الصديقان وقطعة الخبز
خَرَجَ يُوسُفُ وَيَاسِرٌ مِنَ الْمَدْرَسَةِ يَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِطْعَةَ خُبْزٍ أَخَذَهَا مِنَ الْمَطْعَمِ الْمَدْرَسِيِّ.
أَكَلَ يُوسُفُ قِطْعَةَ الْخُبْزِ خَاصَّتَهُ، بَيْنَمَا وَضَعَهَا يَاسِرُ عَلَى حَافَّةِ الطَّرِيقِ.
تَعَجَّبَ يُوسُفُ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَقَالَ لَهُ:
ــ "لِمَاذَا أَخَذْتَ قِطْعَةَ الْخُبْزِ إِنْ كُنْتَ لَا تُرِيدُ أَكْلَهَا؟"
يَاسِرُ: "لَا أَعْرِفُ! فَعَلْتُ مِثْلَكَ وَحَسْب."
يُوسُفُ: "أَنَا كُنْتُ جَائِعًا، لِهَذَا أَخَذْتُهَا."
يَاسِرُ: "أَمم... لَيْسَ لِي رَغْبَةٌ فِي أَكْلِهَا! هَيَّا لِنُكْمِلْ طَرِيقَنَا."
يُوسُفُ: "هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ لِقِطْعَةِ الْخُبْزِ هَذِهِ حِكَايَةً وَقِصَّةً طَوِيلَةً؟! وَأَنْتَ تَرْمِيهَا هَكَذَا بِكُلِّ بَسَاطَةٍ؟! الْآنَ هِيَ حَزِينَةٌ جِدًّا وَغَاضِبَةٌ مِنْكَ!"
ضَحِكَ يَاسِرُ بِشِدَّةٍ وَقَالَ:
ــ "وَهَلْ لِقِطْعَةِ الْخُبْزِ هَذِهِ حِكَايَةٌ تُرْوَى، وَمَشَاعِرُ لِتَحْزَنَ وَتَغْضَبَ مِنِّي؟! أَنْتَ تَهْذِي يَا صَدِيقِي، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّكَ مَرِيضٌ!"
يُوسُفُ: "نَعَم، لَهَا حِكَايَةٌ وَرِحْلَةٌ وَحَيَاة!"
سَكَتَ يَاسِرُ وَبَدَتْ عَلَى وَجْهِهِ الْحَيْرَةُ وَالدَّهْشَةُ، فَأَكْمَلَ يُوسُفُ قَائِلًا:
ــ "مُنْذُ أَنْ كَانَتْ بَذْرَةً وَالْفَلَّاحُ يُهَيِّئُ لَهَا التُّرْبَةَ وَيُزِيلُ الْأَعْشَابَ الضَّارَّةَ عَنْهَا، وَيَسْقِيهَا فِي غِيَابِ الْمَطَرِ، حَتَّى تَنْمُوَ وَتَكْبُرَ وَتُصْبِحَ سَنَابِلَ مُحَمَّلَةً بِالْقَمْحِ الْوَفِيرِ. ثُمَّ يَحِينُ وَقْتُ الْحَصَادِ، وَتَنْقُلُ الشَّاحِنَاتُ الْقَمْحَ إِلَى الْمَطَاحِنِ لِيُطْحَنَ وَيُعَبَّأَ فِي أَكْيَاسٍ تُرْسَلُ إِلَى الْمَخَابِزِ، فَيَصْنَعُ مِنْهُ الْخَبَّازُ خُبْزًا شَهِيًّا نَأْكُلُهُ، فَيُزَوِّدُنَا بِالطَّاقَةِ وَيُسَاعِدُ أَجْسَادَنَا عَلَى النُّمُوِّ.
وَبَعْدَ كُلِّ هَذِهِ الرِّحْلَةِ وَعَنَاءِ الْفَلَّاحِ وَالْعُمَّالِ وَالْخَبَّازِ، تَأْتِي أَنْتَ وَتَرْمِيهَا بِكُلِّ بَسَاطَةٍ، فَهَذَا مَا جَعَلَهَا حَزِينَةً وَغَاضِبَةً مِنْكَ."
