(موضوع متجدد) تدبر القرآن: العبادة المنسية بين اجتهاد السلف وتقصير الخلف.

ابو ليث

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
8 جانفي 2010
المشاركات
10,466
نقاط التفاعل
10,283
النقاط
356
محل الإقامة
الجزائر

الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:

فإن من العبادات المنسية المهجورة والقربات النافعة المشهورة تدبر كلام الله عز وجل وفهم معانيه و فك مبانيه واستخراج درره و التزين بجواهره ولذلك وردت الآيات القرآنية والآثار السلفية منوهة بفضلها ومشيرة لمكانتها ومنزلتها.

قال الله تعالى:

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء :82

قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله:

يأمر تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم، ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته. فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال; وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب. وكلما ازداد العبد تأملا فيه ازداد علما وعملا وبصيرة، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه [هو] المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } وقال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا، فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلاً.

قال جل و علا:

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد : 24]

قال العلامة المفسر السعدي رحمه الله:

أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله، ويتأملونه حق التأمل، فإنهم لو تدبروه، لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر، ولعرفهم بربهم، وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل.

و إن من فضل الله على عبده وكرمه على خلقه و إرادته به الخير أن يرزقه بصيرة تفتح له أبواب ما وعد الله به عباده المتقين فينطلق لفعل الخيرات و تكشف له ما توعد الله به العصاة والمجرمين فيحجم عن ارتكاب المنكرات.

و قد أخرج الطبري رحمه الله في تفسيره بسنده عن خالد بن معدان قال:

ما من الناس من أحد إلا وله أربع أعين، عينان في وجهه لمعيشته وعينان في قلبه وما من أحد إلا وله شيطان متبطن فقار ظهره عاطف عنقه على عنقه فاغر فاه الى ثمرة قلبه فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه ما وعد الله من الغيب فعمل به وهما غيب فعمل بالغيب وإذا أراد الله بعبد شرا تركه ثم قرأ قوله تعالى: أم على قلوب أقفالها.

ومما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بيانا لقيامه عليه الصلاة والسلام بهذه العبادة الجليلة ما ذكره الألباني رحمه الله في أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم 536/2 أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلةً من الليالي في صلاةِ العشاءِ ، فصلَّى بالقومِ ، ثمَّ تخلفَ أصحابٌ له يصلُّون ، فلمَّا رأَى قيامَهم وتخلُّفَهم ، انصرف إلى رَحلهِ ، فلمَّا رأَى القومَ قد أخلَوا المكانَ ، رجع إلى مكانهِ ، فصلَّى ، فجئتُ فقمتُ خلفَهُ ، فأومأ إليَّ بيمينهِ ، فقمتُ عن يمينهِ ثمَّ جاء ابنُ مسعودٍ فقام خلفي وخلفهُ فأومَأَ إليه بشِمالهِ فقام عن شمالهِ فقُمنا ثلاثتُنا يصلِّي كلُّ رجلٍ منَّا لنفسهِ ويتلو من القرآنِ ما شاء اللهُ أنْ يتلوَ ، فقام بآيةٍ من القرآنِ يردِّدُها حتَّى صلاةِ الغداةِ ، فبعد أنْ أصبحْنا أومأتُ إلى عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ أنْ سَلْهُ ما أراد إلى ما صنع البارحةَ ، فقال ابنُ مسعودٍ بيدهِ : لا أسألُهُ عن شيءٍ حتَّى يحدِّثَ إليَّ . فقلتُ : بأبي أنتَ وأمي قمتَ بآيةٍ من القرآنِ ومعك القرآنُ ، لو فعل هذا بعضُنا وَجدنا عليه ، قال : دعوتُ لأمَّتي ، قال : فماذا أُجبتَ ؟ أو ماذا رُدَّ عليك ؟ قال : أُجبتُ بالذي لو اطلع عليه كثيرٌ منهم طلعةً تركوا الصلاةَ ، قال : أفلا أبشِّرِ الناسَ ؟ قال : بلَى ، فانطلقتُ معنقًا قريبًا من قذفةٍ بحجرٍ . فقال عمرُ : يا رسولَ اللهِ إنك إنْ تبعثَ إلى الناسِ بهذا نكلوا عن العبادةِ فنادَى أنِ ارجعْ فرجع ، وتلكَ الآيةُ { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

و من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال : شيبتني هود و أخواتها : سورة الواقعة وسورة القيامة والمرسلات وإذا الشمس كورت وإذا السماء انشقت واذا السماء انفطرت.صحيح الجامع 3722.

