راقتني الأسئلة، سأُشارك ..
كيف طوّرتُ نفسي فكريًا ونفسيًا ؟
لم يكن الأمر وليد يومٍ أو صدفة عابرة، بل كان رحلة طويلة من التهذيب الداخلي، رحلة كنتُ فيها المسافر والدليل والطريق
فكريًا، قررت أن أعيش بعقلٍ مفتوح لا يرضى بالسطحية، وأن أكون دائمًا باحثة عن المعنى خلف كل فكرة
كنتُ أقرأ لا لأملأ الرفوف بالكلمات، بل لأزرع في عقلي بساتين من الأسئلة
كل كتاب كان نافذة على عالم جديد، وكل فكرة كنت ألتقطها كحبة ضوء لأصنع بها قنديلي الخاص
أقرأ لأمتلك أدوات الفهم لا ليزداد رصيدي من الاقتباسات
أدوّن، أجادل، أُقارن، وأعود إلى النصّ أكثر من مرّة كأنني أعود إلى صديقةٍ قديمة أكتشف في ملامحها تفاصيل لم أنتبه إليها من قبل
كنتُ أُعيد تشكيلي على مهل، كما تفعل الشجرة حين تُبدِّل أوراقها موسمًا بعد موسم
تعلّمت أن أضع مسافةً صغيرة بيني وبين الأفكار، مسافةً تكفي لأرى الظلّ والضوء معًا
لا أتعجّل الحكم، ولا أُصادق الفكرة لأنّها تُصادف هواي .. أختبرها بالسؤال، وأمرّرها على غربال التجربة
أما نفسيًا، فقد علّمتني التجارب أن الهدوء ليس هدية من الخارج، بل هو صناعة داخلية
تعلّمت أن أستمع إلى نفسي قبل ضجيج الآخرين، وأن أحتوي حزني قبل أن يبتلعني
آمنت أن القوة الحقيقية ليست في غياب الألم، بل في القدرة على تحويله إلى طاقة تضيء الدرب
لم أعد أهرب من وحدتي، جعلتها صديقة، نجلس معًا تحت سقف الصمت ونتبادل الحكايا التي لا يفهمها أحد
وهكذا، تحوّلتُ من فتاة تخشى الانكسار إلى امرأة تعرف كيف تجعل من شظاياها لوحة من الضوء ..
تصالحتُ مع بطء الحياة .. تعلّمتُ أن الهدوء قرار- not حالة مفروضة - وأنّ الشجاعة ليست صخبًا بل أن تكملي الطريق وأنتِ خائفة
جعلتُ من وحدتي مساحةَ صيانةٍ للروح، أتنفّس فيها، أُرمّم كسوري الصغيرة، وأُعيد ترتيب الأولويّات
وحين كانت الدنيا تضيق، كنتُ أُمسك خيطين لا أخونهما : الامتنان لما تيسّر، والعمل على ما يُمكن إصلاحه
شيئًا فشيئًا، صرتُ أعرف حدودي فلا أُحمِّل نفسي ما لا تُطيق، وأعرف أيضًا طاقتي فلا أتهاون حين يحين موسم القفز
ثم جاءت الكتب لتفعل ما تفعله دائمًا : تهزّ اليقين الراكد، وتفتح نافذة في جدار
وهنا تبدأ الحكاية الثانية…
ما هي أهم الكتب التي طالعتُها واستفدتُ منها فعلًا ؟
كنتُ وما زلتُ أؤمن أن الكتب ليست أوراقًا مطبوعة، بل أرواح تهمس لك بأسرارها
وفي رحلتي مع القراءة، التقيت بثلاثة أصوات غيّرتني :
رضوى عاشور في رواياتها :
1- الطنطورية
روايةٌ عن فتاةٍ فلسطينية تبدأ من نكبة 1948 وتمتدّ على عقود
حيث تتجاور تفاصيل البيت الصغير مع جغرافيا المنفى الكبير
تُذكِّرك رضوى أن التاريخ لا يُحفظ بالتواريخ فقط، بل بالأسماء والروائح والعيون التي رأت ثم شهدت
هذه الرواية كانت بالنسبة لي درسًا في كيف تُمسك الذات بجمر الذاكرة كي لا تبرد الحكاية
2- الصرخة
نصّ قصير مكثّف أقرب إلى الحكاية الرمزية، يلتقط " صرخة " جماعية تُقيم في الحلق العربي،
ويضعها في بنيةٍ فنيّة تسائل الذاكرة والهوية وكيف تنتقل الصدمة من جيلٍ إلى آخر
قراءته تُشبه التقاط نفَسٍ حادّ : قليل الصفحات، كثيف الأثر
يُؤرِّخ الألم كطاقةٍ على البقاء لا كاستسلام
3- أثقل من رضوى
مقاطع من سيرةٍ ذاتيّة تكتبها وهي توازن بين الخاصّ والعام : المرض، الجامعة، الشأن السياسي، وبهاء التفاصيل الصغيرة
ستجدين فيها رضوى الإنسانة قبل الكاتبة
حوارًا صريحًا مع الخوف، ومعنى أن يحيا المرء بكرامة حتى وهو يُصارع الألم
