المادية ... التاريخ ، الفكرة ، الأعلام :

د.سيد آدم

:: عضو مُتميز ::
إنضم
28 مارس 2014
المشاركات
787
نقاط التفاعل
472
النقاط
23
(1)
المادية القديمة :
تشير غير دراسة إلى أن تيار الإلحاد الذي قد كان سائداً في أوروبا منذ ما يقرب من ثلاثة قرون إنما هو " نسخة من حركة الإلحاد نشَأتْ في عصور مختلفة ومتفاوتة . وأوضحُ ما تكون هذه الحركة لدى الماديين القدماء من فلاسفة الإغريق " .
لاشك أن " الاتجاه الروحي " كانت له السيادة في الفكر الإغريقي ما مثّل أساساً لتلك الحضارة التي دان لها العالم القديم طويلاً ، خاصة في فلسفة كل من الفلاسفة : فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو . وكان الاتجاه المقابل متمثلاً لدى كل من : ديمقريطس والقورينائيين والكلبيين والأبقوريين .
أما فيثاغورس ، ويُعَد المعلمَ الأكبر لأفلاطون ، وقد عاش في القرن السادس قبل الميلاد ما بين 571 ، 496 ق م ، فهو من أوائل من أسس فلسفة ، ومدرسة ، بغرض النهوض بالأخلاق والتشديد على كل من الإيمان والورع ... : " على الإنسان أن يبذل جهده لكي يطهّر نفسه ويعدها للحياة المستقبلية ، ذلك لأن النفس لما حلّت في البدن ، أصبح هذا الأخير ( = البدن ) قبراً لها ، فصلاحُ النفس إنما يكون بفرارها منه وبقهره ما دامت فيه " .
ومعروف أن فيثاغورس ، وأتباعَه ، من القائلين بفكرة التناسخ ! ما يعني أن هؤلاء لم يجزموا برأي قاطع في إشكالية خلود النفس خلوداً أبدياً ، حيث فكرة التناسخ عندهم انتهت إلى " انتقال النفس في أبدان مختلفة إلى أن تتبدد في نهاية الأمر وتصبح كـ الثوب الخلِق " .
ومع ذلك ، فقد جعل هؤلاء هدفَهم " تطهير النفس ، ومحاولة السمو بها شيئاً فشيئاً حتى تتشبّه بالعالم العلوي / الإلهي " ، ويتم ذلك عبر الفضيلة ، لذلك كان من مباديء الفيثاغورية : عبادة الآلهة ، واحترام الوالديْن ، والوفاء ، وحب الوطن ، واحترام القوانين الدينية والاجتماعية ، واحترام سلطة الدولة . وكان من الواجبات المفروضة على الأتباع أن يراجع المرء نفسه / ضميره كل مساء : ماذا فعل من خير ، وماذا فعل من شر . ما يعني أن هؤلاء لم يكونوا " ملاحدة " لأن القاعدة الأساس في الديانة الفيثاغورية هي " محاولة التشبة بالآلهة " .
نعم ، كانت الفكرة الدينية عند هؤلاء بدائيةً وساذَجة ، لكن الدارسين يرون أن هكذا موقف إنما هو أفضل من الإلحاد ، فقد كانت فكرةً تهدف إلى المحافظة على حياة الفرد والجماعة ، ولا تهبط بأتباعها إلى مستوى البهيمية التي لا تخضع إلا لقوانين الطبيعة وحدها .
يُتْبع ...
 
09.gif
 
(2) :
أما سقراط – عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ما بين 469-399 ق.م – فقد طوّر من أفكاره / آرائه الدينية لتصبح أكثر سمواً من أفكار / آراء الفيثاغوريين ؛ ففي آثاره يظهر أثر الإيمان بإله واحد حتى عده بعض المؤرخين من الأنبياء الذين لم يذكرهم القرآن الكريم ... : " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك " .
وقد اشتهر عن سقراط قول المؤرخين إنه أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض ! بمعنى أنه أراد تقديم البحث في " الإنسان " قبل البحث فيما خلق لأجل هذا الإنسان .
والرجل كثيراً ما كان يؤكد أن " صوتاً داخلياًيهتف في أعماق نفسه ليمنع من الإقدام على ما ينبغي له ألا يقدم عليه " وقد أرجع سقراط هذا الصوت إلى " إله ، أو عقل إلهي " .
هذا كله دفع سقراط إلى أن يحذّر أهل أثينا من الاستماع إلى السوفسطائيين أو الملحدين ، حيث هدف هؤلاء " هدم الأخلاق ومعايير الحق وعقائد الدين في النفوس " .
أعلن سقراط أن الله " أوجب عليه أن يرشد قومه ، وأن ينقذهم ، ولو رغماً عنهم ، من السوفسطائيين الذين كانوا يتملقون أخس عواطفهم ، ثم يزعمون أنهم يعلمون كل شيء ، مع أنهم أكثر الناس جهلاً ، لأنهم لا يعلمون حقيقة أقرب الأشياء إليهم : وهي نفوسهم " .
آمن سقراط بأن النفسَ خالدةٌ ، على عكس الحال مع البدن الحامل ، أو الحاوى ، لهذه النفس ... : " لولا اعتقادي أنني سأذهب أولاً صوبَ آلهةٍ أخرى حليمة ورحيمة ، ثم بعد ذلك نحو رجال ماتوا هم خير من رجال هذه الحياة الدنيا ، لكان من الخطأ الفاحش ألا تثور النفس ضد الموت ، ولكنني كبير الأمل في أن هناك شيئاً وراء الموت . فتلك هي الأسباب التي تجعلني أترككم ، كما أترك آلهة هذه الدنيا ، دون أن أشعر بألم أو غضب ، لأني موقن أني سوف ألقى هناك آلهةً خيرين وأصدقاء خيرين أيضاً " .
والدارس للنفس والفضيلة عند سقراط يَخلُص إلى أن الرجل لديه فكرة راقية عن الله ، حتى وصفه مؤرخون بأنه " أول مفكّر ديني " : فالجل دائماً ينادي باحترام الدين ، وبضرورة اتخاذه ، أو تعاليمه ، أساساً للأخلاق .
كان سقراط ، في حياته الخاصة ، مثالاً للرجل المتدين الذي يحس أداء شعائر الديانة التي يعتنقها ، كما كان شديد الاحترام للآلهة ، وكان يدعو أتباعه لمثل سلوكه المحترِم للقعائد المحافظ عليها .
كان سقراط صاحب عقيدة في أن " الآلهة تحيط بكل شيء علماً " و " أنها تعلم أفعالنا وأفكارنا مهما كانت خفية " و " أنها توجَد في كل مكان " و " أنها توحي إلى البشر بكل ما يتصل بحياتهم " .
أعلن الرجل تصديه للرد على ملحدي عصره ، الذين أبان أنهم يتظاهرون بسمو تفكيرهم ، وينكرون تدخّلَ الآلهة في توجيه الكون ، ومن ثم دعاهم إلى أن ينظروا / يلاحظوا :
- وجود قوة خيّرة تتجلّى آثارها في الطبيعة .
- الإله الذي خلق كل شيء فأحسنَ خَلْقه وتدبيره لا يهمل ما خلق .
- الإله يرى ويسمع كل شيء .
- الإله يحتفظ بنظام العالم واتساقه .
آمن سقراط ، بشكل أو بآخر ، بإلهٍ واحد ! رغم أنه كان يعبر عن الألوهية بصيغة الجمع أحياناً ، وأحياناً بصيغة المفرد !!! ، لكن الاتجاه نحو وحدانية الإله كان أكثر وضوحاً لديه من فكرة التعدد / الكثرة ، وهذه الفكرة ستبدو أكثر وضوحاً في تراث تلاميذه عامة ، وتلميذيه الأشهر خاصةً : أفلاطون وأرسطو .
يًتْبع ...
 
icon1.gif
المادية ... التاريخ ، الفكرة ، الأعلام :

أستاذى موضوعك رائع جدا
ودائما تتكلم عن مسيو سقراط ..
استاذى الفاضل قبل ذكر هؤلاء نعلم شئ من هذه اللحظة التى أنعمها الله علينا
ان الاسلام مادة وحركة إبداعية خالقة !
هؤلاء المفكرين لاحظة فيهم أنهم يفكرون بمنظور عالم غير منظور بسبب تعمقهم في المادة
انا على يقين لو كانوا مسلمين سوف يتحقق لهم تصور معين للحياة
أتدري لماذا؟
لان الفلسفة الاسلامية أدب موجه غير إجباري
والفكرة هيا الفكرة لا تحتاج الى شرح
دائما أقول هذه العبارة هؤلاء الفلاسفة يبحثون بأى طريقة عن حلول رغم انها موجودة بينهم
يتكلمون الكثير بدون افعال ملموسة
هم يتكلمون بالمنطق ونحن نتكلم بالغاية
لان القرآن لم يذر وسيلة موصلة إلى إنعاش العقل وتحرير الفكر
إلا وتذرع بها فهو إذا تحاكم مباشرة الى العقل
وإذا تحاج فبحكم العقل
وإذا سخط فعلى معطلي العقل
وإذا رضي فعن أولي العقل بالمناسبة وهكذا يدل تحضرعلماء الامة
تحت مظلة [ شغل عقلك ]
يا استاذى العلماء اليوم يتكلمون بحجة غريبة يقولون [أنا أريد وأنت تريد والله يفعل ما يريد]
يريدون سبب لإقناعك أن الله يعاندنا ويعبث بنا ويأتي بعكس مرادنا مع أن الله قالها في القرآن صراحة
[من يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها]
لذلك يجب تغير هذه القناعة في النفس البشرية دائما
بعبارة [أنا أريد وأنت تريد والله كريم يؤتنا ما نريد]
فالايات تكلم نفسها وسوف تكتشف التفاصيل بعد حين
لما العجلة؟ الايام القادمة سوف تظهر نفسها بنفسها
شكراً أستاذى صدقنى أحب مواضيعك كثيرة

ابحث عنها في كل مكان





 
icon1.gif
المادية ... التاريخ ، الفكرة ، الأعلام :


أستاذى موضوعك رائع جدا

إنْ كان كذلك ، فأحدُ أسبابِه هو تكرمُكم بمطالعته ... والتعليق عليه .

