قلعة صلاح الدين الأيوبي .. قلعة الجبل

السلام عليكم

لا تزال الأحاديث تتزاحم -بالرغم من الكم الكبير من المعلومات اليومية- عن الأماكن الأثرية، أو تلك التي تركت بصمات واضحة تدل على عمق التاريخ والإرث الحضاري المشهود، بخاصة في بلاد الشام ومصر التي عرفت أرضها العديد من الحضارات التاريخية ذات التأثير النوعي والفكري المختلف في المنطقة. ومن تلك المواقع التاريخية والتي تعد من أروع وأضخم الأماكن زيارة وتنوعًا وانتباهًا واهتمامًا في مصر، تقف قلعة صلاح الدين الأيوبي والمعروفة باسم "قلعة الجبل"، بعناصرها الهندسية والمعمارية لتكون معلمًا وشاهدًا بارزًا مرت به المنطقة في حقبة تميزت بالازدهار والانتشار والتطور الإنساني من خلال الدين الإسلامي الحنيف، وما تركته من قيم للعدالة والمساواة والسلم على أطراف جغرافيا العالم العربي والإسلامي عمومًا. فهي تعد من أفخم القلاع الحربية التي شيدت في العصور الإسلامية، وهي إحدى أهم معالم القاهرة الإسلامية الرائعة.

من مآثر السلطان صلاح الدين الأيوبي:
تسمى قلعة صلاح الدين باسم قلعة الجبل؛ لكونها بُنيت فوق مرتفع يتصل بجبل المقطم، بناها صلاح الدين الأيوبي لحماية القاهرة؛ ولتكون مقرًا لسكناه؛ ولذلك نسبت إليه، وهذا ما كتبه العماد الأصفهاني كاتب صلاح الدين عن ذلك: "كان السلطان لما ملك مصر؛ رأى أن مصر والقاهرة لكل واحدة منهما سور لا يحميها، فقال: إن أفردتُ لكل واحدة سورًا؛ احتاجت إلى جنـد كثير يحميها، وإني أرى أن أدير عليها سورًا واحدًا من الشاطئ، وأمر ببناء قلعة في الوسط عند مسجد سعد الله على جبل المقطم". والمقصود بمصر هنا مدينة مصر التي تتكون من الفسطاط والعسكر والقطائع، والمقصود بالقاهرة مدينة القاهرة المعزية التي بناها الخليفة العبيدي الفاطمي المعز لدين الله بعد أن دخل مصر بعد عام 358هـ/969م.

حكم صلاح الدين الأيوبي أربعًا وعشرين سنة (565 - 589هـ/1169 - 1193م)، لكنه لم يقضِ منها سوى ثمانية أعوام في القاهرة، وعلى الرغم من قصر هذه الفترة، فلم يترك من حكامها أحد مثل ما خلفه هذا السلطان العظيم من آثار رائعة لا زالت باقية، ومن أهمها القلعة التي تنسب إليه، ويصفها ابن كثير الدمشقي في كتابة "البداية والنهاية" بأنها لم يكن في الديار المصرية مثلها ولا على شكلها.

موقع قلعة الجبل:
تقع قلعة صلاح الدين الأيوبي في الحي الذي يعرف باسمها "القلعة"، وهو من أعمال قسم الخليفة بالقاهرة، وقد أقيمت على إحدى الربى المنفصلة عن جبل المقطم على مشارف مدينة القاهرة، حيث ترى من الطريق المعروف حاليا باسم صلاح سالم، الذي هو جزء من الطريق الدائري المقام حول مدينة القاهرة.

وكانت قلعة صلاح الدين قديما تقع على قطعة من الجبل تتصل بجبل المقطم وتشرف على القاهرة ومصر والنيل والقرافة، حيث كانت تطل على مدينة القاهرة الفاطمية من الجهة الشمالية ومدينة الفسطاط والقرافة الكبرى، وبركة الحبش من الجهة الجنوبية الغربية، بينما يقع النيل فى الجهة الغربية منها، وجبل المقطم من ورائها من الجهة الشرقية.

