المؤلف:
مصطفى قالية
الدِّينُ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالاسْتِعَانَةِ بِهِ وَحْدَهُ
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَ أشهد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا و أَنْنمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران: 102].
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))[النساء: 1].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))[الأحزاب: 70-71].
أمَّا بعد:
فإنَّ اللهَ تعالى قد خَلَقَ الخلقَ لعبادتِه، وكلَّفهم بطاعتِه، وحذَّرهم من الإشراكِ به ومن معصيتِه، وأوضح لهم طريق الفلاحِ والرَّشاد، وعرَّف لهم طُرق الضَّلال والغواية، فأتمَّ عليهم النِّعمة، وأزاح عنهم النِّقمة، وممَّا بيَّنه لهم سبحانه وتعالى أنَّه لا قدرةَ لهم على سلوكِ طريقِ الحقّ -مع وضوحه-، ولا قوَّة لهم على مُلازمته-مع ظهوره- إلَّا إذا أعانَهم مولاهم على ذلك، لذا أمرَهم سبحانَه بعبادتِه وحدَه، وأمرَهم كذلك بأن يستَعِينُوا به وحدَه لتحقيق ذلك.
وفي سبيل بيانِ هذا الأصلِ العظيم جاء هذا المقال، والذي هُو في أصلِه محاضرةٌ ألقيتُها في إحدى الدَّورات العلميّة، شرحت فيها قاعدةً عظيمةً من قواعدِ الإسلام من كتابٍ[1] للعَلمِ الهُمام أبي عبدِ الله عبدِ الرَّحمنِ بنِ ناصرِ السِّعدي -رحمه الله- والَّتي كانت بعنوان:
الدِّينُ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالاسْتِعَانَةِ بِهِ وَحْدَهُ
وهذا أوان الشُّروع في المقصود، فأقول مستعينا بالله العظيم:
أوَّلا/قوله: (الدِّين) يدخل تحتَه دينُ الله الذي جاءت به الرُّسل جميعًا، من أوَّلهم إلى آخرِهم، وهذا هو الإسلام بالمعنى العام، فدين الله الذي بعث به الرُّسل كلُّه مبني على هذين الأصلين العظيمين.
ثانيا/قوله: (كلَّه) لفظةٌ (كلّ) من أقوى ألفاظ العموم[2]،وهذا الإطلاق إنَّما استفاده أهل العلم بالاستقراء والتَّتَبُّعِ للوحيِ بنوعيهِ: الكتابِ والسُّنَّة، ومن أهل الاستقراء التَّامِّ في هذا المجال وغيرِه شيخا الإسلام بحقّ الإمامان العظيمان والعالمان الكبيران ابنُ تيمية وتلميذُه ابنُ القيِّم-رحمهما الله- فإنَّهما نصَّا على ذلك في عدَّة مواضعَ من كتُبهما النَّافعة وسيأتي ذكرُ كلامِهما قريبا -بإذن الله-.
ثالثا/ العبادة: في اللّغة معناها: الذلّ والخضوع، يُقَال: (بعيرٌ معبَّد) أَي: مذلّل، وَ(طَرِيق معبّد): إِذا كَانَ مذلَّلا قد وطئته الْأَقْدَام.
قال الأزهري: (معنى الْعِبَادَة فِي اللُّغَة: الطَّاعَة مَعَ الخضوع، وَيُقَال طريقٌ مُعَبَّدٌ إِذا كَانَ مذلَّلاً بِكَثْرَة الْوَطْء)[3].
وقال ابن سيده: (أصل الْعِبَادَة فِي اللُّغَة التّذليل من قَوْلهم: طَرِيق مُعَبَّد: أَي مُذّلَّل، بِكَثْرَة الْوَطْء عَلَيْهِ، وَمِنْه أُخذ العَبْد لذلته لمَوْلَاهُ وَالْعِبَادَة والخضوع والتّذلل والاستكانة قرائب فِي الْمعَانِي)[4].
وقال الزَّبيدي: (وَقَالَ بعضُ أَئِمَّةِ الِاشْتِقَاق: أَصْلُ العُبُودِيّةِ: الذُّلُّ والخُضُوعُ)[5].
أمّا في الاصطلاح[6] فالعبادة قد عُرِّفت بتعاريفَ كثيرةٍ ومتنوعةٍ، ومن أحسن هذه التَّعاريفِ وأجمعِها تعريفُ شيخِ الإسلام ابنِ تيميَّة-رحمه الله- لها حيث قالَ:
(الْعِبَادَةُ هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ)[7].