ودائما تتكلم عن مسيو سقراط ..
أبداً ، أخي الكريم ؛ لستُ " دائماً " أتكلم عن " مسيو " سقراط !!! أنا تعرضتُ للرجل من باب " الأمانة العلمية " التي هي إحدى مفردات المناهج العلمية التي ندرّسها، منذ ما يقارب نصف القرن ، لأبنائنا طلاب الجامعات العربية .
وقد جاء عرْضي لـ سقراط باعتباره أول أهم ثلاثة فلاسفة يونان ، لأن الفكر اليوناني هو " المدخل " لدراسة الفكر المادي المعاصر ، وهذا هو الهدف من ورقتي هذه التي تفضلتم بالتعليق عليها . إلا أن ما قرأتُه لسيادتكم لم يتناولْ موضوعَ الورقة ... وهو : الفكر المادي ولو في بداياته . وسوف تجدون ، في الآتي من الدراسة ، عرضاً أرجو أن يكون كافياً لهكذا فكر ، لأبين أنه فكر غير قابل للحياة من حيث هو منكر للبداهات العقلية ، ناهيك عن الإيمانية .

ان الاسلام مادة وحركة إبداعية خالقة !
نعم ... هو كذلك ، لكن ما دخل هذه العبارة ، واسمحْ لي أن أصفها بالإنشائية ، بما هو مكتوب في الموضوع حتى ساعته وتاريخه ؟ .

لو كانوا مسلمين سوف يتحقق لهم تصور معين للحياة
أولاً ، أخي الكريم ، هؤلاء قومٌ وُجدوا " قبل الأديان السماوية ، الإسلام تحديداً ، " بزمان : ( سقراط وُلد العام 470 قبل الميلاد ، وأفلاطون وُلد العام 429 قبل الميلاد ، وأرسطو وُلد العام 384 قبل الميلاد ) ، وبذلك يكون مولدهم سابقاً للإسلام بقرونٍ طويلة !!! هذه واحدة ، وأخرى أن بعض أساتذة علم مقارنة الأديان يذهب إلى اعتبار سقراط أحد الأنبياء غير المذكورين في القرآن الكريم .
إذاً ، فليس من الإنصاف تناول هؤلاء بمقياس الإسلام الذي ندين به عقيدةً وشريعة .
في آخر دراسة لمنظمة الشفافية العالمية ، جاءت " السويد " الأولى ، ولم نقرأ عن دولنا ما يفيد ذلك ... رغم أن في كثير من بلادنا العربية والإسلامية وعظاً وإرشاداً وخطباً وقرآناً وتفسيراً وتوحيداً وفقهاً وسيرةً ، كذلك بها مئآت الآف من المساجد ، يخطب فيها عشرات الآف من الوعّاظ ، وليس " عُشْر " هذا ، بل ولا شيء منه على الإطلاق موجوداً في " السويد " ، لكن تصدرت السويد قائمة دول العالم في " الشفافية " .
ورسولنا ، رسول الرحمة ، صلى الله عليه وسلم ، أوصى ، وربما أمرَ ، أصحابه ، رضي الله عنهم ، بالهجرة إلى الحبشة قائلاً لهم : " إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحدٌ " . ما يعني أنه رغم أن بلاد الحبشة لم يكن فيها " قرآن يُتلى " ، ولا خطب تُقرأ ، ، ومع هذا عَمّ العدلُ والخير أرضَها بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم ما يعني ذلك .
ليست إشكاليتنا ، نحن المسلمين ، نقصَ خطب ، أو ما شابه ذلك ، بل هي في التعامل بالعدل والإنصاف .
وتاريخنا الإسلامي يبين لنا أن القاضي الذي عيّنه علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، حكم ليهودي بدرع عليٍّ ، لأن علياً لم يستطع تقديم " مستند " ملكية الدرع .
وقد قرأنا لشيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه الله ، أن الله ، تعالى ، يُبقي دولةَ العدل وإن كانت كافرة ، ولا يبقي دولة الظلم وإن كانت مسلمة .

يتكلمون الكثير بدون افعال ملموسة
كيف ذلك ؟ اذكر لنا ، فضلاً لا أمراً ، دليلاً على هكذا طرح .

هم يتكلمون بالمنطق ونحن نتكلم بالغاية
وهل أنكر فلاسفة الإسلام " المنطق " بدءاً بابن تيمية وليس انتهاءً بالأساتذة المحدثين والمعاصرين ؟ إن القرآن الكريم يحض / يحث على التفكير المنطقي ، والذي هو ، في أبسط تعريفاته ، ربط النتائج بأسبابها .

لان القرآن لم يذر وسيلة موصلة إلى إنعاش العقل وتحرير الفكر
ومرة أخرى ، وأرجو ، أخي الكريم ، ألا أكون أمللتك ، : ما دخل هذا بموضوع الورقة حتى ساعته وتاريخه ؟ .

لا وتذرع بها فهو إذا تحاكم مباشرة الى العقل
وإذا تحاج فبحكم العقل
وإذا سخط فعلى معطلي العقل
وإذا رضي فعن أولي العقل بالمناسبة وهكذا يدل تحضرعلماء الامة
وهل قال هؤلاء المذكورون ، حتى الآن ، ما يفيد أنهم غير مؤمنين بالعقل وقيمته حتى نسوق هكذا عبارة ؟ .

شكراً أستاذى
والشكر لسيادتك أولى .

صدقنى أحب مواضيعك كثيرة
أحبك الله ، وجعلنا ، وما نكتب ، عند حسن ظنك .

ابحث عنها في كل مكان
وهذا شرف للمواضيع وكاتبها .
 
(3) :
أما أفلاطون (427-428 ق م ) ، ففكرة الإله تحتلّ المقامَ الأهم في فلسفته ، حتى أسماه المؤرخون أفلاطون الإلهي ، حيث الله في فكر الرجل :
- هو خالق العالم ،
- هو مثال القداسة ،
- هو الحي العاقل ،
- هو إله الآلهة ،
- هو المنبع الأبدي الوجود ،
- هو خالق الكون ومنسّقه ،
- هو الجمال الأبدي المطلق الذي تهفو إليه النفوس ، ذلك عند رؤيتها لما في هذا العالم الأرضي من جمال حسي عابر .
في رأي أفلاطون أن النفس البشرية هبطت من عالمها الأول ، عالم الجمال والخير ، وحال ترى ، في هذه الحياة الدنيا ، جمالاً حسياً ، فإنه يذكّرها بالجمال الذي قد كانت فيه ، وهو جمال لا نهائي ، كانت النفس تشاهده وتنعم برؤيته قبل أن تنزل لتسكن ، أو تُسجن ، في حيز البدن / الجسم .
النفس ، من ثَم ، تحاول ، ودائماً ، أن تصعد إلى عالمها الأول ، ولن يتسنى لها هذا العَوْد إلا بالتطّهر من " خطيئتها الأولى " بأمرين : العمل الصالح ، والتفلسف ، فليس هناك ما يفوق الحكمة والمعرفة في السمو بالنفس إلا نوع من الإلهام يغمر النفس المتفلسفة فتشرق عليها المعارف إشراقاً حقيقياً فتنال المعرفةَ الحقيقية فتسمو بها ، وتكون أقربَ إلى الخلاص من الجسم الذي هو قبرٌ لها ، وهنا يصبح الموت هو السبيل الأوحد لخلاص النفس من جسمها الذي هو سِجْنُها ، لترقى إلى ما كانت فيه قبل هبوطها لهكذا جسم / سجن ... وتظل النفس ترتحل من بدن إلى آخر ، حتى يفيض عليها الإله فترقى إلى حيث " عالَم المثل " .
ويقدم أفلاطون غير برهان على خلود النفس وعلى وجود " حياة أُخروية " كضرورة لأن يكون لكل من العدل والفضيلة معنىً وقيمة .
إنه بفرض أن النفس غير خالدة ( = فانية ) لما صار " الظلم " مريعاً ، ولصار الداعون إلى الفضيلة والعدل محل إشفاق ، بل وسخرية ، من الآخرين حيث نرى هؤلاء الداعين إلى هكذا فضيلة وعدل كثيراً ما يقاسون الفقر والمرض والكثير من صنوف العذاب في هذه الحياة الآنية ... كل ذلك لأجل أن يسود ما هم معتقدون فيه : الفضيلة والعدل .
كما أنه بحال صار الاعتقاد بأن الإنسان يفنى جسداً وروحاً حال يأتيه الموت ، لصار كل شرير ضامناً أن يهرب بخطاياه وذنوبه ، ما يعني أن يصبح الأشرار هم أكثر الناس سعادةً في دنيا الناس ! من حيث إنهم سوف يتحررون ، بالموت ، من أجسامهم ونفوسهم وشرورهم .
لا يجعل أفلاطون للحياة الإنسانية قيمةً ولا معنىً إلا إذا كان هناك اعتقادٌ بوجود عالم آخر تصعد إليه النفس البشرية هو " عالم الجمال الأبدي الذي لا يكسوه لحم ، ولا ألوان ولا حلى بشرية مزيفة كتب عليها أن تندثر " ، ولا قيمة لهذه الحياة إن لم يقم وعدٌ بأن يقف الإنسان وجهاً لوجه قبالة الجمال الإلهي الوحيد .
لهذا كله يطلق أفلاطون أسماء كثيرة على الإله ... منها : الخير ، والوجود ، والعقل ، والجمال ، والملك الحي .
وحال يشك الإنسان في وجود هذا الإله ، فإنه " لا يستخدم عقله على النحو الذي ينبغي له " .
وتقوم صلةٌ ما بين الله وبين الإنسان : فالله هو الذي يلهمنا كاشفاً لنا عن حقائق الأشياء ، أو بعض هذه الحقائق ، التي نعجز عن الوصول إليها .
والرأي السائد عن أفلاطون أنه يأخذ بالقول بوجود إله واحد كما كان الأمر عند أستاذه سقراط ، وإن كنا نلاحظ أن الرجل لم يعلن ذلك صراحةً ! وقد نعلل الأمر بأن أفلاطون لم يكن صريحاً في هكذا إشكالية لأمرين :
الأول : أنه خشي أن يلاحقه ، كما لاحقَ أستاذه سقراط ، الاتهام بالخروج على عقائد الإغريق .
الثاني : أنه رأى أن " التعدد " عنصر أساس في الذهنية الإغريقية خاصة لدى العامة ، وحال إنكار هذا التعدد فإنه يُخشى أن ينتهي الأمر بإنكار الإله الواحد الذي يؤمن به الخاصة .
يُتْبع ...
 