يَاسِرُ: "يَا لَهَا مِنْ قِصَّةٍ طَوِيلَة! فَهِمْتُ الْآنَ سَبَبَ حُزْنِهَا، وَلَكِنَّ فِكْرَةَ غَضَبِهَا مِنِّي تُضْحِكُنِي! هَلْ سَتَضْرِبُنِي مَثَلًا أَمْ تُصْبِحُ وَحْشًا وَتَنْتَقِمُ مِنِّي؟!"
يُوسُفُ: "كَلَامُكَ يَدُلُّ عَلَى تَفَاهَةِ مَا تُشَاهِدُهُ عَلَى التِّلْفَازِ، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهَا إِذَا غَضِبَتْ سَتَغِيبُ عَنْكَ، فَتَفْتَقِدُهَا وَتَتَمَنَّاهَا بَيْنَ يَدَيْكَ عِنْدَمَا تَكُونُ فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا."
يَاسِرُ: "كَيْفَ ذَلِكَ؟!"
يُوسُفُ: "عِنْدَمَا يَشُدُّكَ الْجُوعُ الشَّدِيدُ، فَتَتَمَنَّى قَضْمَةً وَاحِدَةً مِنْهَا. أُمِّي أَخْبَرَتْنِي أَنَّ جَدَّتَهَا فِي أَيَّامِ الِاسْتِعْمَارِ الْفَرَنْسِيِّ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ قِطْعَةَ خُبْزٍ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ وَالْمِحْنَةِ الَّتِي عَاشُوهَا. فَكُلَّمَا اشْتَدَّ جُوعُ الْإِنْسَانِ أَحَسَّ بِقِيمَةِ الْغِذَاءِ وَلَوْ كَانَ بَسِيطًا.
أَلَا تَرَى فِي التِّلْفَازِ الْأَطْفَالَ الْمُشَرَّدِينَ الْمَحْرُومِينَ حَتَّى مِنْ أَبْسَطِ حُقُوقِهِمْ كَالطَّعَامِ؟! إِنَّهُ أَمْرٌ مُحْزِنٌ حَقًّا. أَتَذْكُرُ أَوَّلَ يَوْمٍ لَكَ فِي الصِّيَامِ؟"
ضَحِكَ يَاسِرُ وَقَالَ: "نَعَمْ! كُنْتُ أَبْكِي مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ وَالصُّدَاعِ، وَاسْتَفْرَغْتُ، وَكَادَ يُغْمَى عَلَيَّ يَوْمَهَا."
يُوسُفُ: "فَمَاذَا لَوْ صَارَتْ حَيَاتُكَ كُلُّهَا جُوعًا؟! اسْتَشْعِرِ النِّعَمَ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْكَ، وَاحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَاحْفَظْهَا."
حَزِنَ يَاسِرُ وَبَدَا عَلَيْهِ النَّدَمُ، وَنَظَرَ إِلَى قِطْعَةِ الْخُبْزِ الْمُلْقَاةِ عَلَى الْأَرْضِ وَقَالَ:
ــ "لَنْ أُعِيدَ هَذَا الْفِعْلَ مُجَدَّدًا، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْقِطْعَةَ تَلَوَّثَتْ بِالتُّرَابِ! مَاذَا أَفْعَلُ الْآنَ؟"
يُوسُفُ: "نَأْخُذُهَا وَنَضَعُهَا فِي مَكَانٍ تَحُطُّ فِيهِ الطُّيُورُ، فَتَأْكُلُ مِنْهَا وَتُطْعِمُ صِغَارَهَا، فَتُصْبِحَ جُزْءًا مِنْ حَيَاةِ الطُّيُورِ. وَأَتَمَنَّى أَنْ لَا تُكَرِّرَ خَطَأَكَ، هَيَّا بِنَا نَذْهَبْ."
مشم سعاد
mechem souad