وقد بيَّن تلميذُه ابنُ القيِّم-رحمه الله- حقيقةَ هذا التَّعريفِ، فذكر أنَّه لا بدّ في العبوديَّة من:
(التَّحَقُّقُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرْضَاهُ، مِنْ قَوْلِ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَعَمَلِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، فَالْعُبُودِيَّةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ،... ثم قال:
فَقَوْلُ الْقَلْبِ: هُوَ اعْتِقَادُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَلِقَائِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ.
وَقَوْلُ اللِّسَانِ: الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَالْدَعْوَةُ إِلَيْهِ، وَالْذَبُّ عَنْهُ، وَتَبْيِينُ بُطْلَانِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ، وَالْقِيَامُ بِذِكْرِهِ، وَتَبْلِيغُ أَوَامِرِهِ.
وَعَمَلُ الْقَلْبِ: كَالْمَحَبَّةِ لَهُ، وَالْتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالْرَجَاءِ لَهُ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَالْصَبْرِ عَلَى أَوَامِرِهِ، وَعَنْ نَوَاهِيهِ، وَعَلَى أَقْدَارِهِ، وَالْرِضَى بِهِ وَعَنْهُ، وَالْمُوَالَاةِ فِيهِ، وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ، وَالْذُلِّ لَهُ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِخْبَاتِ إِلَيْهِ، وَالْطُمَأْنِينَةِ بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي فَرْضُهَا أَفْرَضُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَمُسْتَحِبُّهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُسْتَحِبِّهَا، وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ بِدُونِهَا إِمَّا عَدِيمُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ.
وَأَعْمَالُ الْجَوَارِحِ: كَالْصَلَاةِ وَالْجِهَادِ، وَنَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَمُسَاعَدَةِ الْعَاجِزِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ)اهـ.
و[العبادةُ[8] مبنَاهَا على أصلَيْن عظيمَيْنِ، ولا تُقبل إلا بشرطيْنِ مُهِميَّن].
أما الأصلان اللَّذان مبنى العبادة عليهما فهما: كمال الْحُبِّ مع كمالِ الذُّل.
قال شيخُ الإسلام-رحمه الله-: (وَالْعِبَادَةُ: اسْمٌ يَجْمَعُ غَايَةَ الْحُبِّ لَهُ وَغَايَةَ الذُّلِّ لَهُ فَمَنْ ذَلَّ لِغَيْرِهِ مَعَ بُغْضِهِ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا، وَمَنْ أَحَبَّهُ مِنْ غَيْرِ ذُلٍّ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ غَايَةَ الْمَحَبَّةِ؛ بَلْ يَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا يُحَبُّ شَيْءٌ إلَّا لَهُ، وَأَنْ يُعَظَّمَ وَيُذَلَّ لَهُ غَايَةَ الذُّلِّ؛ بَلْ لَا يُذَلُّ لِشَيْءِ إلَّا مِنْ أَجْلِهِ...)[9].
قال ابنُ القيِّم-رحمه الله- في نونيَّته[10]:
وَعِبَادَةُ الرَّحْمَنِ غَايَةُ حُبِّهِ... مَعْ ذُلِّ عَابِدِهِ هُمَا قُطْبَانِ
وَعَلْيهِمَا فُلْكُ العِبَادَةِ دَائِرٌ ... مَا دَارَ حَتَّى قَامَتِ القُطْبَانِ
و أما شرطا قبول العبادة فهما: الإخلاص والمتابعة.
قال شيخُ الإسلام-رحمه الله-: (الدِّينَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا يُعْبَدَ إلَّا بِمَا شَرَعَ، لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ فِيهِ لِأَحَدِ شَيْئًا"، وَقَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ: "أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ"، قِيلَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: "إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ"، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وَالْمَقْصُودُ بِجَمِيعِ الْعِبَادَاتِ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ)[11].
رابعاً/ الاستعانة:في اللّغة معناها: طلب العون مطلقًا[12].
وفي الاصطلاح هي: طلب العون من الله لدفعِ الضّرِ، أو جلبِ المنفعةِ، أو تثبيتِ الدِّين مع الثِّقةِ به.
وطلب العون من الله يكون إمَّا[13]:
1. بلسانِ المقال: كقولك: (اللهم أعني)، أو: (لا حول ولا قوة إلا بالله)[14] عند شروعك بالفعل.
2. أو بلسانِ الحال: وهي أن تشعر بقلبك أنك محتاج إلى ربِّك -عزَّ وجل- أن يعينك على هذا الفعل، وأنَّه إن وكَّلك إلى نفسك وكَّلك إلى ضعف وعجز.
3. أو طلبِ العون بهما جميعا: والغالب أن من استعان بلسان المقال، يكون قد استعان بلسان الحال.
