أهمِّيةُ الرَّدِّ علَى المخالفِ، وبيانُ جُمْلَةٍ مِنْ ثَمَارهِ (الحلقة 1) للشيخ عبدالله بن عبدالرحيم

ابو ليث

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
8 جانفي 2010
المشاركات
10,466
نقاط التفاعل
10,283
النقاط
356
محل الإقامة
الجزائر
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الْحَمْدُ لله رَبِّ العَالِمين وَالصَّلاةُ وَالسَّلاَمُ عَلى نَبيِّنا مُحمَّدٍ وآله وصَحْبهِ أَجْمَعين، وَبعدُ:

تمهيدٌ:

فَإنَّ الله عزَّ وجلَّ قَدْ أَتَمَّ عَليْنَا النِّعمة بِأَنْ أَرْسَلَ إلينا خَيرَ رُسله مُحمَّداً صلى الله عليه وآله وسلَّم،

وأَنْزَلَ عَليهِ خَيرَ كُتُبه الَّذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).

وَتَكَفَّلَ سُبْحَانَهُ بِحِفْظهِ فَقَال ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).

ووجه الدلالة: أنَّ الله تعالى تَكفَّل بِحِفْظ الذِّكر الَّذي أَنْزَلَهُ، وَالذِّكْرُ يَشْمَلُ الكتَاب وَالسُّنَّة،
فَكِلاَهُما مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ الله بِنَصِّ الآية، وكلاَهُما مَحْفُوظٌ، قَال الْحَافِظُ ابنُ حَزْمٍ:" وَضَمَانُ الله تعالَى قَدْ صَحَّ فِي حِفْظِ كُلّ مَا قَالَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم " ( النُّبذ )(ص 86).

لذَا فَإنَّ مِنْ أَهمِّ و آكَد الوَاجِبَات الْمُحَافَظةُ عَلى الشَّريعة الْمُحَمَّدية، وصيَانتهَا وَتَنقيتهَا مِنَ الدَّخيل، وَ قَدْ أَدْركَ الصَّحابةُ رضي الله عنهم هَذا الوَاجب؛ فَقَاموا به حَقَّ قيامٍ، وتَبعهم عليه مَنْ سلكَ سبيلهم من التَّابعين وأئمَّة الدِّين والملَّة، قَالَ الحافظ أبو حاتم ابنُ حبَّان البستي (ت 354هـ):" فُرْسَانُ هَذا العِلْم الَّذين حَفِظُوا عَلى الْمُسْلِمينَ الدِّين، وهَدوهم إلى الصِّراط المستَقيم، الَّذين آثروا قَطْعَ الْمَفَاوِزِ وَ القِفَار علَى التَّنَعُم في الدِّيار والأوْطان في طَلَبِ السُّنَنِ في الأمْصَارِ، وجَمْعِها بالرَّحَلِ والأسْفار والدَّورانِ في جميعِ الأقطارِ،حتَّى إنَّ أحدَهم لَيَرْحُلُ في الحديثِ الواحِدِ الفَرَاسخَ البعيدة وفي الكَلمةِ الواحدةِ الأيامَ الكثيرةَ، لِئَلا يُدْخِلَ مُضِلٌّ في السُّنَنِ شيئاً يُضِلُّ به، و إنْ فَعَلَ فَهُمُ الذَّابُّونَ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذَلك الكَذب، والقَائمونَ بنُصْرةِ الدِّينِ"[/color] (المجروحين)(1/27).

وَ إنَّ من المسلَّماتِ أنَّ الصِّراعَ بين الحقِّ والباطل بَاقٍ ومُستمرٍ حتَّى قيام السَّاعة، وعليهِ فلا بُدَّ - والحالة هذه- اسْتِمْرَارُ مَنْهج الصَّحابة رضي الله عنهم والتَّابعين وأئمَّة الدِّين:
مِنْ حِرَاسةِ الشَّريعة المحمَّدية مِنْ تَحريفِ الغَالين وانْتِحَال المبطلين وتَأْويل الجاهلين، وَ الْمُحَافَظة عَلى بقائها نقيَّة صافية، مَعَ القِيامِ بِمَا أَوجبَ اللهُ مِنْ بَيَان الحقِّ للخلقِ وردِّ الباطل.
وفي نصوص الشَّرْع مَا يدَلَّ على ذَلكَ:

1/ ما أخرجهُ البخاريُّ في (صحيحه) (13/رقم 7022) واللفظ له، ومسلمٌ في (الصَّحيح)(رقم 1037) منْ حديث معاويةرضي الله عنه قال: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم يقولُ: ( لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتي أمَّةٌ قائمةٌ بأمرِ اللهِ، مَا يَضُرُّهم مَنْ كذَّبهم وَلا مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ).
ووردَ نحوهُ من حديث المغيرة رضي الله عنه في الصَّحيحين أيضاً، ومنْ حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم، و عَنْ غيرهما منَ الصَّحابة رضي الله عن الجميع.

