أحبك يا وطني... ولكن..

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

أنا تغريد

:: عضو مُشارك ::
إنضم
29 ماي 2009
المشاركات
152
نقاط التفاعل
6
النقاط
7
في مثل هذا اليوم من تلك السنة، في ذلك المقهى أين اعتدت أن أقتل الوقت حين تكبل سلاسل البطالة يداي، ارتميت على أحد كراسيها المهترئة و قد أنهكني السير كامل الصبيحة و أنا أبحث عن عمل، عمل يفتح لي الأبواب.. أبواب الحلم بعائلة و مستقبل، و لحظات بعد جلوسي لمحتها قادمة نحوي، فشخصت بعيني إليها و انطلقت مسرعاً فاراً من لحظة الحقيقة فاراً من صوتها الباكي المتحسر، كانت تلحق بي تناديني في ترجٍ فما أزداد إلّا إسراعا مردداً في نفسي:" أخبروها ... لقد علمت أخيراً.. عودي أدراجك يا خالة أرجوك استسلمي... عودي..." و لكنني أنا من استسلم، فأخذت نفساً عميقاً و استدرت نحوها، مسكينة هي من أم بائسة.. شاحبة الوجه غائرة العينين نحيلة الجسم... أي بقايا إنسان، دنت مني تتصفح وجهي و تسبر أغواري ثم قالت بنبرة يائسة:" قل أنّ أحمد قد مات... قلها يا ولدي و أرحني علها راحتي الأبدية." موقف لن أحسد عليه أبداً و لحظة فررت منها شهوراً أحمل على عاتقي ذلك السر المعلن للجميع ما عداها فقلت و أنا أختنق:" لقد مات .. في عرض البحر قبل أن نصل الضفة الأخرى.. سامحيني خالتي سامحيني فلم أملك أن أفعل له شيئاً حينها.." فاضطرب كلها و ارتجفت شفتاها و هي تطلق شهقات الألم، و أخذت تجول بعينيها و تمشط الأرض كمن يبحث عن شيء ما، تمسكت بي حتى لا تقع ثم قالت بصوت خافت و هي تبكي بحرقة أكبر و تضرب على صدرها:" كنت أعرف، قلبي لا يكذب و لا يخطئ... آه ولدي.. آه وحيدي نجوت من مخالب القتلة في الرابعة عشر لتموت غريقاً غريباً في الثامن و العشرين... لماذا؟؟ ما كان وطنك ليبخل بقبر.." سكتت لحظة ثمّ واصلت:" و الله كان يحب وطنه ... كان يحبه و لكن.. ولكن.." و عادت أدراجها تجر رجليها جراً ثقيلاً، تجر أذيال الخيبة و حطام آخر أمل كانت تحيى به.

قبل شهور فقط من هذا الموقف، كنت أنا أحمد و رشيد نستعد لركوب قوارب الموت أو قوارب الجنة المنشودة مع مجموعة أخرى من أبناء الوطن، بعد أن دفعنا مبالغ تفوق أوضاعنا الاجتماعية مبالغ لم تحلم بها جيوبنا يوماً، في تلك الليلة لم نحمل معنا سوى بعض التمر و مياه للشرب ، داست أقدامنا المركب و قد داهمنا خوف مفاجئ لم نحسب له حساباً أخذ يقصص أطراف تلك الصورة الجميلة للجنة شيئاً فشيئاً، و انطلقنا و نحن نصطنع الضحك و التهريج و لكن اضمحلال أنوار المدينة التدريجي أخرسنا على مراحل حتى ساد صمت رهيب، و في قلب البحر أين لا شيء غير نحن و الأمواج العاتية كنا نصارع فقط لنبقى على سطح القارب، كلنا كان يحلم.. و لكن ليس بما هو آت إنّما بما خلّفنا وراءنا.. أمّهات إخوة و أحبة، منزل رغم ضيقه دافئ.. أكل رغم بساطته لذيذ.. و وطن رغم ما عانينا فيه وطننا، و لكن الجنة تستحق التضحية.

بعد هدوء العاصفة أين كنا ما نزال نشق البحر نحو الشمال، بدأ التعب يظهر جلياً على أحمد إلى أن اشتدت به الحمى و غاب عن الوعي، حسرة عارمة و خوف غطى الوجوه، لا دواء لا زاد لا أمل في إسعافه.. لم يحتمل جسمه النحيف مشاق تلك الرحلة الطويلة فقضى نحبه آملاً في حياة أفضل، مات أمام أعيننا و نحن نصد هجوم الدموع العنيف و نحبسها حبساً قوياً لكنّها أبت الركون في أجوافنا الباردة فانفجرت كينابيع حارة معلنة عن قهر دفين.. لقد نقص أبناءك يا وطني فرداً، أحبك و لكنّه ظنّ أنك لم تحبه يوماً فاختار الرحيل بين فكي الموت نفسه، حبك لنا يعني لنا الكثير يا وطني..
أصبح أحمد جثة هامدة على متن القارب أي مجرد عائق لا أكثر.. فألقيناه في البحر و تتبعنا نزوله الهادئ إلى أعماقه.. مشهد رهيب، يموت بعضٌ في سبيل أوطانهم و يموت آخرون في سبيل أوطان غيرهم، غريبة هي الحياة.
واصلنا رحلتنا و قد جثم الهم و الحزن على صدورنا و كادت شعلة الأمل أن تنطفئ حتى لاحت ملامح الشاطئ الآخر، الوطن المستعار الذي مهما أحببناه لن يحبنا أبداً، حينها كانت الوصايا واضحة: تخلصوا من أي شيء يمكن أن يعرف بكم أزيلوا عنكم رائحة أوطانكم، تفرقوا فهنا كل نفس لا تعرف إلّا نفسها، اركضوا و لا تنظروا خلفكم مهما حدث، اختبئوا فلا أحد يعرف متى تطالك عين الراصد، طبقت كل الوصايا إلّا هويتي احتفظت بها ربما أردت أن يكون لي قبر أن يصلى علي إذا مت، خشيت أن أصبح مجرد رماد تذروه الرياح لمخلوق مجهول الهوية.
ما أقساها من أيام، جوع برد تشرد خوف ذل و مهانة.. آه ما أحلاك يا وطني، بعد ليالٍ من العذاب التُقطتُ و قُذفتُ في السجن أين وجدت عشرات مثلي، أرجعونا لأوطاننا و أفرغونا على شواطئها كأننا نفايات صُدرت إليهم بالخطأ ... لا لسنا نفايات و لكننا بشر ضاقت بهم السبل هنا، بشر كُبلت أيديهم أو حتى بُترت، بشر يعيشون تحت الصفر و على الهامش فيك يا وطني.. بشر وجودهم كغيابهم و لكن أحبوك يا وطني، و هذا ما كان يردده رشيد:" رغم كل شيء أحب بلدي و إن قطعت البحر سأعود حتماً" رشيد الذي لم نسمع عنه الكثير غير أنّه مازال يتصل بأهله بين فترة و أخرى و لا أحد يعلم متى يمكنه العودة.
لا أعرف يا وطني أظلمتني فقررت الرحيل عنك أم ظلمتك برحيلي عنك.. أحبك يا وطني و لكن ها أنا الآن أقف عند أحد تلك القوارب.. ليس نفسه و لكنه يخوض نفس الرحلة و أنا أدندن أغنية عبد الرّحمن الحراشي.. "يا الرايح وين مسافر تعيا و تولي...." فأنا أحبك يا وطني... و لكن...


أمال بوضياف
 
مشكوووووووووووووووووووووووووور

الله يعطيك العافية

تقبل مروري
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top