هذا الكتاب علّمني أن الاعتراف نقطةُ قوّة، وأنّ الكتابة تُعيد توزيع الثِقل على الروح فتجعله محمولًا
4- تقارير السيدة راء
مجموعة نصوص/تقارير بضمير " السيدة راء " ، تُجاور فيها رضوى اليوميّ بالثقافيّ والسياسيّ،
وترصد بهدوءٍ يقظ كيف يتشكّل وعينا بالعالم من تفاصيل تبدو عادية
[ خلاصة رضويّة : القراءة عندها ليست ترفًا، بل طريقة للعيش الكريم، ووسيلةٌ كي لا نفقد أسماءنا وسط العواصف ]
مريد البرغوثي في كل من :
1- رأيتُ رامَ الله
سيرة عودةٍ بعد ثلاثين عامًا من المنع والمنفى
نصٌّ يُعيد تعريف " البيت " : ليس جدرانًا فحسب، بل لغة وأمّ وطفولة ومسافةٌ بين جسرَيْن
يكتب مريد بأصابع شاعرٍ يعرف أن الاقتصاد في اللغة يُضاعف الوجع
قراءته تُعلّمك كيف يكون الحنينُ واعيًا، لا نوستالجيا تُعمي
2- ولدتُ هناك، ولدتُ هنا
تكملة حوارٍ مع الأرض والزمن، لكن هذه المرّة بصحبة الابن " تميم "
انتقالٌ من ذاكرة الأب إلى ذاكرة الجيل التالي : ماذا نورث أولادنا من وطنٍ لا يُرى إلا من وراء الحواجز ؟
كتابٌ عن العبور من السيرة الفردية إلى السؤال الجماعي
[ درسه لي : أن الكتابة تستطيع أن تُنقذ ما لا تُنقذه السياسة، حفظ طبقات المعنى حين تتكسر الخرائط ]
وأخِرهم محمد الغزالي في :
1- جدِّد حياتك
كتاب إصلاحٍ روحيّ وسلوكيّ، يُخاطب الإرادة والذائقة والقلب العمليّ
كيف ننفض الغبار عن عاداتٍ تُطفئ أرواحنا ؟ وكيف نُعيد ترتيب علاقتنا بالله والناس والعمل ؟
ليس " موعظة " تُلقيك في الحماسة ساعاتٍ ثم تخفت
بل برنامج صيانة للنفس، هادئ العبارة، عميق الأثر
2- الغزو الثقافي يمتدّ في فراغنا
تنبيهٌ مبكّر إلى أن العقول تُغزى حين تُهمِل بناء ذاتها
يضع الغزالي إصبعه على مواضع الفراغ في وعينا - حين نستهلك ولا نُنتج، وحين نُردّد دون فحص -
ويذكّر بأنّ الهوية مشروعُ بناءٍ يوميّ، لا شعار
هذا الكتاب شدَّ ظهري بفكرةٍ بسيطة : الحلّ ليس في "الخوف من الآخر "، بل في ملء الداخل بالعلم والخلق والمعنى
كيف انعكس كلُّ ذلك عليّ ؟
بعد هذه الرحلة، صرتُ أكتب وأعيش بعينين : عينٍ تُحب، وعينٍ تُحلّل
رضوى منحتني يقين المقاومة ودفءَ اللغة، مريد علّمني هندسة الحنين، والغزالي سلّحني بمنهجٍ أخلاقيّ عمليّ
ومع هذه الثلاثة، تبدّلت علاقتي بذاتي : لم أعد أخاف الأسئلة الكبيرة، ولم أعد أبحث عن " الجواب الأخير" بقدر ما أبحث عن " الخطوة التالية "
خطوةٌ أهدأ، أعمق، وأقرب إلى الله وإلى إنسانيّتي
[ القراءة - حين تُصادف قلبًا مستعدًّا - لا تغيّر أفكارك فحسب، بل تغيّر مشيتك في العالم ]
صنّاع محتوى أفادوك ؟
لا أتابع صنّاع المحتوى بكثرة، لأنني أميل دائمًا إلى الأصالة أكثر من الصخب
لكنني أعترف أن ما يقدّمه " الدحيح " يثير إعجابي
ليس لأنه يقدّم المعلومة فحسب، بل لأنه يقدّمها بروح خفيفة، بروح تجعل العلم ممتعًا،
والفكر قريبًا من القلب قبل العقل
أحب طريقته في أن يزرع المعرفة بين الضحكات، وأن يذكّرنا بأن التعلّم لا يحتاج دائمًا إلى عبوس الجدية
بودكاست ساعدوك؟
لا أستمع إلى البودكاست، ليس لأنني أقلّل من قيمته، ولكن لأنني أجد متعتي الحقيقية في القراءة أكثر من الإصغاء
أحتاج دائمًا إلى الورقة والحرف المطبوع، إلى ذلك الصمت الذي لا يقطعه صوت بشري، تمزّقه أصوات الأفكار وهي تتصارع في داخلي
لذلك، لم يكن للبودكاست مكان في عالمي حتى الآن
يبدو أنني " تحمست " قليلا وأطلتُ في ردي ومشاركتي ^^
تحيّة طيّبة