آخر تعديل:
(4) :
أما أرسطو طاليس ( 384 ق م - 322 ق م ) ، فهو ، كأستاذيه سقراط وأفلاطون ، يؤمن بإلهٍ خالقٍ للكون ، مع إقراره بآلهة الإغريق بعد أن برّأها من / عن الصفات البشرية التي خلعها عليها المنتسبون إليها ، فيرى أنه لابد من وجود " إله أكبر " يكون " رئيساً للآلهة " .
الإله عند أرسطو :
- خالٍ من المادة ،
- مصدر الاتساق في هذا العالم ،
- ضروري للعالم ، لأن هذا العالم لا يحتمل الفوضى ،
- هو المحرك الأول ،
- هو علة العلل ،
- هو المحرك الذي لا يتحرك ؛ لأنه لو كان متحركاً لافتقر إلى محرك ، ولافتقر هذا المحرك ، أيضاً ، إلى محرك ... وهكذا التسلسل ، لكن لابد أن ينقطع التسلسل ، ولا بد من الوقوف عند محرك أول لا يتحرك وليس له محرك من خارج ،
- هو أزلي أبدي ، لأنه إذا كانت الحركة لا بداية لها ولا نهاية ، فإن المحرك الأول الذي أحدث الحركة هو ، أيضاً ، لا ابتداء له ولا انتهاء من ،
- هو واحد من كل الوجوه ، بدليل وحدانية نظام العالم وتناسُب الحركات مع بعضها البعض ،
- هو بسيط لا تركيب فيه ولا كثرة ،
- هو صورة محضة / صِرْف خالصة ، ليست تشوبها الهيولَى بحال ،
- هو فعل محض ليس فيه شيء مما هو بـ " القوة " ،
- هو خير محض ،
- هو عقل محض ،
- هو عقل قائم بذاته عاقل لذاته معقول لذاته ،
- هو يحرك العالَم على سبيل الشوق .
إذاً ، مثّل كلٌّ من سقراط وأفلاطون وأرسطو أهمّ ثلاثة فلاسفة " روحانيين " قبالة الفلاسفة " الماديين " .
يُتْبع ...
 
(5) :
ديمقريطس :
الرجل ، عاش ( 460 ق م -370 ق م ) ، يُعرف بفيلسوف الذرّة ، نسبةً إلى المذهب الذري الذي تبناه الرجل تفسيراً لنشأة الكون .
الكون نشأ من كتلة لا نهايةَ لها ، وهذه الكتلة تحتوي على بذور جميع الأكوان من حيث هي عدد لا نهائي من الأجسام الصغيرة / الدقيقة التي لا تقبل الانقسام ، وهي قديمة أبدية لا تفنى ، ولكل منها شكله الخاص ، والاختلاف القائم بينها إنما هو في الحجم والمقدار ، وحال يتحد بعض هذه الذرات في الشكل أو في المقدار ، فإنها تختلف إما من جهة الوضع ، أو من جهة المكان . ولابد من وجود الفراغ / الفضاء لتتحرك فيه هذه الذرات ، وهي حال تتحرك تصطدم ، ما يؤدي إلى أن تهبط الذرات الثقيلة نحو مركز الكون الذي هو الأرض ، أما الذرات الخفيفة فإنها تصعد مكونةً الفلك الأول .
ينتهي ديمقريطس إلى أنه ليس هناك قوة ، أو إدراك ، أو عقل ، يوجه هذه الذرات التي تتحرك حركة دائمة على هيئة دوامة أبدية .
وكل شيء عند الرجل إنما هو مفسَّر بالذرات ... حتى النفْس : هي مجموعة من الذرات النارية التي يزكيها التنفس فتستمر حيةً وقتاً ما ، ثم تتبدد لتدخل في نفوس أخرى .
حتى الإحساس ، يتم تفسيره بالذرات أيضاً : فإن بعض الذرات الخفيفة تخرج من الأجسام المادية على صورة أشباح فتخترق أعضاء الحس محمولةً بطريق الهواء الذي يعد الناقل / الحامل لها .
ونفس التفسير يلحق بالتفكير : فهو ، أيضاً ، ظاهرة مادية ، حيث تتكدس بعض الذرات في المخ . ولا يظهر التفكير طفرة ، بل هو يمر بمراحل تطور للمادة من أدنى الدرجات إلى أرقاها / أسماها ، والأدني هو " الحمأ الرطب " الذي مر بمراحل متوسطة كالمعادن والنباتات وباقي العضويات ، وهذا يؤدي إلى نشأة الشعور والتفكير لدى الكائن المفكر .
والأمر نفسه ينطبق حتى على الآلهة : فهي تتكون من ذرات تخضع لقانون الحركات الذرية وهو قانون المصادفة الصرف .
والأخلاق عند الرجل نسبية ليست عن وحي وليس لها مصدر إلهي ، حيث لا يقر الرجل أن هناك قوة مدبّرة / منظِّمة ، كما أنه ليست هناك علة للوجود ، وليس لـ الآلهة أية وظيفة ذات تعلق بالكون سواء على سبيل الإيجاد أو على سبيل التدبير ! ما يعني أن يكون الإيمان بإله موجد ومدبّر للكون ليس إلا تعبيراً عن الفزع الذي يسكن المرء تجاه ما يراه من ظواهر طبيعية في الكون .
وهذا الطرح من ديمقريطس ترك أثره على جوانب عديدة في المجتمع الإغريقي القديم سواء على صعيد الأخلاق أو الفلسفة أو الاجتماع .
يُتْبع ...
 
(6) :
بفعلٍ من آراء ديمقريطس انصرف الإغريق عن كثير من أعرافهم الاجتماعية وتقاليدهم ، ومعتقداتهم ، الدينية التي دان بها ، لزمن طويل ، الإغريقي القديمُ .
ظهر السوفسطائيون ، وهم مَن مالَ بالحياة ، الاجتماعية تحديداً ، نحو التحرر من الآراء المتوارَثة ، واتجهوا إلى الاهتمام بالحياة الفردية بناء على تصور لديهم : أن المفكرين والفلاسفة لم يتفقوا على تفسير واحد لنشأة الكون ، وكيف ظهرت الحياة الحية واللاحية ، كما لم يأتوا بجديد يحل محل العقائد الدينية التي أصبحت محل نفور كثيرين من الإغريق .
وتاريخياً ، فقد كان لانتصار الإغريق على الفُرس أثرُه الكبير في نجاح هكذا دعوة ، فظهرت ، أو شاعت ، الدعةُ ما أنتج رغبةً شيطانية في إشباع الشهوات والرغبات التي كانت الحروب سبباً في كتمها !!! .
وشيئاً فشيئاً ، ظهرتْ الآراءُ ، والمذاهبُ ، الهادمة لكثير من القيم الإنسانية التي بخلوِّ مجتمعٍ ما منها يكون معرضاً للانهيار .
ظهر القورينائيون ، وظهر الكلبيون ، وظهر الأبيقوريون .
وكان جُل اهتمام هذه المذاهب منصباً على الجانب الخُلُقي ، وهو الجانب الذي أسس فضيلتَه السابقون على هذه المذاهب كـ سقراط وأفلاطون وأرسطو طاليس .
وانحاز الإغريق إلى هذه المذاهب بالنظر لأنها تشبع لديهم رغبات ونزعات وشهوات وملذات ، ما عجّل بتدهور الدولة ، ثم سقوطها أمام الرومان الذين قضوا على هذه الحضارة ... إلى أن أحياها العرب ، والمسلمون ، من جديد .
يُتْبع ...
 
(7) :
القورينائيون :
مدرسة القورينائيين أسسها أرستيوس ( تُوفّي العام 366ق م ) والرجل تلقّى مباديء المذهب على يد السوفسطائيين . وكان أول ، وأهم ، شعارات المدرسة أن الفرد مقياس كل شيء ، ما يعني أنه لن تكون هناك معايير للحق ... أو الأخلاق بوجهٍ عام : فما يراه " أحدٌ " خيراً ، يكون خيراً حتى لو رآه جموع الناس شراً ، وما يراه هذا الـ " أحد " حقاً ، يكون حقاً حتى لو رآه جموع الناس باطلاً .
وهذا " الخير " ليس هو الصادر ، كقولة سقراط وأفلاطون وأرسطو ، عن العلم الناتج عن البحث النظري ، بل هو ما يتحصّله المرء عن طريق اللذات على اختلافها حيث " اللذة " هي الخير الوحيد ، إنْ لم تكن هي الخير الأسمى ، وقبالتها يكون " الألم " هو الشر الذي يجب على الإنسان تجنّبه بكل وسيلة .
ولما كان الإنسان يحيا حياةً هي عبارة عن " لحظات عابرة " ، فعلى هذا الإنسان أن يُشبِع رغباتِه ، وشهواتِه ، حال وجدها دون إمهال ، حيث هذا الإمهال يقضي على ما يتاح للإنسان من ملذات حسية ، تلك التي هي اللذات الحقيقية لأنها " نداء الطبيعة " التي يجب على الإنسان تلبيته دون تأخير أو إبطاء .
وعلى صعيد القوانين التي يصيغها المجتمع ، فإن القورينائيين ينادون بضرورة ألا يقيم لها الإنسانُ وزناً ؛ فهي أمور اصطناعية من صنع " بشر " ليمنعوا الآخرين من سماع " نداء الطبيعة " وتلبيته ! ما يعني ضرورة تحطيم هذه القوانين ليعود الناس إلى طبيعتهم التي خُلقوا بها ولها ، فيطلقون لرغباتهم العنان دون تفكير في الذي سيترتب على هذا الفعل أو ذاك ، ففي " التفكير " قلق ، والقلق كفيل بالقضاء على كل ، وأي ، لذة .
كذلك نادى القورينائيون بالتخلص من المعتقدات الدينية لأنها ، برأيهم ، توجِد ، وتساعد ، القوانين الاجتماعية ، وتعلي من قدر الحرمان من اللذات والتقشف والزهد ، وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى السعادة الإنسانية .
لكن ... لما سعى هؤلاء لتطبيق مبادئهم تلك بشكل حَرْفي بان لهم أن السعي نحو تحقيق السعادة عبر الحسيات واللذات الحسية فقط ، سوف يجعلهم غير مفارقين للبهيميات من الكائنات الحية ، علاوة على أن هكذا سعي من شأنه أن يقضي على الفرد والمجموع في آن ! ما عجّل بظهور نزعة التشاؤم الحادة بين أتباع هذه المدرسة ، وبمد الحبل على استقامته صار التشاؤم باتجاه الحياة نفسها حتى أعلن متأخرو هذه المدرسة الرغبة في الانتحار طريقاً للموت على سبيل الخلاص من هذه الحياة .
يُتْبع ...
 
