هي أطول سورة في القرآن الكريم، و الثانية في الترتيب، وهي سورة مدنية بالإجماع.
عدد آياتها: 286. عدد كلماتها: 6221. عدد حروفها: 25500. تشتمل على: 100 نهي،100 أمر،100 خبر، و 100 حُكم.
تسميتها: سميت بهذا الاسم لورود قصة رجل من بني إسرائيل قُتل و لم يعرف قاتله، فذهب القوم إلى سيدنا موسى عليه السلام وعرضوا عليه الأمر فأوحى إليه الله تعالى يأمرهم بذبح بقرة و ضرب الميت بجزء منها فترد إليه روحه بإذن الله، ويخبرهم عن قاتله، و هي معجزة حسية تبين قدرة الله عز وجل على إحياء الخلق بعد الموت.
فضلها: قال النبي صل الله عليه و سلم: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) أخرجه الإمامان مسلم والترمذي.
روي عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، وسفيان الثوري أنهم قالوا: [الحروف المقطعة سر استأثر به الله عز وجل في علم الغيب]، و قال آخرون أن المراد بها تحدي الله عز وجل للعرب، وهم عمالقة البلاغة والبيان على أن يأتوا بمثله، وما يدعم هذا المعنى، أنه في كل مرة تذكر مقرونة بالقرآن الكريم: ﴿الم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)﴾البقرة، ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)﴾هود ، ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(1)﴾يوسف.
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ ذلك في اللغة تستخدم للدلالة على أمر بعيد، والكتاب هو القرآن الكريم، والآية تعني علو شأن القرآن ورفعة قدره.
﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ليس فيه أي شك، فهو كلام الله دون تحريف أو تزييف.
﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ مرشد إلى طريق الخير والصلاح في الدارين، أما المتقون هم الذين يخافون عذاب الله الدنيوي والأخروي، فيسعون للنجاة منهما، بفقه السنن والسير وفقها للنجاة من العذاب الدنيوي، و بالإيمان والعمل الصالح للنجاة من العذاب الأخروي.
الصفة الأولى:﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ التصديق الجازم بالغيب والذي يشمل الإيمان بالله تعالى وبالرسل وبالملائكة، وبالجنة والنار وهذه حقائق تعرف بالخبر دون النظر. الصفة الثانية:﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ الصلاة يراد بها أداءها على وجه أكمل بوضوئها وأركانها وشروطها وخشوعها. الصفة الثالثة:﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ ينفقون مما آتاهم الله من مال وعلم وفهم، مما جعلهم الله مستخلفين فيه. الصفة الرابعة: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ وهو الإيمان بالقرآن الكريم كتابا منزلا من عند الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الصفة الخامسة:﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ فلا يكفي الإيمان بالقرآن الكريم، بل لابد من الإيمان بالكتب السماوية السابقة مثل: الزبور والتوراة والإنجيل. الصفة السادسة:﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ وهو الإيمان اليقيني الذي لا شك فيه بدار القرار وما فيه من حساب وثواب وعقاب، أما الدنيا فهي دار الفناء.
وبعد عرض الله تعالى لصفات المتقين، يقر أنهم مهتدون ﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ وحرف على يفيد التمكن بمعنى تمكنوا من طريق الحق والاستقامة، فكانت خاتمتهم الفلاح ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وهي تتناول بالوصف صنفين من الناس وهم الكفار والمنافقون، وقد اكتفى الله بوصف الكفار في آيتين، أما المنافقون فقد أكثر من الآيات في وصفهم وتشريح طباعهم.
صنف الكفار: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾وهم الذين عرفوا الحق وجحدوه،فيقال '' كفر الفلاح زرعه '' أي غطاه، والكفر نقيض الإيمان، وهو على نوعين: كفر النعمة: وهو جحودها وعدم شكر منعمها.
كفر الملة: وهو الكفر بالله تعالى أو إنكار أمر معلوم من الدين بالضرورة، وهذا يخرج صاحبه من ملة الإسلام.
﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾والخطاب موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو البشير النذير، فالله عز وجل يواسيه لئلا يحزن على هؤلاء الكفار فليس عليه هداهم، فهم لن يهتدوا أبدا.
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ والختم معناه الطبع والتغطية، فهؤلاء مطبوعون على الكفر، فقلوبهم موصدة عن الحق بل وحتى أسماعهم وأبصارهم، فهم لا يستجيبون أبدا لنداء الحق، لذلك استحقوا العذاب ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
صنف المنافقين: النفاق هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر، إظهار الخير و إضمار الشر.
﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾بعض الناس وليس كلهم يدعون الإيمان ويتلفظونه بألسنتهم وتنكره قلوبهم فهم ليسوا مؤمنين ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ فهم حين يدعون الإيمان يعتقدون أنهم يخدعون الله تعالى والمؤمنين، متجاهلين أن الله يعلم سرهم وجهرهم، هم لا يخدعون إلا أنفسهم.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾جزاء لارتكابهم ثلاث جرائم: في حق الله حين لم يقدروه حق قدره، في حق الدين حين تلاعبوا به، وفي حق المؤمنين حين كذبوا عليهم.
لقد بين الله مصيرهم في آيات أخرى منها: ﴿بَشِّرِالْمُنَافِقِينَبِأَنَّلَهُمْعَذَابًاأَلِيمًا(138)﴾ النساء، و ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)﴾ النساء.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ فحين ينهاهم المؤمنون عن الإفساد دافعوا عن أنفسهم فلم يعترفوا به بل ادعوا الإصلاح، وفسادهم هذا مطلق (في الدين وفي علاقاتهم مع الناس والكون...)، يقول ابن مسعود: (الإفساد الذي يقصده الله سبحانه وتعالى هو الكفر والمعصية).
ومع إنكارهم يفضحهم الله تعالى بتأكيد صفة الإفساد فيهمن ووظف لذلك حروف التأكيد والتقرير: "ألا" و "إن ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ فهم حين ينصحون أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا – الإيمان الذي يستقر في القلب ويصدقه اللسان ويترجمه العمل – كسائر المؤمنين تكبروا وألحقوا السفاهة بهم بقولهم ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾والله ألحقها بهم فهم أولى بها ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، فهم السفهاء ضيعوا دينهم فخسروا الدنيا والآخرة.
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ وكعادة المنافقين لا يظهرون ما يبطنون، فحين يلتقوا بالمؤمنين أظهروا الإيمان، لكن حين يلتقوا بشياطينهم كان لهم شان آخر ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَالشياطين عند المفسرين هم أسيادهم وكبراؤهم، أما استهزاؤهم بالمؤمنين فهي صفة أخرى تضاف إلى صفاتهم الخبيثة، وهم يقرون بها.
﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ بقدر استهزائهم بالمؤمنين يستهزئ الله بهم، فالجزاء من جنس العمل. أطلق الله تعالى اسم الطغيان على النفاق لأنه خروج عن الهدى.
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ هؤلاء المنافقون أقدموا على صفقة خاسرة، باعوا النور بالظلام، والإيمان بالكفر...فهل من مكسب لهم؟ لقد خسروا الدنيا والآخرة.
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ شبهالله المنافقين بمن أشعل نارا وهو بأمسّ الحاجة إليها لكنها أظلمت عليهم، كذلك حال المنافقين، فالله أذهب من النار عنصر الإشراق وترك فيها عنصر الإحراق، على عكس ما حدث مع سيدنا إبراهيم عليه السلام حيث أخذ منها عنصر الإحراق وترك فيها عنصر الإشراق: ﴿قُلْنَايَانَارُكُونِيبَرْدًاوَسَلَامًاعَلَىإِبْرَاهِيمَ(69)﴾ الأنبياء، فلما ذهب الله بنورهم وجدوا أنفسهم في وحشة وحيرة.
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾وهو مثال آخر لحال المنافقين في صورة رهيبة، فالصيب عادة يحمل الخير لكن هنا يحمل ظلمات على ظلمات فتزداد وحشتهم.
﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ وهو تعبير بليغ عن شدة الخوف والوحشة، باستخدام الكل لإرادة الجزء: الأصابع بدل الأنامل (مجاز مرسل). وهذه الصورة التي تبين ضعف الإنسان، فهو يخاف الموت والظلام والصواعق، المنافق يخاف منها وهي من جنود الله العظيم.
﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾قد يسأل سائل لماذا ذكر الله تعالى الكافرون وهو في موضع الحديث عن المنافقين؟
إن الله تعالى لم يغفل عن هذين الصنفين معا، فهو محيط بهما معا. إن المنافق قد سكن قلبه الكفر وإن لم يبده، وقد فضحه الله بذلك. كل منافق كافر، لكن ليس كل كافر منافق. وإحاطة الله بالكافرين تعني مراقبته التامة لهم وعلمه المطلق بما يسرون وما يعلنون.
﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾كلما أنار لهم الطريق ساروا فيه.
﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾وإذا اختفى توقفوا عن السير وثبتوا في أماكنهم.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾إبرازا لقدرة الله المطلقة، وقد بين الله حال المنافقين والقرآن يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الكفر وهو ظلمات، وبالإشارة إلى الوعيد وهو كالصواعق والرعود وبذكر الحجج والبراهين القوية كقوة البرق في الإضاءة.
بعد بيان صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، نادى الله الجميع بنداء جامع ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ نداء للبشرية قاطبة في كل زمان ومكان. تتناول هذه الآيات عدة قضايا منها: - التأكيد على وحدانية الله تعالى. - الأمر بالعبادة. - تعريف الناس ببعض نعم الله عز وجل ليشكروه. - تقرير معجزة القرآن وإثبات صدق النبوة. - تقريع الكافرين. - تبشير المؤمنين. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(22) وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(24) وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(25)﴾
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾نداء الله لعباده دليل على أن الأمر المنادى ذو شأن عظيم. ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُم﴾أمر بالعبادة، والعبادة غاية الخضوع لله مع غاية الحب له، وتأكيد على المقصد الأصلي من وجود الإنسان قال تعالى: ﴿وَمَاخَلَقْتُالْجِنَّوَالْإِنسَإِلَّالِيَعْبُدُون(56)﴾الذاريات، و يبين الله تعالى أنه المستحق للعبادة فهو المنعم على عباده نعما لا تحصى، منها: - الإيجاد من العدم وبلا مثال سابق: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وهو خطاب شامل يفيد الاستغراق، يشمل جميع الخلق من الأول إلى الآخر. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وجزاء العابد لله حق عبادته النجاة من عذاب النار، إذ يجعل له الله تعالى بينه وبين عذابه وقاء. - توفير أسباب البقاء والحياة: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ إذ وفر الله تعالى أسباب الحياة قبل أن يخلقه، فجعل الأرض فراشا وبساطا وقرارا له ليتمكن من العيش والاستقرار والراحة. وَالسَّمَاءَ بِنَاءً جعلها سقفا للأرض مرفوعا فوقها كهيئة القبة. وقد استضافه فوق أرضه وتحت أديم سماءه، وهي مقابلة بديعة عقدها الله بين السماء والأرض، وبين الفراش والبناء. - الماء والرزق: ﴿وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ينبه الله عز وجل إلى أهم أسباب الحياة وهو الماء، حتى أن نسبته في جسم الإنسان تصل إلى 70 % ، وقال تعالى: ﴿...وَجَعَلْنَامِنَالْمَاءكُلَّشَيْءٍحَيٍّأَفَلَايُؤْمِنُونَ(30)﴾ الأنبياء، وبالماء أخرج الرزق من الأرض، وفي هذا رباط وثيق بين السماء والأرض، فالماء ينزل من السماء والرزق يخرج من الأرض بفضل الله. ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ بعد أن أحصى الله بعض نعمه، أمر الإنسان أن لا يتخذ نظيرا له فهو خالقه ورازقه ﴿...لَيْسَكَمِثْلِهِشَيْءٌوَهُوَالسَّمِيعُالبَصِير(11)﴾ الشورى، وأن يدرك ضعفه وضعف من يعبد من دون الله ﴿يَاأَيُّهَاالنَّاسُضُرِبَمَثَلٌفَاسْتَمِعُوالَهُإِنَّالَّذِينتَدْعُونَمِندُونِاللَّهِلَنيَخْلُقُواذُبَابًاوَلَوِاجْتَمَعُوالَهُوَإِنيَسْلُبْهُمُالذُّبَابُشَيْئًالَّايَسْتَنقِذُوهُمِنْهُضَعُفَالطَّالِبُوَالْمَطْلُوبُ(73)﴾ الحج، ويستغرب الله تعالى من هذا المخلوق الذي أنعم عليه، فبدل أن يعبده وهو المستحق لذلك يعبد غيره، وفي الحديث القدسي:(إنيوالجنوالإنسفينبأعظيم،أخلقويُعبدغيري،أرزقويشكرسواي...). ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾يخاطب الله تعالى المشككين في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق رسالته ويتحداهم أن يأتوا بمثل القرآن الكريم وهو تحدي مطلق، وقال تعالى:﴿قُللَّئِنِاجْتَمَعَتِالإِنسُوَالْجِنُّعَلَىأَنيَأْتُواْبِمِثْلِهَـذَاالْقُرْآنِلاَيَأْتُونَبِمِثْلِهِوَلَوْكَانَبَعْضُهُمْلِبَعْضٍظَهِيرًا(88)﴾الإسراء. ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ يتحداهم الله أن يأتوا بأنصارهم وآلهتهم التي يدّعون أنها تشفع لهم عند الله إن كانوا صادقين ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ يؤكد الله على عجز الخلق عن هذا التحدي ولو تعاونوا فيما بينهم، وهذا العجز مطلق: في الماضي والحاضر والمستقبل. ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ يخوفهم الله بمصيرهم فهم حطب النار والأصنام التي كانوا يعبدونها من دونه ﴿ إِنَّكُمْوَمَاتَعْبُدُونَمِندُونِاللَّهِحَصَبُجَهَنَّمَأَنتُمْلَهَاوَارِدُونَ(98)﴾ الأنبياء، ﴿وَأَمَّاالْقَاسِطُونَفَكَانُوالِجَهَنَّمَحَطَبًا(15)﴾ الجن. ﴿وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾بشارة للمؤمنين الذين فعلوا الخيرات أي ترجموا إيمانهم إلى عمل. ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار﴾ُ تجري أنهار من الماء والعسل واللبن...تتخلل أشجارها وقصورها. ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾فحين تقدم لهم الملائكة في الآخرة رزقا يقولون: "رزقنا مثله" فهي متشابهة في الأسماء والأشكال والألوان فقط، يقول ابن عباس: إن ما في الجنة يتشابه مع ما في الدنيا ما عدا الذوق. ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ قال بعض العلماء أنه خطاب موجه للرجال، وقال بعضهم أنه يعني الجنسين، فالزوج يعني في اللغة الذكر والأنثى، وكلاهما صحيح، وهذه الأزواج مطهرة من العيوب الحسية والمعنوية. ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ الجزاء الأكبر للصالحين هو الخلود في الجنة حيث السعادة الأبدية، وهو ما يطمئن المؤمنين، ولهم فيها ما لا يمكن تصوره كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه (لقدأعددتلعباديالصالحينمالاعينرأتولاأذنسمعتولاخطرعلىقلببشر) متفق عليه.
سبب النزول: لما وضح الله تعالى بالدليل القاطع والبرهان الساطع أن القرآن كلام الله المعجز، وتحداهم بأن يأتوا مثله... استهزأ الكفار واليهود أن يأتي الله بأمثال من الحشرات والحيوانات: النمل، النحل، البعوض، الإبل... لأنها في زعمهم لا يليق ذكرها من الله تعالى فأجابهم الله بهذه الآيات. والمثل معروف منذ القدم، وهو عبارة عن وسيلة إيضاح وبيان، يحمل خلاصة تجارب البشر... ولقد وظف الله تعالى الأمثال كثيرا وقرنها بفعل يضرب لا بفعل يعطي وذلك للتقريع والتنبيه، ولتهييج الانفعال للتجاوب معها، ولقد وجهها لكل البشر، ولم يختص بها المؤمنين فقط ﴿...وَيَضْرِبُاللّهُالأَمْثَالَلِلنَّاسِلَعَلَّهُمْيَتَذَكَّرُونَ(25)﴾إبراهيم. و للمثل القرآني أغراض دعوية منها: - بيان عقيدة التوحيد. - بيان مصير المعطلين للحواس. - بيان ثمرات الإيمان...
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ ضرب الله مثلا بحشرة صغيرة "بعوضة" دون أن يستحي من ذلك أمام استهزاء الكافرين والجاحدين، وهذه الأمثال التي يضربها الله للناس يستقبلها المؤمنون بالتصديق ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، أما الكفار فيجادلون ويستفسرون ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾، ومن ثم ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾فيزداد إيمان المؤمنين وكفر الكافرين. وعقب الله بقوله ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ والفاسق هو الخارج عن طاعة الله تعالى ومن صفاته: 1- نقض العهود: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾وهي استعارة مكنية، حيث شبه الله عز وجل ميثاقه بالحبل وجاء بإحدى لوازمه وهي النقض وحذف المشبه به (الحبل). ﴿عَهْدَ اللَّهِ﴾ وهي صيغة تفيد الاستغراق وتشمل جميع العهود الموثوقة مع الله . 2- قطع الصلات ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾والصلة تشمل الصلة بالله تعالى و بالأنبياء والرسل وبالأرحام وبسائر الخلق... القطع نتيجة حتمية لنقض العهود، فحين يُنقض العهد مع الله كل شيء يهون بعده. 3- الإفساد في الأرض ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ فبعد قطع الصلات تفسد جميع العلاقات مع الله ومع الناس ومع الكون... ومآلهم كما توعدهم الله هو الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾. ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ استفهام للتوبيخ والإنكار لهؤلاء الكفار الذين عرفوا الحق وجحدوا به، كما جحدوا نعم الله خاصة نعمة الحياة. ﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ أوجدهم الله من العدم، وهي آية من آيات الله. ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ يؤكد الله على الأجل الذي سوف يأتي لا ريب فيه، لكن لن يكون هو النهاية بل سيكون بداية لحياة أخرى، ثم يبعث الله من في القبور. ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ينبه الله تعالى إلى أن مآل الخلق إليه فيحاسبهم على كل أفعالهم في هذه الحياة وهذا لترسيخ الإيمان به والاستعداد له، يقول تعالى ﴿وَاتَّقُواْيَوْمًاتُرْجَعُونَفِيهِإِلَىاللّهِثُمَّتُوَفَّىكُلُّنَفْسٍمَّاكَسَبَتْوَهُمْلاَيُظْلَمُونَ(281)﴾البقرة. ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ يذكر الله بنعمة أخرى، هي نعمة تسخير الأرض للإنسان حيث وفر له فيها أسباب الحياة، ويذكره بملكيته المطلقة فهو خالقها وما على الإنسان إلا أن يؤدي شكرها. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾هي آية أخرى من آيات الله، خلق السموات العلى وجعلها سبعا، واستخدم الله تعالى فعل سوى للدلالة على البناء المحكم. ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ختم الله آياته بتأكيده على إحاطته بكل شيء، فلا يخفى عليه لا توحيد الموحدين ولا كفر الكافرين.
وهي تتناول بعض نعم الله على عباده، ومنها: - نعمة الاستخلاف في الأرض. - نعمة التكريم، إذ أمر الملائكة بالسجود له. - نعمة العلم والمعرفة. وتتناول عداوة الشيطان لبني آدم وعصيانه لله تعالى.
التفسير: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾يخبر الله ملائكته ويعلمهم أنه سيخلق آدم عليه السلام وسيجعله خليفة له بعد أن هيأ له الأرض. ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾استفسر الملائكة واستغربوا أن يخلق الله خلقا آخر سوف يفسدون ويعصون الله قياسا على خلق الجن الذي حصل منهم ذلك - وهم خلق آخر من نار- وهذا لا يعني اعتراضهم لأمر الله بل هو استفسار استعلام. ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾فالباء تفيد دوام حال التقديس والحمد والتسبيح، وعدم التواني في ذلك. ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فالله عز وجل لما خلق الإنسان وجعله خليفته من دون الخلق كان لحكم ومصالح يعلمها، و يجهلها الملائكة. ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾فعل "علم" له مفعولان "آدم والأسماء"، والعلم نعمة أخرى لابد منها لبناء العمران وإقامة الحضارات، وهذا العلم مطلق، لأن كلمة " كلها " تفيد الاستغراق والشمول، فالله تعالى علم آدم كل أسماء المسميات: الجمادات، اللغات، الأجناس... ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ امتحن الله تعالى الملائكة أن يسموا تلك الأسماء. ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾يقول العلماء أن الملائكة اعترفوا بعلمهم المحدود، وذلك لحكمتين: - التأدب مع الله وتنزيهه من كل نقص. - عدم الإفتاء إلا في حدود المعرفة، وعدم الحياء بقول: لا أعلم، وفي هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة هادية، أو الله أعلم]. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ اعتراف الملائكة بصفتين مطلقتين في الله تعالى وهما: العلم والحكمة (علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما لا يكون كيف كان يكون). ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾أمر الله آدم أن يسمي الأشياء فأجابه بالعلم الذي وهبه إياه، وهو تأكيد على علم الله المطلق، بغيب السموات والأرض، وهذا الخطاب موجه للملائكة لكنه يعني الإنسان أيضا، فكيف يعصي ربه وهو يراه حيثما كان؟ ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا ﴿...لَايَعْصُونَاللَّهَمَاأَمَرَهُمْوَيَفْعَلُونَمَايُؤْمَرُونَ(6)﴾التحريم. وهو سجود تكريم لا سجود عبادة و تأليه، فالله قد كرمه ﴿...وَلَقَدْكَرَّمْنَابَنِيآدَمَ...(70)﴾الإسراء. ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ﴾عصى أمرالله تعالىتكبرا وجحودا منه، والتكبر مذموم لقوله تعالى...إِنَّكَلَنتَخْرِقَالأَرْضَوَلَنتَبْلُغَالْجِبَالَطُولاً(37)﴾الإسراء. ولقد اختلف العلماء في حقيقة إبليس، أهو من الجن أم من الملائكة: فقال بعضهم أنه من الملائكة ودليلهم هو أن الله تعالى لما أمر بالسجود أمر كل الملائكة فهو منهم، وقال آخرون – وهو القول الراجح – أنه من الجن ودليلهم قوله تعالى ﴿وَإِذْقُلْنَالِلْمَلَائِكَةِاسْجُدُوالِآدَمَفَسَجَدُواإِلَّاإِبْلِيسَكَانَمِنَالْجِنِّفَفَسَقَعَنْأَمْرِرَبِّهِ...(50)﴾الكهف. ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾خلق الله آدم من أديم الأرض، وآدم اللون من الأدمة أي السمرة، وخلق له زوجه حواء، وأسكنهما الجنة. ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ﴾ أمرهما الله أن يأكلا ما طاب لهما من خير الجنة ، ونهاهما فقط عن شجرة واحدة، فَفِعل "لا تقربا" يفيد المنع والتحريم، وفي هذا يؤكد الله تعالى أن دائرة الحلال أوسع نطاقا من دائرة الحرام. ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾أغواهما الشيطان وزين لهما فعلهما ﴿فَزَيَّنَلَهُمُالشَّيْطَانُأَعْمَالَهُمْ(63)﴾النحل، فأكلا مما حُرما عليهما. ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ كانت نتيجة عصيان آدم وحواء لله أن طردهما من الجنة ومعهما إبليس، وأعلن الله عن العداوة الأبدية بين الإنسان والشيطان، هذا الأخير الذي قطع عهدا على نفسه أن يزل ببني آدم ويضلهم عن الصراط القويم ليكونوا في الجحيم سواء. ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾يبين الله حقيقة الدنيا فهي حياة لا تدوم، فيها الطيبات والملذات، لكن إلى أجل يعلمه الله. ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾وهي نعمة أخرى إذ وهب الله عز وجل آدم الاستغفار فتاب عليه، والله غفور لمن استغفره ﴿قُلْيَاعِبَادِيَالَّذِينَأَسْرَفُواعَلَىأَنفُسِهِمْلَاتَقْنَطُوامِنرَّحْمَةِاللَّهِإِنَّاللَّهَيَغْفِرُالذُّنُوبَجَمِيعًاإِنَّهُهُوَالْغَفُورُالرَّحِيمُ(53)﴾الزمر. ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ هدى الله هو طريق النجاة المُبَيَن في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء والمرسلين، فمن سلكه لن يناله الخوف ولا الحزن في الدنيا والآخرة. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ نذير ووعيد لمن ينكر الوحي أن مصيرهم الخلود في جهنم وبئس المصير.
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِي(40) وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِي(41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(42)﴾ يخاطب الله تعالى بني إسرائيل بألوان من الخطاب، فمرة بخطاب ملاطفة أو بإقامة الحجة أو بالتقريع أو التوبيخ أو بتذكيرهم بنعمه عليهم... و اختلاف الخطاب غرضه بيان حقيقتهم.
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ نداء الله تعالى لذرية إسرائيل، و إسرائيل كلمة أعجمية معناها عبد الله، و هو اسم سيدنا يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم عليهم السلام. فالله يوجه خطابه إلى ذرية النبي الصالح، بلون خاص من الخطاب وهو خطاب تذكير بالنعم ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾فلقد أنعم الله تعالى عليهم الكثير من النعم. يقول أحد المفسرين أن الله تعالى لما يخاطب بني إسرائيل يذكرهم بالنعم ولما يخاطب الأمة المسلمة يذكرهم بالمنعم.
﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾يأمرهم الله أن يوفوا بعهدهم معه، كما أمر كل المؤمنين بهذا الخُلق ﴿يَاأَيُّهَاالَّذِينَآمَنُواْأَوْفُواْبِالْعُقُودِ...(1)﴾المائدة، ولقد كان بنو إسرائيل أبرز مثال في نقض العهود. فأمرهم بالوفاء به لينالوا رضوان الله و حسن الثواب.
﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِي﴾ أمرهم أن يخافوه ويخشوه، فالخوف من الله تعالى عاصم من الوقوع في المعاصي و الآثام و نقض العهود.
﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ يأمرهم بالإيمان بما أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " القرآن الكريم " ويؤكد على أن ما جاء فيه موجود في التوراة والإنجيل، فالكتب السماوية صدرت كلها من عند الله تعالى فالعهد واحد، وعلى كل مؤمن أن يستقبل الرسالات بالإيمان والتصديق.
﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ كان من المفروض أن يكونوا أول المؤمنين بمحمد صلى الله عليه و سلم فهم أهل كتاب، يؤمنون بالتوراة كتابا من عند الله مبشرا بنبي يأتي بعد موسى و عيسى اسمه أحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ ينهاهم الله أن يبيعوا دينهم ومقدساتهم مقابل عرض الدنيا الزائل.
﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِي يأمرهم الله سبحانه وتعالى بالتقوى، و التقوى هي الخوف من الجليل وهذا من شأنه أن يمنعهم من الظلم.
﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة حالية، فالله عز وجل يصور حالهم وهو حال كفر عناد و ليس كفر جهل، فهم يعلمون الحق ولكن جحدوا به، ففضحهم الله، وغضب عليهم ﴿...غَيرِالمَغضُوبِعَلَيهِمْ...(7)﴾ الفاتحة، ولقد حرفوا التوراة وجعلوها خمسة أسفار هي: 1- سفر العدد. 2- سفر التثنية. 3- سفر الخروج. 4- سفر التكوين. 5- سفر اللاويين.
كيف لا يغضب الله عليهم وهم قد نسبوا إليه أسوأ الصفات من التعب والبخل و كرسوا النزعة العنصرية باعتبارهم شعب الله المختار، وأباحوا التعدي على غيرهم كما جاء في التلمود "من قتل غير يهودي فقد قدم قربانا للرب".
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ يأمر الله تعالى اليهود بالصلاة فهي عماد الدين وهي صلة دائمة بالله عزو جل، و بالزكاة لتزكية الأنفس، و هم في كل هذا يعلمون أن المال مال الله ﴿...وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ...(7) الحديد. ﴾ الحديد 7، ثم أمرهم بعد ذلك بالركوع وهو مجاز مرسل يفيد تسمية الكل باسم الجزء، فأطلق الركوع ليفيد الصلاة.
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾وهذه الآية نزلت بشأن بعض أحبارهم الذين يدعون غيرهم إلى الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم و هم يكفرون به، والبر هو مطلق الخير وعلى رأسه الإسلام، فكيف يعرضون عن هذا الخير العظيم. إن كانت هذه الآية جاءت بشأن أخبار اليهود، إلا أنها تشمل كل المؤمنين، طبقا لما قرره علماء الشريعة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".
ويذكر الله تعالى اليهود بما جاء في التوراة التي بين أيدهم- قبل تحريفها- من بشارات بمجيء محمد عليه الصلاة والسلام بدين الحق، وهذا الأمر معروف لديهم، لكنهم أنكروه لذلك قال تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ فالعاقل هو الذي يميز بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، بين النافع والضار.
﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ أمرهم الله تعالى أن يطلبوا المعونة بالصبر والصلاة فهما وسيلتان لتخلية أنفسهم من الصفات السيئة، فالصبر حبس النفس عن الحرام وإلزامها بالحلال، والصلاة صلة العبد بربه وتكرارها في أوقات مختلفة تذكير للنفس بربها وتطهير للقلب.
﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ فالصلاة ثقيلة إلا على العبد الخاشع الخاضع لله، الذي يجد راحته فيها كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجدها، لذلك كان يقول كلما حضرت الصلاة (أرحنا بها يا بلال) وفي حديث آخر (وجعلت قرة عيني في الصلاة).
﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ الذين هم على يقين بلقاء ربهم ﴿...فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(110) الكهف،﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(281)﴾البقرة. فالذين يؤمنون باليوم الآخر يطيعون الله ما أمرهم ويفعلون الخيرات.
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ يستخدم الله سبحانه وتعالى أسلوبا آخر فيخاطبهم بخطاب رقيق يذكرهم بنعمه عليهم وأنه فضلهم على العالمين في زمانهم، فأرسل إليهم الأنبياء و أنقذهم من ظلم فرعون وجنوده.
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ يأمرهم الله أن يحتاطوا ليوم الآخرة فيتزودون له، يوم يحاسبون فردا فردا، فمن ذا الذي ينقذهم من العقاب ومن ذا الذي يشفع لهم.
﴿وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ لا ينصرهم الله و لايمنعهم أحد من عذابه
قبل هذه الآيات ذكّر الله بني إسرائيل ببعض نعمه عليهم، وفي كل مرة كان يفتتح ب "وإذ" فالمجال دائما للتذكير. ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ يذكرهم الله تعالى بنعمة عظيمة حيث أنجاهم من فرعون وشيعته، وفرعون هو صاحب سلطة وجبروت، عذب بني إسرائيل أشد العذاب، حتى أن الله قال﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ ومعناه يذيقونكم، وفي اللغة يقال: سامت الماشية أي هي ترعى على الدوام، و بنو إسرائيل كانوا باستمرار تحت وطأة العذاب.
﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾لقد أمر فرعون بقتل كل أبناء اليهود، وذلك بعد أن رأى في المنام نارا مقبلة من بيت المقدس وفسره له الكهنة بميلاد ولد في بني إسرائيل يكون سببا لهلاكه وزوال ملكه، فعزم أن يقتل كل مولود جديد، و جعل نساءهم خادمات له ولجنوده.
﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ بعد أن ذكر الله تعالى هذا العذاب الأليم بين أن كل ما يحدث لهم هو اختبار إلهي لهم ليعودوا إلى الله ويتبعوا سبيله ويطيعوا رسله.
﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ لقد نجى الله عز وجل موسى عليه السلام وقومه، حين طاردهم فرعون وجنوده وصلوا إلى البحر أيقنوا بالهلاك فقالوا في آية أخرى ﴿...إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)﴾الشعراء، فالبحر أمامهم وفرعون وجنوده وراءهم، لكن سيدنا موسى عليه السلام المتوكل على ربه المستشعر بمعيته قال في رباطة جأش ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِي(62)﴾ الشعراء، وكان الله عند حسن ظن نبيه فشق لهم طريقا في البحر حتى بانت الأرض اليابسة، فنجوا وهلك عدوهم أمام أعينهم، و هم شاهدون على نعمة الله وقدرته فكان من المفترض أن يستغفروا ربهم على عصيانهم وإفسادهم ويعاهدوه على أن لا يعصوه أبدا، لكنهم كعادتهم عادوا إلى العصيان و العناد.
﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ ترك موسى قومه أربعين ليلة لميقات ربه عز وجل، فخدعهم رجل يدعى السامري فصنع لهم عجلا من ذهب فاتخذوه إلها وارتدوا عن دين الله سبحانه، وهذا ظلم كبير لقوله تعالى: ﴿إن الشرك لظلم عظيم ﴾.
﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ رغم كل هذا العصيان إلا أن الله تعالى عفا عنهم فهو الغفور الرحيم، لعلهم يشكرون الله و يعودون إلى رشدهم.
﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ يذكرهم الله تعالى بالكتاب الذي أنزله على سيدنا موسى و هو التوراة، وسماه الفرقان لأن التوراة قبل أن تحرف تفرق بين الحق والباطل بين الهدى والضلال، و هي التسمية التي أطلقها الله على القرآن الكريم.
﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ معناه أن بني إسرائيل لو اتبعوا الأحكام التي جاءت في التوراة فسوف يهديهم الله إلى الطريق المستقيم.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ﴾البارئ معناه الخالق، والخالق الحقيقي هو المستحق للعبادة، وليس العجل الذي صنعوه فعبدوه قال تعالى ﴿هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين﴾ لقمان 11، فبني إسرائيل حين أشركوا بالله ظلموا أنفسهم، والشرك أكبر جريمة يرتكبها العباد، فأمرهم الله أن يقتلوا أنفسهم. قال المفسرون أن بني إسرائيل شعروا بذنب عبادتهم للعجل، فاستحقوا القتل إذ أن كل واحد يقتل الأخر فمات منهم سبعون ألف، إنه تاريخ مرير كانت نتيجته أن عفا الله عنهم.
﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾أبواب التوبة مفتوحة دائما للعصاة.
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ حينما تاب اليهود من عبادة العجل أمر الله موسى أن يختار منهم سبعين رجلا يعتذرون إلى الله ﴿واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ﴾ فأمرهم موسى عليه السلام أن يتطهروا ويصوموا فذهبوا إلى جبل طور سيناء فأنزل الله الغمام على سيدنا موسى فلما سمع القوم صوت رب العزة فبدل أن يشكروا سيدنا موسى ويؤمنوا بالله كان الأمر غير ذلك فطلبوا أن يروا الله علانية، و هم بذلك قد بلغوا أعظم درجات الجحود.
﴿فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ عاقبهم الله تعالى أن انزل عليهم من السماء نارا محرقة فماتوا جميعا.
حزن سيدنا موسى على مصيرهم وبكى عليهم، فناجى ربه، كيف سيعود إلى قومه وكيف سيخبرهم بالأمر، فأجرى الله تعالى معجزة أخرى فأعاد إليهم أرواحهم ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ وفي هذا ليعترفوا بقدرة الله تعالى ويؤمنوا به، لكنهم جحدوا فلما طلب منهم سيدنا موسى عليه السلام أن يجاهدوا معه ويدخلوا بيت المقدس قالوا ﴿اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ﴾ المائدة 24، وبعصيانهم هذا عاقبهم الله بالتيه في الصحراء أربعين سنة، لكن رحمة الله أدركتهم.
﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ رزق الله بني إسرائيل غماما يحميهم من الشمس الحارقة تخفيفا عنهم، كما رزقهم المن والسلوى، فالمن كما قال المفسرون له ذوق يشبه العسل، أما السلوى فهو طائر يشبه السمانى له طعم لذيذ، وكلا من المن والسلوى يجدوه عندهم دون عمل أو جهد.
﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ يأمرهم الله أن يأكلوا من الخير الذي رزقهم دون تعب.
﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾فبنو إسرائيل ظلموا أنفسهم بخروجهم عن طاعة الله، وإشراكهم به وهم بهذا لم ينقصوا من شأن الله تعالى.
﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ لقد أمر الله بني إسرائيل أن يدخلوا بيت المقدس وأن يتمتعوا بخيراته، لكن يدخلوها وهم سجود تواضعا لرب العزة وحمدا له، وأن يطلبوا الغفران على ذنوبهم، فحطة تعني أن يدعوا الله بأن يحط عنهم سيئاتهم.
﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾يعدهم الله بالغفران والثواب الجزيل للمحسنين.
﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ عصوا الله فيما أمرهم فدخلوا الباب زاحفين مرددين غير الذي أمروا به.
﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ كان عقاب الظالمين أن أرسل الله عليهم طاعونا قضى على سبعين ألفا منهم في ساعة واحدة، وكان عقابا على فسوقهم وخروجهم عن طاعة الله.
﴿وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ يذكر الله تعالى بما فعله الأولون من اليهود، فقد عصوا الله تعالى حين قالوا لموسى عليه السلام ﴿اذهب أنت وربك فقاتلا...﴾ المائدة 24، فعاقبهم الله بالتيه في الصحراء أربعين سنة. وفي الصحراء شعروا بعطش شديد فطلبوا من موسى أن يدعو ربه أن يسقيهم، فأمره الله أن يضرب الحجر بعصاه ليبين معجزته وقدرته المطلقة، لعل بني إسرائيل يؤمنوا حين يروا المعجزة بأم أعينهم.
﴿فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ انفجرت عيون من الحجر، ولكي لا يكون نزاع أو زحام عليها كانت بعدد الأسباط، رحمة من الله تعالى، فكل قبيلة تشرب من عينها.
﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ﴾ يذكرهم الله بنعمه، فقد رزقهم المن (شراب حلو كالعسل) والسلوى (طيور السماني) حين طلبوا منه ذلك.
﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ ينهاهم الله عن الإفساد، والذي هو من طبيعة اليهود وهو فساد مطلق: في العقيدة والعبادة والأخلاق...
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ يذكرهم الله تعالى بجحودهم وبأنهم لم يحمدوه على نعمه، ولم يحترموا موسى عليه السلام بندائهم له " يا موسى " بدل يا رسول ( يا نبي) الله، وفي ذلك رعونة وسوء أدب، وهم لم يقنعوا بطعام واحد وطمعوا في تنوعه بقولهم ﴿فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ وهذه قمة التمرد.
﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ نصحهم موسى عليه السلام، لأن ما أعطاهم الله من المن والسلوى خير مما طلبوا، لكنه العناد الذي يدفعهم لعدم الرضا بما قسمه الله لهم.
﴿هْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ طلب منهم سيدنا موسى عليه السلام أن يذهبوا إلى أي بلد ففيه سيجدون ما يطلبون، لكن لن يجدوا المن والسلوى فالله تعالى أنعمهما عليهم بقدرته دون أن يبذلوا أي جهد.
﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾إحاطة بالذل والصغار والهوان فقد طردهم الله من رحمته.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ يخاطب الله تعالى جميع ملل المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ هم اليهود، ولقد سموا بذلك نسبة إلى "هودا" الابن الأكبر لسيدنا يعقوب عليه السلام، أو نسبة لقولهم ﴿إنا هدنا إليك ﴾ الأعراف 156، وهدنا معناه رجعنا وتبنا إليك. ﴿وَالنَّصَارَى﴾ هم أتباع المسيح عليه السلام. ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ وفيه اختلاف: قيل أنهم عبدة النجوم، وقيل أنهم عبدة الملائكة، وقيل أنهم أتباع ملة إبراهيم عليه السلام. ولفظ صابئ يطلق على كل من يخرج على دين الآباء، ولقد أطلق على كل من دخل الإسلام واتبع دين محمد عليه الصلاة والسلام وتنكر لعبادة الأصنام. ﴿منْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ وقاسمهم المشترك هو عقيدة التوحيد: منطلقها الإيمان بالله، ومنتهاها الإيمان باليوم الآخر، ثم العمل الصالح الذي يكون ترجمة عملية للإيمان. ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ يبشرهم الله بألا خوف عليهم في الدنيا ولا في الآخرة ولا يحزنون بسبب تقصيرهم في عبادة الله والتزام أحكامه و وعدهم الله بالأجر الكبير.
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾يذكرهم الله بالميثاق الأكبر وهو العهد المؤكد بالإيمان، فقد عاهدوا الله أن يؤمنوا به، ويذكرهم بمعجزته ليعتبروا، فقد رفع فوقهم جبل الطور حتى أصبح كالظلة،ثم أمرهم أن يتمسكوا بالتوراة بقوة كقوة الجبل، يأخذوا بها بحزم كما أمر نبيه يحيى عليه السلام بقوله « يا يحيى خذ الكتاب بقوة»﴾ مريم 12، وأمرهم بذكر ما ورد في الكتاب من تعاليم وأحكام لعلهم يتقون. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾فرغم كل ما أنعم الله عليهم إلا أنهم نكثوا عهدهم الذي عاهدوه، ورجعوا عما التزموا به، ولكن رحمة الله أدركتهم فتاب عليهم.
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾يذكرهمالله بما فعله أسلافهم، فأهل السبت قوم كانوا يعيشون على الصيد قرب الساحل، طلبوا من الله تعالى أن يجعل لهم يوم السبت مقدسا يتفرغون فيه للعبادة، فابتلاهم إذ لم تكن الحيتان تتراءى لهم إلا يوم السبت وتختفي في سائر الأيام، فاحتالوا على رب العالمين، حيث كانوا ينصبون شباكهم يوم الجمعة ويسحبونها في يوم الأحد مدعين أنهم لم ينتهكوا قدسية يوم السبت.
تتناول هذه الآيات قصة حدثت لليهود في عهد سيدنا موسى عليه السلام، وهي أن رجلا منهم كان يملك ثروة طائلة، ولم يكن له إلا ابنة واحدة، فأراد ابن أخيه أن يستولي على الثروة ويتزوج ابنته، فقتله وحمل جثته إلى قرية مجاورة متهما أهلها بقتله، وطالبهم بديته، لكنهم تبرؤوا منها، فكان الخصام وكادت تكون فتنة بينهم، فاحتكم الجميع إلى سيدنا موسى فكان الحل يتضمنه وحي من الله تعالى.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾لقدأوحى الله تعالى إلى سيدنا موسى أن يأمر قومه أن يذبحوا بقرة إن أرادوا الخروج من محنتهم، ولقد اختار الله البقرة لأن بني إسرائيل اعتادوا ذبحها تقربا لله تعالى.
﴿قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ﴾استغرب اليهود هذا الأمر وحسبوا أن موسى عليه السلام يستهزئ بهم وبالدين، فهم يستفتونه في جريمة وهو يطالبهم بذبح بقرة، لكن موسى أكد لهم أنه ليس كذلك، وأنه ليس من الجاهلين، بل هو أمر الله عز وجل.
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾طلب اليهود منه أن يدعو ربه – وهو رب موسى وربهم أجمعين – ليبين لهم ما هي، وهو رعونة وسوء أدب مع الله، بدؤوا بالتشديد والتضييق على أنفسهم في أمر قد وسّعه الله عليهم.
﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾أجابهم الله أنها بقرة لا فارض ليست مسنة هرمة، ولا بكر، صغيرة لم تنجب، بل هي عوان بين ذلك أي وسط بينهما، فأمرهم أن ينفذوا الأمر.
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾استفسروا أيضا عن لونها، فأجابهم موسى عليه السلام أنها ذات صفرة شديدة، تعجب كل من يراها.
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَطلبوا من رسولهم أن يوضح أكثر، فقد التبس عليهم الأمر لتشابه البقر، وأنهم سيهتدون إلى معرفتها بمشيئة الله تعالى.
﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا﴾أجابهم أنها ليست بالهزيلة التي استخدمت في الحرث والسقاية، ولا عيب فيها، ولا يختلط صفرتها لون آخر.
﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّبعد كل هذه الاستفسارات أعلن اليهود لموسى عليه السلام أنه قال الحق أخيرا، وكأنه لم يقل الحق إلا في هذه المرة، وهذا انتقاص من قدر موسى عليه السلام.
﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ أي حين وجدوا البقرة كما وصفها الله تعالى لهم وجدوا مشكلة هي أن صاحبها رفض تقديمها لهم، فقد كان فقيرا ولا يملك سواها، وأمام إلحاحهم اشترط أن يكون ثمنها وزنها ذهبا، وهذا أمر عسير لكنهم هم من جنوا على أنفسهم بتشددهم فلبوا طلبه.
﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾فالذي قتل عمه وأخفى جريمته متهما آخرين بذلك فكانت فتنة كبيرة بينهم، لكن الله تعالى أنقذهم منها، إذ فضح القاتل الحقيقي.
﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾أمرهم الله أن يضربوا بجزء من البقرة القتيل فارتدت إليه روحه ونطق باسم قاتله. إن هذه المعجزة بين الله من خلالها قدرته على إحياء الموتى، فالقادر على إحياء روح واحدة قادر على إحياء الناس جميعا.
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾رغم كل هذه الآيات إلا أن بني إسرائيل زادوا عصيانا وإفسادا، فوصفهم الله تعالى بقسوة القلوب، وشبهها بالحجارة التي لا حياة فيها.
﴿وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾يبين الله أن قسوة قلوب اليهود لا حدود لها، لأن من الحجارة ما تفجرت منه عيون الماء كما حدث مع سيدنا موسى، ومنها ما يتفتت من خشية الله.
﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ يعقب الله تعالى على كل ما يفعله اليهود أنه يعلمه وهو غير غافل عن كفرهم وعصيانهم، ونقضهم لميثاقه...
ومن هذه الآيات نستخلص بعض الفوائد، منها: 1. إن موسى عليه السلام استثمر كل جهده وقوته مع اليهود ليهتدوا لطريق الحق، لكنهم أبوا إلا أن يتبعوا سبيل الغي. 2. إن اليهود لا عهد لهم ولا ميثاق، فهم لم يقدروا الله حق قدره، فكيف يقدرون قدر المسلمين؟ 3. إن يوم البعث حق لا ريب فيه، وإن الله يحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير. 4. إن القلوب المتحجرة لا يرجى منها إلا الفساد العريض، فهي لا تعرف إلا إنكار الحق، وظلم الناس... 5. بيان عظمة الوحي حتى أن الحجر يتشقق منه، وقد قال تعالى ﴿لَوْأَنزَلْنَاهَذَا الْقُرْآنَعَلَىجَبَلٍلَّرَأَيْتَهُخَاشِعًامُّتَصَدِّعًامِّنْخَشْيَةِ اللَّهِ(21)﴾ الحشر. 6. سنة الله في خلقه الابتلاء، فقد ابتلى رسله عليهم السلام فلم ييأسوا وصبروا، وموسى عليه السلام نموذج لهؤلاء، ولقد بين الله له ذلك بعد أن ختم عليه التوراة قائلا: (يا موسى خمس كلمات ختمت لك بهن التوراة فإن عملت بهن نفعك العلم كله، وإلا لم ينفعك شيء منه: 1. كن واثقا من رزق مضمون لك ما دامت خزائني مملوءة، وخزائني مملوءة لا تنفذ أبدا. 2. لا تخف ذا سلطان ما دام سلطاني باقيا، وسلطاني دائم لا يزول أبدا. 3. لا ترى عيب غيرك ما دام فيك عيب، والمرء لا يخل من عيب أبدا. 4. لا تدع محاربة الشيطان مادام روحك في بدنك، فإنه لا يدع محاربتك أبدا. 5. لا تأمن مكري حتى ترى نفسك في الجنة، وفي الجنة أصاب آدم ما أصابه، فلا تأمن مكري أبدا
سبب نزول هذه الآيات: نزلت في شأن بعض الأنصار من المسلمين، كان لهم جيران من اليهود طمعوا أن يهديهم الله إلى الإسلام، فجاءت هذه الآيات داحضة لذلك. وكذلك لسبب ادعاءات اليهود أنهم لن يعذبهم الله إلا سبعة أيام أو أربعين يوما... فأبطل الله هذا الادعاء.
﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ يخاطب تعالى المؤمنين و ينكر عليهم طمعهم في اهتداء اليهود فهم حطب جهنم فالله أعلم بما في قلوبهم.
﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾فقد سمعوا الآيات ووجدوا الأدلة في التوراة ، لكنهم حرفوها عمدا لا غفلة، وهذه من كبريات جرائم اليهود.
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا فالمنافقون من اليهود يعترفون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عند اجتماعهم بالمسلمين، ويقرون بصدق نبوته.
﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَفحينما يجتمعون فيما بينهم يلوم بعضهم البعض على إخبارهم المسلمين بما بشرت به التوراة من مجيء المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيتخذونها حجة عليهم يوم القيامة.
﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾فالله عز وجل يعلم ما يبطنون وما يظهرون، و يعلم السر وما يخفى.
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ من اليهود أميون لم يطلعوا على ما جاء في كتابهم المقدس، لا يعلمون إلا ما أخبروهم به أحبارهم من أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، لذلك فهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودة، فالله يبين زيفها وعدم صحتها.
﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ والويل هو غضب ودمار لهؤلاء الذين يحرفون كتاب الله فجعلوا التوراة خمسة أسفار، ونسبوا ذلك إلى الله افتراء وبهتانا، طمعا في متاع الدنيا وعرضها الزائل.
﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ توعدهم الله بالمقت والعقاب بسبب تحريفهم وما كسبوه من سحت.
﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ يدعون أنهم لن تمسهم نار جهنم إلا أياما قليلة، أربعين يوما بعدد أيام عبادتهم للعجل.
﴿قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ، على أن الله لم يعاهدهم على هذا فلن يخلفه إبرازا لكذبهم وزورهم.
﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ يؤكد الله أن العصاة الغارقين في ذنوبهم وكفرهم لا مجال لنجاتهم ومصيرهم الخلود في جهنم.
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾يذكر اللهتعالى بني إسرائيل بالميثاق الذي التزموا به، والميثاق هو العهد المؤكد بالإيمان، وأول بنوده الإقرار بعقيدة التوحيد، فهي أصل الأصول في كل الأديان السماوية لقوله تعالى ﴿وَمَاأَرْسَلْنَامِنقَبْلِكَمِنرَّسُولٍإِلَّانُوحِيإِلَيْهِأَنَّهُلَاإِلَهَإِلَّاأَنَافَاعْبُدُونِ(25)﴾ الأنبياء.
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾إبرازا لمقام الوالدين الرفيع وقد جاء ذكرهما بعد تفريد الله بالعبادة في قوله تعالى ﴿وَقَضَىرَبُّكَأَلاَّتَعْبُدُواْإِلاَّإِيَّاهُوَبِالْوَالِدَيْنِإِحْسَانًا(23)﴾ الإسراء، فالله هو صاحب النعمة الأولى، وبعده يأتي فضل الوالدين في التنشئة والرعاية، لذلك فرض الله تعالى الإحسان إليهما.
﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾أمر بالعناية بالقرابة وحفظ الأرحام، وعدم قطع الصلات، فالرحم اشتقت من اسمي الله "الرحمن" و "الرحيم".
﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾أمر بالإحسان إلى هذين الصنفين، فاليتيم يحتاج إلى الحنان، والمسكين يحتاج إلى الإعانة، واهتمام اليهود بهما يرقق قلوبهم القاسية.
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أي كلاما طيبا لجميع الناس، وقد استعمل المصدر بدل الصفة لإفادة صيغة المبالغة.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾يأمر تعالى اليهود بأداء ركنين من أركان الدين وهما: الصلاة والزكاة.
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾رغم هذا الميثاق إلا أنهم أعرضوا عنه ونقضوه، وهي من أبرز صفاتهم، لا يهمهم الميثاق مع من كان سواء مع الله تعالى أو مع الرسل والأنبياء أو مع الناس جميعا.
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾يذكرهم الله عز وجل بميثاق آخر أول بنوده عدم إراقة الدماء، لكنهم أباحوا هذا لأنفسهم، بل وجعلوه قربة لله، وقد تقرر في أصولهم الدينية "من قتل غير يهودي فقد قدم قربانا للرب".
﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾التزم اليهود بذلك كلهوأكدوا ذلك بالإقرار وهو سيد الأدلة ثم نقضوا التزاماتهم وعهودهم.
﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ومناسبة الآية أن اليهود كانوا على ثلاث قبائل: بنو قريضة، وبنو قينقاع، وبنو النضير، فالقبيلة الأولى كانت في حلف مع الأوس، أما القبيلتان الأخريان فكانتا في حلف مع الخزرج، فلما نشبت الحرب بين الأوس والخزرج تشتت اليهود وتحاربوا.
﴿تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾بمعنى يتعاونون عليهم بالمعصية والظلم.
﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾يخلصون الأسرى بدفع الفدية تطبيقا لحكم جاء في التوراة، أما باقي الأحكام فيعرضون عنها.
﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾يطبقون بعض النصوص ويعرضون عن البعض الآخر، فما وافق هواهم أخذوا به وما عارض هواهم تركوه، وهذه من صفات اليهود.
﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾يتوعد الله من يقدم على ذلك بالذل والهوان في الدنيا.
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾أما الوعيد في الآخرة هو العذاب الشديد، فإذا كان عذاب الدنيا محدودا بعمر الفرد فعذاب الآخرة دائم لا يزول.
﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾فالله محيط بهم لا يغفل عن أعمالهم فهو يمهل ولا يهمل.
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾فاليهود بما فعلوا قد باعوا آخرتهم بعرض الدنيا، فتوعدهم الله عذابا أليما لا يجدون من ينقذهم أو ينصرهم.
تتناول هذه الآيات بعض صفات اليهود منها: ¨الكفر بالنعم، والكفر كفران: كفر الملة وهو كفر بالله مُخِرج من الإسلام، وكفر النعمة وهي عدم شكر الله على نعمه التي لا تحصى. ¨التكبر: على الله سبحانه وتعالى وعلى الأنبياء صلوات الله عليهم وعلى سائر البشر.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾يؤكد الله على الكتاب الذي أنزله على موسى عليه السلام وهو التوراة.
﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ تأكيد على مجيء الأنبياء من بعده، وقد أرسلهم ليقيم الحجة على البشر جميعا.
﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ فعيسى عليه السلام أحد الرسل الذين جاؤوا من بعد موسى، ولقد ذكره الله تعالى منسبا إياه إلى أمه مريم العذراء، إبطالا لربوبيته التي يدعيها النصارى، وقد أتاه الله مع أمه البينات، والبينات هي المعجزات الواضحات. وروح القدس هو جبريل عليه السلام "سفير الأنبياء".
﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ إنها إحدى صفات اليهود وهي التكبر، تكبروا على ما جاء في الكتب السماوية لمخالفته أهواءهم، وقد حرمهم تكبرهم خيرا كثيرا: - حُِرموا من فقه آيات الله في الكون، قال تعالى ﴿سَأَصْرِفُعَنْآيَاتِيَالَّذِينَيَتَكَبَّرُونَ فِيالأَرْضِبِغَيْرِالْحَقِّ(146)﴾الأعراف. - حُِرموا الجنة وهي أكبر خير، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر). - لم يقبلوا النصيحة التي ترشدهم وتسدد خطاهم.
﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾وقد قدم المفعول به في الآية للتشويق وللفت انتباه السامع. واستعمل فعل المضارع "تقتلون" بدل الفعل الماضي "قتلتم" لإبراز فضاعة قتل الأنبياء وتقريب الصورة للأذهان، فتبقى حاضرة.
﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾تيئيسا للرسول عليه الصلاة والسلام، في كونهم لن يؤمنوا أبدا، فهم لا يسمعون كلامه ولا يفقهونه.
﴿بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ استحقوا لعنة الله بكفرهم به، واللعنة هي الطرد من رحمة الله فعاقبهم بما عاقب به إبليس.
﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ وفيها معنيان: - استثناء الله تعالى لبعض المؤمنين منهم. - تصديق اليهود لبعض ما جاء في التوراة.
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾المُراد القرآن الكريم الذي أنزل من عند الله، مؤكد لكل ما جاء في توراتهم.
﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجدوا في توراتهم بشرى مجيء آخر رسول ينصر الله به المؤمنين، فكانوا يستنصرون بهذا النبي.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾فلما تحققت البشرى ببعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أعلنوا كفرهم، فاستحقوا لعنة الله.
﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ تحقير لتجارتهم إذ باعوا الآخرة واشتروا الدنيا، فكفروا بالرسول عليه الصلاة والسلام وبما أُنزل عليه حسدا من عند أنفسهم لما اصطفاه الله وآتاه شرف النبوة.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾حين يدعوهم المسلمون إلى الإيمان بالقرآن الكريم يدعون أنهم يؤمنون فقط بالتوراة، وقد كفروا بكل ما جاء بعدها من الإنجيل والقرآن الكريم رغم أنهما يؤكدان ما جاء في كتابهم.
﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يخاطب الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد على اليهود وينكر دعواهم، فإن كانوا يزعمون أنهم يؤمنون بكتابهم فلماذا كفروا بأنبيائهم وقتلوا بعضهم.
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ يذكرهم الله عز وجل بكفرهم بسيدنا موسى عليه السلام رغم معجزاته، وعبدوا العجل بعد غيابه، وهو بذلك ظالمون.
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾يذكرهم بالعهد الذي قدموه لله تعالى ولموسى عليه السلام، وبمعجزة جبل الطور الذي رفعه الله عليهم وأمرهم أن يتمسكوا بالتوراة بحزم وعزم. فأقروا بما سمعوا لكنهم عصوا، وفضلوا العجل وأحبوه حتى امتزج بدمائهم.
﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يختم الله صفات اليهود بتحقير هذا الإيمان الذي يدعونه.
« قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون »
تدور معاني هذه الآيات حول طبائع بني إسرائيل، فهم لم يتركوا منكرا إلا وفعلوه، و اتخذوا الرسل والملائكة أعداء لهم، قد سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الملك الذي يأتيه بالوحي فلما أخبرهم أنه جبريل الأمين اتخذوه عدوا.
« قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين » فاليهود يدّعون أنهم شعب الله المختار، وأن الجنة خالصة لهم، فتحداهم الله أن يتمنوا الموت مادامت الجنة مآلهم. لأن من تيقن بحسن خاتمته لا يخاف الموت، لما قدمه من طاعة وحسن عمل. أما اليهود فهم أحرص الناس على الحياة الدنيا « ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم » وحرف " لن" في اللغة يفيد الإستقبال فهم لن يتمنوا الموت على الإطلاق وهذا بما اقترفوه من سيئات.
« والله عليم بالظالمين» فالله مطّلع على أفعال اليهود ومظالمهم.
« ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا » فهم يحبون الحياة متشبثون بها أكثر من المشركين وسائر الناس.
« يود أحدهم لو يُعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر » يتمنون طول العمر ظنا منهم أن ذلك سيبعدهم من النار، لكن الله عقب على ظنهم بأن طول العمر لا يدخل الجنة ولا ينجي من العذاب.
« والله بصير بما يعملون » فالله مطلع على أفعالهم، ومراقب لتصرفاتهم.
« قل من كان عدوا لجبريل » فاليهود أعلنوا عداوتهم لجبريل الأمين، وادعوا أنهم سيؤمنون لو أنزل الوحي بواسطة ميكائيل.
« فإنه نزَّله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين » أكد الله تنزيل القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل يهدي إلى الحق ويبشر المؤمنين بالجنة.
« من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين » فالذين لم يقبلوا رسل الله وفرقوا بينهم، وعادوا الملائكة هم أعداء الله، ولقد خص الله بالذكر الملكين جبريل وميكائيل لأن اليهود فرقوا بينهما.
« ولقد أنزلنا إليك آيات بينات » فالله تعالى أنزل آيات واضحات تثبيتا للرسول صلى الله عليه وسلم.
« وما يكفر بها إلا الفاسقون » الخارجون عن طاعة الله.
« أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون » بيانا لحقيقة اليهود الذين ينقضون عهودهم مع الله.
المناسبة: ذكر رسولنا صلى الله عليه وسلم النبي سليمان عليه السلام ضمن المرسلين، فقال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبيا، بل هو ساحر، فأنزل الله ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾
التفسير: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ تأكيد لمصدر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهو الله تعالى.
﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ موافقا لما جاء في التوراة التي بين أيديهم (في أصول الدين) وهذا قبل تحريفها.
﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ نقض أحبارهم وعلماؤهم ما في التوراة وأعرضوا عن التوراة والقرآن الكريم.
﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾تأكيد على صحته فهو من عنده.
﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾كناية عن إعراضهم الشديد.
﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ إثباتا لجرمهم، فالخطأ على علم الجرم أكبر.
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾نبذوا الوحي (القرآن والتوراة) واتبعوا السحر عن عهد سليمان بن داود فنسبوا معجزاته إلى السحر بهتانا وظلما. قام المردة من الشياطين بكتابة كتاب ضمنوه ألوانا من السحر والشعوذة نسبوه إلى كاتب سليمان "آصف" ودفنوه تحت كرسي سليمان، ولما مات تعاون شياطين الإنس والجن فأخرجوه وأعلنوا في الناس أن سليمان كان يستعمل السحر.
﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ تبرئة لسليمان عليه السلام من السحر والكفر، وإثباتا لكفر الساحر، تتطبيقا لمقررات علم الأصول في مفهوم الموافقة.
﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ بسبب تعليمهم الناس السحر، فالسحر من عمل الشياطين.
﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ قصد إضلالهم.
﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ﴾بأرض الكوفة، قال القرطبي ما نافية، ولقد كثر السحر في عهد سليمان حتى اختلط على الناس بالمعجزات.
﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ملكانأنزلهما الله ابتلاء للناس واختبارا لهم، فقد بعثهما لتعليم الناس أنواع السحر، الذي كان مستقرا بينهم لكثرة السحرة الذين يدعون النبوة أحيانا، فيستطيع الناس التمييز بين معجزات الأنبياء وسحر السحرة.
﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾فحين يعلمان أحدا من الناس السحر يخبرانه بأنهما ابتلاء فهما يبذلان النصح لهم ألا يكفروا، وذلك تأكيد على أن السحر كفر.
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ﴾أي من السحر ما يحدثون به الشقاق والفراق.
﴿بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ وهو نموذج لأضرارهم على سبيل التمثيل لا الحصر.
﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾تأكيد على عقيدة التوكل على الله، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (يا غلام! أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروكبشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ﴾فلا خير في السحر ولا نفع.
﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾أي اليهود نبذوا كتاب الله وآثروا السحر، فلا حظ ولا نصيب لهم من رحمة الله وجنته.
﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾باعوا أنفسهم وإيمانهم بالسحر، وهي تجارة خاسرة.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾فالإيمان والتقوى يحولان دون الإضرار بالغير، أما السحر يؤدي إلى الهلاك والتباب.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾خطاب موجه للمؤمنين، وينهاهم عن قول "راعنا" فأصل هذه الكلمة من الرعاية والمراعاة حرفها اليهود فجعلوها مشتقة من الرعونة، وفي العبرية كلمة تشبهها تفيد السب والشتيمة، فصار اليهود يقولونها للرسول صلى الله عليه وسلم بنية الشتم.
﴿وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾ من النظر والانتظار حتى يحفظوا ما يتلى عليهم.
﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾تهديد لليهود وغيرهم ا أن لهم عذاب موجع.
﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾لا يريد اليهود ولا النصارى ولا المشركون أن يؤتي الله المؤمنين خيرا حسدا من عند أنفسهم.
﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي بالنبوة والوحي، وهي أعظم رحمة ينزلها رب العباد على عباده.
﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾فالله واسع الفضل فسيح الرحمة
قضية النسخ: طعن اليهود في الشريعة الإسلامية بسبب النسخ، فقالوا للناس: ألا تعجبون لأمر محمد ؟ يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه، وهذا للتشكيك في عقيدتهم، والمراد بالنسخ لغة: الإزالة والإبطال والرفع، واصطلاحا:إبطال حكم نص سابق بحكم نص لاحق.
ادعاء اليهود أنهم شعب الله المختار وأن الجنة لهم لا لغيرهم، وادعى النصارى أن الجنة لهم كذلك.
محاولة اليهود إخراج المسلمين من دينهم بعدما تبين لهم أن الإسلام حق.
التفسير:
﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ ما نزيل أو نبطل من آية أو نمحها من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وقلوب المؤمنين، إلا وأبدلناه بآية شبيهة أو بأفضل منها.
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ جاء الاستفهام للتقرير مع بيان قدرة الله المطلقة وتصرفه الذي لا تحده حدود في ملكوته.
﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾فهو خير ناصر ومعين.
﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ﴾أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي قال: سألت العرب محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة، فنزلت هذه الآية. وسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم جبل الصفا ذهبا.
﴿كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾فقد سأل اليهود موسى أن يريهم الله جهرة، فحذر الله معشر المؤمنين من الاقتداء باليهود.
﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾يحذر الله تعالى المؤمنين من الاقتداء باليهود في منهجهم مع موسى فهذا يؤدي إلى استبدال الكفر بالإيمان ومن يفعل ذلك فقد أضاع طريق النجاة.
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا﴾ أحب اليهود والنصارى لو يرتد المؤمنون عن إيمانهم، و "لو" تفيد الاستمرار وتكرار المحاولة قديما وحديثا، فالإيمان أغلى ما يملك المؤمن، لذلك يعمل الكفار وأهل الكتاب على إزالته، يقول تعالى: ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ(2)﴾ الممتحنة.
﴿حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ﴾والحسد هو تمني زوال النعمة، وأهل الكتاب يحسدون المؤمنين على إيمانهم.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ﴾بالبراهين القاطعة والأدلة الثابتة أن النبوة حق وأن القرآن حق.
﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾يأمر الله المؤمنين أن لا يؤاخذوا أهل الكتاب ويعرضوا عنهم.
﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾وهو الإذن بقتال يهود المدينة وهم بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريضة.
﴿ِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾تأكيدا لقدرة الله المطلقة.
﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أمر بأداء الزكاة وهي عبادة مالية واجتماعية.
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ ما تفعلوا من خير مطلقا من عبادات وصدقات وأعمال صالحة تجدوه محفوظا عند الله في حرز مضمون.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾فلا تخفى عليه خافية وهذه الآية للترغيب والترهيب.
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾كل فريق سواء اليهود أو النصارى يدعي أنه من يدخل الجنة دون غيره.
﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾أي أحلامهم وأوهامهم.
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾قل لهم يا محمد هاتوا الحجة القاطعة إن كنتم صادقين في هذه الدعوى، فلا دعوى بلا دليل.
﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾فالذي يدخل الجنة هو من خضع لله إيمانا وتوجه إلى القبلة بوجهه، ولقد خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء، وهو الواجهة التي يظهر فيها العز والذل، والسكون والخوف...
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ بحسن إسلامه: في صلاته ومعاملاته...
﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾فثوابه يجده محفوظا في الآخرة.
﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾إنما ينغص حياة الناس الخوف والحزن، إلا أن المحسن موعود بنعيم بلا كدر.
﴿وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ ادعى كل من اليهود بطلان دين النصارى، وكذلك ادعى النصارى بطلان دين اليهود مع إثبات كل منهم لصحة دينه، وكلاهما قد كفر عن علم، لأن اليهود يقرؤون التوراة، والنصارى يقرؤون الإنجيل، لذلك وبخهم الله لنكران ما يقرؤون، فالتوراة تبشر بمجيء عيسى، والإنجيل يتمم ما جاء به موسى.
﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ قال مشركوا العرب "ليس محمد على شيء" مثلما قالت الأمم السابقة على أنبيائهم.
﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾يفصل الله بين اليهود والنصارى في أمر الدين بعدله وقضائه، وقد أثبت الله صحة الدين الإسلامي، وأمر باتباعه دون غيره في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(19)﴾ آل عمران. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ(85)﴾ آل عمران.
تتناول هذه الآيات مسألتين أساسيتين هما: ¨مكانة المساجد والصلاة. ¨تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَاللَّهِ﴾ جاءت الآية بصيغة الاستبعاد والاستنكار لهذا الفعل الشنيع.
﴿أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ كناية عن عبادة الله.
﴿وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾عمل على هدم المساجد ماديا كما فعل الرومان بهدمهم البيت المقدس، ومعنويا بتعطيل العبادة فيها.
﴿أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ خشية وخضوعا بسبب ما صنعوا.
﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ جزاؤهم الهوان والذلة في الحياة الدنيا، والعذاب العظيم عظم إثمهم في الآخرة.
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ جميع الأرض ملك لله فحيثما توجهوا فهي القبلة، وهذا ردا على اليهود الذين انتقدوا تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام.
﴿إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾إعلان على أن الله تعالى يسع بجوده وأفضاله جميع الخلق، وعليم بجميع أحوالهم محيط بكل الكائنات.
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾فقد ادّعى اليهود أن عزيرا ابن الله، وادّعى النصارى أن المسيح ابن الله، وادّعى المشركون أن الملائكة بنات الله، فكذّب الله مزاعم الجميع.
﴿سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ تقدّس الله وتنزه، فهو خالق الجميع بما في ذلك عزير والمسيح والملائكة فكلهم خاضعون له طائعون.
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خالق كل شيء بغير مثال سابق.
﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ إذا أراد الله شيئا أمر بكينونته فيتحقق.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَة﴾ وهم كفار قريش، فقد طلبوا أن يكلمهم الله مباشرة وينزل عليهم الوحي أو يأتيهم بآيات موسى أو عيسى.
﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فكلامهم هذا قد قاله المكذبون للرسل سابقا، فهم سواء في العناد والكبر والتكذيب.
﴿قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ »بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة لكل من يريد الحق واليقين.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾أنزل الله الوحي الصادق فيه بشرى بالجنة للمؤمنين، والنذير بالجحيم للكافرين.