وتعتبر قلعة صلاح الدين الأيوبى بالقاهرة من أفخم القلاع الحربية التي شيدت في العصور الوسطى فموقعها استراتيجي من الدرجة الأولى، بما يوفره هذا الموقع من أهمية دفاعية لأنه يسيطر على مدينتيّ القاهرة والفسطاط، كما أنه يشكل حاجزا طبيعيا مرتفعا بين المدينتين. وهو بهذا الموقع كان يمكن توفير الاتصال بين القلعة والمدينة في حالة الحصار، كما أنها سوف تصبح المعقل الأخير للاعتصام بها في حالة إذا ما سقطت المدينة بيد العدو.

ومر بهذه القلعة الشامخة الكثير والعديد من الأحداث التاريخية، حيث شهدت أسوارها أحداثا تاريخية مختلفة خلال العصور الأيوبية والمملوكية وزمن الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م، وحتى تولي محمد علي باشا حكم مصر.

وذكر المقريزي فى كتابه "المواعظ والاعتبار بذكرى الخطط والآثار" عن تاريخ الجبل الذي أقيمت عليه القلعة قبل بنائها: "اعلم أن أول ما عرف في خبر موضع قلعة الجبل أنه كان فيه قبة تعرف بقبة الهواء، فلقد قال أبو عمرو الكندي في كتابه أمراء مصر: وابتنى حاتم بن هرثمة القبة التي تعرف بقبة الهواء، وهو أول من ابتناها وولي مصر إلى أن صرف عنها في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة ..".

ولما بنى أحمد بن طولون القصر والميدان تحت قبة الهواء هذه، كان كثيرا ما يقيم فيها، فإنها كانت تشرف على قصره، ثم اعتنى بها الأمير أبو الجيوش خماوريه بن أحمد بن طولون "وجعل لها الستور الجليلة والفرش العظيمة في كل فصل ما يناسبه، فلما زالت دولة بني طولون وخرب القصر والميدان، كانت قبة الهواء مما خرب ..".

وذكر المقريزي أن قبة الهواء كانت فى سطح الجرف الذي عليه القلعة والجبل، وهذا الوصف ينطبق على الربوة التي كان الإنجليز قد نصبوا عليها مواقعهم تجاه مدينة القاهرة وقت احتلالهم للقلعة ومصر سنة 1882م، وموقعها حاليا خلف متحف الشرطة وحفائر قصر الأبلق. وذكر المقريزي فى كتابه "الخطط" أنه كان يقع على ربوة الصوة التي أقيمت عليها قلعة صلاح الدين الأيوبي عدة مساجد وترب هدمت عند بناء القلعة.

سطور من تاريخ قلعة صلاح الدين الأيوبي:
ولقد كان السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أول من فكر ببناء القلعة على ربوة الصوة فى عام 572هـ/1176م، حيث قام وزيره بهاء الدين قراقوش الأسدي أحد أمرائه المخلصين، بهدم المساجد والقبور التي كانت موجودة على الصوة لكى يقوم ببناء القلعة عليها، حيث قام العمال بنحت الصخر وإيجاد خندق اصطناعي فصل جبل المقطم عن الصوة؛ زيادة في مناعتها وقوتها.

وذكر المؤرخون عن سبب بناء القلعة أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لما أزال الدولة الفاطمية في مصر، لم يتحول من دار الوزارة بالقاهرة، فأراد صلاح الدين الأيوبي حماية القاهرة من أي عدوان خارجي، وفي نفس الوقت حماية سلطانه من أي تمرد داخلي وبخاصة بعد قضائه على المذهب الشيعي الذي كان سائدًا منذ الدولة الفاطمية، وأحل محله المذهب السني.

فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك وأقام على عمارتها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي فشرع في بنائها وبنى سور القاهرة الذي زاده في سنة 572هـ وهدم الأهرام الصغار التي كانت بالجيزة تجاه مصر، وكانت كثيرة العدد ونقل ما وجد بها من الحجارة، وبنى به سورا يحيط بالقاهرة والقلعة وقناطر الجيزة، وقصد أن يجعل السور يحيط بالقاهرة والقلعة ومصر، فمات السلطان قبل أن يتم الغرض من السور والقلعة.

