العقل ومحنته :

د.سيد آدم

:: عضو مثابر ::
( 1 ) :
لم يعدم العالم الإسلامي رجالَ دين ، مع التحفظ على مسمّى رجال دين على الصعيد الإسلامي ، يقرّون التطور سنةً للوجود ، وينتصرون للعقل ، وكذا قام في العالم الإسلامي رجال دين آخرون يريدون للدنيا أن تقف عندهم ، بينما هي في صيرورة دائمة عند غيرهم .
وإن بدا للبعض ، في عالمنا الإسلامي ، أن غاية الدين هي هي غاية الفلسفة ؛ فكلاهما يتجه نحو تحقيق السعادة عن طريق الاعتقاد الحق / الصحيح وعمل الخير ، فتكون موضوعات الفلسفة والدين واحدة ، فإن بعض رجال الدين كانوا ، في أكثر الأمر ، " خصوماً للفلسفة ( = العقل ) في غير هوادة ولا رفق " ... وأخذ التشدد يرزداد حتى بلغ درجة قصوى عند ابن الصلاح .
سمّى بعض المفكرين دائرة معارف اليونان ، وكانت تشتمل على الرياضيات والطبيعيات والإلهيات ، بـ " علوم الأوائل " ، وكانت تقابل ، عند المسلمين ، العلوم الشرعية ، ما جعل الأولى محل شك ، رغم أن هذه العلوم لاقت اهتماماً كبيراً من كثير من المسلمين في القرن الثاني الهجري .
كل هذا سهّل على البعض اتهام الرجل بالزندقة حال نحا في كتاباته منحىً فلسفياً !!! كالذي حدث مع علي بن عبيدة الريحاني وأبي يزيد البلخي وغيرهما .
وصار التنفير من كل علمٍ ينتسب للفلسفة ، وبلغ مداه عند أبي حامد الغزالي في " المنقذ " لما زعم أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، سأل الله ، تعالى ، أن يعيذه من " علم لا ينفع " فتم تأويل ذلك إلى أن الرسول قصد " علوم الأوائل " !!!!!!. وبالغ آخرون في الأمر ، فأكد أن العلم ما كان موروثاً عن نبي ، وكل ما عدى ذلك فهو علم لا ينفع ... هو : " ليس بعلمٍ ولو سُمّي به " .
ثم قرأنا أن علوم الأوائل " حكمة مشوبة بكفر ، لأنها تؤدي إلى التعطيل " !!! . وصار كل مهتم بهذه العلوم ، ناهيك عن المشتغل بها ، مغموزاً في عقيدته متهماً في دينه ، وما كان يفيد الرجل أن يكون ثقة في الشرعيات واصلاً لتعاليم الدين .
في مرحلة لاحقة صار الأمر بتجنب الاتصال بالمشتغلين بعلوم الأوائل ، حتى صار المشتغل بأحد هذه العلوم يخفي اشتغاله بها ، كابن الطيب المتوفَّى العام 436هـ ، وفيه جاء قول القفطي ... : " إنه كان يتقّي أهل زمانه في التظاهر بعلم الأوائل ، فيخرج ما عنده في صورة متكلمي الملة الإسلامية " .
ثم نقرأ للجاحظ تسويته بين الكتاب المتهَم والشراب المحرّم عند كلامه ، في " البخلاء " ، عن الأشياء التي يجب أت تُخفى عن أعين الناس . وطُلب من النسّاخين أن يقسموا ، صادقين ، ألا ينسخوا كتاباً في الفلسفة .
ويرى أحمد أمين في الجزء الأول من " الضحى " أن " الزندقة قد فشتْ في العصر العباسي لأسباب منها أن الزندقة ، بمعنى الشك أو الإلحاد ، كانت فيه أبين وأظهر ، حيث انتشرت مذاهب الكلام والجدال الديني حول المسائل الأساسية في الأديان ، والبحث الفلسفي على النحو الذي بحثه أرسطو وأفلاطون ، وغيرهما ، في المادة والصورة والجزء الذي لا يتجزأ والجوهر والعرَض ، وانساق الخلفاء إلى مطاردة الزنادقة إما استجابة لنزعاتهم الدينية وإما مجاراةً للرأي العام . وكان المهدي أولَ من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين وإقامة البراهين على المعاندين وإزالة شبه الملحدين ، مع إنشائه إدارة للبحث عن الزنادقة ومحاكمتهم ، وقد نصح ابنَه الهادي في مطاردة أصحاب ماني ، واستجاب ابنُه لنصيحته ، وكذلك فعل هاورن الرشيد والمأمون والمعتصم ؛ فقُتل الكثيرون أو صُلبوا أو أُحرقوا بالنار " .