ولتستمع أخي الكريم الى الوعيد الشَّديد الَّذي توعَّد به رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من يقرأ القرآن ولا يتفكَّر في آياته.

فعن عطاء قال: «دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا؟! فقال: أقول يا أُمَّهْ! كما قال الأوَّل: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا، قال: فقالت: دَعُونا من رَطانتِكم هذه، قال ابن عمير: أخبِرينا بأعجب شيءٍ رأيتِه من رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، قال: فسكتت، ثمَّ قالت: لما كان ليلة مِن اللَّيالي، قال: «يَا عَائِشَةُ! ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلةَ لرَبِّي» ، قلت: والله إنِّي لأحبُّ قربَك وأحبُّ ما سَرَّكَ، قالت: فقام فتطهَّر، ثمَّ قام يصلِّي، قالت: فلم يزل يبكي حتَّى بلَّ حِجرَه، قالت: ثمَّ بكى، فلم يزل يبكِي حتَّى بلَّ لحيَتَه، قالت: ثمَّ بكى، فلم يزل يبكِي حتَّى بلَّ الأرض، فجاء بلال يُؤْذِنه بالصَّلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! لِمَ تبكي وقد غفر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ الآية»(6).

«الصحيحة» (1/106).

❒ قال الإمام الحافظ ابن القيّم - رحمه الله تعالى -

" فَلَو علم النَّاس مَا فِي قِرَاءَة الْقُرْآن بالتدبر لاشتغلوا بهَا عَن كل مَا سواهَا ، فَإِذا قَرَأَهُ بتفكر حَتَّى مر بِآيَة وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهَا فِي شِفَاء قلبه كررها وَلَو مائَة مرّة وَلَو لَيْلَة ، فقراءة آيَة بتفكر وتفهم خير من قِرَاءَة ختمة بِغَيْر تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى الى حُصُول الايمان وذوق حلاوة الْقُرْآن ، وَهَذِه كَانَت عَادَة السّلف يردد أحدهم الآية إلى الصَّباح وَقد ثَبت عَن النَّبِي ﷺ أنه قَامَ بِآيَة يُرَدِّدهَا حَتَّى الصَّباح وَهِي قَوْله :﴿إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ ، فقراءة الْقُرْآن بالتفكر هِيَ أصل صَلَاح الْقلب " اﻫـ .
• انظر : (مفتاح دار السعادة) ( ١٨٧/١ ) .

وانظر رحمك الله الى تفكر أهل العلم الربانيين في معاني كتاب الله وغوصهم في أعماقه وتقييد فوائده وأسراره و جمع درره والاستضاءة بأنواره.

قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى :

“فإن قلت: … كيف تدبر القرآن وتفهمه والإشراف على عجائبه وكنوزه؟ وهذه تفاسير الأئمة بأيدينا، فهل في البيان غير ما ذكروه؟ قلت: سأضرب لك أمثالاً تحتذي عليها وتجعلها إماماً لك في هذا المقصد:
قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} .

فعهدى بك إذا قرأت هذه الآية وتطلعت إلى معناها وتدبرتها فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة الأضياف يأكلون ويشربون وبشروه بغلام عليم، وإنما امرأته عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك. ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك.
• فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من أنواع الأسرار.
• وكم قد تضمنت من الثناء على إبراهيم
• وكيف جمعت الضيافة وحقوقها
• وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة
• وكيف تضمنت علما عظيماً من أعلام النبوة
• وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي ردها إلى العلم والحكمة
• وكيف تضمنت الأخبار عن عدل الرب وانتقامه من الأمم المكذبة
• وتضمنت ذكر الإسلام والإيمان والفرق بينهما
• وتضمنت بقاء آيات الرب الدالة على توحيده وصدق رسله وعلى اليوم الآخر
• وتضمنت انه لا ينتفع بهذا كله إلا من في قلبه خوف من عذاب الآخرة وهم المؤمنون بها
• وأما من لا يخاف الآخرة ولا يؤمن بها فلا ينتفع بتلك الآيات.
الرسالة التبوكية.


و دونك أخي القارئ اللبيب باقة من الآثار السلفية والأخبار المرضية من سلفنا الصالح الذين كان لهم قدم السبق و ضربوا أروع الامثلة في تدبرهم لكتاب ربهم وتفكرهم في رسائل مولاهم.