وكان الناصر صلاح الدين الأيوبي فقد غادر القاهرة متجها إلى بلاد الشام عام 579هـ/1183م قبل إتمام بناء القلعة وتحصينها ولم يقدر للناصر صلاح الدين العودة مرة أخرى إلى القاهرة حيث مات عام 589هـ/1193م ودفن في دمشق. فبعد ست سنوات من العمل، أُنجز معظم بناء القلعة، لكنه لم يتم كله، وهناك نقش تذكاري على الباب الموجود في الجدار الغربي من القلعة يخلد هذا العمل، حيث توجد اللوحة التأسيسية أعلى باب القلعة الرئيسي والذي عرف بالباب المدرج والمؤرخة بعام 579هـ/1183م، نصها: "بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بإنشاء هذه القلعة الباهرة المجاورة لمحروسة القاهرة التي جمعت نفعًا وتحسينًا وسعة على من التجأ إلى ظل ملكه وتحصينًا، مولانا صلاح الدنيا والدين أبو المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين على يد أمير مملكته ومعين دولته قراقوش بن عبدالله المالكي الناصري في سنة تسع وسبعين وخمسمائة (أي سنة 1183 - 1184م)".

مات صلاح الدين في عام 589هـ/1193م. ولم ينته بناء القلعة، فأُهمل العمل فيها مدة، إلى أن كانت سلطنة الملك الكامل محمد بن الملك العادل، فأتم بناءها، وذلك في عام 604هـ/1207م، وأنشأ فيها الدور السلطانية، واتخذها سكنًا له، وظل يسكنها حتى مات، فاستمرت من بعده دار مملكة مصر حتى عام 1850م.

ولقد مر بهذه القلعة الشامخة الكثير والعديد من الأحداث التاريخية الدامية وفيها توج سلاطين وذبح آخرون، وظلت منذ أن أنشأها صلاح الدين الأيوبي مقرًا للحكم في الدولة الأيوبية ودولة المماليك، وفي عهد الولاة العثمانيين ثم في عهد الأسرة العلوية (أسرة محمد علي باشا). واستمرت كذلك إلى عصر الخديوي إسماعيل حيث اتخذ قصر عابدين مقرًا للملك.

وعندما وصل نابليون بونابرت إلى مصر سنة 1798م على رأس الحملة الفرنسية كانت القلعة قد فقدت أهميتها منذ قرون مضت، وبالتالي فإنها سقطت بين يديه بسهولة، حيث ذكر عبد الرحمن الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار" أن الفرنسيين قد قاموا بهدم الكثير من المنشآت بالقلعة وغيروا من معالمها من أجل تحصينها.

وعلى الرغم من أن الاحتلال الفرنسي لمصر لم يدم فترة طويلة حيث رحل عنها سنة 1801م، إلا أن العلماء الذين رافقوا الحملة الفرنسية تركوا لنا أقدم خريطة للقلعة في كتابهم الذي وضعوه وهو "وصف مصر"، حيث وضعوا به مخططا كاملا للقلعة وأهم مبانيها ومنشآتها في القرن الثامن عشر الميلادي.

وعندما احتلت مصر سنة 1882م اتخذت القلعة مقرا لقيادة أركان الجيش البريطاني الذي ظل بها حتى سنة 1946م عندما تم جلاء الإنجليز من القلعة في عهد الملك فاروق الأول، وتم رفع العلم المصري بها حيث تسلمها الجيش المصري وظلت تحت قيادته إلى أن تسلمتها هيئة الآثار المصرية سنة 1983م، فقامت بالعديد من أعمال الترميم والإصلاح. وفى سنة 1994م قام المجلس الأعلى للآثار بترميم السور الشمالي وبعض المباني.

الوصف المعماري لقلعة صلاح الدين:
تزخر قلعة صلاح الدين الأيوبي بالعديد من الآثار التي ترجع إلى عصور إسلامية مختلفة جعلتها من مجرد قلعة حصينة كانت تستخدم في الدفاع عن المدينة في حالة أي هجوم إلى مدينة كاملة احتوت على مساجد وأسبلة وقصور ودواوين ومصانع حربية ومشغل لكسوة الكعبة المشرفة ومدارس حربية ومدنية، وغيرها من المنشآت التي ميزت قلعة صلاح الدين الأيوبي عن غيرها من القلاع التي بنيت في العصور الإسلامية.