وبطبيعة الحال ، فنحن نعلم أنه قد كان من بين هؤلاء " من كان يدعو للشعوبية ويعلن شكه في الأديان ، فكان أن نبذوا الأديان ودعوا إلى الإلحاد " .
وكان من اليسير أن تحرق كتب الأوائل حال عُثر عليها عند المشتغلين بهذه العلوم ، حدث هذا مع ركن الدين محمد بن عبد السلام ، حفيد عبد القادر الجيلاني ، فقد اتُّهم بالزندقة ، ولم يفده أنه قال إنه إنما ينسخها ليرد عليها مفنّداً لما فيها ، وصدر الأمر بإشعال نار عظيمة أمام مسجد الخليفة ... " وصعد لسطحه العلماء والقضاة وجمهور غفير من الناس ، ثم أُلقيتْ الكتب من فوق سطح المسجد في النار ، ونهض أحدهم بتعريف الحاضرين بهذه الكتب كتاباً كتاباً فيقول ، وركن الدين حاضر بينهم ، : العنوا من كَتب هذه الكُتب ومن آمن بها . والعامّة ( !!!!!!!! ) يهتفون باللعنة التي تجاوزت عبد السلام إلى الشيخ عبد القادر نفسه . ونهض الشعراء بهجو الملحد والسخرية من أمثاله . وأُدين عبد السلام بالفسق ، وجُرد من طيلسان العلماء ، وزُجّ به في السجن ، وانتُزعتْ منه مدرسة عبد القادر " .
كانت إلهيات أرسطو محط السخط عند علماء أهل السنة ؛ فقد اعتبروا مقدماتِها ، ونتائجَها ، تتعارض مع مقتضيات الإسلام ، ثم انتقل السخط إلى الرياضيات ، وإنْ استثنوا علم الحساب ، لأن " الاشتغال به من مستلزمات علم الفرائض ، فوق إنه يعين الخبراء في أحوال التوريث " . أما الهندسة فقد كانت مثالاً للشك عند أهل السنة ، وكانت الأشكال الهندسية تثير قلقهم وتدين صاحبها بالزندقة . وتحدث أبو الحسين بن فارس في " الصاحبي في فقه اللغة وسند العرب في كلامها " عن خطر الهندسة على الدين مع قلة نفعها ، وانتهى إلى أن الخوض في الرياضيات " يؤدي إلى الانخلاع عن الدين " .
ولم يسلم علم الفلك من الحملة !!! رغم فائدته في تحديد مواعيد الصلاة والقبلة ، حتى وجدنا الفخر الرازي ، وهو المفسر والمتكلم الكبير ، يعلن شكه في علم الفلك .
وصدرت كتبٌ تهاجم المنطق ، حتى اعتُبر المنطق والطبيعيات كفراً وزندقة ، وصار على الألسنة " من تمنطق فقد تزندق " !!!!! .
وفي العام 366هـ أمر المنصور بن أبي عامر بإحراق الكتب المؤلَّفة في العلوم القديمة ، ولا سيما ما كان منها في المنطق والنجوم ، وأيده في الذي ذهب إليه رجال دين ، رغم وجود آخرين ، كابن حزم ، أيدوا المنطق ودراسته ... وهجا البعض هذا كله بشعرٍ :
قد ظهرتْ في عصرنا فرقةٌ ظهورُها شؤمٌ على العصرْ
لا تقتدي في الدين إلا بما سنَّ ابنُ سينا وأبو نصــــــر
وكان الغزالي ، أبو حامد ، الأكثر ، والأشد ، عداءً للفلسفة والفكر الفلسفي ، وكان قد عمد أن يخفي اسم المنطق من عناوين بعض ما ألّف كـ " معيار العلم " و " محك النظر "و " القسطاس المستقيم " . وقد نعلم أن الرجل قد عرض له بشيء من التلميح في " المستصفى " و " المقاصد " ، كما لا ننكر أنه أشاد ، في بعض المواضع وعلى استحياء ، به ، كما فعل نفس الشيء ابن حزم ، الذي بيّن أهمية المنطق حتى للمباحث الدينية ، إلا أن الغزالي سرعان ما أعلن تحذيره من المنطق إذ جعله سبباً في الوقوع في " الكفر " .
يُتْبع ...
 