فعن سلم الخواص قال :
قلت لنفسي: يا نفسي اقرئي القرآن كأنك سمعتيه من الله حين تكلميه فجاءت الحلاوة.
سير أعلام النبلاء 180/8.

عن الأعمش قال:
كان يحيى بن وثاب من احسن الناس قراءة ، ربما اشتهيت أن أقبل رأسه من حسن قراءته، وكان إذا قرأ لا تسمع في المسجد حركة، كأن ليس في المسجد أحد.
381/4 سير أعلام النبلاء.

وعن إسحاق بن إبراهيم الطبري قال:
ما رأيت أحدا أخوف على نفسه ولا أرجى من الفضيل، كانت قراءته حزينة شهية بطيئة مترسلة، كأنه يخاطب إنسانا.
428/8 سير أعلام النبلاء

قال ثابت البناني رحمه الله: كابدت القرآن عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة.قوت القلوب 92/1.

قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: إني لأقرأ الآية فأقيم فيها أربع ليال-و ذكر خمس ليال-ولولا أني أقطع الفكر فيها لما جاوزتها إلى غيرها.التبصرة 381.

وقال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله: إني لأقرأ القرآن و أنظر في آية فيحير عقلي بها، وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيئ من الدنيا وهم يتلون كتاب الله، وأما إنهم لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحا بما قد رزقوا.لطائف المعارف 173.

قال ابن عباس رضي الله عنه: لأن أقرأ في ليلة سورة أتدبرها أحب إلي من أن أقرأ القرآن.فضائل القرآن للمستغفري 161/1.

وقال مطرف بن عبدالله الشخير رحمه الله: إني لأستلقي في الليل على فراشي فأتدبر القرآن ، وأعرض عملي على عمل أهل الجنة فإذا أعمالهم شديدة : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (الذاريات 17) يبيتون لربهم سجدا وقياما (الفرقان 64) أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما (الزمر 9) فلا أراني فيهم فأعرض نفسي على هذه الآية : ما سلككم في سقر (المدثر 43) فأرى القوم مكذبين ، و أمر بهذه الآية : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا (التوبة 102) فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم. حلية الأولياء 198/2.

قال أحد السلف: لي في كل جمعة ختمة، و في كل شهر ختمة، وفي كل سنة ختمة، ولي حتمة منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد -يعني ختمة التفهم-.التبصرة 381.

وقال بعضهم: إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر وما قضيت منها وطري. قوت القلوب 86/1.

وكان بعضهم يقول : كل آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لا أعد لها ثوابا.قوت القلوب 87/1.

و ذكر الذهبي رحمه الله في السير 18/514 أن شيخ الاسلام أبا اسماعيل الهروي رحمه الله عقد على تفسير قوله تعالى " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى" ثلاثمئة وستين مجلسا.

و كان أبو العباس بن عطاء يختم القرآن كثيرا، إلا أنه جعل له ختمة يستنبط منها معاني القرآن، ف-بقي بضع عشرة سنة، فمات قبل أن يختمها.حلية الأولياء 10/302.

قال ابن تيمية رحمه الله: ما رأيت شيئا يغذي العقل والروح ويحفظ الجسم ويضمن السعادة أكثر من إدامة النظر في كتاب الله عز وجل. مجموع الفتاوى 493/7

وغير بعيد عن سير سلفنا الأولين حتى لا يقولن قائل ويظنن ظان أن للزمان تأثيرا كليا في مثل هذه الفتوحات ولتغير الأحوال سببا في زوال تلكم البركات نجد علماؤنا المتأخرين سلكوا مسلك أسلافهم مشوا على منهجهم ومنوالهم، فهذا العلامة ابن عثيمين رحمه الله يحكي عن شيخه العلامة ابن سعدي رحمه الله خبرا عجيبا- وهو الذي كان سببا في كتابة هانه الكلمات لعل الله ينفعنا بها في شهر الخير والبركات-فقال رحمه الله:

وكان بعض أهل العلم في رمضان وهو في وقت تلاوة القرآن يجعل معه دفترًا خاصًا ، كلما قرأ شيئًا واستوقفته آية من كتاب الله فيها معانٍ كثيرة أو ما أشبه ذلك قيَّدها بالدفتر ، فلا يخرج رمضان إلا وقد حصل خيرًا كثيرًا من معاني القرآن الكريم .