(8) :
الكلبيون :
مدرسة الكلبيين أسسها ديوجين الكلبي (412–323 ق م) كانت – في بدايتها – ترى أن الذي يأتي بالسعادة هي الفضيلة ، بل والفضيلة هي السبيل إلى تحصيل كل ما ينفع الناس .
كرّس أتباع هذه المدرسة وقتهم ، وجهدهم ، ليبينوا للناس أفضل السبل لتحقيق السعادة الإنسانية ... حتى إن ديوجين لما سُئل ، مرةً ، عن أي الأشياء هو يحسنها ؟ فأجاب : توجيه الرجال ! بمعنى أن مهمة الفيلسوف الكلبي إنما هي أن يكون قدوةً للناس ، ناصحاً لهم ، فيوجههم للصواب ، ويلومهم حال ينحرفون عن هذا الصواب ... حتى " لو كان المخطيء مَلكاً " .
لكن هؤلاء الأتباع ثبت عنهم كراهيتهم للتفكير النظري والعلم الرياضي ، حتى مجّدوا الجهل وجاء عنهم : " لو كان المرء عاقلاً لوجب ألا يتعلم القراءة حتى لا يفسد الآخرون عقلَه " !!! .
والعلوم النظرية ليست ، برأيهم ، مجديةً على الصعيد الأخلاقي ، تأسيساً على أن الفضيلة تتحقق بالأعمال لا بالأقوال ، والأعمال الفاضلة واضحةٌ ، وليست في حاجة إلى جدل أو مناقشة .
كانت حياة ديوجين مثالاً يأخذ منه أتباعه القدوة ، حيث كان زاهداً متقشفاً ، حتى إن أتباعه يرون أن الإسكندر التقاه يوماً وسأله عن " هبة " يطلبها منه ليعطيها له ، فقال له ديوجين : " أرحْ نفسك ، وتأخرْ قليلاً عن موقعك حتى لا تحجب الشمس عني " .
كان ديوجين شديدَ الصراحة مع من ينصحهم صارماً ، لكنه برر الأمر بأنه لا يعنيه من أمر الناس شيء لأنه " قطع كل صلة بالحياة الاجتماعية " ؛ فلا مدينة ولا بيت ولا وطن ... فهو " متسوّل يبحث عن قوت يومه " .
طبّق دويجين على نفسه هكذا مبدأ ؛ فكان يلجأ إلى المعابد ليقضي فيها لياليه ، أما في النهار فكان " يتطفل " على الناس ليكشف لهم عيوبَهم وأخطاءَهم بدعوى أن زيوس ، وهو كبير الآلهة ، قد " عهدَ إليه أن يقوم بهذه الرسالة " .
انقسم المؤرخون في تقييمهم لديوجين ما بين مادح وقادح ؛ فالبعض وصفه بأنه زاهدٌ ومتقشف ، والبعض الآخر وصفه بأنه عربيد متحرر من كل خُلق ودين ، وأنه لم يضع حداً لشهواته ، بل ترك نفسه لنزواتها فلم يكبح جماحها ، ولم يعصِ لها أمراً .
لكن الرأي الغالب أن الرجل كان زاهداً متقشفاً لا يرضى أن يسلك مسلك العربدة والفجور ، وقد طالب الإنسان ضرورة مقاومة ما يزيد عن حاجته من الرغبات ، فحسبُ المرء ما يقيم به حياته .
لكن المؤكد أن أتباع الرجل انتهوا إلى أن يصبح المذهب ، على أيديهم ، قريباً من مذهب القورينائيين تماماً بتمام ... أي أنه أصبح مذهباً ينادي بإشباع اللذات الحسية . وباختلاطهم بمذهب الأبيقورية ، صاروا لا يتورعون عن استخدام أحط الوسائل للحصول ما يريدونه من رغبات حتى لو كانت محرّمة .
وانتهى بهم الأمر إلى أنهم " هتكوا حجاب الحياء ، ومزقوا ستاره ، وأراقوا دماء الوجه الإنساني المُكرّم ، فاستحلوا التناول من مال الناس بغير إذْن . وكانوا متى رأوا مائدة اقتحموا عليها سواء طُلِبوا إليها أم لم يُطْلَبوا ، حتى سمّاهم القوم بالكلاب ، فإذا رأوْهم رموهم بالعظام المعروفة . ومع ذلك لم تتنازل هذه الكلاب الإنسية عن دعوى الحكمة ، ولم يردعْها رادع الزجر عن شيء من شرورها ، وكانت تنبح في الأسواق مناديةً : المال والنساء مَشاع بين الكل " .
عُرفَ الكلبيون ، في القرن الثالث قبل الميلاد ، كجماعة تجرّدتْ من كل فضيلة ... خاصة فضيلة الحياء ، فاقترفوا كل رذيلة ، وراحوا يهدمون كل ما هو فاضل في حياة الفرد والمجتمع : فالقوانين ليست جديرة لا بالطاعة ، ولا بالقداسة ، ولا بالاحترام ، فهي مجرد قواعد تواضع الناس عليها ، وما دامت مضادة للطبيعة ، فمن الأولى أن يعود الناس إلى الطبيعة ليلبوا نداءها في كل النواحي .
وإذا كان أفلاطون قد نادى – في الجمهورية – بأن يكون كل من المال والنساء مشاعاً بين الناس ، فإنه قد برر ذلك الطرح بأنه لأجل " تقوية الروابط الاجتماعية " و " إنهاء أسباب الصراع بين البشر " ، إلا أن الكلبيين لما فعلوا ذلك برروا بان أن هدفهم هو تحطيم الروابط الاجتماعية باعتبارها مما يقف بوجه رغباتهم ونزواتهم وشهواتهم .
والحاصل أن الكلبيين لم يقفوا عند حد الطمع ، والرغبة ، في الذي هو عند الناس ، بل وصل بهم الأمر أنْ حقّروا " المدنية الإغريقية " ، وذهبوا إلى تفضيل غيرها عليها كمدنية الفُرْس ، الأعداء التقليديين للإغريق ! ما يعني أنهم كانوا من أوائل المنادين بمذهب الشعوبية الذي يتحرر فيه تابعوه من كل ، وأي ، وطنية أو دين ، وهذا بادٍ في تحقير الكلبي لآراء ، وعقائد ، سابقيه ، فضلاً عن مخالفيه ، وكانوا الأقرب إلى الإلحاد بمفهومه الاصطلاحي ، وصار الأتباع يتبرمون بأي توجه نحو الفضيلة ، ذلك حتى لا يكون الكلبي عبداً للقوانين أو الأخلاق أو الدين . ويصبح القانون الوحيد الذي على الكلبي احترامه هو قانون الحكمة ، وهو يعني العودة إلى الحياة المتحررة من كل ، وأي ، قيْد ... : " لو كان الناس حكماءَ لعملوا على محو الفروق بينهم لكي ينشئوا مدينةً واحدةً ، لها قانون واحد : هو الحرية المطلقة " .
ولنا ، كمؤرخين ، أن نلاحظ أن هذه الحرية ، أو بالأحرى الفوضى ، المطلقة هي ما عجّلَ بذهاب حضارة الإغريق ، وذلك على يد مفكرين إغريق ، ومنهم الكلبيون .
يُتْبع ...
 