مصطفى قالية
الدِّينُ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالاسْتِعَانَةِ بِهِ وَحْدَهُ
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَ أشهد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا و أَنْنمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران: 102].
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))[النساء: 1].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))[الأحزاب: 70-71].
أمَّا بعد:
فإنَّ اللهَ تعالى قد خَلَقَ الخلقَ لعبادتِه، وكلَّفهم بطاعتِه، وحذَّرهم من الإشراكِ به ومن معصيتِه، وأوضح لهم طريق الفلاحِ والرَّشاد، وعرَّف لهم طُرق الضَّلال والغواية، فأتمَّ عليهم النِّعمة، وأزاح عنهم النِّقمة، وممَّا بيَّنه لهم سبحانه وتعالى أنَّه لا قدرةَ لهم على سلوكِ طريقِ الحقّ -مع وضوحه-، ولا قوَّة لهم على مُلازمته-مع ظهوره- إلَّا إذا أعانَهم مولاهم على ذلك، لذا أمرَهم سبحانَه بعبادتِه وحدَه، وأمرَهم كذلك بأن يستَعِينُوا به وحدَه لتحقيق ذلك.
وفي سبيل بيانِ هذا الأصلِ العظيم جاء هذا المقال، والذي هُو في أصلِه محاضرةٌ ألقيتُها في إحدى الدَّورات العلميّة، شرحت فيها قاعدةً عظيمةً من قواعدِ الإسلام من كتابٍ[1] للعَلمِ الهُمام أبي عبدِ الله عبدِ الرَّحمنِ بنِ ناصرِ السِّعدي -رحمه الله- والَّتي كانت بعنوان:
الدِّينُ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالاسْتِعَانَةِ بِهِ وَحْدَهُ
وهذا أوان الشُّروع في المقصود، فأقول مستعينا بالله العظيم:
أوَّلا/قوله: (الدِّين) يدخل تحتَه دينُ الله الذي جاءت به الرُّسل جميعًا، من أوَّلهم إلى آخرِهم، وهذا هو الإسلام بالمعنى العام، فدين الله الذي بعث به الرُّسل كلُّه مبني على هذين الأصلين العظيمين.
ثانيا/قوله: (كلَّه) لفظةٌ (كلّ) من أقوى ألفاظ العموم[2]،وهذا الإطلاق إنَّما استفاده أهل العلم بالاستقراء والتَّتَبُّعِ للوحيِ بنوعيهِ: الكتابِ والسُّنَّة، ومن أهل الاستقراء التَّامِّ في هذا المجال وغيرِه شيخا الإسلام بحقّ الإمامان العظيمان والعالمان الكبيران ابنُ تيمية وتلميذُه ابنُ القيِّم-رحمهما الله- فإنَّهما نصَّا على ذلك في عدَّة مواضعَ من كتُبهما النَّافعة وسيأتي ذكرُ كلامِهما قريبا -بإذن الله-.
ثالثا/ العبادة: في اللّغة معناها: الذلّ والخضوع، يُقَال: (بعيرٌ معبَّد) أَي: مذلّل، وَ(طَرِيق معبّد): إِذا كَانَ مذلَّلا قد وطئته الْأَقْدَام.
قال الأزهري: (معنى الْعِبَادَة فِي اللُّغَة: الطَّاعَة مَعَ الخضوع، وَيُقَال طريقٌ مُعَبَّدٌ إِذا كَانَ مذلَّلاً بِكَثْرَة الْوَطْء)[3].
وقال ابن سيده: (أصل الْعِبَادَة فِي اللُّغَة التّذليل من قَوْلهم: طَرِيق مُعَبَّد: أَي مُذّلَّل، بِكَثْرَة الْوَطْء عَلَيْهِ، وَمِنْه أُخذ العَبْد لذلته لمَوْلَاهُ وَالْعِبَادَة والخضوع والتّذلل والاستكانة قرائب فِي الْمعَانِي)[4].
وقال الزَّبيدي: (وَقَالَ بعضُ أَئِمَّةِ الِاشْتِقَاق: أَصْلُ العُبُودِيّةِ: الذُّلُّ والخُضُوعُ)[5].
أمّا في الاصطلاح[6] فالعبادة قد عُرِّفت بتعاريفَ كثيرةٍ ومتنوعةٍ، ومن أحسن هذه التَّعاريفِ وأجمعِها تعريفُ شيخِ الإسلام ابنِ تيميَّة-رحمه الله- لها حيث قالَ:
(الْعِبَادَةُ هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ)[7].
