرين الراضين بقضاء الله وقدره على ما أصابهم في النفس والأهل والمال....

﴿أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌثواب الصابرين المغفرة والإنعام بالجنة.

﴿وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَالصبر طريق الهداية إلى سعادة الدارين.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 158-164[/font]


﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ(158)إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ(159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ(162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ(163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(164)

تتناول هذه الآيات المسائل الآتية:
¨ أحكام الصفا والمروة.
¨ كتمان أهل الكتاب البينات.
¨ عقاب الكفار المفاخرين بكفرهم.
¨ عقيدة التوحيد.

مناسبة الآية:
كان على جبل الصفا صنم "إساف" وعلى جبل المروة صنم "نائلة" يتمسح بهما المشركون إذا طافوا، فخشي المسلمون وتحرجوا من التشبه بأهل الجاهلية فنزلت الآية.

﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِالصفا والمروة من أعلام الإسلام ومناسكه، وهي أماكن مقدسة، ترتبط بها ذكريات غالية: إبراهيم عليه السلام، هاجر، إسماعيل عليه السلام، ماء زمزم... وهي ليست من شعائر الجاهلية.

﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَالا حرج ولا إثم على الحاج والمعتمر أن يسعى بين الصفا والمروة.

﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌمن تطوع بعد أداء الفرض فالله شاكر له طاعته ومجازيه خير الجزاء.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَيحذر الله أهل الكتاب الذين يكتمون الحق بعد أن أنزل الدلائل الواضحات الدالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل فجزاؤهم الطرد من رحمة الله وتنالهم لعنة الملائكة والمؤمنين.

﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْفالذين ندموا على ما فعلوا وترجموا توبتهم بالعمل الصالح ثم بيّنوا حقيقة ما أنزل الله في التوراة والإنجيل بعد أن كتموها تشملهم توبة الله تعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله يَبْسُطُ يَدَهُ بِالليْلِ ليَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبُسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ) مسلم.

﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُصيغة مبالغة لصفتي الله تعالى التوبة والرحمة.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَيبين الله المصير المخزي للكفار المصرين على كفرهم هو اللعنة (لعنة الله وملائكته والناس إلى الأبد) والعذاب دون مهل بعد موتهم والخلود في النار، ولم تذكر جهنم في هذه الآية تعظيما لشأنها.

﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُإعلان عقيدة التوحيد وأن الله لا نظير له في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله.

قال تعالى: ﴿وَمَاأَرْسَلْنَامِنقَبْلِكَمِنرَّسُولٍإِلَّانُوحِيإِلَيْهِأَنَّهُلَاإِلَهَ إِلَّاأَنَافَاعْبُدُونِ(25) الأنبياء.

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِيشير الله إلى بعض أسرار الخلق، وعجائب الصنعة، ودلائل القدرة، فالكون كتاب الله المنظور وهو يدعم كتابه المسطور.

﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِتميّز أحدهما عن الآخر، وتعاقبهما، وكلاهما آية تدل على عظمة الله.

﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَالسفن الثقيلة التي تحمل البضائع تحقيقا لمصالح للناس.

﴿وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاالمطر هو سر حياة الأشجار والزّروع، وحياة الأرض بعد الجدب، فالماء هو أصل الحياة.

﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍنشر الله في الأرض أنواعا من الدواب حجما ونوعا وصوتا ويسر لها رزقها: ﴿وَمَامِندَآبَّةٍفِيالأَرْضِإِلاَّعَلَىاللّهِرِزْقُهَاوَيَعْلَمُمُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَاكُلٌّفِيكِتَابٍمُّبِينٍ(6) هود.

﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ الرياح أجسام لطيفة يقلبها الله بقدرته وقد منحها الله القوة القادرة على قلع الصخور والأشجار، لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو عند هبوب الرياح قائلا: (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا) رواه مسلم.

﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ تذليل السحاب بين السماء والأرض،وسمي سحابا لأنه يسحب من موضع إلى آخر،﴿أَلَمْتَرَأَنَّاللَّهَيُزْجِي سَحَابًاثُمَّيُؤَلِّفُبَيْنَهُثُمَّيَجْعَلُهُرُكَامًافَتَرَىالْوَدْقَيَخْرُجُمِنْ خِلَالِهِوَيُنَزِّلُمِنَالسَّمَاءمِنجِبَالٍفِيهَامِنبَرَدٍفَيُصِيبُبِهِمَنيَشَاء وَيَصْرِفُهُعَنمَّنيَشَاءيَكَادُسَنَابَرْقِهِيَذْهَبُبِالْأَبْصَارِ(43) النور.

﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَكل هذه الآيات دلائل وبراهين لمن يتدبر.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 165-173[/font]


﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ(166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ(167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ(170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ(171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(173)

تتضمن هذه الآيات المسائل التالية:
1.عدم جواز اتخاذ الأنداد لله تعالى.
2.وجوب حب الله سبحانه .
3.تبرؤ رؤساء الشرك والكفر من أتباعهم يوم القيامة.
4.وجوب طلب الحلال الطيب.
5.حرمة إتباع مسالك الشيطان.
6.حرمة التقليد الأعمى.
7.حرمة أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله.
8.الضرورات تبيح المحظورات.

التفسير:
﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِاتخذ بعض الناس أوثانا وأندادا لله يحبونها كما يحب المؤمن الله تعالى.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِبين الله الحب الحقيقي وهو حب المؤمنين لله.

﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِفالمشركون قد أعد الله لهم عذابا شديدا فحين يرونه يدركون أن الله تعالى صاحب القوة المطلقة، والعذاب الشديد.
وقد سماهم الله تعالى ظالمين فهم قد ظلموا أنفسهم بعدم الإيمان بالله تعالى، في حديث ابن مسعود: [قلت أي الذنب أعظم يا رسول الله؟ قال: (أن تجعل لله ندّا وهو خلقك)].
وقد ذكر الله بعض صفات جلاله عسى أن يهتدي الظالمون.

﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُتبرأ رؤساء الشرك من أتباعهم وتقطعت بينهم كل الروابط والصلات التي كانت تجمعهم في الدنيا.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّاتمنى الأتباع لو أن لهم رجعة إلى الدنيا فينتقموا من أسيادهم فلا يتبعونهم.

﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِتوعد الله الأسياد والأتباع بخراب أعمالهم السيئة في الدنيا، إذ تصبح حسرات عليهم، ولا ينفعهم الندم يوم القيامة، ومصيرهم الخلود في جهنم.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًايخاطب الله كل الناس فأمرهم أن يكتفوا بالطيب الحلال الذي لا يضر بالأبدان والعقول.

