التفاعل
8.4K
الجوائز
858
- تاريخ الميلاد
- 19 ماي
- الوظيفة
- نستقي عِلم العَجم
- الجنس
- أنثى
- الأوسمة
- 14
السلام عليكم و رحمة الله
عساكم بخير أفاضل لمتنا
سأطلبُ منك أخي اللماوي أن تأخذ نفسا عميقا مرة أخرى
لأنك على وشك أن تغوص في تجربة ثانية سأصفها هذه المرة بكونها علمية
أقول " مرة أخرى و ثانية "
لأن الأولى كانت في موضوعي :
عساكم بخير أفاضل لمتنا
سأطلبُ منك أخي اللماوي أن تأخذ نفسا عميقا مرة أخرى
لأنك على وشك أن تغوص في تجربة ثانية سأصفها هذه المرة بكونها علمية
أقول " مرة أخرى و ثانية "
لأن الأولى كانت في موضوعي :
بعد عالم الطب العقلي ،
حيث النفس البشرية متاهة بلا خرائط ،
فُتح أمامي عالم آخر ،
مذهل في دقّته ،
قاسٍ في صدقه ،
صامت .. لكنه لا يكفّ عن الكلام ..
حيث النفس البشرية متاهة بلا خرائط ،
فُتح أمامي عالم آخر ،
مذهل في دقّته ،
قاسٍ في صدقه ،
صامت .. لكنه لا يكفّ عن الكلام ..
سآخذك اليوم .. في جولة - طبية - فيه
ما كنتُ لأدخله بإرادتي
ألا و هو
" الطب الشرعي - Médecine légale "
===
لم أدخل مصلحة الطب الشرعي بدافع الفضول ، و لا بروح المغامرة
و لهذا قلتُ بادئ الأمر ما كنتُ لأدخلها بإرادتي
دخلتها بصفتي طالبة [ مُجبر لا بطل ]
دخلتها بحذرٍ داخلي ،
كمن يطرق بابًا يعرف أن خلفه شيئًا سيغيّره ..
و لا يعرف إن كان مستعدًا لذلك التغيير
أظنّ أنني بدأت أعتاد مواجهة القسوة بعد سنوات من دراسة المرض ، و الاضطراب النفسي ، و الألم الإنساني
لكنني اكتشفت سريعًا أن الطب الشرعي لا يشبه شيئًا سبق أن عرفته ..
عالمٌ آخر ،
عالمٌ لا يشبه الحياة ،
و لا يشبه المرض ،
و لا يشبه الجنون
هو عالم يبدأ حيث تتوقف كل الحكايات ، و يُطلب منك فيه أن تُنصت إلى الجسد بعد أن يفقد صوته
العالم الذي يبدأ بعد أن ينتهي كل شيء
===
في هذا المكان ، لا علاج و لا وعود بالشفاء
هناك حقيقة فقط ،
مجرّدة، دقيقة، لا تقبل التأويل العاطفي
و مع ذلك ، فإنها تمسّ الداخل بعمق غير متوقّع ..
لا أحد يطلب المساعدة ،
و لا أحد يشتكي ،
و لا أحد يتألم أمامك
لكن ..