ولقد رأيتُ كُتيبًا صغيرًا للشيخ عبدالرحمن السعدي –رحمه الله – يقول : إنه كتبه في رمضان وهو يقرأ القرآن ، تمر به آية فيقف عندها، ويتدبرها ، ويكتب عليها فوائد لا تجدها في أي تفسير .
الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية – للإمام ابن القيم ، شرح العلامة محمد بن صالح العثيمين ( ١/ ٥٠٣- ٥٠٤) ]

وقد رأيت من حال الشيخ عبدالرزاق البدر حفظه الله العجب العجاب في ذلك فكان حفظه الله اذا قضى حلقته بعد العصر في رمضان انصرف يمشي بسكينة ووقار الى صفرته فإذا استقر به المجلس أجاب عن بعض الأسئلة ثم إنه بمجرد فتحه للمصحف وشروعه في القراءة كأن الله ألقى عليه سكينة عجيبة جتى أنك تهاب أن تسأله وهو يقرأ وقد حدثني أخي الكبير-سنا وقدرا و مكانة - طارق سماحي حفظه الله وسدد خطاه أنه رأى الشيخ عبدالرزاق وهو على تلك الحال فإذا استوقفته آية أمسك بأصبعه السبابة ووضعها على الآية التي استوقفته وحركها يمنة ويسرة متدبرا لمعناها مكررا ذلك لمدة طويلة فلله دره جفظه الله.

قال الدكتور عبدالكريم الخضير غفر الله له:
عهدنا شيوخنا وهم يقرؤون سورة هود لهم وضع آخر، المساجد تمتلئ وهم لا يسمعون الصوت، بدون مكبرات، لكن يسمعون البكاء والتأثر والله المستعان.

ولعلي أتجوز في ذكر تفريط الخلف في هذا الباب لكي لا أفسد على القارئ ما تصور في ذهنه من النماذج المضيئة من حال سلفنا رحمهم الله و لعلم عامة الناس بما أحدثه الجهلة في دين الله من بدع وضلالات ومحدثات في كتاب الله حتى صار عند الكثير منهم كلاما لا يتجاوز الحناجر والسطور ولا يجد طريقه الى القلوب والصدور فمنهم من اتخذه وردا بدعيا بكرة وعشيا وبعضهم غلا في تعلم أحكام التجويد جتى أخرجه الى التنطع بالقراءة والوسوسة في مخارج الحروف, بمعنى التعسف, والإِسراف خروجاً عن القراءة بسهولة, واستقامة, كما قال تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾ وقوله سبحانه: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾. وعن إعطاء الحروف حقها من الصفات والأحكام, إلى تجويد متكلف. وفي الحديث: ((من أراد أن يقرأ القرآن رطباً . . . )) الحديث. أي: ليناً لا شدة في صوت قارئه.
بدع القراء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية :

(( ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن إما بالوسوسة فى خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه وكذلك شغل النطق ب أأنذرتهم وضم الميم من عليهم ووصلها بالواو وكسر الهاء أو ضمها ونحو ذلك وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت. مجموع الفتاوى (16\50) .

والآخر اشتغل بجمع شواذ القراءات وأهمل الاعتناء بالفرائض والواجبات.

قال ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس ابليس:

ذكر تلبيسه على القراء, فمن ذلك أن أحدهم يشتغل بالقراءات الشاذة وتحصيلها فيفني أكثر عمره في جمعها, وتصنيفها والإِقراء بها ويشغله ذلك عن معرفة الفرائض والواجبات, فربما رأيت إمام مسجد يتصدى للإِقراء ولا يعرف ما يفسد الصلاة, وربما حمله حب التصدر حتى لا يرى بعين الجهل, على أن يجلس بين يدي العلماء ويأخذ عنهم العلم, ولو تفكروا لعلموا أن المراد حفظ القرآن وتقويم ألفاظه ثم فهمه ثم العمل به ثم الإِقبال على ما يصلح النفس ويطهر أخلاقها ثم التشاغل بالمهم من علوم الشرع. ومن الغبن الفاحش تضييع الزمان فيما غيره الأهم.

ولعل من المناسب فرحا بقدوم شهر رمضان واستبشارا به وعملا بما كان يعمله العلامة السعدي رحمه الله كما جاء في الخبر الذي نقله ابن عثيمين رحمه الله أحببت أن أنقل بعض الدرر التفسيرية والفوائد القرآنية التي وقفت عليها أثناء قرائتي لكتاب الله لعلنا ننتفع بها يوم القيامة ونسأل الله جل في علاه أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه.
 
