الاستغفار حاجة دائمة للعبد([1])
قال الإمام أحمد بن تيمية –رحمه الله- الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإن العابد لله، والعارف بالله، في كل يوم بل في كل ساعة، بل في كل لحظة يزداد علما بالله، وبصيرة في دينه وعبوديته، بحيث يجد ذلك في طعامه، وشرابه، ونومه، ويقظته، وقوله، وفعله، ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية، وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار أناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطر إليه دائما في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد، لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية واليقينية الإيمانية.
وقد ثبتت دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد، واقترانها بشهادة أن لا إله إلى الله، من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أولهم، ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد والاستغفار للخلق كلهم، وهم فيها درجات عند الله، ولكل عالم مقام معلوم. فشهادة أن لا إله إلا الله بصدق ويقين تُذهب الشرك كله، دقه وجله، خطأه وعمده، أوله وآخره، سره وعلانيته، وتأتي على جميع صفاته وخفاياه ودقائقه.
والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته، ويمحو الذنب الذي هو من شعب الشرك، فإن الذنوب كلها من شعب الشرك. فالتوحيد يذهب أصل الشرك والاستغفار يمحو فروعه، فأبلغ الثناء قول: لا إله إلا الله، وأبلغ الدعاء قول: استغفر الله. فأمره بالتوحيد والاستغفار لنفسه، ولإخوانه من المؤمنين.
الاستغفار بركات الدين والدنيا
روى أبو بكر الصديق –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغوى عبادك ما دامت أرواحهم في أجسامهم، فقال الله: (وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني)».
فطوبى لمن عرف أنه له غفورا رحيما يقبل عباده إذا أقبلوا إليه نادمين، وطرقوا بابه باكين مستغفرين لأنفسهم وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم.
أخي القارئ: الاستغفار مع الإقلاع عن الذنوب سبب للخصب والنماء، وكثرة النسل وزيادة العزة والمنعة، وفي دعوة نوح –عليه السلام- قومه ونصحه لهم نسمع الله عز وجل يقول: [FONT="]}فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[FONT="]{[/FONT]([2]).[/FONT]
ففي الإيمان رحمة بالعباد وفي الاستغفار بركات الدين والدنيا، وفي الحديث: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حث لا يحتسب».
فما أعظم بركات الاستغفار، به تستنزل الرحمات، وتبارك الأرزاق، وتكثر الخيرات، ويعطى الله الأموال والبنين ويغفر الذنوب ويمنح القوة والسداد والرشاد، وفي الحديث: «ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له».
فمن ثمرات الاستغفار وبركاته أنه يكون سببا في أن يمتع الله المستغفرين بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلهم بالعذاب كما فعل بالأمم التي عاندت وأصرت على الكفر، ولذا حذر الله سبحانه من الإصرار على الشرك بعد الحث على الاستغفار.
ففي شرح آيات دعوة نوح –عليه السلام-: وأمرهم باستغفار الواحد القهار، فإنه غفار الذنوب، ستار العيوب، يقبل من تاب، ويرحم من أناب، والاستغفار هنا يتضمن التوحيد والتوبة.
ومع الاستغفار يُنزل الله الأمطار؛ لأن الغيث من آثار رحمته سبحانه التي تتنزل على المستغفرين؛ لأن الذنوب تمنع القطر. ومع الاستغفار والتوبة يرزقكم الله الذرية الصالحة، والأموال الكثيرة والرزق الواسع، وينبت لكم الحدائق الغناء، والبساتين الفيحاء، لتنعموا بفوائد الأشجار والثمار والأزهار، ويهيئ لكم العذب الغزير من الأنهار([3]).
فالاستغفار من أهم وأعظم أسباب الرزق، ففي حكاية عن نبيه هود –عليه السلام- يقول تعالى: [FONT="]}وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ[FONT="]{[/FONT]([4]).[/FONT]
ويا قوم: أسألوا الله أن يغفر ذنوبكم، ثم اهجروا الذنوب، واندموا على ما سلف من المعاصي، فإذا فعلتم ذلك، وصحت منكم الإنابة أنزل الله عليكم الغيث المدرار، فيكثر الخيرات، ويعم الرخاء، وتنعمون برغد في العيش، ويزدكم قوة إلى قوتكم بصحة الأجسام، وكثرة الذرية والأموال، وتتابع الأرزاق، ولا تعرضوا عن الاستجابة ولا تصروا على الذنوب، وتستكبروا عن قبول الحق، وفي الآية بركة الاستغفار والتوبة، وأنهما أصل كل خير في النفس والجسم والمال والولد([5]).