آخر تعديل:
السلام عليكم​
ممكن لم أفهم ماكتبت جيدا هل. أنت تتهم أهل السنة من العلماء وتستهين بعلمهم من معارضتهم للفلسفة
أم أنك تنقل عن من كتب متنكرا له .أعذرني حاولت أفهم لكن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟.
تقبلوا تحياتي​
 
توقيع رابح66
السلام عليكم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وكل عامٍ وأنت بخير .

ممكن لم أفهم ماكتبت جيدا
لا تثريب على أحد في هكذا أمر ... فكل منا يفهم من الآخر ؛ والمرء قليل بنفسه كثير بغيره .

هل. أنت تتهم أهل السنة من العلماء
هذا " إطلاق " في غير محله !!! ؛ ولو عدتَ لأول كلمات في أول سطر من الورقة لوجدت أن لي استثناءً من القوم لمعرفتي أن " التعميم " خطأ منهجي !!! . هذا علاوة على أن " النقد " لمنهج ، أو لفهم ، لشخص ما لا يعد " اتهاماً " !!! ولو عدتَ لتاريخنا العلمي لوجدت عدداً من " العلماء " نقد " عدداً " من العلماء !!! ؛ فـ : " كلٌّ يؤخذ منه ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم " .
وتستهين بعلمهم من معارضتهم للفلسفة
لا " أستهين " ، بل " أعترض " وفارق كبير بين المنهجين : الأول غير علمي ، بل وغير أخلاقي ، والثاني علمي شرطَ أن يقوم على " برهان " لا على مجرد اشتهار لهذا الشخص أو ذاك ، ولا على العاطفة والكلام الإنشائي المرسل .
وبحال درسنا " المعارضة " فنحن نتناول " أفكاراً " لا " أشخاصاً " وفي الفكر لا أحدَ معصوماً إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء " رجال " ونحن " رجال " .

أم أنك تنقل عن من كتب متنكرا له .أعذرني حاولت أفهم لكن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟.
أنا أنقل من " التاريخ " العلمي للأمة ... وهذا ملك لنا نحن الدارسين ، فضلاً عن كوننا " مسلمين " نريد أن ننقح تاريخنا لنعتبر منه ، فإن من لم يعتبر بتجارب الآخرين محكومٌ عليه تكرار ما وقع فيه السابقون من أخطاء .
وأخوك أستاذ جامعي فارق السبعين من العمر ، فعلامَ ، يا ترى ، يتنكر ؟؟؟ هل " معارضة " فكر " شخص تستلزم " التنكر " ؟ أم ترى كي " لا أتنكر " عليّ أن اسير بحسب رأي ، ورؤية ، السابقين ؟؟؟ !!! .