عن أبي هريرة قال: [ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿يَاأَيُّهَاالرُّسُلُكُلُوامِنَالطَّيِّبَاتِوَاعْمَلُواصَالِحًاإِنِّيبِمَا تَعْمَلُونَعَلِيمٌ(51) المؤمنون].

﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾ينهاهم الله أن يتبعوا خطوات الشيطان فيما يزينه لهم من المعاصي والفواحش ﴿...وَزَيَّنَلَهُمُالشَّيْطَانُمَاكَانُواْيَعْمَلُونَ(43)﴾ الأنعام.

﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَيحرض الشيطان أتباعه أن يفتروا على الله بتحريم ما أحل، وتحليل ما حرم.

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَوإذا دعي المشركون إلى الإيمان بالله تمسكوا بما وجدوا عليه آباءهم، فرد الله عليهم أن لا عقل لهم ولا بصيرة ولا إدراك، وهذه صورة للتقليد المقيت، فكل ما تركه الأولون يمحص ويوزن بميزان الشرع، فما كان موافقا له عمل به، ويرد ما يخالفه.

﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونشبه الله الذين لا ينتفعون بآي القرآن وحججه بالبهائم السارحة التي لا تفقه النعيق (صياح راعيها) فتتبعه عادة وتقليدا، فهم صم عن سماع الحق، خرس عن النطق به، عمي لا يبصرونه.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَيأمر الله تعالى المؤمنين أن يلتمسوا الحلال الطيب، وأن يشكروا الله على ما رزقهم من النعم فالشكر يديمها.

﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِيعدد الله ما حظر على المؤمنين تناوله منها:
- الميتة: ما مات من الحيوان بلا ذكاة، مثل المنخنقة (الحيوان الميت خنقا) والموقوذة (الميت ضربا) والمتردية (الميت سقوطا) والنطيحة (الميت نطحا).
- الدم المسفوح السائل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحِلّت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان: السمك والجراد، والدمان: الكبد والطحال)، وقال أيضا لما سئل عن الوضوء بماء البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته).
- لحم الخنزير.
- ما أهل لغير الله: ما ذبح لغير الله، كأن تذبح للأصنام.
ذكر الله المحرمات ولم يعدد الطيبات لأن دائرة الحلال أوسع من دائرة الحرام.

﴿فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِأباح الله للمضطر تناول المحرم دون تجاوز مقدار الحاجة وهي إنقاذ النفس من الهلاك، وهو ما أكده الله في قوله: ﴿...فَمَنِاضْطُرَّفِي مَخْمَصَةٍغَيْرَمُتَجَانِفٍلِّإِثْمٍفَإِنَّاللّهَغَفُورٌرَّحِيمٌ(3) المائدة.

﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌفالله تعالى غفور لإثم المضطر ورحيم بإباحته تناول المُحرَّم للضرورة.

وقد صاغ الفقهاء من تلك الآيات جملة من القواعد الفقهية، منها:
- إذا ضاق الأمر اتسع.
- الضرورات تبيح المحظورات.
- الضرورة تقدر بقدرها.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 174-177[/font]


﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(174) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ(175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ(177)

تتناول هذه الآيات المسائل الآتية:
1.كتمان أهل الكتاب للحق.
2.تلقي الرؤساء الهدايا والعطايا من أتباعهم.
3.تبيان حقيقة البر.

التفسير:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًاقال ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود مثل: كعب بن الأشرف كانوا يأخذون من أتباعهم "هدايا" ولما جاء أمر محمد صلى الله عليه وسلم كتموه خوفا من انقطاع تلك المنافع، فهم يخفون الحق الذي جاء في الكتب السماوية.

﴿أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُون َفِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌجزاء هؤلاء يوم القيامة أنهم يأكلون النار، ولا يطهرهم من دنس الذنوب، ولهم عذاب موجع في الآخرة، ولا يشرفهم الله بالحديث إليهم.

﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِفقدوا الموازين العادلة إذ باعوا الإيمان بالكفر، واستبدلوا النعيم بالجحيم، فكانت تجارة خاسرة، ويدخلون النار اختيارا.

﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّأي أنزل الكتب السماوية من عنده هداية للبشر إلى طريق الحق.

﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍاختلف اليهود والنصارى في الحق وابتعدوا عنه، وأعلنوا عداوتهم لله تعالى وللمؤمنين وامتدت هذه العداوة لتشملهم ﴿وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(113) البقرة.

﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِالبر اسم جامع لكل خير، وليس محصورا في الصلاة والتوجه إلى القبلة.
﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّيبين الله حقيقة البر فيما يلي:

1. ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِالإيمان بالله أصل الأصول ونقطة التحول الأساسية من الشرك إلى الوحدانية، ومن التيه إلى القصد.

2. ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِيوم القيامة الذي تعرض فيه الأعمال لنيل الجزاء العادل ثوابا أو عقابا.

3. ﴿وَالْمَلَائِكَةِمخلوقات من نور، تطيع الله وتخشاه مثل:
- جبريل: سفير الأنبياء.
- ميكائيل: موكل بالمطر والنبات.
- إسرافيل: موكل بالنفخ في الصور يوم القيامة.
- عزرائيل: موكل قبض الأرواح.
- الكرام الكاتبون: موكلون بكتابة أعمال البشر.
- الحفظة: موكلون بحفظ البشر من الدواب والجن والهوام.

4. ﴿وَالْكِتَابِالمراد الكتب السماوية وصحف إبراهيم.

5. ﴿وَالنَّبِيِّينَوهم من أرسلهم الله لتبليغ رسالته وأيدهم بالمعجزات الباهرات.

6. ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِتصدق بالمال رغم تعلقه به فانعتقت روحه منه، ومن أصناف المستحقين:
-﴿ذَوِي الْقُرْبَىوهم أولى بالمعروف صلة للأرحام وتمتينا للقرابات.
-﴿وَالْيَتَامَى تعويضا لهم عن فقد الآباء والأمهات ومواساة لهم.
- ﴿وَالْمَسَاكِينَمن لا مال لهم.
- ﴿وَابْنَ السَّبِيلِالمسافر المنقطع عن ماله وأهله.
- ﴿وَالسَّائِلِينَ الذين يسألون المعونة بدافع الحاجة.
-﴿وَفِي الرِّقَابِتخليص الأرقاء من العبودية، والأسرى بالفداء.

7. ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَأداها بأركانها جسما وعقلا وروحا.

8. ﴿وَآتَى الزَّكَاةَوهي عبادة مالية واجتماعية.

9. ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوالا ينقضون عهودهم مع الله وسائر الناس.

10. ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِالأصل أن يأتي "الصابرين" مرفوعا فنصب على الاختصاص، أي وأخص بالذكر "الصابرين" وهذا إبرازا لمقامهم ﴿إِنَّمَايُوَفَّىالصَّابِرُونَأَجْرَهُمبِغَيْرِحِسَابٍ(6)الزمر، والبأساء من شدة البؤس وهو الفقر، والضراء شدة الضر والمرض، وحين البأس عند القتال.
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَصدقوا في الإيمان فترجموه عمليا، فاستحقوا وصف المتقين الذين يخشون ربهم سرا وعلانية.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 178-184[/font]


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ(180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184).

تتناول هذه الآيات المسائل الآتية:
1.القصاص.
2.الوصية.
3.الصيام.

تفسرها:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَىخطاب يفيد فرض القصاص على المؤمنين، والقصاص هو العقوبة المماثلة للجرم المرتكب، تسلط على الجاني عند عدوانه على نفس الغير أو أحد أعضائه عمدا، وشرع لحكم منها:
1. منع الاقتتال الجماعي، وكانت العرب إذا قتل أحدهم تحامت قبيلتا القاتل والمقتول، فيكثر عدد القتلى وقد تفنى قبيلة بسبب قتل واحد... ويقولون: القتل أوقى (أنفى) للقتل.
2. إقامة العدل.
3. إشفاء غليل أهل المقتول غدرا.
4. تحقيق المساواة باستيفاء الحق من الجاني ﴿...وَلاَتَزِرُوَازِرَةٌوِزْرَأُخْرَى(164) الأنعام.
5. الحفاظ على أمن المجتمع وحياته ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ...﴾.

﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَىتحقيقا للمساواة، والقصاص يتولاه ولي أمر المسلمين وليس أولياء المقتول، كما كان يصنع أهل الجاهلية إذا قتل منهم عبد قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا.

﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍإذا اختار أولياء المقتول العفو مع قبول الدية بلا حيف أو إرهاق، بالمقابل يؤدي القاتل الدية بلا تأخير أو مماطلة.

﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌتخفيف للقاتل ونفع لأولياء المقتول: القصاص، الدية، العفو، وكل هذا عدل ورحمة وفضل.

﴿فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌيتوعد الله أهل المقتول إذا اعتدوا على القاتل بعد أخذ الدية بالعذاب العظيم.

﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَفالقصاص يحافظ على الأرواح فلا يقدم أحد على القتل لأنه يدرك المصير الذي ينتظره.

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَفرض الله على من أشرف على الموت - إن كان له مال –أن يوصي به بالعدل، فكانت الوصية واجبة قبل نزول آية المواريث فنسختها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)، فأصبحت الوصية مستحبة بعد ذلك.

﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُمن غيّر الوصية أو لم ينفذها بعد العلم بها فهو آثم.

﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌفالله سميع لأقوال العباد عليم بأفعالهم.

﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌمن خاف من ميل الموصي عن الحق بقصد أو غير قصد، فلا حرج إن عمل على الإصلاح بين الموصي والموصى له، ورحمة والله تسع الجميع.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍفرض الله الصيام على المؤمنين أياما معدودات (شهر رمضان) على غرار الأمم السابقة، مؤكدا على أن المقصد الأول منه تحصيل التقوى.

﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَأباح الله الفطر للمريض والمسافر، وعليهم قضاء ما أفطروا بعد زوال العذر.

﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُأباح الله للذين يطيقون الصيام - مع المشقة لشيخوخة وضعف أو حمل- الفدية المقدرة، ومن زاد على القدر المذكور فهذا خير له.

﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَتأكيد الله على أن الصوم خير من الفطر والفدية.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 185-188[/font]


﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر َيُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُم ْوَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

تتناول هذه الآيات ما يلي:
1.بعض أحكام الصيام.
2.الدعاء.
3.أكل المال بالباطل.

التفسير:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانفرض الله الصيام وبين وقته وهو شهر رمضان (الشهر التاسع من الأشهر القمرية)، وقد ذكره الله باسمه تشريفا له، ففيه بدأ نزول القرآن الكريم، ولم يكن صيام رمضان فرضا منذ نزوله، بل تم ذلك في السنة الثانية للهجرة.
وبين الله تعالى أن القرآن الكريم هداية من كل ضلال، فيه آيات واضحات تفرق بين الحق والباطل، بين النور والظلام.

﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرمن حضر الشهر وجب عليه صيامه، إلا أصحاب الأعذار فعليهم القضاء في أيام أخرى.

﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَيريد الله التخفيف والتسهيل على عباده بترخيص الفطر في رمضان لأصحاب الأعذار، وهذا من التيسير ورفع الحرج الثابت في شرع الله تعالى، قال تعالى:
﴿...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...(78) الحج.
﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا(28) النساء.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) حديث صحيح.

﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَتتمة عدة شهر رمضان بقضاء ما أُفطِر لعذر.

﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَتكبيرافي صلاة العيد وتعظيما لله وحمدا له على الهداية إلى معالم الدين وأفضاله.

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌسأل بعض الأعراب النبي عليه الصلاة والسلام عن الله: [أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟]، فأنزل الله قوله، مخبرا أنه قريب، وفي آية أخرى يقول: ﴿...وَنَحْنُأَقْرَبُإِلَيْهِ مِنْحَبْلِالْوَرِيدِ(16) ق، فالله تولى الإجابة بنفسه إشعارا بقربه.

﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِيإعلان أن الله يجيب السائل بلا واسطة، وهو وعد من المولى عز وجل الذي لا يخلف وعوده، قال تعالى: ﴿وَقَالَرَبُّكُمُادْعُونِيأَسْتَجِبْلَكُمْ(60) غافر.

قال الحافظ بن كثير: [...تخللت آية الدعاء أحكام الصيام ارشادا إلى الاجتهاد في الدعاء عند كل فطر للحديث الشريف: (إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد).
قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة) رواه أبو داوود والترمذي عن النعمان بن بشير، وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الأدعية في كل زمان ومكان: الاستيقاظ، السفر، عند نزول الغيث، دبر الصلوات...

﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِياستجابة لدعوة الإيمان بالله وطاعته.

﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَوالرشد هو معرفة الإنسان لما ينفعه في العاجل والآجل، وأكبر معرفة هي معرفة الله تعالى.

﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّأحل الله المعاشرة الزوجية ليلة الصيام، ووظف لفظة "لباس" على سبيل الاستعارة، بمعنى السكن والستر.

﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُم ْكان بعض المسلمين يخونون أنفسهم بالتفكير بالجماع ليلة الصيام أو ممارسته فعلا، وقد كان ممنوعا في صدر الإسلام، ولكن رحمة الله أدركتهم فعفا عنهم، وأحل المعاشرة طلبا للولد والأجر، فنسخ الحكم السابق.

﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِإباحة الأكل والشرب حتى يتم التحقق من بياض الصبح من سواد الليل، لذلك يسن تأخير السّحور.

﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِنهى الله عن معاشرة النساء بالنسبة للعاكف سواء في الليل أو النهار.
والاعتكاف من سنن الإسلام، وهو ملازمة المسجد للعبادة، ويستحب في العشر الأواخر من رمضان، وأقله يوم وليلة.

﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَفهذه الأحكام شرعها الله تعالى، واعتبرها حدودا لا يجوز مخالفتها.

﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِنهى الله تعالى عن أكل المال بالحرام، ومن أشكاله: الغصب، السرقة، القمار، الرشوة، الربا...

﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ خص الله الرشوة بالذكر الذي هو تقديم مال لصاحب حكم أو سلطة، لأن الحكام ييسرون لهم أكل أموال الغير بالباطل.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 189-195[/font]


﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(191) فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ(193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(194) وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(195)

التفسير:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّسأل بعض الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم: [ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ؟]، فأنزل الله تعالى قرآنه، مجيبا إياهم أنه وقت معلوم لمعرفة أوقات العبادات: الصوم، الزكاة، العدة، آجال العقود...

﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَاالبر هو العمل الصالح الموصل لمرضات الله، ونفى تعالى أن يكون البر ما كان يفعله العرب في الجاهلية حيث كان أحدهم إذا قدم من سفر أو حج يتسور الجدر وكان يعتقد أن ذلك طاعة وبرا.

﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَىوحقيقة البر الخوف من الله واجتناب ما حرم.

﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَأمر تعالى بإتيان البيوت من أبوابها وهو الأمر السوي، مبطلا تلك العادة الجاهلية، كما أمر بالتقوى لنيل سعادة الدارين.

﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَأمر بجهاد الكفار المعتدين وإعلاء كلمة الله، وهو المقصد الشريف للجهاد، ونهى عن العدوان والاستعلاء في الأرض.

﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْأمر بقتال الكفار أينما وجدوا، وإخراجهم من مكة المكرمة التي أُخِرجوا منها ظلما وعدوانا، وهذا حكم ناسخ للحكم السابق.

﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِفتنة المؤمن في دينه أشد من قتله، بيانا لقيمة الدين لدى المؤمنين.

﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَنهى الله المؤمنين عن القتال في الحرم المكيإلا أن يبدأ الكفار قتالهم فينتهكون حرمة البيت، ومن ثم وجب قتالهم، وهذا جزاء الكافرين المعتدين.

﴿فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌوعد الله الكافرين بمغفرته وواسع مغفرته إذا انتهوا عن الكفر والعدوان.

﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِأمر بمقاتلة المحاربين حتى لا يفتن الناس عن دينهم، ويكون دين الله هو الدين الغالب الظاهر على سائر الأديان.

﴿فَإِنْ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَتكرر حكم عدم مقاتلة الكفار حين ينتهوا عن القتال أو الكفر تأكيدا لهذا الحكم.

﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْلا يجوز القتال في الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة، ذو الحجة، محرم، رجب، وإذا وقع العدوان على المسلمين وجب الدفاع ردا للعدوان.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَدعوة إلى عدم العدوان لأي سبب كان، والتزام سبيل التقوى.

﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِدعوة للإنفاق في سبيل الله بالنفس والعلم والمال، وعدم الإعراض عن الجهاد رغبة في الأموال. وذلك عين التهلكة، قال أبو أيوب الأنصاري: [نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار حين أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقلنا: لو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها]، فصار ترك الجهاد في سبيل الله قذفا بالنفس إلى الهلاك.

﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أمر الله بالإحسان في الأقوال والأفعال سرا وعلانية وهو ما يستوجب محبة الله.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 196-203[/font]


﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَج وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ(197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَعِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ(198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ(200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(203)

وتتناول أحكام الحج.

تفسير الآيات:
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِأمر الله تعالى بأداء الحج والعمرة كاملين بأركانهما وشروطهما، وهذا يستدعي التفقه في أحكام الحج والعمرة.

﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِتيسير الله للحاج والمعتمر إن منع عن اتمامهما بعدو أو مرض، فقد رفع عنه الحرج، فإن أرادا التحلل من الإحرام فعليه ذبح ما تيسر سواء بقرة أو شاة... في الحرم أو في مكان الإحصار.

﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍنهى الله عن التحلل من الإحرام بالحلق أو التقصير (من أحكام الحج والعمرة)، لكن أباح ذلك للمريض أو المتأذي على أن يفدي، والفدية تكون إما بصيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبيحة شاة.

﴿فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِفإذا كان الأمن من أول الأمر أو بعد الإحصار فعلى المعتمر ذبح شاة أو بقرة أو بعير شكرا لله، أما من لم يملك ثمن الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام من أول شهر ذي الحجة إلى يوم التاسع، وسبعة عند العودة إلى الأوطان – الذبح والتمتع خاص بغير أهل الحرم – فهذه عشرة أيام تجزئ عن الذبح.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِأمر الله تعالى بتقواه والتقوى فعل أوامره واجتناب نواهيه، وتوعد بالعقاب لمن يخالفه.

﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجالحج وقت معلوم: شوال، ذو القعدة، العشر الأوائل من ذي الحجة، فحين يلزم المسلم نفسه بالحج فلا يخاصم ولا يقرب النساء ويبتعد عن المعاصي.
حتى يكون حجه مبرورا.

﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُفالله يجزي كل عامل عما عمل، ويعلم المحسنين منهم.

﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِيأمر الله بالتزود لسفر الحج من أكل وشراب، فقد كان الحجاج لا يتزودون فيتسولون في الحج، ثم عقب أن خير ما يتزودوا به هو التقوى، ثم دعا إلى تقاته كل ذي عقل وفهم.

﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْرفع الله تعالى الحرج على من سعى إلى تجارة دنيوية، فهذا لا يتنافى مع الحج، فلقد كان المسلمون يتأثمون من ذلك، فالحج مقصد أساسي، أما التجارة فهو مقصد تبعي.

﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَعِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَبعد الوقوف بعرفة أمر تعالى بذكره (التسبيح والتهليل والتكبير) عند المشعر الحرام بالمزدلفة، وشكره على الهداية إلى الإيمان بعد الضلال ﴿...وَقَالُواْالْحَمْدُلِلّهِالَّذِيهَدَانَالِهَـذَا وَمَاكُنَّالِنَهْتَدِيَلَوْلاأَنْهَدَانَااللّهُ...(43)الأعراف.

﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُكانت قريش تترفع على الناس أن يقفوا معهم، فيقفون في المزدلفة لأنها من الحرم ثم يفيضون منها، فأمر الله تعالى أن يفيضوا من عرفات لا من المزدلفة.

﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌاستغفار الله عما سلف من المعاصي، والله هو الغفور الرحيم.

﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًاعند الإنتهاء من مناسك الحج وأعماله لابد من ذكر الله، وأشار تعالى إلى عادة جاهلية حيث كانوا يتفاخرون بآبائهم ويذكرون مآثرهم وقد نهى عنها.

﴿فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍمن الناس من يجعل همه الأكبر الدنيا، فلا يدعو إلا بنصيب منها، ثم لا يكون له نصيب في الآخرة.

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِفالمؤمن العاقل يحرص على خيري الدنيا والآخرة، فحسنة الدنيا تتمثل في الصحة والمال... وحسنة الآخرة تيسير الحساب والأمن من الفزع الأكبر ودخول الجنة والنجاة من النار ورضوان الله تعالى...
قال أنس بن مالك في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الدعاء: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوالن يضيع الله أجر العاملين ويوفيهم ما عملوا.

﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِفالحساب قريب.

﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَىتكبير الله في أيام التشريق، ورفع الحرج عمن تعجل ورجع من منى، وعمن تأخر.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَفالتقوى هو الأمان من المعاصي، وربط الله تعالى التقوى بالحج فسفر الحج فيه تقوى وبعده كذلك.

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَتذكير بالحشر وما وراءه من حساب وعقاب، والتقي هو من يعد لهذا اليوم العظيم، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْيَوْمًاتُرْجَعُونَفِيهِإِلَى اللّهِثُمَّتُوَفَّىكُلُّنَفْسٍمَّاكَسَبَتْوَهُمْلاَيُظْلَمُونَ(281) البقرة.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 204-212[/font]


﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ(205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ(206) وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ(207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(209) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ(210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(212).

تتناول هذه الآيات ما يلي:
1.صنف المنافقين.
2.صنف الذين باعوا أنفسهم لله تعالى.

المناسبة:
رُوي أن الأخنس بن شريق أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر له الإسلام وحلف أنه يحبه، وكان منافقا، وخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرعٍ لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وقتل الحمر، فنزلت هذه الآيات تمثيلا لفئة المنافقين.

التفسير:
﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَايخاطب الله تعالى نبيه الكريم ويحذره من المنافقين الذين يدعون الإيمان بألسنة خلابة وهم يبطنون الكفر، ويخدعون الناس في الدنيا، لكن الله تعالى يفضحهم يوم القيامة، قال تعالى: ﴿إِنَّالْمُنَافِقِينَفِيالدَّرْكِالْأَسْفَلِمِنْالنَّارِوَلَنْتَجِدَلَهُمْنَصِيرًا(145)﴾ النساء.

﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِيحلف بالله إثباتا لإيمانه، لكن الله أثبت أنه أشد الناس كفرا ونفاقا.

﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَفحين انصرف هذا المنافق من عند النبي صلى الله عليه وسلم عاث في الأرض فسادا (معنويا وماديا)، ومن إفساده حرقه للزرع وقتله للأنعام.

﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَفالله يمقت الفساد والمفسدين، ويستنفر قلوب المؤمنين للابتعاد عنه.

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِإذا وعظ فإنه يتكبر عن الحق ومنعته الأنفة والحمية من الركون إليه، ويتعلق بالإثم، وهذه صفة من صفات المنافقين وبعض المذنبين.

﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُفجزاء المنافقين هو جهنم يفترشها يوم القيامة.

﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِيتحدث الله عز وجل عن صنف آخر هم المؤمنون الأتقياء، ومناسبة هذه الآية أن صهيب الرومي الذي اعتنق الإسلام ودخل في رحابه، لما أراد الهجرة إلى المدينة المنورة لحقه نفر من مشركي قريش ليردوه... وقالوا له: [جئتنا صعلوكا لا تملك شيئا، وأنت الآن ذو مال كثير]، فقال: [أرأيتم إن دللتكم على مالي تَخْلُون سبيلي؟] قالوا: [نعم]، فدلهم على ماله بمكة، فلما قدم المدينة دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام: (ربح البيعَ صهيب، ربح البيعَ صهيب) وأنزل الله فيه: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ... فصهيب باع نفسه لله وهو نموذج من الأبرار الأخيار.

﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِومن دلائل رأفته ورحمته: مضاعفة الحسنات، والعفو عن السيئات، وعدم التعجيل بالعقوبات فهو يمهل ولا يهمل ومن أسمائه الحسنى "الصبور".

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةًدعوة المؤمنين للدخول في الإسلام والخضوع لجميع أحكامه: عقيدة وعبادة وأخلاقا وشريعة دون الفصل بينها.
ويعيش المسلم بإسلامه راحة وسلاما مع نفسه ومع الناس ومع سائر المخلوقات.

﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌيحذر الله عباده المؤمنين من مكائد الشيطان وحبائله، ويؤكد على العداوة الدائمة بين الشيطان والإنسان.

﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌمن انحرف من بعدما جاءته الحجج القاطعة ينتقم الله منه لأنه صاحب القدرة المطلقة فلا يعجزه شيء.
﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُاستفهام موجه لأولئك المترددين والمشركين وينهاهم من أن يفوتوا فرصة الحياة الدنيا فلا يؤمنوا، ففي يوم القيامة لا ينفعهم إيمانهم الاضطراري.
أما فيما يخص مجيء الله فالكيف مجهول نؤمن به من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل وهو مذهب السلف.
أما الملائكة فهم حملة العرش وآخرون.

﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يوم الفزع الأكبر يفصل الله في كل الأمور، ويكون الناس فريقين: فريق في الجنة وفريق في النار.

﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍيأمر الله تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أن يسأل اليهود عن آيات ومعجزات موسى وذلك توبيخا وتقريعا لهم.

﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِتوعد الله الذين يجحدون نعمه بمصير كمصير بني إسرائيل، خاصة الجحود الحاصل بعد البيان.

﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُواحبب إلى الكافرين الشهوات والملذات، واتهموا المؤمنين بقلة العقل والسفاهة وعدم إدراكهم لمصالحهم لأنهم أقبلوا على الآخرة.

﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِتأكيد على المنزلة الرفيعة والمقام العالي للمؤمنين المتقين، عكس الساخرين منهم الذين يكون مصيرهم أسفل سافلين.

﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍفهو صاحب الخزائن يؤتي من فضله من يشاء في الدنيا والآخرة.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 213-215[/font]


﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(215)

التفسير:
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةًكان الناس أمة واحدة على الإيمان والتوحيد والفطرة المستقيمة لمدة عشرة قرون من آدم إلى نوح عليهما السلام، لكن اختلفوا بعد ذلك وأشركوا بالله واختلفت عقائدهم.

﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِأرسل الله النبيين وقد بلغ عددهم 124 ألف نبي، أما الرسل فقد بلغ عددهم 313 رسولا (وهو الرأي الراجح عند أهل السنة والجماعة)، وذكر القرآن الكريم 25 منهم، وأول الأنبياء آدم، وأول الرسل نوح عليه السلام، وخاتم النبيين والرسل محمد صلى الله عليه وسلم.
ووظيفة الأنبياء والرسل تبشير المؤمنين بالجنة، وإنذار الكافرين بالجحيم، والبشارة وعد والنّذارة وعيد، ولقد أيدهم الله بكتب منه - كلمة "الكتاب" اسم جنس يضم جميع الكتب السماوية - لتحسم في مسائل خلافهم بالحق.

﴿وَمَاعَلَىالرَّسُولِ إِلَّاالْبَلَاغُالْمُبِينُ(54)النور.

﴿يَاأَيُّهَاالرَّسُولُبَلِّغْمَاأُنزِلَإِلَيْكَ مِنرَّبِّكَوَإِنلَّمْتَفْعَلْفَمَابَلَّغْتَرِسَالَتَهُوَاللّهُيَعْصِمُكَ مِنَالنَّاسِإِنَّاللّهَلاَيَهْدِيالْقَوْمَالْكَافِرِينَ(67) المائدة.

﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْبعد مجيء الرسل والأنبياء بالحق كذبهم الناس واختلفوا في العقيدة رغم وجود الدلائل الواضحة والحجج القاطعة التي احتوتها الكتب، فقد كفروا عن علم، خاصة اليهود كفروا بالأنبياء وقتلوهم.

﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِفالمؤمنون هداهم الله تعالى إلى الحق توفيقا ومعونة في جميع مسائل عقيدتهم وغيرها.

﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍفالله هو الهادي إلى الصراط السوي الموصل إلى بر الأمان.

﴿إِنَّكَلَاتَهْدِيمَنْأَحْبَبْتَوَلَكِنَّ اللَّهَيَهْدِيمَنيَشَاء(56) القصص.

﴿...الْحَمْدُلِلّهِالَّذِيهَدَانَالِهَـذَا وَمَاكُنَّالِنَهْتَدِيَلَوْلاأَنْهَدَانَااللّهُ...(43) الأعراف.

وندعو الله في كل ركعة بالهداية: ﴿اهدِنَــا الصِّرَاطَالمُستَقِيمَ(6) الفاتحة.

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌخطاب من الله للمؤمنين أنهم لن يدخلوا الجنة حتى يصيبهم ما أصاب الرسل والمؤمنين السابقين من الشدائد والمصائب المزلزلة... وضرب الله مثلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه - رغم إيمانهم وثباتهم ويقينهم بالله وثقتهم بنصره - فحينما اشتدت المصائب عليهم استعجلوا نصر الله، فأكد الله تعالى قرب نصره.

﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِاستفسر الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإنفاق وأصناف المستحقين له، فبين الله تعالى أن الإنفاق يشمل الأصناف الآتية:
- الوالدين.
- الأقارب.
- اليتامى.
- المساكين.
- ابن السبيل الذي انقطعت به السبل.

﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌفكل من عمل خيرا وأنفق في سبيل الله تعالى يجد ما عمل حاضرا يوم القيامة، والله عليم بأعمالهم حافظ لأجورهم.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 216-220[/font]


﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(216) يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(218) يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِوَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(220)


﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْفرض الله الجهاد بالنفس والمال وهو أمر فيه مشقة، ووصفه الله تعالى أنه كره للمؤمن، واستعمل صيغة مبالغة "كره" فلم يقل "مكروه".

﴿وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْيؤكد الله أنه يمكن للمسلمين أن يستثقلوا تكاليف الله ومنها الجهاد وفيه مصلحتهم ونفعهم، وأن يحبوا أمورا تستهويها أنفسهم فيها ضرر لهم.

﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَفالله يعلم عواقب الأمور وصلاح العباد في المعاش والمعاد، وما عليهم إلا أن يعملوا بما أمرهم، وينتهوا عما نهاهم.

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِسأل المؤمنون الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم القتال في الأشهر الحرم (ذو القعدة، ذو الحجة، محرم، صفر) وهي أشهر مقدسة، فبين الله تعالى عدم جواز القتال فيها، لكن منع المؤمنين عن الإسلام وصدهم عن المسجد الحرام، وإخراجهم من مكة أكبر إثما وأعظم وزرا عند الله تعالى، لذلك يجوز الدفاع الشرعي عند وقوع الاعتداء من الكفار ولو الأشهر الحرم.

﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِفإخراج المؤمن من الإسلام فتنة أكبر من القتل في الشهر الحرام أو في غيره، ولعن الله من يشعل نار الفتنة.

﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوايبين الله حقيقة أهل الكفر والشرك الذين يصرون على قتال المؤمنين وردهم عن الإسلام بكل الوسائل الممكنة، واستخدم الله تعالى صيغة المضارع التي تفيد المستقبل وتدل على الاستمرار، قال تعالى: ﴿إِن يَثْقَفُوكُمْيَكُونُوالَكُمْأَعْدَاءوَيَبْسُطُواإِلَيْكُمْأَيْدِيَهُمْوَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِوَوَدُّوالَوْتَكْفُرُونَ(2) الممتحنة.

﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَإخبار بعواقب الردة: بطلان الأعمال الصالحة وذهاب الثواب، والخلود في نار جهنم.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌفالمؤمنون الذين فارقوا الأهل وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمة الله ويرجون رحمته فالله عز وجل يرحمهم ويغفر لهم.

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَاسأل جماعة من الأنصار النبي عليه الصلاة والسلام عن الخمر والميسر (سمي الميسر بذلك فأصله من اليسر في الكسب)، فأجابهم الله تعالى أن فيهما أضرار ومنافع زائلة للناس ولم يقل للمؤمنين، وبين أن أضرارهما أكبر وأعظم من منافعهما.

