معركة الذات .. معادلة التوازن
معركة الذات بين
أنا ... نحن .. الآخر !
" أنا ".. "نحن".. الآخر … . التوازن بين رغبات النفس ورغبات الآخرين ... العطاء والبذل متى يكونان ؟؟؟؟؟ الإيثار عن النفس والتنازل عن بعض متاع الدنيا هل يتعارض مع حقوقها؟ متى نقول نحن ؟ ، ومتى تقول أنا ؟ ، ومتى تنكر أنا ؟
أسئلة لها إيحاءات ، وقد تختلف العقول والأفهام في تفسيرها فتختلف الإجابات، فيقع الواحد منا في حرج أو تقصير أو شعور بالظلم أو شعور بالذنب نتيجة لعدم وضوح رؤيته لمغزاها وعمق معناها.
هذه بعض الخواطر التي جالت في خاطري وما زالت تداعب أفكاري ومخيلتي فرأيت أنني في حاجة حقيقية لأن نقف سوياً وقفة حتى نخرج بمفهوم شامل ومتوازن في هذه القضية ، فلا نقصر في حق أنفسنا ولا نجور على حقوق الآخرين ولنبتغي بين ذلك سبيلاً.
أعتقد إننا يجب أن لا نخلط أولاً بين الغرور وحب الذات أو " الأنا " فالغرور كما يتضح لنا إنه مرض قلبي يصيب الإنسان نتيجة اعتزازه الشديد بنفسه وبمؤهلاته وبإمكاناته ، ومن ثم يلبس عليه شيطانه بإنه هو المتفرد والوحيد صاحب هذه الموهبة ولا يرى من حوله إلا الدونيين والعاديين .. الخ .
أما موضوع " الأنا " فأرى إنها قضية أخرى ، ولا نستطيع أن ننكرها إلا إذا تجاوزت حدودها المسموح بها . وهي كائنة في كل نفس بشرية .
الأنا بمعناها البسيط تعني النفس أو الذات ، وقد جبلها الله سبحانه وتعالى وفطرها على حب نفسها دون سواها ، وكذلك فطرها على حب التملك والاستئثار والاستحواذ على كل شيء ، ولربما في ذلك اختبار لقدرة البشر على التضحية والبذل والعطاء والعدل والتجرد للحق ومدى ثباته في دائرة التوازن بينا متطلبات نفسه والتزاماته تجاه الآخرين من حوله .
والله سبحانه وتعالى خلق النفس على هذا الطبيعة وحاشاه أن يتركها دون أن يمدها بالأسلحة والأدوات التي تقاوم بها هذه النزعة الذاتية ، وهذا يتضح في قول الله تعالى : { ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها } سورة الشمس من 7-10 ، والأمر بالإنفاق والحث عليه والترغيب في البذل والعطاء والتضحية أمور كلها حث عليها الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
فمعرفة النفس وطبيعتها هي أولى الخطوات نحو فهم " الأنا " والدخول في دائرة الاعتدال والتوازن والخروج من دائرة المرض الذي قد يؤدي إلى مضاعفات وأمراض أخرى مثل الغرور والكبرياء والظلم والجور .. الخ .
يقول النبي قال صلى الله عليه وسلم : وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " رواه البخاري ومسلم ، وفي الصحيح من حديث عبد الله بن هشام، قال عمر: يا رسول الله! لأنت أحب إلى من كل شيء إلا نفسي، فقال: "لا.. والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلى من نفسي، فقال: الآن يا عمر". هكذا نطقت الفطرة على لسان عمر بن الخطاب بكل وضوح وشفافية قائلاً. والله يا رسول الله إنك أحب إلي من ولدي ومالي إلا نفسي . ويأتي التعقيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مؤكداً على معنى التجرد للحق .. لا يا عمر .. ونفسك .. فينتبه عمر لذلك - فهذه الأنا ما زالت تضغط بحبها على نفسه ، فيخلع حبها من نفسه بشيء من المجاهدة والتذكير بما ينتظره من عوض سيجده في نور الإيمان يسطع في أركان قلبه.. وينطلق لسانه بلهجته الصادقة .. - ونفسي يا رسول الله . النتيجة إن عمر -رضي الله عنه- لم يخسر شيئاً بذلك بل أصبح فاروق هذه الأمة ومثل أعلى في القوة والعدل والإنصاف من نفسه .
المصيبة الكبرى التي نعيشها اليوم ما هي إلا نتيجة الذوبان في حب "الأنا " وتجاوزها الخطوط الحمراء والصفراء والزرقاء ، ونتيجة جهلنا الشديد بفهم معادلة التوازن بين" الأنا " وبين " نحن " وما ينتج عنه من خلل في تصوراتها عن طبيعة هذه الحياة ودورنا فيها .
في الغالب من يعيشون بهذه النفسية لا يأبهون بمن حولهم ، ولا ترد على أذهانهم أصلاً مشاعر وأحاسيس الآخرين .. فهم في ذهول عن محيطهم الخارجي ولا يبصرون إلا شيئاً واحداً فقط هو رغباتهم ومصالحهم الذاتية . ولو أنهم يملكون شيئاً من الحكمة لعلموا بأن هذا السلوك هو تقييد لمصالحهم ومذهباً بعلاقاتهم الإنسانية التي هي رأس المال الحقيقي للنجاح وبالتالي فالخاسر الأكبر هم أنفسهم ، وليس الآخرين .وليت الأمر يقف عند هذا الحد بل الخسارة الأفدح هي عزلتهم النفسية وخواءهم الروحي وما يعكسه هذا الشعور من تولد لصفات سلبية مدمرة .