ويجد الزائر أول ما يقابله عند الدخول من باب صلاح سالم ساحة كبيرة عرفت في المصادر باسم الحوش السلطاني أو الساحة الملكية وهي منطقة كانت تقع بها أبنية قديمة يرجع تاريخها إلى العصر المملوكي، قام محمد على باشا بتجديد المباني الواقعة بها، وإنشاء مبان جديدة محلها.

وقد وضع قراقوش التخطيط المعماري للقلعة على جهتين مستقلتين عن بعضهما، أولاهما الجهة الشمالية وتضم الحصن الحربي وتوجد بها أبراج بارزة، والجهة الجنوبية وتضم القصور والاصطبلات.

ولم تكن قلعة صلاح الدين مجرد مبنى عسكري يسكنه الجنود، ولكنها كانت مدينة متكاملة، حتى أن صلاح الدين أنشأ بها المدرسة الناصرية لتدريس أصول الدين وعلومه، كما بنى ملوك مصر من بعده عددًا من القصور والمساجد بها مثلما فعل الملك الكامل، والظاهر بيبرس، ومحمد علي.

أقسام القلعة:
وقسمت القلعة إلى قسمين رئيسيين، القسم الشمالي كحامية عسكرية، تحيطها أسوار في الاتجاهين الشمالي والشرقي، تم بناؤها في عهد صلاح الدين الأيوبي وعهد أخيه الملك العادل، وهي تضم أبراجا مستديرة ومربعة، الأولى بنيت في عهد صلاح الدين والثانية بناها العادل، أما القسم الجنوبي الغربي من القلعة فقد خصص لقصر الحكم ومقرا لإقامة الوالي.

في نفس الوقت كان قرار صلاح الدين ببناء سور حول القاهرة بعد اتساعها العمراني في بداية عهده، وهو السور الذي ظل حتى سنوات قليلة مضت مغمورًا تحت تلال الأتربة والمخلفات والمباني العشوائية التي باتت تحيط بالقلعة، حتى تم اكتشافه أثناء القيام بمشروع ترميم الجهة الشرقية للقلعة بالتعاون بين المجلس الأعلى المصري للآثار ومؤسسة الآغا خان للثقافة. حيث يعتبر هذا السور الذي أقامه صلاح الدين حول القاهرة للدفاع عنها ضد أي اعتداء خارجي، من المنشآت الحربية المهمة التي أكملت دور القلعة، فبعد أن تولى صلاح الدين حكم مصر (565 - 589هـ/1169 - 1193م)، واهتم بعمران المنطقة الواقعة خارج القاهرة الفاطمية بين باب زويلة وجامع أحمد بن طولون، وقسمها إلى خطوط عدة بينها خط الدرب الأحمر الذي مايزال يعرف بهذا الاسم حتى اليوم، ويتصدر هذه المنطقة جامع الصالح طلائع بن رزيك الذي يعتبر آخر أثر من عصر الفاطميين في مصر.

أسوار القلعة:
وتزخر قلعة صلاح الدين الأيوبي بالعديد من الأسوار والأبراج والأبواب، حيث أن أول ما يلفت النظر إلى القلعة هو ارتفاعها الشاهق وأسوارها الحصينة الشامخة والصامدة على مر السنين والعصور والتي من خلال هذه الأسوار. يمكن ملاحظة هذا التباين الواضح في شكل أسوارها وأبراجها التي من خلالها يمكن للزائر التمييز بين تسميتها الشمالي والجنوبي، حيث نجد أن القلعة تنقسم إلى ساحتين بواسطة سورين مختلفين، أحدهما شمالي وهو الذي يسميه المؤرخون قلعة صلاح الدين الأيوبي أو قلعة الجبل، ويتكون من مساحة ذات مسقط أفقي مستطيل غير منتظم الشكل بطول 650 مترا وعرض 317 مترا. أما السور الجنوبي فيطلق عليه اسم القلعة ويتكون أيضا من مساحة ذات مسقط أفقي مستطيل بطول 510 مترا وعرض 270 مترا.