كل شيء يقول شيئًا
===
الموت
ليس لحظة واحدة كما نتصوّره ،
ليس فكرة فلسفية ،
و لا صورة ذهنية ،
و لا كلمة نرددها
الموت علم ،
له قوانينه ، وله علاماته
وله توقيت دقيق لا يرحم الخطأ
سلسلة من التحوّلات ، لكل منها توقيتها و معناها
الجسد لا ينهار فجأة ، بل يغادر الحياة تدريجيًا ، تاركًا وراءه علامات واضحة لمن يعرف قراءتها
===
عرفتُ كيف يمكن التمييز بين الحي و الميت
ليس بالإحساس أو الانطباع
بل بالعلامات العلمية القاطعة
علامات غياب الحياة ، حيث تختفي الوظائف الأساسية
دون أن يرافقها بالضرورة تغيّر شكلي مباشر : غياب النبض ، توقف التنفس ، حدقات لا تستجيب
حضور جسدي كامل ، يقابله فراغ وظيفي تام
في المقابل
هناك ما يُعرف بعلامات الموت الإيجابية
التي لا يظهر معها أي شك
التيبّس على سبيل المثال ، حين تتصلّب العضلات لأن الجهاز العصبي لم يعد يوجّهها
علامة لا تأتي فورًا ، بل بعد مرور ساعات ، و تخبرنا أن الوفاة حدثت بالفعل ولم تعد لحظة راهنة
أما اللطخ lividités cadavériques
- لا أعلم إن كان هذا اسمها بالعربية تماما -
هي تغيّر لون الجلد نتيجة تجمع الدم في الأجزاء المنخفضة من الجسد بعد توقف القلب
التلوّن البنفسجي المزرق ،
حين ينصاع الدم أخيرًا لقانون الجاذبية ،
فيتجمع في الأجزاء المنخفضة من الجسد ،
كأن الجسد يرسم خريطته الأخيرة
هذه العلامة لا تؤكد الموت فقط
بل تكشف أيضًا عن وضعية الجثة بعد الوفاة
و تمنحنا فكرة دقيقة عن الزمن الذي انقضى
[ حتى بعد الصمت الكامل، لا يزال الجسد يروي قصته ]
ثم جاء الحديث عن تعفّن الجثة ، وهو من أكثر الدروس ثقلًا على النفس
التعفّن ليس مشهدًا واحدًا
عملية تدريجية يعود فيها الجسد إلى الطبيعة
وتتقدّم فيها البكتيريا حيث توقفت الحياة [ كيف تنتصر البكتيريا حين نسقط نحن ]
تغيّر اللون ، الانتفاخ ، الروائح ، كلها مظاهر علمية دقيقة ، لكنها تترك أثرًا نفسيًا لا يمكن تجاهله
في هذا السياق، فهمتُ معنى الكفن و الدفن - بطريقة مختلفة -
لم أعد أراهما طقسًا دينيًا فقط
بل فعلًا إنسانيًا يحفظ كرامة الجسد بعد الموت - فعلُ رحمة -
و يمنح النهاية شكلًا من الاحترام و النظام
بدل الفوضى التي قد يفرضها التحلل الطبيعي
===
عن حالات الشنق و الاختناق ، حيث لا تكفي النظرة السطحية للحكم
فليس كل شنق انتحارًا
و ليس كل اختناق واضح الأسباب
هناك تفاصيل دقيقة تُفرّق بين من أنهى حياته بنفسه ، و من تعرّض للقتل ،
و بين من مات معلقًا و من عُلّق بعد وفاته لتُضلّل الحقيقة
آثار على الرقبة ، وضعية العقدة ، الاحتقان ، النزوف الدقيقة ، حالة العظم
زرقة الوجه ،
لسانٌ متدلٍّ ،
عيونٌ جاحظة ..
كل تفصيلة تهمس بالحقيقة لمن يعرف لغتها
عناصر تُستخدم لإعادة بناء ما حدث ، بهدوء و دقّة
===
كما تعرّفتُ على كيفية التمييز بين من مات حرقًا و من قُتل ثم أُحرق
وجود الدخان في المجاري التنفسية ، نسبة أول أكسيد الكربون في الدم ،
و وضعية الجسد ،
كلها مؤشرات علمية تكشف إن كان الإنسان حيًا وقت اشتعال النار
حتى الحريق ، رغم قسوته ، لا يُخفي الحقيقة تمامًا
- الاختناق لا يكون حبلًا فقط ،
قد يكون يدًا ،
وسادة ،
دخانًا ،
ماءً ..