2/ ما أخرجه البُخاريُّ في (صحيحه)(8/رقم 4547/209- فتح) واللفظ له، ومسلمٌ في (الصحيح) (16/ ص 216- نووي) مِنْ حَديثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:

( تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم هَذِهِ الآيةَ{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ رسول الله صلى الله وسلَّم :
فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ ).

وجهُ الاستدلال: ما قَاله الحافظُ النَّووي في (شرحه لصحيح مسلم)(16/21
icon_cool.gif
:" في هَذا الْحَديثِ التَّحْذيرُ مِنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ الزَّيغِ وأَهْلِ البِدَعِ وَ مَنْ يَتَّبعُ الْمُشْكلاَت للفِتْنةِ..".

3/ وَ أيضاً قَوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (سَيَكُون في آخر أمتي نَاسٌ يُحدِّثونكم بِمَا لَمْ تَسْعَمُوا أَنْتُم وَ لا آبَاؤُكُم فَإيَّاكُمْ وَإيَّاهُمْ)، أَخرجه مسلمٌ في (مقدِّمة الصَّحيح)(رقم 6) (باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها).
قال الإمامُ البغوي في (شرح السنة)(1/ص 223):" حديثٌ حسنٌ..".

وجه الاستدلال: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أخبرَ بِهَذا الغَيْبِ عَنْ أَقوامٍ يَأتونا بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، فَأَمَرَنَا بِمُجَانبتهم، وحذَّرنا منْهُم.

إذَا تقرَّر هذا لابُدَّ وأنْ يُعلمَ أنَّ:
منَ الأصول الشَّرعيَّة المقرَّرة والمدلَّل عليها من الكتاب والسُّنَّة وعمل سلفِ الأمَّة الصَّالح: الرَّدُّ على المخالفِ ومخالفتِهِ.

1/ قَالَ الإمام مُحمَّدُ بْنُ يَحيى الذهلي: سمعتُ يَحيى بن معين يقولُ: " الذَّب عنِ السُّنَّةِ أفضل من الْجَهادِ فِي سبيل الله.
فقلتُ ليحيى: الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ وَ يُتْعِبُ نَفسهُ وَ يُجَاهِدُ، فَهذَا أفضل منْه؟! قَالَ: نَعَمْ، بِكَثيرٍ".
(سير أعلام النبلاء) للذهبي (10/51
icon_cool.gif
.

2/ قالَ الإمامُ عثمان بن سعيد الدارمي في (الرَّد على الجهمية)(ص18/ رقم 15):"..فحينَ رأينا
ذلكَ منهم، وفطنَّا لمذهبهم، وما يَقصدونَ إليه من الكُفر وإبطالِ الكتُب والرُّسل، ونفي الكَلام والعِلْم والأمر عن الله تعالى، رأينا أنْ نُبيِّن من مذاهبهم رسوماً من الكتاب والسُّنَّة وَ كلام العُلماءِ، ما يَسْتدل به أهل الغفلةِ منَ النَّاسِ على سوءِ مذْهَبهم، فيحذروهم على أنفسهم وعلى أولادهم وأهليهم، ويجتهدونَ في الرَّدِّ عليهم، محتسبين منافحين عن دين الله تعالى، طالبين به ما عند الله".

3/ قَالَ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة كما في (المجموع)(28/231-232):" ومثل أئمَّة البِدَعِ مِنْ أهل المقالات المخالفةِ للكتاب والسُّنَّة، أو العِبَادات المخالفة للكتِابِ وَالسُّنَّة، فإنَّ بَيانَ حَالهم، وتَحذيرَ الأُمَّةِ مِنْهُم، واجبٌ باتِّفاق المسلمين، حَتَّى قيل لأحمد بن حنبل: الرَّجل يَصُوم وَ يُصلِّي ويعتكفُ أحب إليك أو يتكلَّم في أهل البدعِ؟ فقال: إذا قَام وصلَّى واعتكفَ فإنَّما هو لنفسهِ، وإذا تكلَّم في أهلِ البدعِ فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل.

فبيَّن أَنَّ نَفْعَ هَذا عامٌّ للمسلمين فِي دِينهم، مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبيل الله؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيْل الله وَ دِيْنهِ وَ مِنْهَاجهِ وَشِرْعَتهِ، ودفع بغي هَؤلاء وعُدوانهم علَى ذَلك، وَاجبٌ علَى الكِفَايَةِ باتِّفاقِ المسلمينَ، ولَولا مَنْ يُقِيْمهُ الله لدَفْعِ ضَرَرِ هَؤلاء لَفَسَدَ الدِّين، وكانَ فَسَادُهُ أَعظم مِنْ فَسادِ اسْتِيْلاءِ العَدوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَربِ؛ فإنَّ هَؤلاء إذَا اسْتَولوا لَمْ يُفْسِدُوا القُلُوبَ وَمَا فيها مِنَ الدِّينِ إلاَّ تَبَعاً، وأمَّا أُولئكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ القُلُوبَ ابْتِدَاءً".