وهذان السوران يكوِّنان ما اتفق عليه كل الباحثين فى تسميتهما بالساحة الشمالية والساحة الجنوبية ويفصل بينهما حائط سميك جدا يمتد نحو 150مترا ويطلق عليه اسم الرقبة، وعلى كل طرف من أطراف هذا الحائط أبراج ذات أقطار كبيرة وفى وسط الحائط باب يسمى باب القلة.

أبواب القلعة:
ولقلعة الجبل بابان؛ أحدهما الباب الأعظم المواجه للقاهرة، ويقال له: الباب المدرج، والباب الثاني باب القرافة يواجه جبل المقطم. وكان للقلعة باب ثالث هو باب السر، يختص بالدخول والخروج منه أكابر الأمراء وخواص الدولة كالوزير وكاتب السر ونحوهما. وقد سدت بعض هذه الأبواب وبطل استخدامها لتحل محلها أبواب جديدة جددت في عصر محمد علي باشا.

والأبواب الرئيسية للقلعة حاليا هي باب المقطم، وعُرف بهذا الاسم لمجاورته لبرج المقطم الذي يرجع تاريخه إلى العصر العثماني، كما عرف هذا الباب باسم باب الجبل لإشرافه على باب جبل المقطم، أما حاليًا فإنه يعرف باسم بوابة صلاح سالم. وقد تم سد هذا الباب في فترة من الفترات، وكان عبارة عن فتحة مستطيلة في حائط سميك جدا في اتجاه الجنوب من برج المقطم، وكان على هذا الباب لوحة تذكارية تحمل نصًا تأسيسيًا باللغة التركية باسم يكن باشا وتاريخ بناء الباب والقصر سنة 1200هـ/1785م.

وعندما تولى محمد علي باشا الحكم وقام بعمل تجديدات بالقلعة مهَّد طريقًا من باب الجبل إلى قلعته بالمقطم وأضاف الزلاقة الصاعدة إلى أعلى جبل المقطم وكان طول هذا الطريق حوالي 650 مترًا، أما حاليًا فقد تم شق هذا الطريق وقطعه بطريق صلاح سالم وسكة حديد مصر حلوان والأتوستراد. ولقد ضاعت معالم هذا الباب كما تم هدم جزء كبير من السور والشرفات التي كانت تعلوه كما تم هدم جزء كبير من السلالم التي كانت توصل إلى أعلى السور الشمالي وبرج المقطم عند شق طريق صلاح سالم سنة 1955م وفتح الباب الحالي الذي يدخل منه للقلعة من جهة صلاح سالم والمجاور للباب الذي قام ببنائه محمد يكن باشا، هذا وقد قام المجلس الأعلى للآثار بإعادة فتح هذا الباب ليتناسب مع مكانته التاريخية والحضارية.

الباب الجديد:
بدأ محمد علي باشا في بناء الباب الجديد سنة 1242هـ/1827م ، لانه رأى أن كلا من الباب المدرج وباب الانكشارية لا يصلحان لمرور العربات والمدافع ذات العجل، فبنى بدلا منها الباب الجديد ومهد له طريقا منحدرة لتسهيل الصعود إلى القلعة والنزول منها، وهذا الطريق يعرف اليوم باسم شارع الباب الجديد أو سكة المحجر. وللباب الجديد واجهتان رئيسيتان؛ الأولى وهي الشمالية وتطل على شارع الباب الجديد وسكة المحجر، ويقع في الناحية الغربية منها دار المحفوظات القديمة دفتر خانة القلعة وباب الإنكشارية، وتحتوي هذه الواجهة على عدة تفاصيل معمارية مميزة.

إصلاحات القلعة عبر التاريخ:
وقد طرأت على مباني القلعة تغيرات كثيرة، وإضافات متعددة، ولا يرى فيها اليوم من أعمال صلاح الدين سوى بعض أجزاء السور والأبواب. ووُسّعت القلعة في العصر المملوكي من قبل الناصر محمد بن قلاوون باتجاه الجنوب في عام 738هـ/1337م. كما تمت إصلاحات أخرى كثيرة على مراحل متعددة في زمن سلاطين أربعة هم: السلطان الظاهر برقوق الجركس الخليلي عام 791هـ/1389م، والسلطان جقمق عام 851 هـ/1440م، والسلطان قايتباي (872 - 902هـ/1467 - 1496م، والسلطان طومان باي عام 906هـ/1501م. وأعمال الإصلاح هذه مثبتة في كتابات منقوشة على جدران القلعة.