وقد بيَّن تلميذُه ابنُ القيِّم-رحمه الله- حقيقةَ هذا التَّعريفِ، فذكر أنَّه لا بدّ في العبوديَّة من:
(التَّحَقُّقُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرْضَاهُ، مِنْ قَوْلِ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَعَمَلِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، فَالْعُبُودِيَّةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ،... ثم قال:
فَقَوْلُ الْقَلْبِ: هُوَ اعْتِقَادُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَلِقَائِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ.
وَقَوْلُ اللِّسَانِ: الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَالْدَعْوَةُ إِلَيْهِ، وَالْذَبُّ عَنْهُ، وَتَبْيِينُ بُطْلَانِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ، وَالْقِيَامُ بِذِكْرِهِ، وَتَبْلِيغُ أَوَامِرِهِ.
وَعَمَلُ الْقَلْبِ: كَالْمَحَبَّةِ لَهُ، وَالْتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالْرَجَاءِ لَهُ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَالْصَبْرِ عَلَى أَوَامِرِهِ، وَعَنْ نَوَاهِيهِ، وَعَلَى أَقْدَارِهِ، وَالْرِضَى بِهِ وَعَنْهُ، وَالْمُوَالَاةِ فِيهِ، وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ، وَالْذُلِّ لَهُ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِخْبَاتِ إِلَيْهِ، وَالْطُمَأْنِينَةِ بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي فَرْضُهَا أَفْرَضُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَمُسْتَحِبُّهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُسْتَحِبِّهَا، وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ بِدُونِهَا إِمَّا عَدِيمُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ.
وَأَعْمَالُ الْجَوَارِحِ: كَالْصَلَاةِ وَالْجِهَادِ، وَنَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَمُسَاعَدَةِ الْعَاجِزِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ)اهـ.
و[العبادةُ[8] مبنَاهَا على أصلَيْن عظيمَيْنِ، ولا تُقبل إلا بشرطيْنِ مُهِميَّن].
أما الأصلان اللَّذان مبنى العبادة عليهما فهما: كمال الْحُبِّ مع كمالِ الذُّل.
قال شيخُ الإسلام-رحمه الله-: (وَالْعِبَادَةُ: اسْمٌ يَجْمَعُ غَايَةَ الْحُبِّ لَهُ وَغَايَةَ الذُّلِّ لَهُ فَمَنْ ذَلَّ لِغَيْرِهِ مَعَ بُغْضِهِ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا، وَمَنْ أَحَبَّهُ مِنْ غَيْرِ ذُلٍّ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ غَايَةَ الْمَحَبَّةِ؛ بَلْ يَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا يُحَبُّ شَيْءٌ إلَّا لَهُ، وَأَنْ يُعَظَّمَ وَيُذَلَّ لَهُ غَايَةَ الذُّلِّ؛ بَلْ لَا يُذَلُّ لِشَيْءِ إلَّا مِنْ أَجْلِهِ...)[9].
قال ابنُ القيِّم-رحمه الله- في نونيَّته[10]:
وَعِبَادَةُ الرَّحْمَنِ غَايَةُ حُبِّهِ... مَعْ ذُلِّ عَابِدِهِ هُمَا قُطْبَانِ
وَعَلْيهِمَا فُلْكُ العِبَادَةِ دَائِرٌ ... مَا دَارَ حَتَّى قَامَتِ القُطْبَانِ
و أما شرطا قبول العبادة فهما: الإخلاص والمتابعة.
قال شيخُ الإسلام-رحمه الله-: (الدِّينَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا يُعْبَدَ إلَّا بِمَا شَرَعَ، لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ فِيهِ لِأَحَدِ شَيْئًا"، وَقَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ: "أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ"، قِيلَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: "إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ"، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وَالْمَقْصُودُ بِجَمِيعِ الْعِبَادَاتِ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ)[11].
رابعاً/ الاستعانة:في اللّغة معناها: طلب العون مطلقًا[12].
وفي الاصطلاح هي: طلب العون من الله لدفعِ الضّرِ، أو جلبِ المنفعةِ، أو تثبيتِ الدِّين مع الثِّقةِ به.
وطلب العون من الله يكون إمَّا[13]:
1. بلسانِ المقال: كقولك: (اللهم أعني)، أو: (لا حول ولا قوة إلا بالله)[14] عند شروعك بالفعل.
2. أو بلسانِ الحال: وهي أن تشعر بقلبك أنك محتاج إلى ربِّك -عزَّ وجل- أن يعينك على هذا الفعل، وأنَّه إن وكَّلك إلى نفسك وكَّلك إلى ضعف وعجز.
3. أو طلبِ العون بهما جميعا: والغالب أن من استعان بلسان المقال، يكون قد استعان بلسان الحال.