وإذا اقتصر الأمر على مجرد أشخاص لم يسترعوا على أمانات غيرهم لهان الأمر ، ولكن المشكلة تتعاظم عندما تكبر هذه الأنا في نفوس المؤتمنين على مصالح وأموال وأرزاق الناس .. فتلك هي الطامة الكبرى ، فكل يوم نسمع من استباح أكل أموال الناس بالباطل ، ومن نهب ميراث الأخوات لأنهن ضعيفات أو صغيرات ولا يقدرن على المواجهة ، ومن استعمل الناس ولم يوفيهم أجورهم .. ومن سلب الآخرين أبسط حقوقهم الإنسانية في العيش بكرامة فما هذه إلا من ويلات حب " الأنا " فنسأل الله السلامة والعافية .
وما الحقوق الضائعة والظلم المستشري هنا وهناك إلا إفرازات لهذه النفوس التي آثرت حب ذاتها وبالغت فيه حتى طمست أبصارها وعميت بصيرتها عن أي شيء فأصبحت لا ترى إلا نفسها وفقط فلا تسمع ولا ترى ولا تعيش إلا لنفسها . وتلك هي الطامة الكبرى وهذا هو المرض المزمن الذي سنظل نقاومه ونبحث له عن علاج ، والعلاج بين أيدينا ولكن للأسف لا تناوله ولا نأخذ به. وهو أبسط ما يكون وهي وصية رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"متَّفقٌ عليه. دعونا نلقى نظرة على موقف الإنسان من " الأنا " .
عاشق للأنا : وهذا الذي لا يرى شيء إلا نفسه ومصالحه ، وربما يحقد ويحسد ويظلم بل ويقتل من أجلها بحق أو بغير حق .
محب للأنا : وهذا الذي يفضل نفسه عن الآخرين ، ويسعى لرضاء نفسه عل حساب غيره ، ولكن لا يصل به الأمر للظلم أو البغي .
معتدل بين " أنا " و" نحن " : وهذا هو المقتصد الذي لا ينسيه حب نفسه حقوق الآخرين فيحرص على أداء حقوقهم وتلبية رغباتهم بالتوازي مع حقوق نفسه التي لا يرضى بضياعها .
محب لنحن ومتجرد من " أنا " : وهذا الذي جاهد نفسه حتى وضعها في موضع الاعتدال والتوازن ، فيقول نعم " لأنا " ولكن ضمن "نحن " يرى إنه لا سبيل عن حب نفسه إلا في ظل " نحن " فيتحدث دائماً بصيغة نحن ، ويطالب بالحقوق بصيغة " نحن " ، ولا يرضى بالاستئثار بشيء لنفسه دون الآخرين ، حتى لو كان الأمر في طي الخفاء والكتمان يبادر فيظهره ويعلنه على الملأ . ولا يمانع إذا ذاب حقه لصالح حقوق الآخرين ، فهو يتقبله بنفس راضية إيثاراً وتكافلاً وقربة إلى الله تعالى ، وما أدل على ذلك في قصة سيدنا جابر – رضي الله عنه - ، ودعوته للرسول صلى الله عليه وسلم على الغذاء أثناء حفر الخندق ، ولفقر جابر الشديد آثر أن يدعو الرسول وعدد من أصحابه على الغذاء ، فماذا يكون رد القائد الأعلى ومساعديه على هذه الدعوة وهو في أشد الحاجة لهذه الدعوة . لا يرضى القائد بأن يستأثر لنفسه بهذا الخير في وقت ينهش الجوع في بطون الجيش كله . فيعلن رسول الله على الملأ عن دعوة جابر ، وتحدث المعجزة بأن يأكل جميع الجيش ، بل ويفيض الطعام البسيط على حاجة الجيش كله . فهل يا ترى تحدث هذه المعجزة في زماننا هذا ؟!!!!!!!!!!
ملحوظة هامة : قد ينزلق صاحب هذه الصفة إلى بعض المطبات التي تعيق تقدمه ونجاحاته وتؤثر على أداءه وحتى على علاقاته مع الآخرين ، وهو تحميل نفسه فوق طاقتها انطلاقاً من رغبته الجامحة في عمل الخير والإيثار وخدمة الآخرين. وهذا في ظاهره مسلك حميد ، ولكن قد ينطوي عليه بعض الإخفاقات نتيجة لعدم ترتيب الأولويات وما يتبعه من تقصير في أداء بعض الحقوق والواجبات على حساب ما هو أوجب وأحق.
كاره " للأنا " : وهذا إنسان تعيس ومحبط ، ويرى إنه لا يستحق العيش ويتوهم بأنه عالة على البشر ، فيشعر بالدونية والانهزامية ، وبالتالي نراه يتنازل عن حقوقه حتى الآدمية منها لصالح غيره قسراً وليس اختياراً ، وهذا الإنسان يحتاج إلى تدخل علاجي .
أعود في النهاية لأدعوكم في النهاية بعدم الاستعاذة من كلمة " أنا " ولكن تكون الاستعاذة من شر النفس وعنفوانها ونستعين بالله على الأنا " النفس " لكبح جماحها ووضعها في دائرة التوازن بين مصالحها الذاتية ومصالح غيرها . انطلاقاً من هدي ديننا الحنيف إعطاء كل ذي حقاً حقه فلا تفريط ولا إفراط .