وقالَ أيضاً:" المقصودُ أنَّ هذه الأُمَّة- ولله الحمد- لم يزلْ فيها مَنْ يتفطَّنُ لما في كلامِ أهلِ البَاطلِ و يردّه، وهم لما هداهم الله به، يتوافقونَ في قبولِ الحقِّ، وردِّ البَاطلِ رأياً وروايةً من غير تشاعرٍ ولا تواطؤٍ" (المجموع)(9/233).

4/ وقالَ الإمامُ ابنُ القيِّم في (مفتاح دار السعادة)(1/103) في وصْف أهل السُّنة وجهَادهم :" فَكْمْ مِنْ قَتِيْلٍ لإبليس قد أَحْيَوه، ومِنْ ضَالٍ جاهلٍ لا يَعْلَم طَريق رشده قَدْ هدوه، ومِنْ مُبْتَدعٍ في دينِ الله بشُهُبِ الْحقِّ قد رَموهُ، جِهَاداً في الله، وابتغاء مَرضاته..".
وقال في النُّونيَّة:
(هذا ونصرُ الدِّين فرضٌ لازم...لا للكفاية بل على الأعيان
بيدٍ وإما باللسان فإنْ عجز...ت فبالتَّوجه والدعا بجنان).

وقالَ أيضاً في (مدارج السَّالكين)(1/372):" واشْتدَّ نكيرُ السَّلفِ والأئمَّة لَهَا- أي البدعة-، وصَاحوا بأهلهَا مِنْ أَقطار الأرضِ، وحَذَّروا فِتْنَتَهُمْ أَشدَّ التَّحذير، وبَالغوا في ذلك ما لَمْ يُبَالِغُوا مثله فِي إنكار الفَواحشِ، وَالظُّلم، والعُدوان؛ إذْ مَضرَّةُ البِدَعِ، وَهَدْمِهَا للدِّينِ، وَمنافاتها لَه أَشدّ".

وقال في (هداية الحيارى)(ص 10):" مِنْ حقِّ الله على عبادهِ رد الطَّاعنينَ على كتابهِ ورسولهِ،ودينهِ، ومجاهدتهم بالحجَّةِ والبيان، والسَّيفِ والسِّنان، والقلبِ والجنان، وليس وراء ذلك حبَّة خردل من إيمان".

5/ عَقدَ العَلاَّمة ابنُ مفلح في (الآداب الشَّرعية)(1/230) فَصْلاً فقالَ:" فَصْلٌ: في وُجُوبِ إبْطَالِ البِدَعِ الْمُضِلَّةِ، وَإقَامَةِ الْحُجَّة عَلى بُطْلانِهَا".
ثُم قالَ:" قالَ في (نِهَاية المبتدئين): ويَجِبُ إنكارُ البدعِ المضلَّة، وإقامة الحجَّة على إبطالها، سواءٌ قَبِلَها قائلها أو ردَّها، ومَنْ قدر على إنهاءِ المنكر إلى السُّلطان أنهاهُ، وإنْ خَافَ فوتهُ قبل إنهائهِ أنكرهُ هُو".
لعلَّ فيما سبق منَ هذا التَّمهيد يتَّضحُ لنا أهميَّة الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ.
فالله أسأل التوفيق والسداد للجميع، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم.

وكتب
عبدالله بن عبدالرحيم البخاري- كان الله له-
المدينة النبوية
في 16/ ذي الحجة/ 1429هـ
(يتبعه في حلقة أخرى -بحول الله- الكلام عن جملة من ثمار الرَّد على المخالف)
[/FONT]
 
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الْحَمْدُ لله رَبِّ العَالِمين وَالصَّلاةُ وَالسَّلاَمُ عَلى نَبيِّنا مُحمَّدٍ وآله وصَحْبهِ أَجْمَعين، وَبعدُ:

تمهيدٌ:

فَإنَّ الله عزَّ وجلَّ قَدْ أَتَمَّ عَليْنَا النِّعمة بِأَنْ أَرْسَلَ إلينا خَيرَ رُسله مُحمَّداً صلى الله عليه وآله وسلَّم،

وأَنْزَلَ عَليهِ خَيرَ كُتُبه الَّذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).

وَتَكَفَّلَ سُبْحَانَهُ بِحِفْظهِ فَقَال ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).

ووجه الدلالة: أنَّ الله تعالى تَكفَّل بِحِفْظ الذِّكر الَّذي أَنْزَلَهُ، وَالذِّكْرُ يَشْمَلُ الكتَاب وَالسُّنَّة،
فَكِلاَهُما مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ الله بِنَصِّ الآية، وكلاَهُما مَحْفُوظٌ، قَال الْحَافِظُ ابنُ حَزْمٍ:" وَضَمَانُ الله تعالَى قَدْ صَحَّ فِي حِفْظِ كُلّ مَا قَالَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم " ( النُّبذ )(ص 86).