بلغت القلعة أوج عزها ومجدها في أثناء حكم المماليك، وكانت مدينة قائمة بذاتها لها مساجدها وميادينها وبيوتها وحماماتها، وكان فيها بيت المال، وكان يقيم فيها السلطان، وظلت سكنًا للولاة الأتراك في العصر العثماني أيضًا.

تمت في العصر العثماني بعض أعمال الترميم لقلعة الجبل، من أهمها ما قام به خير بك، أول الولاة الذين ولاّهم السلطان سليم الأول على مصر (تُوفّي عام 1522م). فأرسل بعد أن أقام فيها في طلب البنائين والنجارين والمبلطين لترميم ما تم إفساده سابقًا.

كما قام الوالي سليمان باشا -الذي كان مقربًا من السلطان سليمان القانوني- بإشادة مبان متعددة فيها، من بينها جامع سارية الجبل الذي كان يعرف بجامع سليمان باشا الخادم، وكان أول جامع شيد في مصر على الطراز العثماني.

وقد زار الرحالة جان دو تيفنو J.de Tefnaux القاهرة بين عامي (1656 - 1658م)، فوصفها، ووصف مبانيها وأحوالها، وقد أثار منظر القلعة دهشته، فقال إنه لم ير قط في العالم أجمل من أبنيتها ولا أضخم وأمنع منها، فقد كانت أشهر معلم معماري في القاهرة آنذاك، وكان فيها قاعة كبيرة جيدة البناء يُعمل فيها ستار الكعبة، ويرسل سنويًا إلى مكة المكرمة باحتفال كبير.

أخذت القلعة تفقد مكانتها تدريجيًا نتيجة لإهمال حكامها من الولاة الأتراك، ولم يبق منها سوى بعض الأماكن صالحًا للسكن، وكانت تقام فيها المهرجانات الرسمية لاستقبال الولاة، أو حفلات الأعياد القومية والدينية.

إصلاحات محمد علي:
ارتبطت قلعة صلاح الدين الأيوبي باسم محمد علي باشا إلى حد كبير، ليس بسبب ما شيده بها فقط من مبان جديدة. حيث قام محمد علي والي مصر بإصلاحات سياسية ومالية واجتماعية كثيرة في مدة الخمس والأربعين سنة التي حكمها، وقام ببناء العديد من المساجد.

مسجد محمد علي:
يعد جامع محمد علي أكثر معالم القلعة شهرة، ويعتقد البعض أن قلعة صلاح الدين الأيوبي هي قلعة محمد علي باشا لشهرة هذا الجامع بها، كما يسمى أيضًا جامع المرمر وهو نوع من أنواع الرخام النادر الذي كسي به. وقد عهد محمد علي إلى المهندس المعماري التركي يوسف بوشناق بوضع تصميم له، فوقع اختياره على مسجد السلطان أحمد بالأستانة. ولقد بدأ العمل في عمارة هذا المسجد بموقعة الحالي من قلعة صلاح الدين سنة (1246هـ - 1830م)، واستمر العمل بلا انقطاع حتى توفي محمد علي باشا في سنة ( 1265هـ - 1849م)، فدفن في المقبرة التي أعدها لنفسه بداخل المسجد.

وفي الركن الغربي القبلي من المسجد يوجد ضريح محمد علي، ويتألف من تركيبة رخامية حولها مقصورة من النحاس المذهب جمعت بين الزخارف الإسلامية والتركية المتأثرة بالباروك والروكوكو. ونال جامع محمد علي قسطًا كبيرًا من العناية والرعاية من أفراد أسرة محمد، كما اعتنى به الملك فؤاد أربعة أعوام انتهت عام (1939م) وذلك لإعادة بناء القبة.