آية وتفسير :

قال ابن كثير رحمه الله:

فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة : 37]
قيل : إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى : ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) [ الأعراف : 23 ] روي هذا عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب القرظي ، وخالد بن معدان ، وعطاء الخراساني ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن رجل من بني تميم ، قال : أتيت ابن عباس ، فسألته : [ قلت ] : ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه ؟ قال : علم [ آدم ] شأن الحج .

وقال سفيان الثوري ، عن عبد العزيز بن رفيع ، أخبرني من سمع عبيد بن عمير ، وفي رواية : [ قال ] : أخبرني مجاهد ، عن عبيد بن عمير ، أنه قال : قال آدم : يا رب ، خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني ، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال : بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك . قال : فكما كتبته علي فاغفر لي . قال : فذلك قوله تعالى : ( فتلقى آدم من ربه كلمات )

وقال السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : فتلقى آدم من ربه كلمات ، قال : قال آدم ، عليه السلام : يا رب ، ألم تخلقني بيدك ؟ قيل له : بلى . ونفخت في من روحك ؟ قيل له : بلى . وعطست فقلت : يرحمك الله ، وسبقت رحمتك غضبك ؟ قيل له : بلى ، وكتبت علي أن أعمل هذا ؟ قيل له : بلى . قال : أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ قال : نعم .

وهكذا رواه العوفي ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن معبد ، عن ابن عباس ، بنحوه . ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وقال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه وهكذا فسره السدي وعطية العوفي .

وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا شبيها بهذا فقال : حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا علي بن عاصم ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال آدم ، عليه السلام : أرأيت يا رب إن تبت ورجعت ، أعائدي إلى الجنة ؟ قال : نعم . فذلك قوله : ( فتلقى آدم من ربه كلمات ) .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله تعالى : ( فتلقى آدم من ربه كلمات ) قال : إن آدم لما أصاب الخطيئة قال : يا رب ، أرأيت إن تبت وأصلحت ؟ قال الله : إذن أرجعك إلى الجنة فهي من الكلمات . ومن الكلمات أيضا : ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) [ الأعراف : 23 ] .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى : ( فتلقى آدم من ربه كلمات ) قال : الكلمات : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، إنك خير الغافرين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فارحمني ، إنك خير الراحمين . اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فتب علي ، إنك أنت التواب الرحيم .

وقوله تعالى : ( إنه هو التواب الرحيم ) أي : إنه يتوب على من تاب إليه وأناب ، كقوله : ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ) [ التوبة : 104 ] وقوله : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) [ النساء : 11 ] ، وقوله : ( ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ) [ الفرقان : 71 ] وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده ، لا إله إلا هو التواب الرحيم .

وذكرنا في المسند الكبير من طريق سليمان بن سليم عن ابن بريدة وهو سليمان عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما أهبط الله آدم إلى الأرض طاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين ، ثم قال : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي ، فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما عندي فاغفر ذنوبي ، أسألك إيمانا يباشر قلبي ، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي . قال فأوحى الله إليه إنك قد دعوتني بدعاء أستجيب لك فيه ولمن يدعوني به ، وفرجت همومه وغمومه ، ونزعت فقره من بين عينيه ، وأجرت له من وراء كل تاجر زينة الدنيا وهي كلمات عهد وإن لم يزدها رواه الطبراني في معجمه الكبير.
 
هذه ثمان خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة .

قال الله تعالى:

{۞ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد : 19] {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد : 20] {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد : 21] {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد : 22] {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ} [الرعد : 23]

قال البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآيات:

قال عبدالله بن المبارك رحمه الله:

هذه ثمان خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة.
 

آية وتفسير:

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد : 31]

قال ابن كثير رحمه الله:

يقول تعالى مادحا للقرآن الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - ومفضلا له على سائر الكتب المنزلة قبله : ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ) أي : لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها ، أو تقطع به الأرض وتنشق أو تكلم به الموتى في قبورها ، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره ، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك.