تقبلوا تحياتي ،

ولكم تحياتي وتقديري .
وهناك بقية للدراسة ، نريد أن " نستنير " برأيكم : هل ما سيرد في الورقة " صحيح " و " كان " ، أم هو غير ذلك !!! هكذا يكون التواصل " الفكري " هذا أغلب الظن ، بل هو جملة اليقين .
ملاحظة " على الهامش " كاتب هذه السطور من أهل السنة ، ويدرّس ، منذ أكثر من نصف قرن ، في إحدى الكليات الشرعية .


[/QUOTE]​
 
آخر تعديل:
( 2 ) :
أبو حامد الغزالي :
لا شك أن الغزالي عالمٌ موسوعي كتب في كل العلوم العربية ، لذا جاء بحقه القول " فرأيت رجلاً من أهل العلم ، الغزالي ، قد نهضت به فضائله واجتمع فيه العقل والفهم وممارسة العلوم طولَ زمانه ، ثم بدا له الانصراف عن طريق العلماء ودخل غمار العمال ، ثم تصوفَ فهجر العلوم وأهلها ، ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب ووساوس الشيطان ، ثم شابها بآراء الفلاسفة ورموز الحلاّج " . ما أهّل ابن سبعين لأن يقول فيه " الغزالي لسان دون بيان ، وصوتٌ دون كلام ، وتخليطٌ يجمع الأضداد ، وحيرةٌ تقطّع الأكباد : مرة صوفي ، وأخرى فيلسوف ، وثالثة أشعري ، ورابعة فقيه ، وخامسة محيّر . وإدراكه في العلوم القديمة أضعف من خيط العنكبوت . وفي التصوف كذلك ، لأنه دخل الطريقَ بالاضطرار الذي دعاه لذلك من عدم الإدراك ، وينبغي أن يُعذر ويُشكر لكونه من علماء الإسلام على اعتقاد الجمهور ، ولكنه عظّم التصوف ومال بالجملة إليه ، ومات عليه بحسب ما أعطاه كلامه وفهم من أغراضه " .
بيّن الغزالي موقفه من الفلسفة والفلاسفة والتفلسف في غير كتاب ... كما في كتابيه " المنقذ من الضلال " و " تهافت الفلاسفة " ، وأسس مقولة " رد المذهب بلا دراية رميٌ في عماية " و " إن من لايقف على منتهى علم لا يقف على فساده " مقتدياً بالقاعدة الأصولية المنطقية في آن " الحكم على الشيء فرعٌ على تصوره "... وزاد الغزالي بأن أكد أنه " لم يرَ أحداً من علماء الإسلام صرف همته وعنايته إلى الرد على الفلاسفة ، وليس في كتب المتكلمين الذين اشتغلوا بالرد عليهم إلا كلمات معقدة ظاهرة التناقض والفساد ".
أكد الغزالي أنه انقطع لدراسة الفلسفة ثلاث سنوات !!!!!!! وانتهى إلى أن كشفَ ما بها " من خداع وتلبيس وتخييل " ثم أعلن أن الفلاسفة ، على كثرة أصنافهم " تلزمهم سمة الكفر والإلحاد " !!! .