مذبحة القلعة أشهر حوادث قلعة صلاح الدين:
هناك سبب آخر لارتباط اسم قلعة الجبل باسم محمد علي وهو لما وقع فيها من أحداث ما زالت تتردد في أوراق التاريخ وحكايات العامة. ولعل أشهر تلك الحكايات مذبحة القلعة التي وقعت في الأول من مارس عام 1811م، وتعد واحدة من أكثر حكايات القلعة إثارة، حيث كان محمد علي يريد الإنفراد بسلطة مصر فكان عليه التخلص من الزعامة الشعبية والجند الألبانيين والمماليك، فاستغل محمد علي خروج الجيش المصري لبلاد الشام فدعا المماليك لوليمة كبيرة وعقب انتهائها، دعاهم للسير معه لتوديع الجيش من باب العزب، فسار المماليك معه خلف الجيش وبمجرد وصولهم إلى ذلك الباب المطل على أحد شوارع القاهرة أمر بإغلاق الباب ليبدأ الجنود في إطلاق رصاص بنادقهم على المماليك الذين لم ينج منهم سوى عدد قليل، حيث يروى أن بعض المماليك استطاعوا الهرب بتسلق أسوار القلعة وركوب أحصنتهم والهرب إلى الصعيد المصري من بينهم إبراهيم بك الذي هرب بالسودان ثم رجع بعدها بحوالي 3 سنوات ليقتل بخدعة شبيهة بمذبحة القلعة. وكان السر وراء اختيار باب "العزب" ليكون مسرحا لمذبحة القلعة والتي راح ضحيتها أكثر من خمسمئة رجل من رؤوس المماليك وأعيانهم، هو أن الطريق الذي يؤدي إلى باب العزب ما هو إلا ممر صخري منحدر تكتنفه الصخور على الجانبين، حيث لا مخرج ولا مهرب.

قصور الحريم:
تضم قلعة صلاح الدين مسجد محمد علي ويسمى بمسجد المرمر، وبئر يوسف، وقصر الحريم، وسطورا من التاريخ الإسلامي والعربي. يوجد بالقلعة قصور الحريم، وهي تتكون من ثلاثة قصور بنيت بشكل منفصل عن بعضها، لكنها تتحد في الطابق الأرضي، أقدمها القصر الأوسط أو الوسطاني، ثم القصر الشرقي، ثم الغربي، عرفت هذه القصور بطريق الخطأ بقصور الحريم، حيث إنّها خصصت لكثير من الأغراض، ومنها إسكان اليتامى من عائلة محمد علي باشا وأمراء المماليك، وتضم اليوم المتحف الحربي المصري، وهو يحكي قصة العسكرية المصرية من العصر الفرعوني إلى يومنا هذا في عرض شائق، ينسي زائرها تاريخها وعمارتها الرائعة التي تعكس أسلوب العمارة العثماني، والتي تأثرت بالعمارة الأوروبية وأسلوب الباروك.

كما بنى محمد علي قصرًا آخر لزوجاته وليكون مقرًا للحكم أسماه "قصر الجوهرة" وقد أقامه على أطلال قاعات مملوكية ومنشآت أخرى أبرزها مقعد السلطان قايتباي؛ ليشرف على القاهرة كلها حتى الآن من خلال ساحته التي يطلقون عليها "البانوراما". يراودك الإحساس عند دخول هذا القصر بأنك في قصر المرايا، فعند مدخله سلم به عدد من الدرجات الهابطة في مواجهتها مرآة ضخمة بطول الحائط، السبب في وجودها خوف محمد علي من الغدر به من الخلف فكان يحب أن يرى ما يحدث خلف ظهره، وفي طابق قاعة العرش مرأة أخرى كسابقتها تكشف من يدخل من باب القصر ومن يدخل على محمد علي.