آية وتفسير:

قال السعدي رحمه الله تعالى:

۞ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ [يونس : 71]
يقول تعالى لنبيه‏:‏ واتل على قومك ‏{‏نَبَأَ نُوحٍ‏}‏ في دعوته لقومه، حين دعاهم إلى الله مدة طويلة، فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، فلم يزدهم دعاؤه إياهم إلا طغيانًا، فتمللوا منه وسئموا، وهو عليه الصلاة والسلام غير متكاسل، ولا متوان في دعوتهم، فقال لهم‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ إن كان مقامي عندكم، وتذكيري إياكم ما ينفعكم ‏{‏بِآيَاتِ اللَّهِ‏}‏ الأدلة الواضحة البينة، قد شق عليكم وعظم لديكم، وأردتم أن تنالوني بسوء أو تردوا الحق‏.‏ ‏{‏فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ أي‏:‏ اعتمدت على الله، في دفع كل شر يراد بي، وبما أدعو إليه، فهذا جندي، وعدتي‏.‏ وأنتم، فأتوا بما قدرتم عليه، من أنواع العَدَدَ والعُددَ‏.‏

‏{‏فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ‏}‏ كلكم، بحيث لا يتخلف منكم أحد، ولا تدخروا من مجهودكم شيئًا‏.‏

‏{‏و‏}‏ أحضروا ‏{‏شُرَكَاءَكُمْ‏}‏ الذي كنتم تعبدونهم وتوالونهم من دون الله رب العالمين‏.‏

‏{‏ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً‏}‏ أي‏:‏ مشتبهًا خفيًا، بل ليكن ذلك ظاهرًا علانية‏.‏

‏{‏ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ‏}‏ أي‏:‏ اقضوا علي بالعقوبة والسوء، الذي في إمكانكم، ‏{‏وَلَا تُنْظِرُونِ‏}‏ أي‏:‏ لا تمهلوني ساعة من نهار‏.‏ فهذا برهان قاطع، وآية عظيمة على صحة رسالته، وصدق ما جاء به، حيث كان وحده لا عشيرة تحميه، ولا جنود تؤويه‏.‏

وقد بادأ قومه بتسفيه آرائهم، وفساد دينهم، وعيب آلهتهم‏.‏ وقد حملوا من بغضه، وعداوته ما هو أعظم من الجبال الرواسي، وهم أهل القدرة والسطوة، وهو يقول لهم‏:‏ اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ومن استطعتم، وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد، فأوقعوا بي إن قدرتم على ذلك، فلم يقدروا على شيء من ذلك‏.‏

فعلم أنه الصادق حقًا، وهم الكاذبون فيما يدعون.





آية و تفسير:

قال الله عز وجل في سورة النعم سورة النحل:

ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون.

قال البغوي رحمه الله:


( ولكم فيها جمال ) زينة ، ( حين تريحون ) أي : حين تردونها بالعشي من مراعيها إلى مباركها التي تأوي إليها ، ( وحين تسرحون ) أي : تخرجونها بالغداة من مراحها إلى مسارحها ، وقدم الرواح لأن المنافع تؤخذ منها بعد الرواح ، ومالكها يكون أعجب بها إذا راحت.

قال ابن كثير رحمه الله:


وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة ولهذا قال : ( ولكم فيها جمال حين تريحون ) وهو وقت رجوعها عشيا من المرعى فإنها تكون أمده خواصر ، وأعظمه ضروعا ، وأعلاه أسنمة ، وحين تسرحون ) أي : غدوة حين تبعثونها إلى المرعى.

قال القرطبي رحمه الله:

ولأنها إذا راحت توفر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها ; لأنها إذ ذاك أعظم ما تكون أسنمة وضروعا ; قاله قتادة . ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درها وسرور النفس بها إذ ذاك . والله أعلم.

قال ابن عاشور رحمه الله:

والإراحة : فعل الرواح ، وهو الرجوع إلى المعاطن ، يقال : أراح نعمهُ إذا أعادها بعد السروح .

والسروح : الإسامة ، أي الغدُوّ بها إلى المراعي . يقال : سَرَحها بتخفيف الراء سَرحاً وسُروحاً ، وسرّحها بتشديد الراء تسريحاً .

وتقديم الإراحة على التسريح لأن الجمال عند الإراحة أقوى وأبهج ، لأنها تقبل حينئذٍ مَلأى البطون حافلة الضروع مَرحة بمسرّة الشبع ومحبّة الرجوع إلى منازلها من معاطن ومرابض .

والإتيان بالمضارع في { تريحون } و { تسرحون } لأن ذلك من الأحوال المتكررة . وفي تكررها تكرر النعمة بمناظرها .