وضع الغزالي كتابه " مقاصد الفلاسفة " يشرح فيه مذاهب الفلاسفة ( أخطأ الغزالي خطأ كبيراً جداً ؛ إذ جاء حكمه على الفلسفة عبر فلسفة ابن سينا ظناً منه أن شروح ابن سينا على أرسطو هي الأدق ، مع أن هذا غير صحيح بالمرة ) ، ثم وضع كتابه " تهافت الفلاسفة ( رد عليه ابن رشد بـ " تهافت التهافت " مبيناً عدم حسن فهم الغزالي للفلسفة في غير موضع ) .
حاول الغزالي في كتابه هذا " تفنيد مزاعم الفلاسفة وإبطال دعاواهم وإثبات ضعف عقيدتهم في مذاهبهم التي قرروها متأثرين بفلاسفة اليونان ، ليبين للناس عدم وفاق الفلسفة للدين فينصرفوا عن أهلها ويُزجر من يخوض في علومها ، إذ قلّ من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين " .
في المنقذ قسّم الغزالي الفلاسفة ثلاثة أقسام / أصناف :
دهريون : وهؤلاء ، يرى الغزالي ، زنادقة لأنهم " جحدوا الصانع المدبّر العالم القادر ، وزعموا أن العالم لم يزل موجوداً بنفسه ، ولم يزل الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان " .
طبيعيون : وهؤلاء سلّموا بوجود قادر حكيم مطّلع على غايات الأمور ومقاصدها ، ولكنهم " أنكروا معاد النفس وجحدوا الآخرة والحساب ، فلم يبقَ عندهم للطاعة ثواب ولا للمعصية عقاب ، وهؤلاء ، أيضاً ، زنادقة " .
إلهيون : وهؤلاء هم المتأخرون ، كسقراط وأفلاطون وأرسطو ، هاجموا الدهرية والطبيعيين ، إلا أنهم " استبْقَوا من رزائل كفرهم بقايا فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من متفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهم . وما أخذه هؤلاء على ثلاثة أقسام : قسم يجب التكفير به ، وقسم يجب التبديع به ، وقسم لا يجب إنكاره أصلاً " .
في الإلهيات يرى الغزالي أن " مجموع ما غلط فيه الفلاسفة يرجع إلى عشرين أصلاً ، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها ... هي : إنكار بعث الأجساد ، قصر علم الله على الكليات ، والقول بقدم العالم . وتبديعهم في سبعة عشر " .
وفي الحقيقة ليس بين المسلمين من قال بشيء من هذا على غير ما يناسب الفهم الإسلامي ، أما الكلام في نفي الصفات فهذا قريب من مذهب المعتزلة .
رمى الغزالي الفلاسفة بالغباوة والحمق والزيغ وسوء الظن بالله والغرور والادعاء والاعتداد بالعقل !!! لكن الأقسى كان تكفيره للفلاسفة ذلك الذي قضى على الفلسفة والتعقل زمناً طويلاً .
انتهى .
 