من أضرار الخمر والميسر:
  1. ضياع الدين والمال والعقل والشرف والصحة.
  2. ذهاب المروءة.
  3. خراب الأواصر وقطع العلاقات.
تدرج الله سبحانه وتعالى في تحريم الخمر من خلال هذه الآيات:
  1. قال تعالى: ﴿وَمِنثَمَرَاتِالنَّخِيلِوَالأَعْنَابِتَتَّخِذُونَمِنْهُسَكَرًاوَرِزْقًا حَسَنًاإِنَّفِيذَلِكَلآيَةًلِّقَوْمٍيَعْقِلُونَ 67 النحل.
  2. يَاأَيُّهَاالَّذِينَآمَنُواْلاَتَقْرَبُواْالصَّلاَةَ وَأَنتُمْسُكَارَىحَتَّىَتَعْلَمُواْمَاتَقُولُونَ...43 المائدة.
  3. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا219 البقرة.
  4. يَاأَيُّهَاالَّذِينَآمَنُواْإِنَّمَاالْخَمْرُوَالْمَيْسِرُوَالأَنصَابُوَالأَزْلاَمُرِجْسٌ مِّنْعَمَلِالشَّيْطَانِفَاجْتَنِبُوهُلَعَلَّكُمْتُفْلِحُونَ(90) إِنَّمَايُرِيدُ الشَّيْطَانُأَنيُوقِعَبَيْنَكُمُالْعَدَاوَةَوَالْبَغْضَاءفِيالْخَمْرِوَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْعَنذِكْرِاللّهِوَعَنِالصَّلاَةِفَهَلْأَنتُممُّنتَهُونَ(91) المائدة.
كان عمر بن الخطاب يتطلع إلى منعها قطعا ويقول: [اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا]، فنزلت الآية، فقال: [انتهينا ربنا].

فحرم الخمر واعتبرها الرسول صلى الله عليه وسلم أم الخبائث، ووضع لها حدا عقابيا.

﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَيستفسر الصحابة عما ينفقون من أموالهم، فأمرهم الله أن ينفقوا الفائض عن الحاجة والتزام الاعتدال.

﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِيبين الله أحكام الحلال والحرام والمنافع والمضار في الدنيا الفانية والآخرة الباقية.

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْويستفسرون عن اليتامى، فأمرهم الله تعالى أن يضموا أموالهم إلى أموالهم مع مراعاة مصالحهم، فهم إخوانهم في الدين، والأخوة في الدين عامل قوي في رعاية المصالح.
دعا الإسلام إلى الكفالة مع مراعاة أحكامها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) رواه مسلم، وجمع بين أصبعي السبابة والوسطى.

﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْفالمولى عز وجل يعلم المفسدين والمصلحين، ورفع عن عباده الحرج والضيق في الدين.

﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌفهو القادر الذي لا يمنعه شيء عن مراده، ويضع الأمور في نصابها.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 221-225[/font]


﴿وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(224) لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

تتناول هذه الآيات الحديث عن الأسرة، والأسرة هي الخلية الأساس في بناء المجتمع، فيتقوى بقوتها ويضعف بضعفها، واقتضت حكمة الله تعالى أن يهيء - قبل أن ينزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم - له الأسرة التي احتضنت الوحي، وسخر له الزوجة الصالحة التي وقفت إلى جنبه.
وركز الشرع على بيان أحكام الأسرة بالتفصيل بدءا من مقدمات الزواج مرورا بانعقاده وبيانا للواجبات والحقوق والعلاقات بين الأزواج والزوجات، وبين الأبناء والآباء، وانتهاء بأحكام الطلاق.

التفسير:
﴿وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْمناسبة هذه الآيات أن رجلا مسلما أعجبته امرأة مشركة فأراد الزواج بها، واستشار الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره هذا، فنزل قوله تعالى مبينا فضل الزواج بالآمة المؤمنة على المشركة.
نهى الله تعالى المؤمنين من الزواج بالمشركات، ولو أعجبهم فيهن الحسن والجمال، إلا أن يكن كتابيات موحدات، فالتوحيد هو الأساس الذي انبنت عليه العقيدة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾ الأنبياء.
كما ينهاهم من تزويج المؤمنات من المشركين ومن أهل الكتاب، حتى يؤمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

﴿أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ فالمشركون والكفار يدعون إلى جهنم بكفرهم وشركهم، والله عز وجل يدعو إلى طريق النجاة الموصل إلى الجنة.

﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يظهر الله آياته للناس عساهم أن يعودوا إلى جادة الصواب.

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحيض فبين الله حقيقته أنه أذى للزوجين بما يسببه من أمراض، لذلك وجب اعتزال النساء في هذه المدة (أي عدم معاشرتهن) حتى يطهرن أي ينقطع الدم ويغتسلن، وفي هذا تنظيم للعلاقة الأسرية.
ومن أحكام الحيض عدم الصلاة والصيام، مع قضاء أيام رمضان فقط.

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ فالله يحب التوابين من الذنوب والآثام، والمتطهرين من الفواحش والأقذار.

﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ لا يجوز إتيان المرأة إلا من حيث أمر الله.

﴿وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْأمر الله المؤمنين بفعل صالح الأعمال للآخرة.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ أمر الله عز وجل بالتقوى، واليقين بلقائه، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبشر المؤمنين بالجنة.

﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ نهى الله عن الحلف به حين يكون ذلك مانعا عن فعل الخير، في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليُكَفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير)، فالواجب هو فعل الخير والتكفير عن اليمين.

﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سميع للأقوال، عليم بالأحوال والأعمال.

﴿لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ فاللهلا يحاسب ما جرى على الألسن من غير قصد، لكن يحاسب على كل حلف مقصود (اليمين المنعقدة).
واليمين سميت بذلك لأنها عهد، ولأنها تحفظ كما يحفظ الإنسان شيئا غاليا بيمينه.
لا يجوز الحلف بغير الله، قال صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر: (من حلف بغير الله فقد أشرك).

أقسام اليمين:
  1. اليمين اللغو: لا حنث عليها ولا كفارة، لكن يفضل أن لا يحلف في كل وقت.
  2. اليمين المنعقدة: اليمين المقصودة على فعل أو ترك، ويترتب عنه الحنث: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة، أو صيام ثلاثة أيام، قال تعالى: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ َ(89)المائدة.
  3. اليمين الغموس: كأن يحلف الإنسان كاذبا ليأخذ حق غيره بيمينه الكاذبة، وسميت كذلك لأنها تغمس صاحبها في المعاصي أو في النار، وحكمها التوبة النصوح ورد الحقوق لأصحابها.
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ من رحمة الله أنه غفور للمستغفرين، ولا يعجل بالعقوبة.

 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 226-230[/font]


﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(230)﴾


تتناول هذه الآيات موضوع الأسرة واستقرارها، وحكمة تشريع الطلاق.

﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ خطاب موجه للأزواج الذين يحلفون على عدم مجامعة زوجاتهم إضرارا بهن، فمن فعل ذلك لمدة أربعة أشهر ورجع إلى معاشرتها فعليه أداء كفارة اليمين والله يغفر ذنوبهم.

﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ إن صمم على عدم المعاشرة وقع الطلاق بمضي أربعة أشهر، وعند بعض العلماء ترفع المرأة أمرها إلى القاضي فيأمره بالفيئة أو الطلاق، فإذا امتنع عن التصريح بأحدهما طلقها عليه القاضي، والله سميع بأقوالهم، عليم بأفعالهم ونياتهم.

﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ المطلقات المدخول بهن عدتهن انتظار ثلاثة قروء، والقرء يعني الحيض عند الحنفية والحنابلة، ويعني الطهر عند الشافعية والمالكية.

والمطلقة تلزم بيت الزوجية لا تغادره بإرادتها ولا بإكراه زوجها لقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَاالنَّبِيُّإِذَاطَلَّقْتُمُالنِّسَاءفَطَلِّقُوهُنَّلِعِدَّتِهِنَّوَأَحْصُوا الْعِدَّةَوَاتَّقُوااللَّهَرَبَّكُمْلَاتُخْرِجُوهُنَّمِنبُيُوتِهِنَّ وَلَايَخْرُجْنَإِلَّاأَنيَأْتِينَبِفَاحِشَةٍمُّبَيِّنَةٍوَتِلْكَحُدُودُ اللَّهِوَمَنيَتَعَدَّحُدُودَاللَّهِفَقَدْظَلَمَنَفْسَهُلَاتَدْرِيلَعَلَّ اللَّهَيُحْدِثُبَعْدَذَلِكَأَمْرًا(1)﴾ الطلاق.

ومن مقاصد العدة المحافظة على الأنساب، ومنح فرصة الرجعة للزوجين.

﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ لا يحل للمرأة أن تخفي ما خلق الله في رحمها من ولد أو تستعجل العدة إن كانت مؤمنة بالله خائفة من عذابه في الآخرة.

﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ ففي هذه الحالة يحق للزوج أن يراجع مطلقته إذا أراد بالرجعة الإصلاح لا الإضرار بها.

﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فحسن العشرة وترك الإضرار حقوق مشتركة بين الزوجين.

﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ في الإنفاق والقوامة، وهذا تكليف لا تشريف.

﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ يعاقب من عصى أوامره، وهو حكيم في تشريعاته.

﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ وضع الشرع حدا لفوضى الطلاق، إذ كان الرجل في الجاهلية يطلق زوجته ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها بلا حدود... وفي ذلك أذى وضرر.
والطلاق المشروع الذي يملك فيه الزوج الرجعة، هو الواقع بطلقة واحدة في غير حيض ولا نفاس او طهر بلا مساس.

﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ نهى الله تعالى عن أخذ مهر الزوجة رعاية لحقوقها.

﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ شرع الله تعالى الخلع كحق للمرأة فترجع المهر لزوجها أو تعطيه مقابلا ماليا للتفريق بينهما.
وأول خلع في الإسلام كان لحبيبة بنت سهل الأنصاري زوجة ثابت بن قيس بن شماس جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: [والله ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام]، قال: (أتردين عليه حديقته؟) قالت: [نعم]، ففرق بينهما، وقال له: (طلقها تطليقة).

﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ لا ينبغي مخالفة ما شرعه الله بتجاوز حدوده وأحكامه، ففي ذلك مدعاة لغضب الله.

﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ إن طلق الزوج زوجته للمرة الثالثة أي طلاقا بائنا بينونة كبرى فلا يحل له مراجعتها إلا أن تتزوج رجلا آخر زواجا شرعيا، ويطلقها أو يموت عنها وتنتهي عدتها فحينئذ يمكن للزوج الأول أن يتزوجها بعقد ومهر جديدين، وفي هذا التشديد زجر للرجال من إيقاع الطلاق دون النظر إلى عواقبه.

﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾تلك أحكام الله وتشريعاته يبينها لذوي العلم والفهم الذين يتفكرون في عواقب الأمور.
 
[font=decotype naskh swashes,traditional arabic, arabic transparent, verdana, arial, serif]تفسيرسورة البقرة الآيات 231-233[/font]


﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(231) وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(233)


تتناول هذه الآيات موضوع الطلاق وما يترتب عنه من آثار.

﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍإذا طلق الرجل زوجته طلاقا رجعيا واقتربت نهاية عدتها يمكن له أن يراجع زوجته دون عقد جديد، وإذا انتهت عدتها صار الطلاق طلاقا بائنا بينونة صغرى.

﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُنهى الله تعالى الأزواج أن يراجعوا زوجاتهم بنية الإضرار بهن أو دفعهن إلى المخالعة عن طريق الافتداء، فإن فعلوا ذلك فقد تعدوا حدود الله وعرّضوا أنفسهم لعذابه.

﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًاحذر الله من التلاعب والاستهزاء بأحكامه وتشريعاته.

﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِأمر تعالى المؤمنين أن يذكروا نعمته التي أنعمها عليهم إذ هداهم إلى الإسلام، وأنزل لهم القرآن، واستخدم المفرد الدال على الكثرة، قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْنِعْمَةَاللّهِلاَتُحْصُوهَا...(17)النحل.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌأمر المؤمنين بتقواه والخوف منه وهو يستحق ذلك إذ لا تخفى عليه خافية.

﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِإذا حدث الطلاق ولم تنقض عدة المرأة وأرادا أن يتراجعا فلا يحق للأولياء أن يعترضوا على ذلك.

﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ تلك موعظة للأزواج والأولياء إن كانوا مؤمنين وطهارة لهم من الذنوب والمعاصي، والله محيط بكل ما يفعلون.

﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَاأرشد الله الوالدات أن يرضعن أولادهن سنتين لإتمام الرضاعة، وإن حدث الطلاق فلا ينتقمن من أولادهن وذلك بعدم إرضاعهم إيذاء لأزواجهن.
وخاطب الزوج المطلق على وجوب النفقة للمطلقة من رزق وكسوة حسب استطاعته.

﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِنهى الله الأم أن توغر قلب أولادها على أبيهم، كما نهى الأب أن ينتزع الأبناء من أمهم ليلحق بها الضرر.

﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَإذا توفي الزوج المطلق ينتقل واجب الانفاق إلى ورثته.

﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَاإذا اتفق الزوجان على الانفصال بالتراض فلا إثم عليهما.

﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِأجاز الله تعالى استرضاع الأبناء، ولا حرج على الزوج أن يدفع مالا إلى مطلقته المرضعة.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌأمر الله تعالى عباده بتقواه، مؤكدا على إحاطته بكل ما يعملون.


 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
العودة
Top Bottom