لذَا فَإنَّ مِنْ أَهمِّ و آكَد الوَاجِبَات الْمُحَافَظةُ عَلى الشَّريعة الْمُحَمَّدية، وصيَانتهَا وَتَنقيتهَا مِنَ الدَّخيل، وَ قَدْ أَدْركَ الصَّحابةُ رضي الله عنهم هَذا الوَاجب؛ فَقَاموا به حَقَّ قيامٍ، وتَبعهم عليه مَنْ سلكَ سبيلهم من التَّابعين وأئمَّة الدِّين والملَّة، قَالَ الحافظ أبو حاتم ابنُ حبَّان البستي (ت 354هـ):" فُرْسَانُ هَذا العِلْم الَّذين حَفِظُوا عَلى الْمُسْلِمينَ الدِّين، وهَدوهم إلى الصِّراط المستَقيم، الَّذين آثروا قَطْعَ الْمَفَاوِزِ وَ القِفَار علَى التَّنَعُم في الدِّيار والأوْطان في طَلَبِ السُّنَنِ في الأمْصَارِ، وجَمْعِها بالرَّحَلِ والأسْفار والدَّورانِ في جميعِ الأقطارِ،حتَّى إنَّ أحدَهم لَيَرْحُلُ في الحديثِ الواحِدِ الفَرَاسخَ البعيدة وفي الكَلمةِ الواحدةِ الأيامَ الكثيرةَ، لِئَلا يُدْخِلَ مُضِلٌّ في السُّنَنِ شيئاً يُضِلُّ به، و إنْ فَعَلَ فَهُمُ الذَّابُّونَ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذَلك الكَذب، والقَائمونَ بنُصْرةِ الدِّينِ"[/color] (المجروحين)(1/27).

وَ إنَّ من المسلَّماتِ أنَّ الصِّراعَ بين الحقِّ والباطل بَاقٍ ومُستمرٍ حتَّى قيام السَّاعة، وعليهِ فلا بُدَّ - والحالة هذه- اسْتِمْرَارُ مَنْهج الصَّحابة رضي الله عنهم والتَّابعين وأئمَّة الدِّين:
مِنْ حِرَاسةِ الشَّريعة المحمَّدية مِنْ تَحريفِ الغَالين وانْتِحَال المبطلين وتَأْويل الجاهلين، وَ الْمُحَافَظة عَلى بقائها نقيَّة صافية، مَعَ القِيامِ بِمَا أَوجبَ اللهُ مِنْ بَيَان الحقِّ للخلقِ وردِّ الباطل.
وفي نصوص الشَّرْع مَا يدَلَّ على ذَلكَ:

1/ ما أخرجهُ البخاريُّ في (صحيحه) (13/رقم 7022) واللفظ له، ومسلمٌ في (الصَّحيح)(رقم 1037) منْ حديث معاويةرضي الله عنه قال: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم يقولُ: ( لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتي أمَّةٌ قائمةٌ بأمرِ اللهِ، مَا يَضُرُّهم مَنْ كذَّبهم وَلا مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ).
ووردَ نحوهُ من حديث المغيرة رضي الله عنه في الصَّحيحين أيضاً، ومنْ حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم، و عَنْ غيرهما منَ الصَّحابة رضي الله عن الجميع.

2/ ما أخرجه البُخاريُّ في (صحيحه)(8/رقم 4547/209- فتح) واللفظ له، ومسلمٌ في (الصحيح) (16/ ص 216- نووي) مِنْ حَديثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:

( تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم هَذِهِ الآيةَ{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ رسول الله صلى الله وسلَّم :
فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ ).

وجهُ الاستدلال: ما قَاله الحافظُ النَّووي في (شرحه لصحيح مسلم)(16/21
icon_cool.gif
:" في هَذا الْحَديثِ التَّحْذيرُ مِنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ الزَّيغِ وأَهْلِ البِدَعِ وَ مَنْ يَتَّبعُ الْمُشْكلاَت للفِتْنةِ..".

3/ وَ أيضاً قَوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (سَيَكُون في آخر أمتي نَاسٌ يُحدِّثونكم بِمَا لَمْ تَسْعَمُوا أَنْتُم وَ لا آبَاؤُكُم فَإيَّاكُمْ وَإيَّاهُمْ)، أَخرجه مسلمٌ في (مقدِّمة الصَّحيح)(رقم 6) (باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها).
قال الإمامُ البغوي في (شرح السنة)(1/ص 223):" حديثٌ حسنٌ..".

وجه الاستدلال: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أخبرَ بِهَذا الغَيْبِ عَنْ أَقوامٍ يَأتونا بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، فَأَمَرَنَا بِمُجَانبتهم، وحذَّرنا منْهُم.

إذَا تقرَّر هذا لابُدَّ وأنْ يُعلمَ أنَّ:
منَ الأصول الشَّرعيَّة المقرَّرة والمدلَّل عليها من الكتاب والسُّنَّة وعمل سلفِ الأمَّة الصَّالح: الرَّدُّ على المخالفِ ومخالفتِهِ.