وقد تمسك أمير المؤمنين عمر –رضي الله عنه- بما جاء في هذه الآيات عن طلبه المطر من الرب – عز وجل- فقد روى مطرف عن الشعبي أن عمر –رضي الله عنه- خرج يستسقى بالناس فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فقيل له: "ما سمعناك استسقيت". فقال: طلبت الغيث بمجاديع([6]) السماء التي يتنزل بها القطر ثم قرأ: [FONT="]}فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[FONT="]{[/FONT]([7]).[/FONT]
وقال صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون الرب من العبد، في جوف الليل الآخر، فإن استعطت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن»([8]).
صحابي الحديث هو عمرو بن عبسة –رضي الله عنه- قوله: «أقرب ما يكون الرب من العبد» والحكمة في قرب الرب من العبد في هذا الوقت، أن هذا الوقت وقت نداء الرب، ألا ترى إلى الحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر»، فيكون الرب في هذا الوقت قريبا من عبده، ولا ينال هذا الحظ الوافر إلا من له استعداد، وترقب لتحصيل هذه الفائدة العظيمة، التي تنبي عليها المنافع الدينية والدنيوية([9]).
الاستغفار يفتح الأقفال([10])
يقول ابن تيمية –رحمه الله: إن المسألة لتغلق عليّ، فاستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل، فيفتحها الله علي. وإن من أسباب راحة البال، استغفار ذي الجلال.
رب ضارة نافعة، وكل قضاء خير حتى المعصية بشرطها فقد ورد في المسند: لا يقضي الله للعبد قضاءا إلا كان خيرا له.
قيل لابن تيمية: حتى المعصية؟ قال: نعم، إذا كان معها التوبة والندم والاستغفار والانكسار: [FONT="]}وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا[FONT="]{[/FONT]([11]).[/FONT]
قال تعالى: [FONT="]}وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ[FONT="]{[/FONT]([12]). وقال تعالى:[FONT="]}[/FONT]كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا[FONT="]{[/FONT]([13]).[/FONT]
عجبت لعظماء عرفهم التاريخ، كانوا يستقبلون المصائب كأنها قطرات الغيث، أو هفيف النسيم، وعلى رأس الجميع سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وهو في الغار، يقول لصاحبه: [FONT="]}لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[FONT="]{[/FONT]، وفي طريق الهجرة، وهو مطارد مشرد يبشر سراقة بأنه يُسوَّر سواري كسرى.[/FONT]
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار
وحيا وأفضت إلى الدنيا بأسرار
وفي بدر يثب في الدرع صلى الله عليه وسلم وهو يتلو قوله تعالى: [FONT="]}سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[FONT="]{[/FONT]([14]).[/FONT]
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة
أدبت في هول الردى أبطالها
وفي غزوة أحد –بعد القتل والجراح- يقول للصحابة: «صفوا خلفي، لأثني على ربي»، إنها همم نبوية تنطح الثريا، وعزم نبوي يهزم الجبال.
قيس بن عاصم المنقري من حلماء العرب، كان محتبيا يكلم قومه بقصة، فأتاه رجل فقال: قُتل ابنك الآن، قتله ابن فلانة. فما حلَّ حبوته، ولا أنهى قصته، حتى انتهى من كلامه، ثم قال: غسلوا ابني وكفنوه، ثم آذنوني بالصلاة عليه: [FONT="]}وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ[FONT="]{[/FONT]([15]).[/FONT]
وعكرمة بن أبي جهل يعطي الماء في سكرات الموت فيقول: أعطوه فلانا لحارث بن هشام فيتناولونه واحدا بعد واحد، حتى يموت الجميع.
إذا قُتلوا ضجت لمجد دماؤهم
وكان قديما من مناياهم القتل
قال الشاعر:
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][1][/FONT][FONT="]) الاستغفار/ شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ص42، دار القاسم، الرياض، ط1، 1420هـ .[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][2][/FONT][FONT="]) سورة نوح: 10-12.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][3][/FONT][FONT="]) التفسير الميسر، للدكتور الشيخ، عائض القرني، ص838-839، مكتبة العبيكان- الرياض.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][4][/FONT][FONT="]) سورة هود: 52.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][5][/FONT][FONT="]) مصدر سابق، ص328.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][6][/FONT][FONT="]) مجاديع: مفردها مجدع وهو نجم من نجوم السماء.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][7][/FONT][FONT="]) التداوي بالاستغفار، حسن همام، ص36، دار الحضارة للنشر والتوزيع.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][8][/FONT][FONT="]) أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][9][/FONT][FONT="]) شرح حصن المسلم، الشيخ د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ص 340-341.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][10][/FONT][FONT="]) لا تحزن، الشيخ الدكتور: عائض القرني، ص233، 234، ط1، 1423هـ - 2002م.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][11][/FONT][FONT="]) سورة النساء: 64.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][12][/FONT][FONT="]) سورة آل عمران: 140.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][13][/FONT][FONT="]) سورة النازعات: 46.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][14][/FONT][FONT="]) سورة القمر: 45.[/FONT]
[FONT="]([/FONT]
[FONT="][15][/FONT][FONT="]) سورة البقرة: 177.[/FONT]