(9) :
الأبيقوريون :
هم المنسوبون إلى أبيقور ( 341 : 270 ق م ) ، وهو الآخذ عن ديمقريطس ومذهبه الذري المفرِط في المادية .
يرى الرجل أن المادة قديمة ، وهي مستمرة في حالة ديمومة من الأزل وإلى الأبد بلا انقطاع .
كما يرى أن العالم يتكون من عدد لا نهائي من الذرات التي تجتمع بأشكال مختلفة فتؤدي إلى وجود كائنات من أنواع كثيرة . وهذه الذرات تنحرف – حال سقوطها – بصفة تلقائية ما يؤدي إلى اجتماعها .
ونلاحظ أن كلام أبيقور في " الانحراف التلقائي " إنما جاء لينفي الرجل القول بوجود العناية الإلهية .
والنفس ، عند أبيقور ، تتكون من الذرات النارية ، وأي كلام بشأن " أصل النفس " أو " مصيرها " إنما هو أساطير تناقلها الناس على أمل أن يقولوا بخلود النفس .
وهذا التوجه من الناس الأخذين بهكذا أساطير أدى بهم إلى كثير من شقاء وبؤس ، حيث هُم يحددون سلوكهم بناءً على تصور غير صائب بوجود حياة أُخرى فيها يعاقَب المرء ، أو يثاب ، بناء على ما قدم في حياته الدنيا .
ويؤسس الرجل للقول إنه لو دقق الناس النظر لانتهى بهم الأمر إلى الاطمئنان وعدم الاضطراب أو الجزع لأنه لا خلود للنفس ، فهي فانية شأن الجسد الفاني .
يدعو أبيقور ألا يفكر الناس في " حياة أبدية " بل الأولى ، برأيه ، التفكير في " موت أبدي " وهو هذا الزمن الذي مر قبل وجود النفس ، وسيبقى بعد فنائها .
إن الرجل يرى أن الشخص الذي يخاف الموت يشعر كل لحظة بقلق شديد ، بينما الحال على غير ذلك ، من حيث إن العقل " يقرر أنه لا خوف من الموت ، كما لا رجاء في عناية إلهية " .
يسأل أبيقور ... : " لماذا يخاف الإنسان من الموت " ؟ ، ويجيب ... : " لأن الإنسان يعتقد أنه – حال يموت – يتجه إلى مصير مجهول يمكن أن يشقى بسببه " . لكن الرجل يرى أنه " ليس هناك ما يبرر هذا الخوف " ! ذلك : " لأننا ما دمنا موجودين ، فإن الموت لم يأتِ بعد ، وإذا جاء الموت ، لم نكن نحن موجودين ، فالموت ليس شيئاً في ذاته " .
هكذا ، ليحرر الإنسان من الخوف من الموت ، نزع أبيقور نحو إنكار الخلود ! حيث هو يرى أن " الجاهل وحده هو من يخشى الموت " .
هذه واحدة ، وأخرى ، فإن أبيقور اتجه نحو تخليص الناس من " الخوف من الآلهة " بزعم تحريرهم من " أسباب الشقاء في هذه الحياة " هذا مع أن أبيقور لا ينكر " وجود الآلهة " ، لكنه – في الوقت نفسه – يرى أنها " هي أيضاً مركّبةٌ من ذرات لطيفة ، وتسكن ما بين الأكوان ، وهي كائنات سعيدة تعيش في سلام دائم مهتمة بنفسها وسعادتها ، ولا تهتم بالبشر في كثير أو قليل " .
ومع كل ذلك ، أو برغمه ، فإن الرجل " يحبب " الإلحاد إلى أنصاره ، بل وإلى الناس جميعاً ! ... : " إنه ما دامت الآلهة لا تهتم بالبشر ، فليس من الحكمة في شيء أن يهتموا بها أيضاً " .
والمثير للدهش ، أن الرجل ، رغم هذه النصوص الداعية إلى الإلحاد ، فإنه ينفي عن نفسه تهمة أنه " ملحد " ! حيث يرى " أن الملحد الحق ليس هو من ينكر آلهة العامة ، وإنما هو الذي يؤمن بآلهتها " .
وهذه " حيلة " أكثر ، بل كل ، الملحدين على مر التاريخ ، حيث الدعوة إلى الإلحاد تتلبس بالإغراء أن يكون " الإنسان " " عاقلاً " فيهجر " الإيمان " كي يبدو في مظهر " العاقل " و " الحكيم " .
ومذهب الرجل في الآلهة أنها ليست تنشغل إلا بنفسها ، ولا تتنبأ بشيء ، ولا تسيطر على شيء تأسيساً على فكرته " الوجودية " التي ترى أن الوجود ، بكل ما فيه ، إنما هو من صنع " المصادفة " ، ما يعني نفي أي أثر يدل على تدخل الآلهة عنايةً بالبشر .
ومذهب الرجل ، بصورته هذه ، إنما يدل على أنه " دهري " بامتياز من حيث إنه يتخذ آراءه ، أو توجهه ، الفلسفي مدخلاً لنفي الإيمان وتبني فكرة وجود " قوة عاقلة " تسيطر على الكون ... : " هل من المعقول أن تتدخّل الآلهة في هذا العالَم المضطرب ؟ إننا نرى الأخيار يصابون بالكوارث ، والأشرار ينعمون بحياة رغدة مخجلة " .
الرجل يُسفّه " من يعتقد في الآلهة " ويرى أنها لا تهتم بأفعال ، ونوايا ، البشر ... : " من السخف أن يكترث الإنسان بالآلهة ، وهي لا تكترث ، مطلقاً ، بما يحدث في هذا الكوكب الأرضي ، ولا تشغل نفسها بمعاقبة الأشرار وإثابة الأخيار " .
هكذا قدم أبيقور مذهبه الموغل في " الدهرية " مغلفاً إياه بدعوى أنه إنما يسعى لتحرير الناس من أهم أسباب الشقاء : الخوف من الموت ، والخوف من الآلهة . ذلك لينتهي إلى إقناعهم بالمذهب الأبيقوري ، ذلك المذهب الداعي إلى التحلل من كل الفضائل ، وإباحة حتى الفجور ! ما حدا بالمؤرخين إلى أن يصنفوا الرجل ، ومذهبه ، ضمن المذاهب ذات الاتجاه المادي وجودياً ، الإباحي أخلاقياً ، شأنه في ذلك شأن الكلبيين ... بل إنه " أحد أتباع ديوجين الكلبي " .
يُتْبع ...
 

(10) :
وهناك فريق من الدارسين يرى أن أبيقور ، نفسه ، كان " معتدل المِزاج " ، وكان يرى الخيرَ الأسمى " أن يكفي الإنسان نفسَه بنفسه " ، وأن أفضل وسيلة لتحقيق السعادة / اللذة " ليست هي زيادة الثروة ، وإنما هي الإقلال من الحاجات بقدْر المستطاع " ، ذلك لأجل أن يكون الحكيم " غير عبدٍ لرغباته وشهواته " .
لكن ، وبالمقابل ، نجد أن هذا التفسير لفكر الرجل ليس هو ما جمع حوله أنصارَه ، بل السبب في كثرة أتباع أبيقور أن الرجل رفع مبدأ أخلاقياً مؤداه : " ضرورة الخضوع للطبيعة " تاسيساً على أن الحياة بحسب ما تمليه الطبيعة هي غاية السعادة ، ما يعني أن اللذات الحسية هي " اسمى اللذات وأعلاها مرتبة " ، حتى اللذات العقلية ليست إلا صورة من هذه اللذات الحسية : فاللذات العقلية إما أن تكون تذكراً للذة حسية ماضية ، أو توقعاً للذة حسية مقبلة .
أسس أبيقور لهذا المبدأ لأنه رأى أن اللذة الحسية هي غاية الإنسان من حيث إنها " نداء الطبيعة " ، وعلى " الحكيم " أن يشبه ، في هذه الناحية ، الحيوانَ ، من حيث إن الحيوان معروف عنه أنه يبحث عن اللذة ويفر من الألم دون أن يرشده أحد لا لهذا ولا لذاك ، بل هو سلوك فطري متجه نحو أن يكون مستجيباً لـ نداء الطبيعة ، ما يعني ضرورة أن يقلد الإنسانُ الحيوانَ في هذا الأمر حال أراد لنفسه ، أو بنفسه ، خيراً .
وقد كان هذا الموقف من اللذة ، كما رآه أبيقور ، السببَ في كثرة أتباع الرجل ، فقد رأوا في هكذا مبدأ / موقف دعوةً صريحة للتحرر من أي دينٍ ، أو عُرفٍ ، يضع قانوناً أخلاقياً ، ومن ثم كان الاتجاه من هؤلاء نحو الإباحية المفرِطة .
وقد رفض بعض أتباع الرجل تفسير الخصوم لفكرة اللذة عند أبيقور ... : " عندما نقول إن اللذة هي غاية الحياة ، فلأننا لا نريد ، بذلك ، شهواتِ هؤلاء الذين لا يعرفون كيف يسيطرون على أنفسهم ، ولا نريد بها ملذاتِ الشهوانيين كما يقول هؤلاء الذين لا يعرفون نظرية الأبيقوريين ، أو الذين لا يفهمونها ، أو الذين لا يظلون أمناء عليها ، وإنما هي اختفاء كل ألم حسي وكل اضطراب عقلي " .
إلا أن الواضح أن هكذا رفض من الأتباع لا يصمد ، كثيراً ، أمام النقد ؛ فكيف يدعو أبيقور ، نفسُه ، إلى إشباع اللذات الحسية " نظرياً " ثم يدّعي هؤلاء تحريمها " عملياً " ؟ !!! فالمنطقي أن إشباع " الحسي " لا بد أن يكون " حسياً " .
والشاهد أن بعض " الأتباع " كان مُتسقاً عمله مع فكره أكثر مما كان أبيقور نفسه ! وقد انتهى هؤلاء إلى إنكار كل من : " خلود النفس " و " العناية الإلهية " ، ما أدى إلى أن يتبنى الأتباع فكرة الإقبال على الحياة بهدف الفوز باللذة والفرار من الألم .
القول في المادية القديمة :
يُتْبع ...
 