1/ قَالَ الإمام مُحمَّدُ بْنُ يَحيى الذهلي: سمعتُ يَحيى بن معين يقولُ: " الذَّب عنِ السُّنَّةِ أفضل من الْجَهادِ فِي سبيل الله.
فقلتُ ليحيى: الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ وَ يُتْعِبُ نَفسهُ وَ يُجَاهِدُ، فَهذَا أفضل منْه؟! قَالَ: نَعَمْ، بِكَثيرٍ".
(سير أعلام النبلاء) للذهبي (10/51
icon_cool.gif
.

2/ قالَ الإمامُ عثمان بن سعيد الدارمي في (الرَّد على الجهمية)(ص18/ رقم 15):"..فحينَ رأينا
ذلكَ منهم، وفطنَّا لمذهبهم، وما يَقصدونَ إليه من الكُفر وإبطالِ الكتُب والرُّسل، ونفي الكَلام والعِلْم والأمر عن الله تعالى، رأينا أنْ نُبيِّن من مذاهبهم رسوماً من الكتاب والسُّنَّة وَ كلام العُلماءِ، ما يَسْتدل به أهل الغفلةِ منَ النَّاسِ على سوءِ مذْهَبهم، فيحذروهم على أنفسهم وعلى أولادهم وأهليهم، ويجتهدونَ في الرَّدِّ عليهم، محتسبين منافحين عن دين الله تعالى، طالبين به ما عند الله".

3/ قَالَ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة كما في (المجموع)(28/231-232):" ومثل أئمَّة البِدَعِ مِنْ أهل المقالات المخالفةِ للكتاب والسُّنَّة، أو العِبَادات المخالفة للكتِابِ وَالسُّنَّة، فإنَّ بَيانَ حَالهم، وتَحذيرَ الأُمَّةِ مِنْهُم، واجبٌ باتِّفاق المسلمين، حَتَّى قيل لأحمد بن حنبل: الرَّجل يَصُوم وَ يُصلِّي ويعتكفُ أحب إليك أو يتكلَّم في أهل البدعِ؟ فقال: إذا قَام وصلَّى واعتكفَ فإنَّما هو لنفسهِ، وإذا تكلَّم في أهلِ البدعِ فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل.

فبيَّن أَنَّ نَفْعَ هَذا عامٌّ للمسلمين فِي دِينهم، مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبيل الله؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيْل الله وَ دِيْنهِ وَ مِنْهَاجهِ وَشِرْعَتهِ، ودفع بغي هَؤلاء وعُدوانهم علَى ذَلك، وَاجبٌ علَى الكِفَايَةِ باتِّفاقِ المسلمينَ، ولَولا مَنْ يُقِيْمهُ الله لدَفْعِ ضَرَرِ هَؤلاء لَفَسَدَ الدِّين، وكانَ فَسَادُهُ أَعظم مِنْ فَسادِ اسْتِيْلاءِ العَدوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَربِ؛ فإنَّ هَؤلاء إذَا اسْتَولوا لَمْ يُفْسِدُوا القُلُوبَ وَمَا فيها مِنَ الدِّينِ إلاَّ تَبَعاً، وأمَّا أُولئكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ القُلُوبَ ابْتِدَاءً".

وقالَ أيضاً:" المقصودُ أنَّ هذه الأُمَّة- ولله الحمد- لم يزلْ فيها مَنْ يتفطَّنُ لما في كلامِ أهلِ البَاطلِ و يردّه، وهم لما هداهم الله به، يتوافقونَ في قبولِ الحقِّ، وردِّ البَاطلِ رأياً وروايةً من غير تشاعرٍ ولا تواطؤٍ" (المجموع)(9/233).

4/ وقالَ الإمامُ ابنُ القيِّم في (مفتاح دار السعادة)(1/103) في وصْف أهل السُّنة وجهَادهم :" فَكْمْ مِنْ قَتِيْلٍ لإبليس قد أَحْيَوه، ومِنْ ضَالٍ جاهلٍ لا يَعْلَم طَريق رشده قَدْ هدوه، ومِنْ مُبْتَدعٍ في دينِ الله بشُهُبِ الْحقِّ قد رَموهُ، جِهَاداً في الله، وابتغاء مَرضاته..".
وقال في النُّونيَّة:
(هذا ونصرُ الدِّين فرضٌ لازم...لا للكفاية بل على الأعيان
بيدٍ وإما باللسان فإنْ عجز...ت فبالتَّوجه والدعا بجنان).