على إثْر حملة أبي حامد الغزالي على الفلسفة ، والتفكير العقلي بوجهٍ عام ، دخل العقل المسلم في غيبوبة لم تقتصر على المشرق الإسلامي بل امتدت لتشمل المغرب الإسلامي !!! ، وحدث أن تولّى أمر المسلمين من الحكام مَن اغتصب سلطتَه حاجبُه !!!!!!! ، فكان أن قلل من قيمة العلماء والعلم ، حتى صدر الأمر بمحاصرة قصر الخليفة وإحراق كل ما فيه من كتب الفلسفة والمنطق والفلك ، فطُرحت هذه الكتب في ساحات قرطبة وإحرقتْ ، أو ألقيتْ في الآبار !!!! وما كان منها في غير هذه الفروع بيِعَ بأبخس الأثمان.
وتورد كتب التاريخ أن الحاجب المنصور فعل ذلك " استمالة لرجال الدين ، وإرضاءً للشعب بعد اغتصابه المُلك من الخليفة هشام ، وليبدو بهذا الفعل المُدافِع عن الشريعة " .
ومر زمن إلى أن جاء ابن رشد فسعى للانتصاف للفلسفة والفلاسفة ، فكتب " تهافت التهافت " ليبين ضعف حجج الغزالي في " تهافت الفلاسفة " ، وليبين التوافق بين الفلسفة والدين ، فأشار الرجل " بالاستدلال بالقرآن على وجوب النظر العقلي " ، ومتى صح هذا وجب الانتفاع بتراث اليونان ، وعلينا السعي للتوفيق بين حرفية النص وتراث العقل القديم ، وذلك بتأويل ظاهر النصوص حال تعارضت مع دليل العقل ، حتى خرجت القاعدة " تقديم المصلحة على ظاهر النص حال تعارضا " .
كتب ابن رشد لهذا المقصد كتابيه " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال " و " الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد أهل الملة " .
اعتمد ابن رشد في كتابيه هذين الدعوة إلى بيان أن للآيات ظاهراً وباطناً ، ولا يجب على الـ علماء الوقوف عند الظاهر حتى لا يُظَن وجودُ تعارض بين الدين والعقل ، مع التأكيد على ضرورة قصر التأويل على " الخاصة " ، وأما العامة فالخير لهم أن يقفوا على ظاهر النص ، من حيث إن التأويل يضرهم .
لكن أمر الصفاء لم يدم لابن رشد ، حيث جاء الخليفة المنصور بعد أبيه يوسف ، الذي توفي العام 580هـ ، واحتمل ابنَ رشد قليلاً ثم بدأ يقلب له ظهر المجن !!! ، فجمع نفراً من " فقهاء البلاط " وعرض عليهم كُتبَ ابن رشد ... : " لما قُرئتْ فلسفةُ ابن رشد بالمجلس ، وتُدُولت أغراضُها ومعانيها ، وقواعدُها ومبانيها ، خرجت بما دلت عليه أسوأ مخرج ، وربما ذيلها مكر الطالبين ، فلم يكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام ، ثم آثر الخليفة فضيلة الإبقاء ، وغمد السيف التماس جميل العزاء ، وأمر طلبةَ مجلسه وفقهاءَ دولته بالحضور بجامع المسلمين ، وتعريف الملأ بأن ابن رشد مرقَ من الدين ، وأنه استوجب لعنة الضالين . وأضيفَ إليه القاضي أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي في هذا الازدحام ، ولُفّ معه في فريق هذا الملام ، ثم أُمر أبو الوليد ( = ابن رشد ) بسكنى أليسانة ( بقرب قرطبة ، وسكانها من اليهود ) لقول من قال إنه ( ابن رشد ) ينسب في بني إسرائيل وإنه لا يعرف له نسبةٌ في قبائل الأندلس " .
قام القاضي أبو عبد الله بن مروان بدور " المدعي العام " فرفع الدعوى على ابن رشد ، وعرّف الحاضرين الاتهامَ الخطيبُ أبو علي بن حجاج ، ولم يدافع ابن رشد عن نفسه ، ونُفي ابن رشد ، ثم نشر الخليفة في الأندلس منشوراً كتبه كاتبُه أبو عبد الله بن عياش يدعو لتحريم الفلسفة وإعدام كتبها واضطهاد رجالها وتحذير الناس من شرها .
نُكبَ مع ابن رشد أبو جعفر الذهبي ، والقاضي عبد الله بن إبراهيم الأصولي ، وأبو الربيع الكفيف ، وأبو العباس الشاعر .
يقول ابن رشد إن أعظم ما آلمه في محنته أنه دخل ، مع ابنه ، مسجداً في قرطبة وقد حانت صلاة العصر ، فثار بعض سِفْلةِ العامة وأخرجوهما من المسجد .
ويُرجع باحثون ثقات سبب هذه المحنة إلى تعصب الموحدين ، حكام المغرب الإسلامي وقتها ، وكانوا متصلين بمدرسة الغزالي اتصالاً مباشراً ؛ فالمهدي ، مؤسس دولة الموحدين في إفريقية ، كان يتتلمذ على أبي حامد الغزالي.
 
تنبيه: نظرًا لتوقف النقاش في هذا الموضوع منذ 365 يومًا.
قد يكون المحتوى قديمًا أو لم يعد مناسبًا، لذا يُنصح بإشاء موضوع جديد.
العودة
Top Bottom