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك وأحسنت وأحسن الرحمن إليك
 

القول في المادية القديمة :
(11) :
... : " لاشك أن المذاهب المادية ما ظهرت في أمة إلا وكانت عليها وبالاً ، وكانت كارثةً تهدد بناءها " . والتاريخ يصدّق هذا القول ؛ فقد كانت المذاهب المادية ، في بلاد الإغريق ، العاملَ الأساس في القضاء على حضارة اليونان التي كانت مزدهرةً أيما ازدهار ! وقد بان أن اليونان كانوا ، قبل ظهور الماديين ، يؤمنون بعقائدهم الدينية ، واستطاعوا ، وهم قليلو العدد ، أن يواجهوا الإمبراطورية الفارسية وينتصروا عليها عسكرياً وسياسياً .
بل تكرر الأمر نفسه مع الحضارة الإسلامية إذ كان تفشّي المذاهب المادية في تلك الحضارة سبباً في تدهور ، ومن ثم انهيار ، هذه الحضارة ... وهذا ما سنبينه لاحقاً .
نعتقد أنه وراء كل ، وأي ، دين ، حتى الأديان غير الموحَي بها ( = السماوية ) ، مجموعةً من القيم ، والفضائل الأخلاقية ! إذ لاحياةً ذات قيمة دون الاستمساك بالقواعد المقررة على صعيد الأخلاق ، ذلك بالنظر إلى الترابط بين الدين وبين الأخلاق . نعلم أن فريقاً من الاجتماعيين ، كذا من علماء الأخلاق المحدَثين والمعاصرين ، قد سعوْا لأن يفصلوا ما بين الأخلاق وبين الدين في محاولة منهم للكلام في " اجتماعية " الأخلاق ، ما يعني إمكان تفسيرها تفسيراً اجتماعياً غير ذي ارتباط بأي بُعد إلهي ، وذلك سيمهد للكلام في فناء النفس ( = عدم خلودها ) ... وكأننا : " عودٌ على بدء " .
زعم هؤلاء أن أرسطو ، وهو عمدة الأخلاقيين القدامى ، قد درس الأخلاق ، وصاغَ لها مُثُلَها العُليا ، بمعزِلٍ عن " فكرة " الدين برُمّتها ! فجاء مِن ، أو عن ، هؤلاء القولُ ... : " إن أرسطو درس الأخلاق دون أن يشعر أحدٌ بتدخل شواغل بالحياة الأخرى ، أو بإله يُوْقِع العقوباتٍ في حياة آخرة غير هذه الحياة الدنيا " .
لكن هذا السند من هؤلاء الاجتماعيين ، ومن شايعهم في مذهبهم هذا ، قد أغفل ، وربما عن قصد عامد ، الآتي :
- أن آراء كل من سقراط وأفلاطون ، وهما أستاذا أرسطو ، لم تغفل البعد الديني / الأخروي للقيم الأخلاقية إيجاداً وحساباً .
- أن أرسطو لم يؤسس مذهبه الأخلاقي بمعزلٍ عن " تأثر " ، لا ينكره هو شخصياً ، بأستاذيه : سقراط وأفلاطون ... ؛ فإن الأخلاق لدى الرجلين : سقراط وافلاطون ، ذات ارتباط وثيق ، يقر به دارسو الأخلاق القدامي والمحدثون والمعاصرون ، بفكرة " الحياة الأخرى " ، وفكرة " الإله " المُثيب المعاقِب . ذلك مع معرفتنا بموقف أرسطو ، وهو موقف متذبذب ، بشأن إنكار خلود النفس ، كذا موقفه من الإله الذي رأى أنه " غريب عن هذا العالم " ... بل و " جاهل به " !!! .
يرى عالم الأخلاق الفيلسوف / عالم الاجتماع الفرنسي ليفي بريل ( 1857 : 1939 ) أن هكذا مسعىً من الأخلاقيين المعاصرين إنما الهدف منه هو " دراسة الأخلاق بطريقة علمية للكشف عن قوانينها ، ومن ثم توجيه الأخلاق بناءً على هذه القوانين " ! لكن الرجل اعترف ، في الوقت نفسه ، بأن هكذا محاولة ما زالت " في مراحلها الأولى " ، ثم يضيف : " قد تمر عصور متطاولة قبل أن يصبح علم الأخلاق شبيهاً بالعلوم الأخرى التي أمكن استخدام قوانينها وتطبيقها تطبيقاً عملياً " ، ثم يقر : " نحن مضطرون لأن نسلّم بضرورة اتباع الأخلاق الراهنة حتى نأتي بأخلاق عملية " .
ونحن نخشى أن القوم لن يأتوا بمثل هذه الأخلاق " العملية " " المعملية " ! من حيث اعتقادنا أن العلم ليس له أن يحدد " المُثُل العليا " للأخلاق ، بل كل مهمتِه أنه يكشف عن " قوانين الظواهر " ، ما يعني أنه سيبقى بعيداً عن أن يكون " معيارياً " .
كان الدهريون القدامي أكثر وعياً من هذا الفريق ، حيث أدركوا ، ومن ثم سلّموا ، أنه مستحيل " التحرر من الأخلاق " والاقتصار على " الاندفاع وراء الرغائب والشهوات " ، وأكّدوا أنه بحال قام إصرار على هكذا محاولة ، فإن الأمر سيتطلب " هدم الأساس " الذي تستند إليه الأخلاق ... وهو : الدين .
لكن ، ما السبب في إخفاق هذا الفريق القديم والمحدث على السواء في هكذا محاولة ؟ .
يُتْبع ...

 
(11) :
ما السبب في إخفاق هذا الفريق القديم والمحدث على السواء في هكذا محاولة ؟ .
(12) :
إن السبب وراء هكذا " إخفاق " هو أن الدين " فطرةٌ في القلوب " وأنه مهما حاول البعض من مناهضي ، أو رافضي ، الدين خلطَه بالشوائب في محاولة منهم لتنفير الناس منه ، مهما حاول هؤلاء هكذا محاولة ، فإن الدين سيبقى " يطبع النفوس بطابَع ينتقل من جيل إلى جيل ، فيعمل على حفظ المجتمع وبقاء الأفراد " ... فالإنسان : " لم يُحرمْ من لطف مبدعه ، فكما أبدعه ألزم الدينَ وجودَه ، فتمسك الناس منه بأصول ، وانطبعوا منه على خصائص توارثها الأبناء عن الآباء من قرون . ومهما غيروا ، أو بدلوا ، كانت بقايا ما ورثوه لا تزال تشرق على عقولهم بأنوار من المعرفة يهتدون بها إلى سعادتهم ، ويقيمون أساس مدنيتهم ، ولم يبطل أثرُها في تعديل أخلاقهم وكف أيديهم عن التطاول إلى الشرور والمفاسد " .
ولما " فهم " ماديو ذاك الزمان أن الدين " فطرة في القلوب " حوّلوا هجومهم نحو هذه " الفطرة " على أمل هدمه بما مصدر للمُثل ، والقيم ، العُليا ، كما أنه يقف حجر عثرة في سبيلهم فتحول دون تحقيق مطلبهم المادي / الحسي .
إن الماديين يقفون على النقيض من التاريخ الذي يبيّن أن الدين ، والأخلاق ، هما ما يقف وراء المدنية إنشاءاً وتطويراً وتقدماً ، من حيث إنهما الحافز للفرد ، بل للمجتمع ، كي يقوم أكبر قدر من الكمال . وبنفس القدر ، فإن الدين ، والأخلاق ، يمثلان الضمان ضد بواعث الشر والفساد ، وهذان من أشد العوامل التي تعمل على " هدم " الأمم والأفراد سواءً بسواء ... سنة الله الاجتماعية ... : " ولن تجد لسنة الله تحويلاً " .
إن علماء الاجتماع انتهوا إلى تحديد ثلاث عقائد ، كذا ثلاث خصال ، وهذه الستة تمثّل ، مجتمعةً ، العوامل المنشِئة ، والحامية ، للمدنية التي ينشدها الإنسان سعياً نحو السعادة التي هي مراد الإنسان على الحقيقة .
ولما كان الأمر كذلك ، فإن الماديين سعوْا إلى هدم هذه العوامل ، أو على الأقل التقليل من شأنها ، ما كان له الأثر الأول ، إن لم يكن الأهم ، في تقويض حضارة الإغريق ، تلك الحضارة التي يشهد التاريخ على الدور " غير الشريف " للماديين في هدمها .
يُتْبع ...