وقالَ أيضاً في (مدارج السَّالكين)(1/372):" واشْتدَّ نكيرُ السَّلفِ والأئمَّة لَهَا- أي البدعة-، وصَاحوا بأهلهَا مِنْ أَقطار الأرضِ، وحَذَّروا فِتْنَتَهُمْ أَشدَّ التَّحذير، وبَالغوا في ذلك ما لَمْ يُبَالِغُوا مثله فِي إنكار الفَواحشِ، وَالظُّلم، والعُدوان؛ إذْ مَضرَّةُ البِدَعِ، وَهَدْمِهَا للدِّينِ، وَمنافاتها لَه أَشدّ".

وقال في (هداية الحيارى)(ص 10):" مِنْ حقِّ الله على عبادهِ رد الطَّاعنينَ على كتابهِ ورسولهِ،ودينهِ، ومجاهدتهم بالحجَّةِ والبيان، والسَّيفِ والسِّنان، والقلبِ والجنان، وليس وراء ذلك حبَّة خردل من إيمان".

5/ عَقدَ العَلاَّمة ابنُ مفلح في (الآداب الشَّرعية)(1/230) فَصْلاً فقالَ:" فَصْلٌ: في وُجُوبِ إبْطَالِ البِدَعِ الْمُضِلَّةِ، وَإقَامَةِ الْحُجَّة عَلى بُطْلانِهَا".
ثُم قالَ:" قالَ في (نِهَاية المبتدئين): ويَجِبُ إنكارُ البدعِ المضلَّة، وإقامة الحجَّة على إبطالها، سواءٌ قَبِلَها قائلها أو ردَّها، ومَنْ قدر على إنهاءِ المنكر إلى السُّلطان أنهاهُ، وإنْ خَافَ فوتهُ قبل إنهائهِ أنكرهُ هُو".
لعلَّ فيما سبق منَ هذا التَّمهيد يتَّضحُ لنا أهميَّة الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ.
فالله أسأل التوفيق والسداد للجميع، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم.

وكتب
عبدالله بن عبدالرحيم البخاري- كان الله له-
المدينة النبوية
في 16/ ذي الحجة/ 1429هـ
(يتبعه في حلقة أخرى -بحول الله- الكلام عن جملة من ثمار الرَّد على المخالف)
[/FONT]
كيف نعرفهم و هم يتحدثون بالقران و ما هي اقوالهم و افعالهم
جزاكم الله خيرا
 
@ابو ليث شكرا أخي لكن التساؤل هو التالي
كنت بصدد البحث عن مسألة و الله احترت و تركت الأمر من أساسه
لأن وجدت كلمات غير لائقة من طرف عالم عن عالم آخر
فالجرح و التعديل مطلب مهم لمعرفة معاني الآيات و السنة الصحيحة
و كيف سار السلف الصالح
لكن ان نجد كلام قبيح هذا امر لا يعجبني فالنبي صلى الله عليه و سلم لم يكن فحاشا
امر آخر و هو ما حيرني أكثر وجدت ان عالم جليل كالألباني رحمه الله و نحوه
يتكلم عن فلان كلام عقلاني و ليس فيه ظلم و تجد عالما آخر يتحدث عن نفس الاسم
بعبارات لو ندقق فيها لوجدناه اخرجه من أهل السنة و الجماعة
بل و الأخطر تجد عالم يقول ان تلك الفرقة فيها و عليها و هم من أهل السنة
و تجد آخر يقول لك هم خوارج
يعني متاهة
 
@ابو ليث شكرا أخي لكن التساؤل هو التالي
كنت بصدد البحث عن مسألة و الله احترت و تركت الأمر من أساسه
لأن وجدت كلمات غير لائقة من طرف عالم عن عالم آخر
فالجرح و التعديل مطلب مهم لمعرفة معاني الآيات و السنة الصحيحة
و كيف سار السلف الصالح
لكن ان نجد كلام قبيح هذا امر لا يعجبني فالنبي صلى الله عليه و سلم لم يكن فحاشا
امر آخر و هو ما حيرني أكثر وجدت ان عالم جليل كالألباني رحمه الله و نحوه
يتكلم عن فلان كلام عقلاني و ليس فيه ظلم و تجد عالما آخر يتحدث عن نفس الاسم
بعبارات لو ندقق فيها لوجدناه اخرجه من أهل السنة و الجماعة
بل و الأخطر تجد عالم يقول ان تلك الفرقة فيها و عليها و هم من أهل السنة
و تجد آخر يقول لك هم خوارج
يعني متاهة
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
هذا استفسار حق لك أجيبك عنه، فبجوابي لك سأجيب أكثر الاخوة الذين يعرض لهم هذا الإشكال.
تأمل معي أخي أولا و جيدا لهذا المقال النافع و الماتع .
المقال:

يتصوّر بعض الناس أن الرفق واللين هو الذي يجب أن يسود التعامل بين الناس عموما
بين الداعـي والمدعـو
بين المُـنـكِـر وصاحب المُـنـكَـر

وتسمع العتب على من اشـتـدّ في النَّـكير !
أو اللوم على من أغلظ في القول – ولو كان لمرة واحدة –

فيقولون :
" إن منكم مُنفِّرين " ... لا تنفِّـروا الناس !
ويستدلّون بـ ( أدْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) ويكتفون بهذا القدر من الآية !
ومنهم من يستدل بقول الله عز وجل لموسى مع فرعون ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )

والحقيقة أن هذا خطأ في الاستدلال ، وقصور في التّـصوّر .

فلكل مقام مقال
ولكل حالة لباس

فالبس لكل حالة لبوسها *** إما نعيمها وإما بؤسها


فلا تصلح الشدّة في موضع الرفق واللين
ولا يصلح اللين في موضع الشدة والقوة

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مُضِرٌّ كوضع السيف في موضع الندى


أما استدلالهم بالآية ( أدْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) فإن الله سبحانه وتعالى ختمها بقوله :
( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )
ثم قال سبحانه : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ )

قال ابن القيم – رحمه الله – :
جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق ؛ فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يُدعى بطريق الحكمة ، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يُدعى بالموعظة الحسنة ، وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة ، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن . هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية .
وقال أيضا : وأما المعارضون المَدْعُوّون للحق فنوعان :
نوع يُدعون بالمجادلة بالتي هي أحسن ، فإن استجابوا ، وإلا فالمجالدة ، فهؤلاء لا بُـدّ لهم من جدال أو جلاد . انتهى .


وأما الاستدلال بقول الله عز وجل لموسى وهارون : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )

فنقول : كيف فهم موسى عليه الصلاة والسلام هذا الأمر ؟
هل فهمه على القول الليِّن مُطلقاً ، وعلى الرخاوة عموماً ؟
هذا ما لم يفهمه موسى عليه الصلاة والسلام بدليل أنه أغلظ لفرعون في موطن الشدة والقوة
فلما قال له فرعون : ( إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا )
ردّ عليه موسى بقوّة فقال : ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا )

مَثْبُورًا ؟
نعـم !
هالكاً مدحورا مغلوبا !

وهذا مثله مثل الاستدلال بقول الله تبارك وتعالى لِنبيِّـه صلى الله عليه على آله وسلم : ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ )

وسوف أستعرض معكم بعض المواقف التي فيها شِدّة وقوّة في الإنكار ، ولا تعارض بينها وبين هذه الآية ، كما لا تعارض بين أمر موسى – عليه الصلاة والسلام – بالقول الليّن ، وبين شدّته على فرعون وقوّة لفظه وجزالة خطابه معه .

وهذه بعض المواقف من حياته صلى الله عليه على آله وسلم

والشدّة تكون مع الكافر وتكون مع المسلم .
الموقف الأول:
اجتمع أشراف قريش يوما في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط ! سفّـه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا . لقد صبرنا منه على أمر عظيم . فبينما هم كذلك إذا طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ، ثم مرّ بهم طائفا بالبيت ، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول قال عبد الله بن عمرو : فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مضى ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فقال : تسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح . فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ! حتى إن أشدهم فيه وَصَاة قبل ذلك ليرفأه بأحسن ما يجد من القول ، حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، انصرف راشداً ، فو الله ما كنت جهولا ! قال : فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد بإسناد حسن .

أليست هـذه شِـدّة وغِلظـة ؟
ولو قيلت اليوم لكافر لعُـدّ ذلك من الغِلظة والتنفير !
الموقف الثاني :
ومن أشد ما رأيت مواقف الصحابة يوم الحديبيبة مع أنهم ليسوا في موقف قوة ، ولكن ردودهم وأقوالهم كانت هي القويّـة .
في يوم الحديبية أرسلت قريش رُسلها لمفاوضة النبي صلى الله عليه على آله وسلم ، فلم تُفلح تلك الجهود قام عروة بن مسعود الثقفي – وكان مشركا - فقال : أي قوم ! ألستم بالوالد ؟
قالوا : بلى .
قال : أوَ لست بالولد ؟
قالوا : بلى .
قال : فهل تتهمونني ؟
قالوا : لا .
قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلّحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟
قالوا : بلى .
قال : فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه .
قالوا : ائته ، فأتاه فجعل يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لِبُدَيْل ، فقال عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يَفِرُّوا ويدعوك !
فقال له أبو بكر : امصص ببظر اللات ! أنحن نفرّ عنه وندعه ؟
فقال عروة : من ذا ؟
قالوا : أبو بكر .
قال عروة : أما والذي نفسي بيده لولا يَـدٌ كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك .
وجعل عروة يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بِنَعْـلِ السيف ، وقال له : أخِّـرْ يَدَكَ عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟
قالوا : المغيرة بن شعبة .
فقال : أي غدر ! ألست أسعى في غدرتك ؟
وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء . ثم إن عروة جعل يرمق أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه .
.....
فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم والله لقد وَفَدْتُ على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملِكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فَدَلَكَ بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ... الحديث . رواه البخاري .