و أن الرئتين تحفظان السر حتى بعد الموت -
===
أما الجروح والإصابات .. ذاكرة الجسد
لون الكدمة يتغير مع الزمن ، ويمنحنا فكرة عن عمر الإصابة
عرفتُ الفرق بين الجرح الحيوي و الجرح بعد الوفاة
النزف يُفرّق بين جرح حدث أثناء الحياة و آخر وقع بعد الوفاة
و حتى الإصابات بالأسلحة النارية ليست مجرد ثقوب في الجسد ،
بل رسائل تحمل معلومات عن المسافة ، و نوع السلاح ، و اتجاه الطلقة
شكل المدخل و المخرج ،
الوشم البارودي ..
===
و في قلب كل ذلك، يظل القانون حاضرًا بقوة
الطبيب الشرعي ليس مراقبًا محايدًا فقط
بل مسؤول قانونيًا و أخلاقيًا
تقرير واحد قد يغيّر مصير شخص ، و قد يُنصف بريئًا أو يُدين مذنبًا
الخطأ هنا لا يُعدّ زلّة ، بل قد يكون جريمة بحد ذاته
[ الحقيقة .. مصير ]
أستاذنا شاركنا بعضًا من تجاربه في المصلحة ،
قصصًا غريبة، قاسية ، لا يمكن روايتها خارج إطار التعليم ،
لأنها تدخل ضمن السر الطبي البحت
كنت أستمع و أشعر أن بعض الوقائع أثقل من أن تُروى كاملة
قضايا غريبة ،
عن جثث تكلمت بعد صمت
===
يصبح الطبيب محققًا
أشبه بشخصية كونان
يقف أمام الجسد كأنه يقرأ كتابًا مغلقًا بأسراره
يلاحظ كل تفصيلة ، يصوّر كل أثر ، يفحص كل خدش وكل كدمة ،
كما لو كانت كلمات مكتوبة على الجلد
يتمعّن في وضعية الجثة ، في تغير لون البشرة ، في آثار الزمن ،
في كل ما يبدو للبعض عابرًا
لكنه يعرف أنه مفتاح الحقيقة
و من خلال هذه المراقبة الدقيقة
و التفكير - الصبور - ،
تبدأ الخيوط بالتشابك ، و تتكشف القصة المخفية في الصمت
يصبح الجسد شاهدا صامتا ، يروي أحداثه لأولئك القادرين على الإصغاء
ويكشف عن الأسرار التي قد تغيّر مجرى العدالة
===
رغم كل هذا الفهم ، و كل هذه المعرفة ،
اصطدمتُ بحدودي الإنسانية
الصور التي عُرضت علينا كانت قاسية على قلبي
لم أستطع النظر إليها
في كل مرة تُعرض صورة لجثة أو جرح عميق أو تشريح حقيقي
أجدني أخفض رأسي
و أنتظر تغيير العَرض للكتابة ..
لم أحتمل المواجهة المباشرة
و حين قُسّمنا إلى أفواج لدخول - تشريح الجثة -
( autopsie )
لم أمتلك الشجاعة للدخول
تراجعتُ بصمت
من حسن حظي أن التشريح كان اختياريًا
فشخص مثلي يستطيع أن يدرس الموت ، أن يفهمه ، و أن يكتب عنه ،
لكنه لا يستطيع مواجهته مباشرة بهذه الطريقة
[ لم أشعر بالخجل من ذلك .. شعرت أنني تعرّفت إلى حدٍّ إنساني في داخلي لا أريد تجاوزه ]
===
خرجتُ من مادة الطب الشرعي أكثر وعيًا
و أكثر احترامًا للجسد الإنساني
و أقل اندفاعًا في الأحكام
تعلّمتُ أن الطب ليس دائمًا إنقاذًا
أحيانًا شهادة صامتة لصالح الحقيقة
و أن بعض الأطباء لا يعالجون الأحياء
هم ينصفون الموتى
( أكيد هناك تفاصيل أخرى لم أروِها تَحَفُّظا )
===
تحيّة طيبة
[ لمعانُ الأحداق ]
عُــــذرا على الإطـــــــــالة ..
آخر تعديل: