لاتمر دون أن تقرأ وتبكي

ssousou

:: عضو منتسِب ::
إنضم
3 أكتوبر 2009
المشاركات
74
نقاط التفاعل
0
النقاط
2
وما إن بدأ يقرأ الورقة حتى بدأت معالم وجهه تتغير, إلي أن وصل نهايتها, صمت طويلا وظل واقفا بلا حراك, وبدأت عيناه تحمر وتحركت فيها الدموع ثم جثم على ركبتيه وكأنه غير مصدق للذي قرأه وصرخ صرخة طويلة وبدأ يحمل التراب ويهيل به على رأسه ويلطم نفسه, حتى أنه وضع أصابعه بالقرب من عينيه يريد فقأهما لولا أن منعته مع الحضور وصار يقفز بين أيدينا يريد قتل نفسه حتى تجمدت أنفاسه في حلقه وصمت مغشيا عليه.

استيقظ من غشيته وبدا وكأنه أمل أن كل ما جرى كان حلما ولكن يبدوا أن أمله تكسر عندما وجدني أسأله عن حاله وصحته كيف صارت, أسند نفسه إلي الجدار وجلس ينظر إلي الأفق وكأنما فقد عقله, بادرت إليه بالسؤال:- ماذا جري؟, ظل صامتا ولم يرد, لم أرد أن أثقل على الرجل فهممت بالنهوض لأنصرف, ولكنه باشر بالكلام قائلا:- يا ويلي مما اقترفت يداي, ويلك أيها اللعين والفتى العاق, كل تلك السنوات وأنت تعذبها, الآن ستعذب لأخر يوم في حياتك, أي قلب حقير حملت وأي عقل خاوي وأجوف؟, ظننت الرجل يهذي, واشتعل الفضول ببدني لأقرأ الورقة التي جعلت من المتغطرس الضخم يخر جثة ضعيفة خالية العقل, لم تسنح لي الفرصة لأنه بدأ يبكي ويتكلم فقال:- ما أقسى هذا الكون, لقد كانت تعيش حياتها لأجلي, وكنت أعيش حياتي لأجل ذاتي ولأجل عذاباتها, أكل هذا الحب كانت تحمله لي وكل هذا الحقد كنت أحمله لها؟, نال الفضول مناله مني, وهممت أسأل الرجل:- عمن تتكلم؟ من هي هذه؟ فقال بألم:- أمي, لقد كانت أمي امرأة على قدر كبير من البشاعة حيث أنها كانت بعين واحدة, وكانت تعمل خادمة بمدرستي, ولقد كانت تسبب لي بقبحها وعملها الإحراج الشديد, فكنت دائما أتجنبها وأتجنب الحديث عنها وحتى الاعتراف بوجودها في حياتي, لدرجة أنني كنت لا أطيقها ولا أطيق كلامها ولا لمساتها ولا حركتها, وبدأت معاناتي معها عندما كنت في الرابعة عشر من عمري, فلقد جاءت والدتي إلي صفي وسألت عني, تنكرت لها وأحست بخجلي منها فقالت لي: ستفرح والدتك كثيرا عندما اخبرها بما أخبرني الأستاذ, ولكن أحد التلاميذ كان يعرفها فأشاع في الفصل أن هذا البشعة أمي فصار الكل يناديني يا ابن المومس, وما إن انتهى الدوام المدرسي حتى عدت إلي المنزل غاضبا والشيطان يتلاعب برأسي ذات اليمين وذات الشمال والغضب يحرق أوردتي, فتحت الباب بعنف وقوة شديدتين حتى كدت أحطمه, ودخلت إلي المنزل باحثا في أرجائه عن أمي, حتى وجدتها في المطبخ, عندما رأتني ابتسمت وقالت:- عدت؟ لقد حضرت لك طبقك المفضل أعرف كم تحب هذه الأكلة, بادرت بالصراخ الغاضب وقلت لها:- أي إحراج هذا الذي تسببت به لي؟ أنتي كما قال زملائي مومس, متى يأخذ عزرائيل هذه الأمانة الربانية الثقيلة من أمامي؟, أخشى أنه لن يفعل لخشيته من قبحك, صمتت لهنيهة ثم اعتدلت في وقفتها ونظرت إلي وكأنما أزاحت كل همومها وقالت مبتسمة:- لكل شيء أوان يا ولدي لن يطول الأمر صدقني, تعال وكل, صرخت بها:- أي برودة أعصابي تحملي يا امرأة أنتِ شحنة من الغباء والقباحة, موتي وأريحيني منكِ., تركتني وذهبت إلي غرفتها وأغلقت الباب على نفسها, بينما لم أهتم بما قلت لها ولا بعظيم جرحها ودخلت المطبخ أتناول طعامي بعد أن ارتاحت أعصابي من إفراغ ما بجوفي, وحتى وأنا أتناول طعامي كنت أتساءل كيف يمكن لموس قبيحة أن تطهوا بهذه الروعة؟, وظننت أن أمي لن تحدثني بعد اليوم, ولكنها عادت من غرفتها بعد لحظات ونظرت إلي مبتسمة وقالت:- صحة وعافية أتمنى أن يعجبك طبقي هذا, لم أبالي بكلامها ولا بها, وقررت في ذاتي أن تكوني علاقتي بها محدودة ونفعية وأن أحقق درجات عالية في الثانوية العامة كي أسافر وأتخلص منها.


2 – الرحيل

مرت الأيام وحققت نجاحا كبيرا في الثانوية العامة, أهلني معدلي للحصول على منحة دراسية في أحد جامعات الوطن المميزة, وكان لزاما على أن أترك الريف لأعيش في المدينة حيث الجامعة, وحزمت أمتعتي كما منيت نفسي أعواما طويلة وحانت لحظة ركوب السيارة التي ستقلني للمدينة, وأردت المغادرة دون وداع أمي, وقبل ركوب السيارة جاءت إلي مسرعة تحمل صرة قماشية ونادت علي, واقتربت مني, وقالت:- إذا كان السفر طموحك وغايتك وسر سعادتك فلا يسع قلبي حرمانك منه, ولك منى الدعاء, خذ بالك من نفسك جيدا يا ولدي وخذ هذه, قلت ما هذه؟ قالت:- أمولا تعينك في غربتك, حاولت ألا أخذها ولكنها أصرت علي, فحملت المال وهممت بالانطلاق مرة ثانية بلا وداع فاقتربت مني وقبلتني وركبت السيارة غير سعيد ولا مبالي بقبلتها, وانطلقت لحيث الرحيل الأبدي عن الريف والمنزل والأهم عن أمي.

وصلت المدينة, وسكنت فيها وأغلقت مع أول أيامي أخر ورقة من سجل الماضي وألقيت به في نفايات الذاكرة وبدأت صفحة جديدة من حياتي, صفحة طمست فيها ذكرى أمي, حيث لم أحاول الاتصال بها ولا الحديث معها وهي بالطبع لن تعرف عنواني في هذه المدينة الضخمة فمرت الأعوام الأولى وأنا أعيش حياتي بسعادة ودون أن أذكرها.

3 – وشاءت الظروف

عامين بأكملهما مضت دون أن أحدثها, ولكنني كنت شابا طائشا متهورا على الرغم من إبداعي ونجاحي في الجامعة, أذكر مرة أنني ركبت سيارة أحد زملائي دون علمه وقدتها بتهور شديد فاصطدمت بسيارة أخرى وكاد يموت راكبها ودخلت السجن بعدة تهم منها السرقة والقيادة بدون رخصة وتجاوز إشارات المرور وتعريض المارة للخطر وأنزلت علي عدة عقوبات, فصل من الجامعة لمدة عام, سجن لمدة ستة شهور, وغرامة مالية كبيرة, هذا غير التعويض على مالك السيارة, تخلى الكل عني ودخلت السجن, فكرت طويلا ماذا أفعل, لمن ألجأ؟, لا أعرف أحدا يمكن الاستعانة به وفجأة خطر على بالي أمي, ترددت كثيرا فأنا أخجل منها, فكيف أطالبها بمالها لأنجو من ورطتي, لا لا, لا يمكن, ولكن الآن مستقبلي في خطر, ناديتُ رجل الأمن وطلبت مقابلة الضابط المسئول, واتصلت من مكتبه بمدرسة والدتي, كادت تجن عندما سمعت صوتي وأخذت تبكي وأظن أنه كاد يغشى عليها ولكنني كنت متقززا منها وبعد أن انتهت من أشواقها بلغتها ما أنا فيه فجاءت مسرعة صباح اليوم التالي, دفعت الغرامة وعوضت على صاحب السيارة وقبلت نعل مدير الجامعة ليصفح عني ففعل وأحضرت أكبر المحامين وأخرجوني من السجن وحان موعد لقائي بها بعد عامين طويلين, لم أشعر فيهما بأي شوق إليها, بمجرد أن رأتني أرادت معانقتي ولكنني ابتعدت عنها متعللا بمرض معدي, جلسنا قليلا في مركز الشرطة وأرادت أن تعود للبيت, لم يكن مني إلا أن أوصلتها لمحطة القطار, وأعلم أنها كانت تود زيارة بيتي ولكنني لم أعطها الفرصة, وغادرت وقبل مغادرتها قلت لها:- أرجو أن لا تزوريني ثانية, سأزورك أنا حينما تأتي الظروف, لأنني,,فقاطعتني وقالت: أفهم يا ولدي مشاغلك, وفقك الله وانصرفت.

4 – اللقاء الأخير

انتهيت من الدراسة الجامعية وعينت معيدا في الجامعة وتزوجت وأنجبت أطفالا بالغي الحسن والجمال ولم أتصل بأمي أو أزورها ولم تخطر ولو للحظة على بالي وكنت أعطيت انطباعا لزوجتي وأهلها وحتى أطفالي أن أمي ميتة منذ كنت صغيرا, حتى جاء يوما من أيام إبريل ليلا في ساعات العشاء, حيث قرع جرس منزلي فخرج طفلاي الصغيران ليريا من بالباب فعادا خائفين, فسألتهما ما الأمر فقالا إن عجوزا بشعة بعين واحدة قبلتهما, لم يخطر على بالي أن تكون هذه أمي, ذهبت إل الباب لأرى ما الأمر فإذا بها أمي, وسرعان ما أرادت معانقتي ولكنني سرعان ما صرخت فيها: ماذا تريدين أيتها المومس؟, هل جئت تتسولي؟, ويبدو أنها عرفت أن زوجتي التي كانت تقف خلفي لا تعرف بأمرها فقالت: حسنة لله, فأخرجت مبلغا من المال كان في جيبي وألقيته على الأرض وصرخت فيها قائلا: خذي وانصرفي وإياكِ أن تعودي هنا فقد أرعبتِ الأولاد وطرقت الباب في وجهها ودخلت وكان هذا لقائي الأخير بها.

5 – موت المومس

ومضت الأيام سريعا حين وصلت رسالة من المدرسة التي تعمل فيها أمي تبلغني أن وضع أمي الصحي في غاية الخطورة وأن المدرسة تريد عقد اجتماع (لم شمل) وهنا لم أجد مفرا من الموافقة خشية أن يصل الأمر لزوجتي, فقررت زيارة بلدي القديمة وأخبرت زوجتي أنني ذاهب في جولة عمل, ووصلت المدرسة.

لم تحضر أمي الاجتماع وبعد أن سمعت كثيرا من تفاهات الأساتذة والمدير عن عقوق الوالدين حسب ما كنت أسميها, خرجت طالبا منهم عدم التدخل وقررت أن أزور بيتي, لا من أجل أمي بل من أجل الفضول لأعرف ما حل به وعندما جئت أخبرني والدك أن أمي قد ماتت وتركت لي هذه الرسالة, لم أحزن على موتها وأردت أن أعرف ما تحتويه الرسالة.

6 – الحقيقة الدفينة

صرخت بالرجل: هل أم صادق المرأة الطيبة أمك؟, لم يجب وأومأ برأسه, صرخت ثانية: هل كنت بهذا القدر من الوقاحة والعقوق؟, ولكن كيف كانت تخبرنا دائما أنك بار بها وأنك رجل طيب ومخلص ودائم السؤال عنها والإنفاق عليها, أعجب مما أسمع منك, كانت دوما تأتي على ذكرك ولا تدعوا إلا لك بالخير والبركة, أي كلام هذا, قاطعني الرجل صارخا باكيا:- كفى, مددت يدي إلى الورقة وهم الرجل بالبكاء والعويل وأخذت الورقة وفتحتها لأقرأ كلمات أمه وكانت تقول:

بسم الله الرحمن الرحيم

ولدي الغالي وحبيب قلبي وكلي أملي وحلمي في الدنيا / حبيبي صادق.

كيف حالك؟, أتمنى أن تكون بخير وصحتك على ما يرام, كتبت هذه الرسالة عندما أحسست أنني سأخيب أملك في المجيء إلى الاجتماع, كنت سعيدة جدا عندما أبلغتني المدرسة أنك طلبت منها أن تجمعك بي, ولكن تأكد يا ولدي أنك معي دوما فمكانك بين أضلعي, لم تفارقني يوما واحدا, وكنت دوما آسفة عندما أذكر كم سببت لك من إحراج في حياتك بسبب عيني, آسفة جدا على إرعاب وإخافة أولادك, ولكن هل تعلم؟, أطفالك في غاية الحسن, كم كنت أشتهي أن أضمهم لصدري ولكن لا باس.

هل تعلم يا ولدي؟, لقد تعرضت في صغرك لحادث أليم كان السبب في فقدانك عينك, أخبرني الأطباء أنك ستعيش بعين واحدة مدى حياتك, إلا إذا تبرع أحدهم بعينه من أجلك, وكأي أم لم أجد مناص من إعطاءك عيني,’ لأنني أعلم في ذاتي أنك أعز منها علي, وكنت سعيدة جدا وأنا أراك تقرأ وتجري وتلعب وتطلع على الدنيا بعين أمك.

حفظك الله من كل شر يا ولدي, واعلم أنك تسكن معي في الوريد واعلم أنني غفرت لك بل ولم أحقد أو أغضب عليك لحظة واحدة.

لأنني احبك........أحبك..........أحبك.

دعواتي الصادقة لك.

من أمك

أم صادق


****

هذه القصة أقدمها هدية لكل من أخلص في حب والديه, وأتمني من كل من يقرأها أن يعرف ويعترف بحق أهله عليه, وأن يكتب لي نصيحة للعاقين ودعوة لهم بالصلاح.
 
السلام عليكم

بوركتي اختي الفاضلة على موضوعك المميز

الله يجعلنا من البارين والصادقين
 
قصة تعبرعن تضحيات الام بارك الله فيك وجعلنا من البارين امين
 
السلام عليكم أختي الفاضلة

الله يجعلنا من البارين إنشاء الله .قصة في قمة الحزن و الروعة

جزاك الله كل خير
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top