أليست هـذه أيضا شِـدّة وغِلظـة وقـوّة ؟
ولو قيلت اليوم لكافر لعُـدّ ذلك من الغِلظة والتنفير !

ومع هذه الشِّدة رجع إلى قومه بهذه الصورة المشرقة التي نقلها بكل صدق وأمانة لقومه ، وعرض عليهم ما عَرَضَه عليه رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم .

كان هذا مع أئمة الكفر
فماذا كان مع أئمة النفاق ؟!

لما كان في غزوة تبوك قال النبي صلى الله عليه على آله وسلم : إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يُضحي النهار ، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئا حتى آتي . فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشراك تَـبِـضّ بشيء من ماء . قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل مسستما من مائها شيئا ؟ قالا : نعم . فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول . رواه مسلم .

يحتاج المُعاند إلى أن يُعامل بشيء من الشدة والغلظة .

وروى مسلم عن سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله ، فقال : كُـلْ بيمينك . قال : لا أستطيع ! قال : لا استطعت . ما منعه إلا الكبر . قال : فما رفعها إلى فيه .
فقوله : لا استطعت . من باب الدعاء عليه .
فما فعها إلى فيه : أي ما رفع يده إلى فمِـه .

أليست هذه شِـدّة في الإنكار ؟

وثمة مواقف أُخـر ظهرت فيها الشِّـدّة في التعامل مما يدلّ على أن الرفق واللين ليس هو التعامل السائد أو الحل الدائم .

حَـدّث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى حفصة ابنة عمر رجلاً فقال : احتفظي به . قال : فَغَفَـلَـتْ حفصة ، ومضى الرجل ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا حفصة ما فعل الرجل ؟ قالت : غفلت عنه يا رسول الله فخرج . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قطع الله يدك . فَرَفَـعَـتْ يديها هكذا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما شأنك يا حفصة ؟ فقالت : يا رسول الله قلت قبل لي كذا وكذا ! فقال لها : ضعي يديك ، فإني سألت الله عز وجل أيما إنسان من أمتي دعوت الله عليه أن يجعلها له مغفرة . رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح .

وروى البيهقي مثل هذه القصة وأنها قعت لعائشة – رضي الله عنها –

والرجل المدفوع إلى حفصة – رضي الله عنها – إما كان أسيراً أو محبوساً ولم يكن له قيد .

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل ، فنزعه فطرحه ، وقال :يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده . فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم : خُـذ خاتمك انتفع به . قال : لا والله لا آخذه أبدا ، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والنّـزع يدل على الشِّـدّة .

وعلى هذا سـار أصحاب النبي صلى الله عليه على آله وسلم في التعامل بقوّة وشِـدّة فيما يحتاج إلى الشدّة .

روى مسلم عن عمارة بن رؤيبة – رضي الله عنه – أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال : قـبّـح الله هاتين اليدين ! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بإصبعه المسبحة .

وكان حذيفة بالمدائن فاستسقى ، فأتاه دهقان بقدح فضة ، فرماه به ، ثم قال : إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال : هن لهم في الدنيا ، وهي لكم في الآخرة . متفق عليه .

وهذا عبد الله بن عمر يُحدّث فيقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنوكم إليها .
فقال بلال بن عبد الله بن عمر : والله لنمنعهن !
قال سالم بن عبد الله بن عمر : فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبّـاً سيئا ما سمعته سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : والله لنمنعهن ؟! متفق عليه .

ما رأيكم :
لو جاء مُدخِّـن تفوح منه روائح التدخين
أو جاء عامل ملابسه كلها زيوت أو دهانات

فأمسك بهم إمام المسجد أو المُحتَسِب ( رجل الهيئة ) ثم طردوا عن المسجد أو من المسجد !

ماذا يكون موقف المُشاهِد لذلك الموقف ؟؟؟

سيقول :
ما بالكم تُنفِّرون الناس !
إن منكم مُنفّرين
تعاملوا بلطف !
لا تُضيّـقوا على عباد الله !
ما كان الرفق في شيء إلا زانه .
وربما تلا الآية ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ )

لكن هذا الفعل أو التصرف هو ما كان يحدث في زمن النبي صلى الله عليه على آله وسلم .

قال عمر – رضي الله عنه – : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخا . رواه مسلم .
يعني البصل والثوم .

قال بعض أهل العلم : وإنما يُخرجون إلى البقيع لأنه جهة المقبرة ، والموتى لا يتأذّون بتلك الروائح !

وينبغي التفريق في التعامل بين الجاهل الذي يحتاج إلى تعليم ، وبين المُعاند .
ويدلّ على ذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه – ، وهو في صحيح مسلم .
والحديث مع شيء من فوائده طرحته في أحد المنتديات ، وقد وضعته على هذا الرابط خشية الإطالة أكثر مما أطلت .
فالحديث بتمامه وفوائده هنا :

حديث معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه –

وما هذه إلا أمثلة لم أُرِد بها الحصـر .

كتبه
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top