 
(13) :
أ- معتقد أن " وجود " الإنسان يختلف عن " وجود " الطبيعة :
وهذا يؤدي إلى اعتبار الإنسان " شبه مَلِك " في الأرض من حيث تكريم الله له ، حتى أجاز مفكرو الإسلام أن يقال بحق الإنسان إنه " سيد في الأرض " حتى لا يغالي غالٍ فيقول إن الإنسان " سيد الأرض " حيث السيد بإطلاق ، في التصور الإسلامي ، هو الله تعالى .
هذا الطرح بحق الإنسان سيجعله يسمو أن يكون شبيهاً بالحيوان ، ومن ثم لا يصرف حياتَه في إشباع رغباته العضوية بشكل يستغرق كل حياته .
كما أن هذا الطرح يشيع بين بني الإنسان أنه كلما سما المرء ، روحياً وخُلقياً ، كلما ابتعد عن الرذائل ، كلما سمتْ نفسُه وصفَتْ ، وأقبلت تعمل لتقتربَ من العالم العقلي ... وهنا تبدأ مراحل الكمال ، وهي ما يؤهل لبداية ، بل ودوام ، الحضارات ، ثم تسود الطمأنينة والأمن النفسيين بهكذا طريق لا بطريق إشباع اللذات الحسية بحسب ما تصور ، وأشاع ، أبيقور وغيره من الماديين .
إن الناظر في حياة الحيوان ، وهي ما يتصور جدواها للإنسان أبيقورُ ومدرسته ، يلاحظ كم الصراع القائم بين فصائلها ، ما يؤدي بالإنسان لأن يتفكر : أيليق به أن ينزل إلى هكذا مرتبة ومحاكاة أعضائها في الطباع والرغبات ؟ أم تراه يرى أن الأليق به ، وهو ذو الإيمان والعقل ، أن يسمو بعقله ، وإيمانه ، كي يتم توجيه أفعاله نحو حياة طيبة تقوم على أسس من تهذيب النفس والبعد عن الرذائل .
إن المجتمع الذي ينظر أفراده إلى الحياة نظرةَ الحيوان لن يكون لدى هؤلاء الأفراد لا الوقت ولا القيم التي بهما يؤسسون حضارة أو مدنية ، فحيث يتنكر أفرادُ مجتمعٍ ما للقيم ، والمُثل ، العليا ، وتصبح قيمُ الغدر والحيلة والطمع والأذى والكسل هي ما يوجه أفراد هذا المجتمع وتحفزهم ، وقتها يكون هذا المجتمع قد دشن بيده نهايته .
ب- الاعتزاز بالدين واعتباره أساس المدنية :
وهذا الاعتزاز ليس عيباً ، وليس يدل على أي نوع ، ولا مستوىً ، من التعصب ، بل يبقى دالاً على " الاعتزاز بالعقيدة " ، وهذا سيؤهل صاحبه لأن يشرع في تأسيس المجتمع المتمدن الذي سيكون دليلاً على " صدق المعتقد " .
ونلاحظ أن هناك من يعيب على بعض أتباع الديانات تأخرهم من ظنِّهم أن هكذا تأخر إنما هو راجع إلى " العقائد " و " الشرائع " التي يدين بها هؤلاء ! وكان الأولى لوم عدم الفهم الصحيح لهذه العقيدة وهذا التشريع ، كذا لفصل القوم بين المعتقد ، وهو نظري ، وبين السلوك ، وهو عملي ! إذ يبدأ التخلف الاجتماعي حين يتم الفصل بين النظرية والتطبيق ... : " لمَ تقولون ما لا تفعلون " .
الشاهد التاريخي أن الإغريق ، في القرن الثالث قبل الميلاد ، فقدوا ثقتهم في عقيدتهم ، وفي مدنيتهم سواءً بسواء ، فهناك فريق منهم راح يفضّل الأمم الأخرى على أمته ! ، ما عجّل بسريان الضعف الاجتماعي تبعاً لسريان الضعف الانتمائي ! فكان أن بدأ الإغريق يستسلمون لأمة ستكون أشد منهم قوة بذاتها وإيماناً بنفسها ، وتمسكاً بعقيدتها التي أوحت إليهم أنهم سيأخذون الأرض " من مشرقها إلى مغربها ".
ج- الإيمان بالنفس والثقة فيها :
هذا معتقد ذو صلة بسابقيْه ؛ فالإنسان لما يؤمن / يعتقد أنه أفضل من غيره من الموجودات الحية الكائنة على الأرض ( = سيد في الكون ) ، وأن معتقده يدعو إلى الخير والعدل ، فإنه سيتأسس لديه اعتقاد آخر بأن ما يراه في حياته هذه ليس سوى " مقدمة " لكمال وسعادة يقومان في حياة أخرى / آخرة ، ما يعني أنه سوف يتأسس لديه اعتقاد أنه " إنما ورد إلى هذه الحياة الدنيا لاستحصال كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي ، والانتقال من دار ضيّقةِ المساحات كثيرة المكروهات جديرة أن تسمّى بيت الأحزان وقرار الآلام ، إلى دارٍ فَسحةٍ خاليةٍ من المؤلمات لا تنقضي سعادتها ولا تنتهي مدتها " .
هذه الحياة الدنيا ، تمثل مرحلة إعداد وتمهيد ، أو استعداد وتحصيل ، ما يعني أنها لم توجَد عبثاً ، بل هي ميدان يتزود منه المرء بما يسمو بنفسه إلى حياة أكمل وأرفع ، وهذا سيدفعه نحو ألا يهتم بـ نداء الطبيعة ، ذلك النداء الذي يحاول الماديون إهباطَه إلى دركه السفيل ، بل سيسعى المرء لأن يحصل العلوم الحقة التي تجنبه الجهل أو نسيان حقيقة جوهره ، فيدوم يتذكر مصيره الذي قُدر له .
هذا ، كله ، سيكون الدافع " الجواني " نحو أن تحقق النفس المعتقدة هكذا اعتقاد ما أودعه الله فيها من قوىً ومدارك خُلقتْ لتحقق غاياتٍ ليس يمكن إدراكها حال انغمست هذه النفس في حمأة الرذائل التي يدعو إليها الماديون ، ثم إن هذه العقيدة ليست تدعو صاحبها لأن يُحٌقر من " حياته الدنيا " بل هي تدعوه لأن " يتمتع بها " لكن " في حدود المعقول " : فهو يكسب المال من " وجوهه المشروعة " ، وهو مصروف عن " أساليب الغدر والخيانة " ، ما يعني أن هكذا رجل لن يكون منافقاً كالكلبي ، ولن يكون مخادعاً كالأبيقوري الذاهب إلى القول ... : " إن الحكيم يجب ألا يخجل من تمزيق قوانين العدالة والشرف إذا كان في هذا الأمر تحقيق لمصلحة خاصة أو لذة عابرة " .
إن مثل هذه العقيدة ليست داعيةً لإصلاح الفرد فقط ، بل إن إصلاحها يمتد ليشمل المجتمع ، من حيث هي تحدد حقوق الأفراد وواجباتهم ، وهؤلاء الأفراد منهم يتكون مجموع المجتمع ، وبهكذا تحديد ستتحقق العدالة ، وسيرتفع الحقد والصراع بين أفراد هذا المجتمع .
... : " إن هذا الاعتقاد نفحةٌ من روح الرحمة الأزلية تهبّ على القلوب ببرد الهدوء والمسالمة . فإن المسالمة ثمرة من ثمرة العدل ، والمحبة زهر الأخلاق والسجايا . وهي غِراس تلك العقيدة التي تحيد بصاحبها عن مضارب الشرور " .
تلك كانت " العقائد الثلاثة " التي هي ، برأينا ، أساس كل مدنية وحضارة ! وقد حاول الماديون الإغريق هدمها اتجاهاً نحو الانتحار الفردي والجماعي ! وحال نجح هؤلاء فإنهم قضوا ، في ذات الوقت ، على الأمة الإغريقية . كما أنهم سعوا إلى القضاء على " الفضائل " التي كانت السبب الأساس في المدنية الإغريقية الأولى ، حيث مثلت هذه الفضائل الخصال التي أقرتها الأديان ، وتعتبر ، بنظر الإصلاحيين ، مما لا غنى عنه لمن يريد السعادة في الحياتين : الدنيا والآخرة .
- الخصلة الأولى : الحياء :
يُتبع ...
 
(13) :
- الخصلة الأولى : الحياء :
( 14) :
- الخصلة الأولى : الحياء :
أول هذه الخصال ... خصلة الحياء ، وهي تلك التي نادى بالقضاء عليها القورينائيون ... : " يجب ألا يخجل الإنسان من إشباع رغباته وشهواته ، فالحياء ليس بالصفة التي يُحمد عليها صاحبها ، بل هي دليل ضعف " .
إن الحياء فضيلةٌ مميزة للإنسان عن الحيوان ، وهي تجنب صاحبها أن يأتي ما من شأنه حصول اللوم / الاستهجان الاجتماعي من أفعال أو أقوال ، ما يعني أن يبقى الحييُّ ذا نفسٍ ملؤها السكينة والاطمئنان توافقاً داخلياً ( = رضا النفس ) وخارجياً ( = رضا الناس ) ، وهذا الأمر لا يتأتى إلا لنفس عافَ صاحبُها الرذيلةَ فكان أن نفرت منها نفسُه نفوراً .
إذاً ، فالحياء وازع " جواني " ، ولا سبيل للمقارنة بين هكذا وازع وبين شبيهه من " القهر " أو " الخوف " أو غير ذلك من الضوابط الخارجية ، ولا حتى القانونية ، فهذه ، كلها ، ضوابط لا ترقى لتكون في قيمة ، وجدوى ، أي ضابط " جواني " مع تسليمنا بضرورة الضابط الخارجي ، لكن لا بد من إعطاء القيمة للجواني / الداخلي ... فـ " الله يزع بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن" .
- الخصلة الثانية : الأمانة :
وهذه خصلة أخرى يؤسسها " الدين " باعتبار الفارق بين " الدين " و بين " القانون " !!! ، فالأمانة هي أساس كل المعاملات الاجتماعية ، وحال تصورنا مجتمعاً تحلل أفراده من أن يفوا بعهودهم لساد الفساد وتقدم التحلل ومن ثم الانهيار لزوم ما يلزم . وحيث تفسد الروابط التي بين الناس ، وحيث تنمحي الثقة ، يصبح قانون هكذا مجتمع الغدر والمخاتلة والنفاق ، وهذه كلها مؤذنات بانهيار هكذا مجتمع ، فهل يُتصور انتظام أمة حكامها وجنودها وقضاتها وفقهاؤها غير أمناء على ما وكّل إليهم من وظائف مجتمعية ؟.
لقد انتهى الاجتماعيون إلى أن الأمانة " هي الحاجز الذي يقف سداً في سبيل جميع الأمراض الاجتماعية " .
إنه لولا الأمانة ... : " لفشا القتل ولتفتحت أبواب الفقر " .
وإنه حال تصورنا ناساً ساستُهم خائنون ، فإنهم ... : " إما أن ينقرضوا ، وإما أن يأخذهم جبروت أمة أجنبية عنهم ، يسومونهم خسفاً ، ويستبدون فيهم عسفاً ، فيذيقون من مرارة العبودية ما هو أشد من مرارة الانقراض " .
- الخصلة الثالثة : اجتماعية الإنسان :
بمعنى أن الإنسان " كائن اجتماعي " لا تقوم حياته إلا بالتعاون بينه وبين غيره من الناس والأشياء .
... :" الله ، سبحانه ، خلق الإنسان ، وركّبه ، على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء ، وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله ، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل ذلك الغذاء ، فلا بد من اجتماع أبناء الجنس فيحصل التعاون وبه يحصل قدْر الكفاية من الحاجة من الطعام . وكذلك الحاجة إلى الدفاع عن النفس ، فقدرة الواحد محدودة ، ولابد من الاستعانة بأبناء جنسه والتعاون على ذلك كله بهم ، فإذا كان التعاون حصل له السلاح للمدافعة . فإذن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني ، وإلا لم يكمل وجودهم " .
حتى بحال وُجِدَ " زُهّاد " تركوا " المجتمع " ، فإن هؤلاء ، وبمنظور الاجتماعيين : " لا يحصل لهم شيء من الفضائل الإنسانية التي اشتُرط لحصولها مخالطة الناس لهم ومساكنتهم في المدن ، وبذلك تظهر ملكاتهم الاجتماعية ، أما أولئك المنعزلون عن الناس ، فإن ملكاتِهم تعد باطلةً ، لأنها لا تتوجه إلى خير أو شر ، ومن هنا كانت ضرورة أن يحيا الناس في مجتمع ، وأن تقوم بينهم علاقات . وعلى هذا الأساس كان قيام المجتمعات الإنسانية منذ عصورها ألأولى " .
الملاحَظ أن حاجات الإنسان ليست تنقضي رغم أنه " قاصر الجهد قليل الحيلة " ... : " كأنما أثار وجودُه عواملَ الطبيعة كلها عليه ، فجعلت له في كل رُكْنٍ من أركانها غائلةً ، وشحذت نصالها تريد أن تصيب منه مقتلاً " .
نعم ... قد تدفع " حواس " المرء فيدفع عن نفسه الأذى ، أو يجلب لنفسه النفع ، لكن هذا لا ينفي حاجة الإنسان إلى " الاستعانة بأقرانه " ولعل هكذا إجراء يبين الحكمة الإلهية من خاصية الاجتماع البشري ، تلك التي " فطر اللهُ الناسَ عليها " .
لكن كيف تستقيم حياة الإنسان ، وقد سلّمنا باجتماعيته ، إن لم يجد من الآخرين " صدقاً غي النصح " ؟ . وكيف تستقيم حياة الإنسان ، وقد سلّمنا باجتماعيته ، إنْ صوّر له الآخرون " الضار نافعاً ، والنافع ضاراً " ؟ . هنا تعلو القيمةُ المجتمعية الصدقُ باعتبارها " فضيلةٌ ضروريةٌ لبقاء لا الفرد فقط ، بل المجتمع بأكمله " .
لاحظَ التربيون طُولَ مرحلة الطفولة لدى أطفال " الإنسان " عنها لدى أطفال " الحيوان " لأن ما تم إعداد " طفل الإنسان " به من " حدة الحواس " لا يؤثر في طرق تعامله مع المجتمع ، بينما الأمر لدى " أطفال الحيوان " أن هؤلاء أكثر قدرة على التكيف مع شروط الحياة مع غيرهم من أقرانهم ، ما يفسر ضرورة أن تطول فترة الطفولة لدى طفل الإنسان من حيث هو بحاجة لمن يرشده ، صادقاً ، إلى ما يحقق له النمو الجسمي والخُلقي والعقلي ( = القيمي ) .
وبحال كان هذا الطفل في مجتمع لا يصدقه النصح ، ولا يتبع الحق في تزويد هذا الطفل بما يكف عن نفسه ضرر ، وشر ، الطبيعة ، وأصبح لا يجد إلا " قانون الطبيعة " كما يدعي الماديون ، لما استقام لهذا الطفل أمر ، ولا حسنت له حياة .
وحتى تاريخياً ، فإن الأمم التي كان الكذب شعارها ، صارت تتدهور أكثر مما يتصور أبناؤها الذين يُخدَعون بأن أمتهم " باقية على قيد الحياة " .
لقد زعم ماديو الإغريق أن الدين وهمٌ ، وأنه صناعة بشرية ، فكانت سخريتهم من الفضائل جميعها ، حتى كتبوا بشأن فضيلة لها اثرها التربوي والاجتماعي ، وهي فضيلة الحياء ، إنها " دليل ضعف ، لأن النفوس القوية هي التي لا تقف أمام هذه الأوهام " فكان مبدأهم : " الواجب الطبيعي أن يسعى الإنسان في معالجة هذا الضعف ليفوز بكمال القوة الذي يمر بعدم الحياء " . ولا شك أننا نعرف كيف انتهى أمر دولة ، وأمة ، الإغريق ، وكان من اسباب هكذا نهاية هؤلاء الماديون .
* المادية الوسيطة :
يُتْبع ...
 