بئر يوسف:
وقام قراقوش بحفر بئر ماء على عمق 100 مترًا، منها 85 مترًا حفرت في الصخر، حملت اسم "بئر يوسف" نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي، والتي لا تزال موجودة حتى الآن ولكن من دون استعمال. ويتميز بئر يوسف بالإعجاز الهندسي، وهو أحد الآثار الباقية من العصر الأيوبي، وهو بئر عجيب في هندسته، نادر في عمارته. تتكون البئر من مقطعين ليسا على استقامة واحدة إلا أنهما يتساويان في العمق تقريبًا، من أجل ذلك سمي هذا الأثر بئرين في كتابات بعض المؤرخين، وتبلغ مساحة مقطع البئر السفلية 2.3 متر مربع، في حين تبلغ مساحة مقطع البئر العلوية خمسة أمتار مربعة، وذلك للحاجة إلى تأمين ممر إلى البئر السفلية، يسمح بنزول الثيران اللازمة لإدارة الساقية المثبتة على البئر السفلية، وذلك لجلب الماء من عمقها إلى مستوى البئر العلوية، ويقوم زوج آخر من الثيران بإدارة ساقية ثانية مثبتة على البئر العلوية لرفع الماء من منسوب الساقية الأولى إلى سطح الأرض. والعامة ينسبون هذه البئر إلى النبي يوسف عليه السلام، لكن الأدلة التاريخية تؤكد أن البئر حفرت في عهد الناصر صلاح الدين واسمه الكامل صلاح الدين يوسف بن أيوب.

حوش الباشا:
وأضيف حوش الباشا إلى القلعة في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون لاستخدامه كحديقة للطيور والحيوانات، وتغير استخدامه لأغراض كانت للنطاق السلطاني من قبل، إلى أن أنيطت به جميع وظائف وأغراض النطاق السلطاني في عهد المماليك والعثمانيين. ومن الجدير بالذكر أن تسمية هذا النطاق بحوش الباشا، ترجع إلى كون المكان مقر البشوات في مصر في العهد العثماني.

مباني أخرى بالقلعة:
ولا تقتصر مباني القلعة على ما ذكرناه فقط، وبخاصة أنها كانت في تلك العهود دارًا للحكم والحياة أيضًا، فقد بني بها عدد من الدواوين مثل "الأنتيكخانة" الخاصة بحفظ الوثائق الرسمية، ودار لسك العملة والطباعة. بين أسوار القلعة يمكنك أيضًا زيارة مسجدين آخرين هما جامع السلطان الناصر محمد بن قلاوون ويوجد في وسط القلعة تقريبا وبني في سنة 718هـ / 1318م. وقد ظل المسجد الرئيسي للقلعة حتى بنى محمد علي مسجده. هناك أيضًا مسجد سليمان باشا الخادم الذي أنشئ في عهد الدولة الفاطمية عام 935هـ / 1528م ويطلق عليه أيضا اسم "جامع سارية الجبل".

بالقرب من هذين المسجدين ترى متحف الشرطة الذي كان سجنا حربيا تم إنشاؤه بقرار جمهوري عام 1968م على أنقاض أحد سجون المماليك التي كانت قائمة في ذات الموقع، ولطالما احتوت جدرانه أنات المعتقلين السياسيين به، حتى افتتح في أكتوبر 1984م كمتحف لتاريخ الشرطة.

مراجع البحث:
- حسن عبد الوهاب: تاريخ المساجد الأثرية (مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة 1946م).
- عبد الرحمن زكي: القاهرة تاريخها وآثارها (الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966م).
- عبد الرحمن زكي: قلعة صلاح الدين وقلاع إسلامية أخرى (مطبعة نهضة مصر، القاهرة 1961م).
- عبد الرزاق زقزوق: قلعة الجبل، الموسوعة العربية العالمية.
- ختام ملكاوي: قلعة صلاح الدين الأيوبي في القاهرة: حكاية التاريخ والجمال التي لا تنتهي، جريدة الغد، الاثنين 18 أبريل 2005م.
- نشوى الحوفي: قلعة الجبل .. كنوز من أسرار الماضي، جريدة الشرق الأوسط، العدد 10697، الأربعـاء 4 ربيـع الأول 1429هـ / 12 مارس 2008م.
- منار عبد الفتاح: قلعة صلاح الدين الأيوبي في القاهرة .. حيث تلتقي عراقة التاريخ وعبقرية المكان بالسياسة وفنون العمارة، جريدة القدس العربي، 4 أبريل 2015م.
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top