التفاعل
49K
الجوائز
4.7K
- تاريخ التسجيل
- 10 أوت 2013
- المشاركات
- 10,947
- الحلول المقدمة
- 2
- آخر نشاط
- الجنس
- ذكر
- الأوسمة
- 43
استأجر أعرابيٌّ بيتاً، وسمعَ صوتاً يصدر من سقفه يوحي بأنّه متهالك، فأخبرَ صاحبَ البيتِ بذلك، فقال له : هذا صوت تسبيحه، أما علمتَ أنّه ما من شيء إلا يُسبّح بحمده ؟!
فقال الأعرابيّ : أخشى أن يدركه الخشوعُ فيسجدَ علينا !
ما قاله الأعرابيّ على سبيل الدّعابة، قاله كثيرون حين سقطت الرّافعة في الحرم المكيّ على سبيل الجِدّ ! أسموها « الرّافعة السّاجدة « ! وقالوا أنّها نزلت لترفع النّاس إلى الجنّة ! عموماً الحمدُ لله أنّ بقيّة الرّافعات كان قلبها قاسياً فلم يدركها الخشوع كأختها الرّافعة المؤمنة وإلا لكان الحج هذا العام في الجنّة !
المنطقُ الذي يبحثُ في نتائج الحوادث ولا يبحثُ في أسبابها منطقٌ مثير للغثيان ! نحن نؤمن أنّ صاحب الهدم شهيد، ولكن هذا لا يعني أن نبني العمارات بغشّ لتقعَ ونرسل النّاس إلى الجنّة، ونؤمن أن الحريق شهيد ولكن لا يعني أن نبني الفنادق والمنازل دون انذارات حريق ووسائل مكافحتها لنرسل النّاس إلى الجنّة ! هذا فساد يجب محاربته بغض النظر عن مصير ضحاياه عند الله !
نحن الذين كان لنا قراءة مختلفة للحدث، لم نكن قلقين على مصير النّاس بعد الموت، فهم ضيوف الرحمن وماتوا في أحبّ بيوته إليه، وهو سبحانه أكرم من استضاف، وأسخى من أعطى، وأعدل من حكم، وأرحم من قاضى. ولم نكن نعترض على قدر الله، وإنما قلنا أنّ هذه الدنيا دار أسباب، وإن كان السبب الذي تحقق فيه قدر الله ناتج عن إهمال فيجب معاقبة هذا المهمل! ومن الجميل - إن كان في الأمر جميلاً - أنّ السلطات كانت على قدر الحدث، وتحمّلت مسؤولياتها الأخلاقيّة والمادّية، عاقبت من رأت تقصيره سبباً لوقوع قدر الله، دفعت ديات القتلى، وتعويضات المصابين، وحملتهم بجراحهم ليكملوا مناسكهم .
هذا الكوكب سيتابع دورانه ، وسيستمر فيه صراع الحياة والموت، وستقع الحوادث في أصغر دولة وأكبرها لا مفرّ من هذا، ولكن أشدّ إيلاماً من وقوع الحوادث أن لا يتحمل النّاس فيها مسؤولياتهم !
وما كادت شمسُ حادثة الرّافعة أن تأفل، والقلوب أن تلتئم، حتى وقعت حادثة التدافع الأليمة في مِنى، ولطالما كانت مِنى أم الحوادث وكانت قراءة هذه الحوادث تُنتج تدابير جديدة للحدّ منها ، وكانت هذه الدراسة مهمة العلم الشرعيّ والسلطة السياسية على حدّ السّواء، وعملاً بالقاعدة الفقهية : إذا ضاق المكان اتسع الزمان، وإذا ضاق الزمان اتسع المكان. أعمل الفقهاء عقولهم في النصوص متخذين من سماحة الإسلام ويسره تدابير وأحكاماً تُيسّر أمر الحجيج دون أن تمسّ بتمام شعيرتهم ! وكانت السلطات المتعاقبة تشق الطرق،وتبني الجسور، وتذلل الصعاب، تنجح أحياناً وتخفق أحياناً، وهذا شأن من يعمل ! وما تقوم به السلطة المنظمة للحج اليوم جهد جبّار لا ينكره إلا رأي صدر عن حقد ، ولكن المطالبة بمحاسبة المقصر والمهمل لا يعني إنكار هذه الجهود الجبارة فقهياً ومادياً ! ولكن علينا أن نعترف أن الغالبية العظمى من مؤدي هذه الشعيرة يفتقرون لحسّ المسؤولية إما عن جهل أو عن عمد ! الحج أكبر كثافة بشريّة في أضيق بقعة جغرافيّة على ظهر هذا الكوكب، وهذا يتطلب وعياً استثنائياً للمخاطر التي يتنجها هذا الزّحام، بأمّ عيني مشيتُ مرّةً في عرفة فرأيتُ حاويات القمامة شبه فارغة والطرقات شبه ممتلئة، حين تكون شوارع الفاتيكان أنظف من شوارع عرفة فهذا سقوطنا المدوي أفرداً لا سقوط السلطة المنظمة للحج، ومهمة أية سلطة تنظم الحج أن تضع الحاويات ولكن ثقافة وضع القمامة فيها مهمة تربية كل فرد وثقافته وأخلاقه، المسألة ليست مسألة قمامة بقدر ما هي مسألة عقليّة وسلوك، فالشخص الذي يلقي قمامته أرضاً والحاوية تبعد عنه مسافة ذراع لن أُصدّق أنّه سيتبع الإرشادات التي تحدد له وقت رجمه والطرق التي عليه أن يتبعها في منى، لم يتبقّ إلا أن يتمّ تعين شرطيّ لكل حاج يستلمه من المطار ويؤدي معه مناسكه، ويجمع قمامته، ويحثه على اتباع التعليمات. والارشادات ثم يرجعه إلى المطار ! علينا أن نحاسب أنفسنا أولاً قبل أن نحاسب أية سلطة، علينا أن نتعلم الحج قبل أن نؤديه، لا أن نتعلم مناسكه فقط ، وإنما مخاطره، وطرق السلامة فيه ، في أندونيسيا وماليزيا يقيمون دورات للحجاج، ومن لا ينجح فيها يُحرم الحج، وكل من حجّ يعرف أنهم أكثر البعثات تنظيماً وترتيباً واتباعا للارشادات وبالتالي أقلهم تعرضاً للحوادث !
رحم الله من مات ضيفاً عند ربه، ولكن علينا نحن قبل كل شيء أن نعرف أن حياتنا وحياة الآخرين هي مسؤوليتنا قبل أن تكون مسؤولية السلطات المنظمة للحج، وأن أهمالاً صغيراً قد يكون سبباً لفاجعة كبيرة، وأن الملايين التي تمتثل وتنتظم بأقل من دقيقة حين يقول إمام الحرم : استووا ! عليها أن تعرف أن امتثال الأوامر واتباع الإرشادات فيه نفس قدسيّة اتباع الإمام في الصلاة، لأن فيه حفظ النّفس، وهذا أحد مقاصد الشّريعة !
أدهم شرقاوي / صحيفة الوطن القطريّة