آية وتفسير:

استنباط عجيب من عالم لبيب على فضل أهل العلم:

قال السعدي رحمه الله:

{ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ْ} أي: العلماء الربانيون { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ ْ} أي: يوم القيامة { وَالسُّوءَ ْ} أي: العذاب { عَلَى الْكَافِرِينَ ْ} وفي هذا فضيلة أهل العلم، وأنهم الناطقون بالحق في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأن لقولهم اعتبارا عند الله وعند خلقه.


آية و تفسير:

قال ابن كثير رحمه الله:

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [النحل : 71]
يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء ، وهم يعترفون أنها عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبياتهم في حجهم : " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك " . فقال تعالى منكرا عليهم : إنكم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم ، فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيده له في الإلهية والتعظيم ، كما قال في الآية الأخرى : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) الآية [ الروم : 28 ] .

قال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : يقول : لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ، فذلك قوله : ( أفبنعمة الله يجحدون )

وقال في الرواية الأخرى عنه : فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم .

وقال مجاهد في هذه الآية : هذا مثل للآلهة الباطلة .

وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله ، فهل منكم من أحد شارك مملوكه في زوجته وفي فراشه ، فتعدلون بالله خلقه وعباده ؟ فإن لم ترض لنفسك هذا ، فالله أحق أن ينزه منك .

وقوله : ( أفبنعمة الله يجحدون ) أي : أنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، فجحدوا نعمته وأشركوا معه غيره .

وعن الحسن البصري قال : كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري : واقنع برزقك من الدنيا ، فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق ، بل يبتلي به كلا ، فيبتلي من بسط له كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله . رواه ابن أبي حاتم.




آية وتفسير:

قال الله عز وجل:

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم : 7]

قال السعدي رحمه الله تعالى:

وهؤلاء الذين لا يعلمون أي: لا يعلمون بواطن الأشياء وعواقبها. وإنما { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فينظرون إلى الأسباب ويجزمون بوقوع الأمر الذي في رأيهم انعقدت أسباب وجوده ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية لوجوده شيئا، فهم واقفون مع الأسباب غير ناظرين إلى مسببها المتصرف فيها.

{ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } قد توجهت قلوبهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها وحطامها فعملت لها وسعت وأقبلت بها وأدبرت وغفلت عن الآخرة، فلا الجنة تشتاق إليها ولا النار تخافها وتخشاها ولا المقام بين يدي اللّه ولقائه يروعها ويزعجها وهذا علامة الشقاء وعنوان الغفلة عن الآخرة.

ومن العجب أن هذا القسم من الناس قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر يحير العقول ويدهش الألباب.

وأظهروا من العجائب الذرية والكهربائية والمراكب البرية والبحرية والهوائية ما فاقوا به وبرزوا وأعجبوا بعقولهم ورأوا غيرهم عاجزا عما أقدرهم اللّه عليه، فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء وهم مع ذلك أبلد الناس في أمر دينهم وأشدهم غفلة عن آخرتهم وأقلهم معرفة بالعواقب، قد رآهم أهل البصائر النافذة في جهلهم يتخبطون وفي ضلالهم يعمهون وفي باطلهم يترددون نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون.

ثم نظروا إلى ما أعطاهم اللّه وأقدرهم عليه من الأفكار الدقيقة في الدنيا وظاهرها و[ما] حرموا من العقل العالي فعرفوا أن الأمر للّه والحكم له في عباده وإن هو إلا توفيقه وخذلانه فخافوا ربهم وسألوه أن يتم لهم ما وهبهم من نور العقول والإيمان حتى يصلوا إليه، ويحلوا بساحته [وهذه الأمور لو قارنها الإيمان وبنيت عليه لأثمرت الرُّقِيَّ العالي والحياة الطيبة، ولكنها لما بني كثير منها على الإلحاد لم تثمر إلا هبوط الأخلاق وأسباب الفناء والتدمير]

قال البغوي رحمه الله تعالى:

( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ) يعني : أمر معاشهم ، كيف يكتسبون ويتجرون ، ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون ، وكيف يبنون ويعيشون ، قال الحسن : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ولا يخطئ وهو لا يحسن يصلي ( وهم عن الآخرة هم غافلون ) ساهون عنها جاهلون بها ، لا يتفكرون فيها ولا يعملون لها .
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top