( 14) :
* المادية الوسيطة :

(15) :
لعل من أشهر مظاهر المادية في العصر الوسيط ، هي الباطنية ، لكن هذه تأثرت ، بشكل أو بآخر ، بالمذاهب التي كانت تعم بلاد فارس .
كان الفُرْس ، قبل زرادشت ، أصحاب " توجُّه " ديني يُحسَب له أنْ أسس لمجموعة من القيم أفرزت أخلاقاً كانت السبب ، وإن كان غير مباشر ، وراء سيادة الفرس غيرهم زمناً طويلاً .
كان القوم ، قبل زرادشت ، يعبدون بعض مظاهر الطبيعة التي رأوْا فيها قوة ، أو قوىً ، تفيد وتضر ، وكان أن قسّموا الأمر بأن هناك آلهةً للخير ، وأخرى للشر .
ولما جاء زرادشت ، في حدود القرن السابع قبل الميلاد ، فجعل آلهة الخير في واحد ، وآلهة الشر في واحد ! الأول أسماه " أهور مزدا " ، والثاني أسماه " دروج أهرمن " .
رأى زرادشت أن الصراع بين قوى الخير وقوى الشر مستمر ، وسوف يستمر ، ما قسّم الناسَ قسمين بحسب ميل نفس كل واحد ! تأسيساً على أن النفس البشرية ميدانُ صراعٍ بين الخير والشر .
هذه ، برأينا ، عقيدة ساذَجة ، لكن يُذكر لها أنها كانت الحافز للفرس أن يعملوا معتقدين أن هذه الحياة الدنيا يجب على المتدين أن يبذل جهده فيها ليكون خيّراً وفاضلاً فتتم مجازاته في الحياة الآخرة بالجنة ، والعكس سيكون من نصيب غير الخيرين ، أو غير الفضلاء .
كما يُذكر لهذه العقيدة ، على سذاجتها ، أنها بثّت بنفوس الفرس أنهم " أفضل الأمم " ، وأنه لا سعادةَ لغيرهم من الأمم الأخرى إلا إذا " خضعوا لهم " و " دخلوا في حمايتهم ".
ساد الفرسَ تعاليمُ لها وجه وجودي وآخر أخلاقي ، فنراهم يشددون على قيمتيْ الصدق والأمانة ، حتى بلغ بهم الأمر حداً أنهم لم يكونوا أكرهَ لشيء قدر كرههم للاقتراض ، تأسيساً : " الواحد كان يخشى أن يضطره الديْن إلى الكذب في نحديد ميعاد الوفاء به " ! ما أدى إلى أن تقوى شوكة الفرس ، ويمتد سلطانهم حتى شملت ، بعهد دارا الأول ، إحدى وعشرين ولاية ، بما فيها مصر وسواحل البحر الأسود .
لكن لم يدم الأمر طويلاً ، فكان أن ظهرت مذاهب مادية أبعدت القيم الدينية عامة ، والخُلُقي منها خاصة ... ومن هذه المذاهب :
• المانوية :
ظهر هذا المذهب في القرن الثالث الميلادي ، وادعى أصحابه أنهم يسعون للمواءمة بين مذهب زرادشت والديانة المسيحية ، وسوف ينتهي الأمر بالقوم لأن يصبح مذهبهم صورة غير جيدة من الغنوصية المقامِ ، بالأساس ، على فكرة إنكار الوحي وتمجيد المعرفة الإنسانية التي هي خليط من السحر والشعوذة / الشعبذة .
تؤمن المانوية بوجود إلهين : أحدهما للخير ، والآخر للشر ، لكنهم يؤمنون ، رغم ذلك ، بوحدة الوجود ؛ فكلا الإلهين يتمثل في جميع الكائنات ، فتصبح " المادة " ، كذا حتى " الشيطان " ، إلهاً !!! ، ثم كلاهما يدخل في " إله واحد " ذي قوتين متضادتين متصارعتين منذ الأبد ، فيحدث أن تتغلب واحدة على الأخرى حيناً ، والعكس حيناً آخر .
تدعي المانوية أن إله الشر هو من خلق " المادة " ، ثم قام إله الخير بإحيائها ، ولذا كان الإنسان مكوناً من مادة وروح ، ويصبح شأنه في هكذا خلق شأنَ جميع الكائنات الأخرى .
هذا هو الجزء الذي أخذه ماني عن الزرادشتية ، ثم هو أخذ عن المسيحية فكرتين :
- فكرة الإله الذي يتجسد في الشمس بهدف أن يعيد الخير إلى الكون بعد أن سيطر عليه الشر والخطيئة .
- وفكرة الخلاص / النجاة ، والتي تتم عبر تحرير الخير من الشر ... بمعنى تخليص الروح من سيطرة البدن .
ومن تقريرات هذا المذهب الغريبة ، أنه يرى أن النفوس حال تغادر الأجسام التي سبق واحتوتها ، فإنها " تُحمل في سفن خاصة ، ويُرمى بها في القمر كي تتطهر مدة خمسة عشر يوماً ، تنتقل بعدها إلى الشمس حتى يصفو جوهرها ، ثم تنتقل إلى الذات الإلهية وتندمج فيها " .
وربما كانت هذه الفكرة هي نفسها عند قدامى الهنود .
وقد قسّم ماني أتباعه قسمين :
- طبقة المستمعين ... أو المريدين . وهذه ، بدورها ، مقسّمة قسمين : قسم خاص بالمؤمنين ، وآخر خاص بالمختارين .
- طبقة الكاملين ... أو الواصلين . ومن هذه الطبقة يتم اختيار مجلس يكون عدد أعضائه اثني عشر فرداً ، يرأسهم " الرئيس الأكبر" .
ولا يُسمح بانتقال أحد من طبقة المستمعين إلى طبقة الكاملين إلا بعد الاطلاع على " الأسرار " ، كذا بعد اجتياز اختبارات دقيقة تتناول " كلمة السر " و " الإشارات " التي يعرف بها الأعضاء بعضهم بعضاً ... وكأننا أمام نظام المحافل الماسونية .
ويبقى أن المانوية تمثل صورة " طبق الأصل " من أي مذهب إلحادي إباحي قام في المذاهب الإغريقية القديمة ؛ فالمانوية نادت بشيوعية المال والنساء ! ، وغالت في المناداة بمعاداة القواعد الخُلُقية التي تؤسسها المذاهب الفكرية عامة ، والدينية خاصة ، حيث ترى المانوية في أي توجه خلُقي قواعد " مفتعلة " ليس لها ثقل اجتماعي إلا من كون بعض الناس تواضعوا عليها وسعوْا أن يفرضوها على بقية أفراد المجتمع بتجاهل منهم أن " القانون الأسمى " الذي يجب خضوع الكل له هو " قانون الطبيعة " ذلك الذي يبيح لكل فرد من أفراد المجتمع أن يفوز بالخيرات التي يشتهيها دون أية اعتبارات لا لقوانين ولا لتقاليد .
والحاصل أنه لما حورب الفكر المانوي في موطنه الأساس : بلاد الفُرس ، انتقل إلى الغرب حتى سادت بشكل ملاحَظ في القرن الرابع الميلادي حتى ظن البعض أن المانوية " ستحل محل الديانة المسيحية " ، فتصبح الديانة الرسمية لإمبراطورية الرومان .
ثار الأوروبيون على المانوية القادمة إليهم من بلاد فارس ، وذلك بعد أن حوربت على يد رجال الكنيسة ، ما دفع رجال ماني إلى التخفي والعمل من خلال " جمعيات سرية " خاصة في أوروبا الوسطى ، ثم كان أن ظهرت مرة أخرى في شمال فرنسا عبر جمعيات ذات مظهر تقيّ إخفاءً لما سيظهر بعد من " طقوس وجرائم وحفلات داعرة " ، ما دفع السلطات هناك لأن تحظر هكذا جمعيات ... ثم تم : " سجنهم وإعدام الكثير منهم بتهمة الانتماء للمانوية"1 .
---
1- من المعروف أن القديس أوغسطين كان قد اعتنق المانوية قبل دخوله المسيحية .
يُتْبع ...
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top